فن الوسوسة

م/ وائل عادل

13/12/2008

  1. ولد الطفل الصغير في مزرعة كبيرة في مكان ناء، لم ير له أباً أو أماً فضلاً عن رؤية إنسان، لم تكن له علاقة بالإنسان سوى أنه يتلقى بعض التعليمات والتوجيهات من صوت مهيب يبدو أنه لرجل طاعن في السن، لم يره مطلقاً لكنه كان يتعامل معه من خلال صوته الذي يأتيه عبر مكبرات الصوت المنثورة في كل مكان في المزرعة.

  2. تعهده هذا الصوت بالرعاية، ومنذ مولد الطفل لم يستره الرجل.. لم يدار عورته، كذلك لم يعلمه ما يصح وما لا يصح، ما هو صواب وما هو خطأ. فقط علمه القراءة، تركه كما هو يرتع في المزرعة، لا يرى أحداً ولا يراه أحد. وحذره من دخول مكتبة صغيرة في المزرعة، أخبره أنه إن دخلها وتصفح كتبها سيكون من الهالكين.

  3. كبر الطفل العريان وهو لا يدري شيئاً عن الخير والشر والصواب والخطأ، وفي ذات يوم وسوس إليه الشيطان أن يدخل المكتبة. وبالفعل تمكن من إغوائه، وتناول أحد الكتب المصورة، أخذ يتقلب بين الكتب بطريقة جنونية... كاد أن ينهار... أسرع  يداري عورته بأي شيء يجده في طريقه.. قابله الرجل صاحب المزرعة في الطريق وهو يعدو... أوقفه بحدة... سأله مغضباً وقد نظر إلى عورته المستورة: "كيف اكتشفت أن العورة يجب أن تُستر؟ لقد دخلت المكتبة... أليس كذلك؟" أجابه الصبي مرتعداً: "نعم.. لقد دخلت المكتبة." أمسك الرجل بعنقه يكاد يخنقه سائلاً إياه: "ولماذا لم تفِ بالعهد الذي قطعته عليك؟ لم رميت بنفسك في وحل الخطأ؟!"، أجابه الصبي: "وما الخطأ؟ أنت لم تعلمني الصواب والخطأ، في اللحظة التي دخلت فيها المكتبة لم أكن أعلم أن نكث العهود يُعَد خطأ، لكنني بعد أن دخلتها تعلمت أنه خطأ، تماماً مثلما لم أستر عورتي أبداً، هذا لا يعني أنني كنت أمارس الصواب...  ولو لم أعص أمرك لما تعلمت مطلقاً الخير والشر." صرخ الرجل: "أنت صبي شرير" أجابه بهدوء: "لست كذلك... فقلما خذلني عقلي.. فقد وضعتَ بين يدي فأساً لم أستخدمه يوماً لطعن نفسي، كنت أقطع به الأخشاب، وتعلمت إشعال النار فلم أحرق يوماً بها المزرعة ...  وجدتني أتساءل ما الذي يمنعني عن دخول المكتبة؟!". طرده الرجل من مزرعته... فغادرها الصبي ونصب عينيه صورة المكتبة التي ميزت له الخير من الشر، فالشعور بأننا لا نرتكب شراً لا يعني أننا لا نمارسه. والإحساس بأننا من أهل الخير أحياناً يكون خادعاً. لم ينس أن يشكر مَلِك الشر، أن يتوجه بخالص التقدير للشيطان الذي وسوس له، فالوسوسة تبدو للكثيرين شراً، لكن الشيطان هنا مارس الخير بقصد أو دون قصد. فقد أراد أن ينال من طاعة الصبي للرجل، فإذا به يفتح له أبواب المعرفة. تغيرت حياة الصبي، وأصبح أستاذاً في مناهضة مبرمجي العقول القائلين لأتباعهم اقرأوا هذا ولا تقرأوا ذاك، وانتدب نفسه للقيام بدور الشيطان، أن يوسوس للعقول كي يحررها، رسالته الرئيسة لن تكتشفوا أنكم عرايا ما لم تتدثروا بالعلم، فسيظل التعري فضيلة ما لم يتعرف الإنسان على ضدها. وأصبح للصبي أتباع يزداد عددهم يوماً بعد يوم، وكان من أشهر مقولاته: "لشياطين الفكر وسوسة تحيي الأمم، إذ تُعَلم عصيان السادة من أجل إدراك الحقائق. وهؤلاء الشياطين لا يقدمون بالضرورة حلاً؛ بل يحلون عقدة العقل التي تمنعه عن العمل، إنهم يثيرون فيه روح التساؤل وعدم الاستسلام للأجوبة التافهة، لنا في الشيطان أسوة حسنة إذن كعميد الوسوسة. ولابد أن نتخذ من سيرة الشيطان قصة نجاح، سواء اتفقنا أو اختلفنا معه، لندرس كيف نجح في إغواء أكثر من في الأرض!!" كان لكلام الصبي وقع السحر، فتكونت مدرسة فكرية خالصة له، بدأت الدروس بمادة "الوسوسة"، وكان الدرس الشهير: "الوسوسة فكرة ثاقبة تخترق الدماغ، تشعر معها بنغزة بسيطة، أو كأن نوراً أضاء فجأة في رأسك، فهي ليست خطبة عصماء.. انتبه... الشيطان لا يُعلِم أبداً عن وجوده." أما درس الاستراتيجية فكانت عبارته المشهورة: "فلتأتوا معشر الشياطين العقول عن أيمانها وشمائلها ومن فوقها ومن تحتها، في السوق والمدرسة والسينما والمسرح، ولتنتشروا في الميكروباصات والحافلات، ولتتشكلوا في كل هيئة، تارة في ثوب عجوز، وتارة في ثوب شاب أو فتاة. ولا بأس إن داهمك الجوع أن تخرج "ساندويتشاً" تأكله، فالشياطين تأكل وتشرب." وانطلق "مشروع الوسوسة" لتزين الشياطين المدربة للعقول أعمالها كي تمارس دورها بكفاءة عالية، فتختبر الأفكار وتدرسها بأناة. وتصدها عن سبيل اليأس أمام الواقع والاستسلام لطغاة الأفكار، وتقودها خطوة بخطوة نحو التفكير الحر، متبرأة في النهاية من نتائج هذا التفكير لأنه ليس بالضرورة سينتج الحل الأفضل. أبهر الناس هذا الأسلوب الحر في التفكير، ازداد حبهم للشيطان الأكبر الذي كان له الفضل في تعليم الصبي كل هذه الحكم، ونفث فيه تلك الروح الجديدة الوثابة. فإذا كان هذا منطق تفكير الصبي، فكيف بالمُعلِّم؟! لاشك أنه يفوق الوصف!! وذات يوم... لم يأت أحد إلى المدرسة... فقد انفض الناس عن الصبي المُعلم... كانوا هناك... حيث يرقد صاحب المزرعة!! فقد مات صاحب المزرعة، ذلك الرجل الذي حرم الصبي المعرفة. اتجه الآلاف إلى قبره في مزرعته... تسمرت الأعين في خشوع أمام الكلمات المنقوشة على القبر: "قضيت عمري أدرس الشيطان واستراتيجياته وتكتيكاته... لا أنكر إعجابي به كمثابر على مهمته التي اختارها، لكنني كنت أكثر مثابرة... تستطيع أن تتلاعب بالشيطان وتستخدمه لتحقيق ما تريد... كنت أعلم أنه سيستغل فضول الصبي ويوسوس له... انتظرت لسنوات هذه اللحظة بفارغ الصبر... كان الصبي يسعى فقط لمعرفة الخير والشر، وكنت أسعى لتعليمه تطويع الأشرار واستخدامهم لخير البشرية... علمت أن الصبي سيزداد إعجابه بالشيطان كمنقذ له، فكان كل يوم يتألق فيه الصبي يقود الشيطان نحو المرمى الذي أصوب عليه... كاد الناس أن يعبدوا الشيطان الذي علم الصبي... ما لم يعلمه الناس -ولا الصبي- أن الشيطان لم يوسوس إلا بعد أن اهتدى الصبي بعقله إلى ضرورة الذهاب إلى المكتبة... لقد سرق الشيطان الإنجاز العقلي للصبي ونسبه إلى نفسه. أقول لأولئك الذين يبحثون دائماً عن طاغية فكر يرفع عنهم عبء التفكير ويتحمل نتائجه، لا تعبدوا الشيطان... بل أَعمِلوا عقولكم، فهي مُعدَّة لخوض الحياة. ويوم تستخدمونها تصبحون أذكى من الشيطان فتسحقونه... وأخيراً لا أدري.. هل تقفون على قبري حداداً عليّ أم على الشيطان؟!.. نعم.. لقد مات الشيطان... وأنا الذي قتلتُه".

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 61 مشاهدة
نشرت فى 26 مايو 2011 بواسطة RawdaParadise

ساحة النقاش

bassant

RawdaParadise
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

23,145