جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بسم الله الرحمن الرحيم
لمحــات ســريعــــــة في مســــار العمـــر ( السيـــرة ) !!
ذات يوم من أيام الأربعينات في القرن الماضي كان المولد .. في قرية متواضعة بشمال السودان .. عطاء من نوازل القدر الذي لا يتخطى المسطر في الأزل .. كانت صرخة المولود مرافقةً لزغاريد الأهل .. رغم أن الأهداف كانت متباينة وغير متوافقة .. فالمولود كان يصرخ لإدراك بحقيقة المآل المجهول .. أما الأهل فكانون يزغردون وهم يقيمون جدار آمال قد تكون وقد لا تكون .. ثم دارت الأيام والسنوات لتؤكد حدس المولود وتخيب أحلام الحالمين .. والأدب مع الخالق سبحانه وتعالى يفرض الحمد والشكر في كل الأحوال .. والسيرة حين تقال هي فقط لإعادة قراءة الماضي .. واليقين جازم بأن الذي أصاب ما كان ليخطأ وأن الذي أخطأ ما كان ليصيب .. فتلك أيام الطفولة كانت بجزيرة المولد ( بدـيــن ) .. جزيرة يحيطها النيل بحرص شديد .. حيث فرعين للنيل من الشرق وفرعين للنيل من الغرب .. والجزيرة تتوسط الأفرع الأربعة كما يتوسط السواد للعين .. وتمثل درة غالية مصونة محصنة .. يحرص عليها النيل ثم يذود عنها وكأنه يخشى عليها من خاطف يخطفها من الأحضان .. قال عنها أحد الزائرين يوماً : ( بدين جنة الله ضلت طريقها إلى الأرض ) .
رحلت سنوات الرضاعة والفطام تليها سنوات الطفولة والنشأة .. وهي مرحلة عمر عادة تتبخر أحداثها من الأذهان .. وفي تلك المرحلة من العمر كان الناس يجهلون مسميات ( الروضة ) كمرحلة تعليمة تمهيدية .. والبديل لذلك كانت تلك المرافق التي تسمى ( خلاوي القرآن ) .. والجزيرة كانت ومازالت فيها العديد من تلك الخلاوي القرآنية .. محافل تعليم أولية يتواجد فيها الصغار الذين لم يبلغوا السابعة من العمر .. وعند كل صباح يتوجه الصغار لتلك المحافل لتعلم الكتابة والقرآن .. ومرحلة ( الخلاوي ) هي مرحلة عزيزة إلى النفوس .. تلك الأقدام كانت تعشق الخطوات يومياً لتجتاز المسافات فوق الجداول المائية والحقول الزراعية حتى تصل إلى أروقة الخلاوي .. وهنالك كان المقام يطيب في حضرة الشيوخ الأجلاء .. وهؤلاء الشيوخ هم زمرة من الحفظة للقرآن الكريم .. يجتهدون الأعمار في تحفيظ الصغار للقرآن .. وينالون الإجلال والاحترام من الكبار والصغار .. ومن الرجال والنساء .. ذلك التبجيل الذي يرافق المشاعر حتى نهاية الأعمار .. ثم ما أحلى الذكريات في أروقة ( الخلاوي ) القرآنية .. حيث المعية بصحبة الألواح الخشبية والأقلام القصبية .. ثم المداد البلدي المركب من سواد الرماد وشعر الأغنام .. وكذلك ما أحلى الذكريات مع أولى خطوات الكتابة للحروف العربية حيث ( ألف ، باء ، تاء ، ،ثاء ، جيم ) .. رسم لحروف ملائكية عجيبة الأشكال والمنحنيات .. تلتوي تارة .. وتستقيم تارةً .. ثم تتعرج تارة أخرى .. وتلك الحروف عندما تكمل نهاياتها تبدأ الكتابة بفاتحة الكتاب .
تلك السنوات في الأربعينات كانت تمثل ذروة التراشق بين المستعمر والمناضلين الأحرار.. والسجال بين الأطراف كان على أشده .. وهو المستعمر الذي كان يخطط بجدارة الماكرين المهرة .. وكان يدرك جيدا خطورة تلك الخلاوي القرآنية في ترسيخ الثقافة الإسلامية .. ولذلك أجتهد في تأسيس المدارس الأكاديمية في كل أنحاء البلاد .. بجانب كلية غردون كمرحلة جامعية .. ومسميات المراحل التعليمية الأكاديمية في حينها كانت غير مسميات المراحل حالياً .. مرحلة ( الأولية ) وكانت لأربع سنوات .. تليها مرحلة ( الابتدائية ) وكانت لأربع سنوات .. ثم مرحلة ( الثانوية ) لأربع سنوات .. وبعدها كانت المراحل ( الجامعية ) حسب الكليات .. بجانب مدارس ( التعليم المهني ) و( المعاهد الدينية ) .. وتلك المؤسسات التعليمة الأخيرة ( المهنية والدينية ) كانت تبدأ بمرحلة الابتدائية .
كان المستعمر يغلف تلك المدارس الأكاديمية بالترغيب والتشويق .. ومن الذكريات الراسخة في الأذهان أن المفتش الإنجليزي عندما يزور تلك المدارس من حين لآخر كانت الزيارة تمثل يوم فرح وسرور في حياة الطلاب .. حيث توزيع ألوان وأشكال الحلوى والهدايا للتلاميذ الصغار .. بجانب ذلك المخطط الخطير للمستعمر الذي فرض سياسة التعليم الأكاديمي الإجباري .. وعليه فإن الطفل عندما يبلغ سن السابعة من العمر كان عليه أن يترك الخلاوي القرائية ليلتحق بالمدارس الأكاديمية .. وتلك المدارس كانت تكثف تدريس المناهج المدنية المتفرقة بجانب القليل من المواد الدينية الإسلامية .. ولا نقول سرا حين نكشف أن المستعمر كان يضمر حين جعل المادة الإسلامية ضمن المناهج التعليمية في المدارس الأكاديمية .. والخطة كانت متعمدة بقدر يشوه الإسلام في الأذهان وبطريقة ملتوية غير مباشرة .. فكانت المنهاج التعليمية الدينية في المدارس الأكاديمية مادة غير إجبارية عند الاختيار .. بجانب التوجهات العلمانية التي كانت تتعمد الإهانة للإسلام .. ونحن لا ننسى تلك العناوين الصارخة التي كانت تتوفر في كتب المطالعة المدرسية .. ومازال تراود في الأذهان تلك المقالة المشهورة بعنوان : ( طــه القرشي في المستشفى ) .. وفي حينها لم يسأل أحد لماذا الاسم ( طه ؟ ) .. ولماذا النسب ( القرشي ؟ ) .. ولماذا هو ( في المستشفى ؟؟ ) .. رغم أن الأسماء والأنساب تتوفر فوق وجه الأرض بالملايين!.. وتلك التلميحات كانت واضحة وضوح الشمس .. إلا أن أحداً لم يبادر بالملاحظة أو الاحتجاج .. حيث البراءة المقرونة بالجهل .. ومع ذلك فإن الرعاية الإلهية كانت بالمرصاد بالقدر الذي كان يمكن الإسلام يوما بعد يوم رغم الكيد والمؤامرات .. ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( الأنفال 30) .
كان التنافس بين طلاب المدارس على أشده .. وفي حال التنقل من مرحلة ( الأولية ) إلى مرحلة ( الابتدائية ) كان يمتحن أكثر من خمسمائة طالب في مركز الابتدائية المتوفر عادة في الإقليم الواحد .. ليكون الحظ من نصيب أربعين طالباً فقط .. أما الباقون فكان عليهم البحث عن وسائل اللحاق بالمدارس المهنية أو الدينية .. وإذا تعذر ذلك كان عليهم أن يتركوا التعليم كليا مكتفين بالتعليم الأولي فقط .. وكان على الصبي الصغير أن يلتحق بالعمل مع أهله في قيادة السواقي الخشبية بالجزيرة .. ودام الأمر لسنتين .. بعدها فكر الأهل في إرساله إلى أم درمان حيث يتواجد أحد أخواله .. وفي عام 1957 سافر الصبي إلى مدينة أم درمان في رحلة باللوري .. وقد دامت الرحلة لخمسة أيام .. بعدها كانت تلوح في الآفاق ملامح أم درمان .. وتلك كانت بداية حياة الصبي في كنف المدائن .. في البداية عمل الصبي في دكان خاله كمساعد يعمل بالمحل .. ثم تيقن أن المستقبل مرهون بالتعلم والتلقي والشهادات .. فدخل من جديد في ( معهد بكار العلمي الديني ) بأم درمان عام ( 1960 ـــ 1964 ) .. وهو معهد يعادل ( الابتدائية ) .. وبعد إكمال الابتدائية دخل في ( معهد أم درمان العلمي الثانوي )( 1965ــــ 1969 ) .. وبعد إكمال الثانوية أمتحن الشهادة السودانية .. وبعدها دخل ( جامعة القاهرة فرع الخرطوم ) (1970 ــــ 1974) .. كلية التجارة قسم المحاسبة .. وكانت الدراسة في جامعة القاهرة حينها بالمساء فقط .. وعليه عمل بالنهار موظفاً بشركة السينما السودانية ( 1969ـــــ 1970 ) .. ثم تحول ليعمل موظفا في مؤسسة الدولة للسينما ( 1971 ــــ 1978 ) .. ثم سافر إلى المملكة العربية السعودية ليعمل محاسباً في مؤسسة مقاولات إنشائية ( 1978 ــــ 1999 ) .. ثم عمل محاسبا في مصنع للبلاط في السعودية .. وهو مصنع الأتوز للحجر ( 2003 ــــ 2004 ) .. ثم عاد نهائيا إلى أرض الوطن في عام 2004 م .. وبعد ذلك تفرق كليا للكتابة في المواقع بالشبكة العنكبوتية .
هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .
ساحة النقاش