الله باق والورى لفناء * كيف الممات لسائر الأحياء
كل يسير الي التراب * وإنما يبقى الاله مقلب الآناء
في قبضة الله الوجود جميعه * جري الأمور بحكمة وقضاء
وله المشيئة في الخلائق حكمها * جار على العظماء والحقراء
ما أنت يا دنيا سوى حلم جلست * فيه الأماني ساعة الإعفاء
فإذا أفاق المرء من أغفائه * كنت السراب يلوح في البيداء
................................
عبرة الموت المصدر ... رسائل في الحكمة - أبو حامد الغزالي
جالت بخاطري هذة الأبيات فرحت أرددها على نفسي وسرح بي الفكر في أودية الموت والحياة .. وحدثت نفسي قائلا لها .. يا نفس لست أراك أهلا للوعظ فإن للوعظ نصاب , ونصاب الوعظ الإتعاظ .. وإذا كنت لم تتعظي بعد فكيف تعظين غيرك ؟ إن فاقد النور لا يملك أن ينير لغيره , وهل يستقيم الظل والعود أعوج ؟ لقد أوحي الله تبارك وتعالي الي عيسي بن مريم " وعظ نفسك فإن أتعظت فعظ الناس , وإلا فأستحي منى " وروى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال " تركت فيكم ناطقا وصامتا فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت ...ومن يتعظ بهما كيف يوعظ غيره ؟ ولقد وعظت نفسي بهما كثيرا ليلا ونهارا , سرا وأعلانا فقبلت وصدقت قولا وعلما ولكنها أبت وتمردت أن تحقق ذلك فعلا فقلت لها , أأنت مصدقه بأن القرآن الكريم هو الواعظ الناطق , وأنه كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , أم غير مصدقه ؟ قلت نعم إني مصدقه فقلت لها , قد قال الله تعالي { { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون }} . فقد وعد الله تعالي بالنار من أراد الدنيا وكل مالا يصحبك بعد الموت فهو من الدنيا , فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها ؟ لو قال لك طبيب ملحد : إن الموت أو المرض في أكل هذة الثمرة , أو شربت هذا الشراب , فإنك لا ريب تاركه من أجل أخبار الطبيب لك , أفكان الطبيب الملحد عندك أصدق من الله تبارك وتعالي فإن الأمر كذلك فهو الكفر والعياذ بالله وإن كان أمر المرض عندك أشد عليك من النار فما أجهلك لقد صدقت النفس هذا الكلام لكنها لم تنتفع به , بل أصرت على الميل إلي العاجلة وأستمرت في طلبها .. لم اترك نفسي فعدت إليها مرة أخري فوعظتها بالواعظ الصامت , فقلت لها قد أخبر القرآن الكريم عن الموت فقال {{ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم }} - آل عمران . وقال {{ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون الي عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون }} - الجمعة .وأذن فالموت حق لاشك فيه وإذا كان الموت لا محاله يأتيك قاطعا عليك ما أنت متمسك به وسالبا منك ما أنت فيه راغبه , وقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم "" يتبع الميت ثلاثة أهله وماله وعمله فيرجع أثنان ويبقي الثالث , يرجع أهله وماله ويبقي عمله "" وإذا كان الأمر كذلك , فمالك تصدقين قولا ولكنك لا تتبعي القول العمل .. فلما لا تجتهدي في التزود للآخرة كأجتهادك في طلب الدنيا الفانية ؟ ولم لم تستحي من الله تعالي كما تستحي من واحد من الخلق ؟ ولم لم تشمري للأستعداد للآخرة كتشميرك في الصيف لأجل الشتاء , وفي الشتاء لاجل الصيف ؟ وقلت لنفسي ألست تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين آله الصيف بقدر صبرك علي الحر قالت نعم , فقلت : فأعصي الله تعالي بقدر صبرك علي النار وأستعدي للآخرة بقدر بقائك فيها فقالت : هذا هو الواجب الذي لا رخصه في تركه ومن تركه فهو أحمق لكنها أستمرت علي حالها ووجدتني كما قال بعض الحكماء في الناس من يموت نصفه ولا ينزجر نصفه الآخر , وما أراني إلا منهم ولما رأيت النفس في تماديها وطغيانها رحت أبحث عن سبب ذلك وبعد طول عناء وجدته إنه أعتقادي وأياك أن العمر طويل .. وفي الأيام ترتخي وحبل الحياة موصول , وذلك لأن من أصبح وهو يأمل أنه يمسي . أو أمسي وهو يأمل أن يصبح لم يخل من الكسل والفتور والتسويف , ولم يقدر إلا علي سير ضعيف : وإذن فكيف السبيل ؟؟؟ السبيل هو في الذي أوصانا به رسولنا صلوات الله وسلامه عليه حيث قال "" صلي صلاة مودع "" ومن غلب علي ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالي وخشيته منه لم يخطر بفكرة قصر عمره وقرب أجله غفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفله وفتور وتسويف متتابع إلا أن يدركه الموت فتدركه حسرة الفوت , وتلك درجة عظيمة في العبادة , نسأل الله تعالي أن يجعلنا من أهلها , وواجب علي المؤمن ألا يرضي من نفسه إلا بها وأن يحذر مواقع الغرور فيها ويحذر من خداع النفس فأن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ماهم , قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "" الكيس من دان نفسة وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني "" وصدق رسول الله ( صلي الله عليه وسلم ) .
المصدر: رسائل في الحكمة - أبو حامد الغزالي
ساحة النقاش