الشاعر محمد مفتاح الفيتوري والشيخ النوري
بطاح وفيافي مجاهل أفريقيا، حيث استأسد الطغاة كما سادت فيها الوحوش الضارية، من مستعمر كشر عن أنيابه وأنشبها في شرايين الشعوب المغلوبة على أمرها بفعل الجهل والتشرذم، ردحا من الزمن وهو يمتص دماءها، ويهرق عرقها دون جدوى تطالها. وبعد جهد جهيد استطاعت الشعوب بفضل نضالها أن تتخلص من براثن عدوها، وتبلغ النبع الذي تاقت إليه لترتوي وتتخلص من ظمئها الذي عانت منه طويلا. لم تدم فترة الري طويلا ، لقد استولى على النبع وبتعاون مع عدو الأمس عصابات همها الاستيلاء والإثراء، صادرت الزرع والضرع ، ومن أجل ذلك وضعت منوم قوي المفعول في ماء النبع، فتهاوت الجماهير وغطت في نوم عميق، وغاب القط أو غيب ليجد الفأر الساحة آمنة ليلعب ويلهو كما يقول المثل الشعبي.
روح الفيتوري الشاعر الفحل السوداني المتوقدة، النزاعة للحرية والانعتاق، الكارهة للغل الذي طوق عنق الملايين واستطاعت في جلها أن تتخلص منه ولو بقدر. هذه الروح اشتاقت أن ترى رجع الصدى لندائها وتباريح رجائها، خاصة في رائعة نشيد أفريقيا. نزلت الروح من عليائها وهي تأمل أن تجد الملايين وقد نهضت، وبركب الحضارة التحقت وللإنسان الجديد بنت. لكنها صدمت هالها مشهد الملايين وهي مكدسة بعضها فوق بعض، لا تسمع إلا حسيس غطيطها، وعدوها يتفقد مدى استغراقها غير مبال بها يدوس على رقابها ويمشي فوق بطونها. كادت الروح أن تسقط بفعل صدمتها. فصاحت بأسى ووجع:
يا أخي في الشرق، في كل سكن
يا أخي في الأرض، في كل وطن
أنا أدعوك..
فهل تعرفني؟
يا أخا أعرفه.. رغم المحن
إنني مزقت أكفان الدجى
إنني هدمت جدران الوهن
لم أعد مقبرة تحكي البلى
لم أعد ساقية تبكي الدمن
لم أعد عبد قيودي
لم أعد عبد ماض هرم..
عبد وثن
أنا حي خالد رغم الردى
أنا حر رغم قضبان الزمن
فاستمع لي.. استمع لي
إنما أذن الجيفة صماء الأذن
سمع الشيخ النوري وهو المندس بين تلك الحشود سالكا طريقا آخر في التخدير بإشراف ولي أمره، شيخ من شيوخ السلطان هو، رفع عقيرته يرد على الروح الآتية من بعيد وبنبرة تمازجها السخرية والهزء وشيء من بقايا الحسرة والألم لأنه يؤمن أن ما يقوم به هو عين العمالة والفسق والنذالة عمى البصيرة جعله ينقاد لما هو فيه رغم أنفه، لاحظ في تدخله نبرة التثبيط يخالطها شيء من التحريض في أفكار مشوشة متناقضة وهو حال من سلك طريق العمالة :
تلك أماني من نفوس مُحيت°°°كانت النور وقد غاب سنـاها
ذلة من قبل عهدها ما عرفت°°° محت المجد وحلت بلظاها
الملايين تغطت بـرداهـــــا °°°ما تراها عمق الجـرح أسـاها
في جحور اليأس ثَمَّ انكفأت°°°لا حسيس إلا همسات فُســاها
حملت أكفانها وانحـــدرت °°°من روابيها وأغـوار قــــراها
تطلب اللجوء والخبز معــا°°°بعد أن سُلبــت منــــها منــاها
الديار هدمت فمـــا تـــرى°°°غير أطــلال وقد عـــز بناهــا
وبساتين الخير أضحت أثــرا°°°بعد عين بالجـحيم قد رماها
أرضنا المعطاء حين عريت °°°من ضياها وتغطت بدجاها
°°°°°°°°°°°°°°°
انبرى أحد الشباب في سورة من الغضب العارم يرد على الشيخ المندس:
الطواغيت طغت، بحبل الغريب أمسكت
استعانت، وبــه على الشعوب استأسـدت
أمهــات للأطــفال والأكـــــــــباد افتقدت
وبراعم بالظــــــــــلم دون عــذر يتمـت
غــادرت مدارسها التي قــــد هـــــدمت
ملايين العوائل تحت الخــوف شــردت
وكلاب الشر في حوض العــفاف ولغت
هي الأخـــــــــلاق وبفعـل ذاك انتكست
ذلة من قبل عهدها ما عرفت°°° محت المجد وحلت بلضاها
الملايين تغطت بـرداهـــــا °°°ما تراها عمق الجـرح أسـاها
اغتاظت الروح وتنمرت على غير عادتها تدخل الشاب هدأ شيئا من روعها ورغم ذلك فقد استفزها ذلك الشيخ المرتزق الذي يعمل على نشر فكر الاستسلام والتخويف وترسيخ قبول الذل الذي عاد والباطل الذي ساد، فزمجرت بصوت تخاله الرعد مذكرة بالماضي الأليم وفي نيتها دعم مداخلة الشاب واستنهاض الهمم:
إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه ما لقينا
إن نكن بتنا عراة جائعينا
أو نكن عشنا حفاة بائسينا
إن تكن قد أوهت الفأس قوانا
فوقفنا نتحدى الساقطينا
إن يكن سخرنا جلادنا
فبنينا لأمانينا سجونا
ورفعناه على أعناقنا
ولثمنا قدميه خاشعينا
وملأنا كأسه من دمنا
فتساقانا جراحا وأنينا
وجعلنا حجر القصر رؤوسا
ونقشناه جفونا وعيونا
فلقد ثرنا على أنفسنا
ومحونا وصمة الذلة فينا..
وكزت الأرض بعصاها وكزة ارتجت لها الأرجاء فنهض على وقعها من كان نائما واشرأبت الآعناق إلى الروح المثال.اهتزت الروح فرحا وتفاؤلا وصاحت من فرط بهجتــها لما رأت الأجساد تتململ والحناجر تهتف بعد طول سكوت،صاحت بقوة أكبر لتوقظ من بقى نائما او مترددا:
الملايين أفاقت من كراها
ما تراها.. ملأ الأفق صداها..
خرجت تبحث عن تاريخها..
بعد أن تاهت على الأرض وتاها
حملت أفؤسها وانحدرت من روابيها..
وأغوار قراها..!
فانظر الإصرار في أعينها
وصباح البعث يجتاح الجباها
يا أخي في كل أرض عريت من ضياها
وتغطت بدجاها..
يا أخي في كل أرض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم.. تحرر من توابيت الأسى
لست أعجوبتها.. أو مومياها
انطلق فوق ضحاها ومساها
يا أخي قد أصبح الشعب إلها
* * *
جبهة العبد.. ونعل السيد
وأنين الأسود1 المضطهد..
تلك مأساة قرون غبرت
لم أعد أقبلها.. لم أعد!
كيف يستعبد أرضي أبيض1
كيف يستعبد أمسي وغدي؟
كيف يخبو عمري في سجنه
وجدار السجن من صنع يدي
أنا زنجي1.!(أفريقي)
وإفريقيتي لي لا للأجنبي المعتدي
أنا فلاح ولي أرضي..
التي شربت تربتها من عرقي
وهي أغلى ثروة من ولدي
أنا حر مستقل البلد
وسأبقى مستقل البلد
* * *
ها هنا واريت أجدادي.. هنا..
وهم اختاروا ثراها كفنا..
وسأقضي أنا من بعد أبي..
وسيقضي ولدي من بعدنا..
فهي ما كانت لقوم غيرنا..
نحن أهرقنا عليها دمنا..
ومزجنا بثراها عظمنا..
وشققناها بحارا وربي..
وزرعناها سيوفا وقنا..
وركزنا فوقها أعلامنا..
وتحدينا عليها الزمنا..
وسنهديها إلى أحفادنا
وسيحمون علاها مثلنا
فاسلمي يا أرض إفريقيا لنا
اسلمي يا أرض إفريقيا لنا
هجمت الجماهير على الشيخ النوري توسعه ضربا مبرحا، وهي تهتف للروح المحلقة، تقدمت محاولا تخليصه حتى يقام عليه الحد شرعا إلا أن ضربة موجعة أصابت كاهلى فانتفضت ونهضت من غفوتي لأجد التلفزيون ينقل مشاهد الحشود تجوب القرى والمدن مطالبة باسترجاع الكرامة والوطن.
ملاحظة تعوض العبارات المرقمة 1 على التوالي: خانع ، غاصب ، أفريقي. لتترجم القصيدة وضع عموم العرب.
ملاحظة: ما قاله الفيتوري هو من نشيد أفريقيا للشاعر السوداني محمد مفتاح الفيتوري،وماقاله الشيخ النوري والشاب الذي رد عليه من نظم احمد المقراني. نشرت في مثل هذا اليوم 30-6-2019 أحمد المقراني