بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم

( قصــة قصيـــرة )

رحــلة المــوت إلى بــلاد الإفرنــج  !!

عرجت الويلات أرففاَ حتى أصبحت تلاَ .. وحين اشتكى من الدنيا ازدادت نوازل الشكوى .. يجلس صاحبنا حائرا عند حافة السفينة .. تلك السفينة التي تتسلل خلسة لعمق بلاد الإفرنج .. وهنالك الكثير من الغيوم والكثير من الأسرار .. حيث السماء المبهمة بلا حدود .. وحيث النجوم البعيدة التي لا توحي بالسند .. وحيث الوفرة في ماء أجاج بدرجة الإملال .. وقد رحلت معالم الدنيا عن الأنظار .. وفقط أمامه تلك الزرقة المبهمة القاتلة في البحر وفي السماء .. وقد أحاطت بقلبه هموم الماضي والحاضر كأطواق الكلاب .. والمصير هو ذلك المجهول في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل .. إلى أين يا ترى سترسو به سفينة المحن ؟.. وكيف يا ترى سينتهي به المطاف ؟ .. وهو يعلم يقيناَ بأنه مرفوض من كل الجهات .. تلك الشائبة التي تؤكد قمة الإذلال .. وهنا ترد على قلبه تلك الخواطر بجحافلها .. ثم تلك الأسئلة المعهودة .. لما الحياة قاسية ؟؟ .. ولما تلك الدنيا لا تنصف ولو أحياناَ ؟؟ .. وفي تلك اللحظات الحرجة يعيد الحسابات ليجد أن العيوب تكمن في الذات قبل أن تتوفر في الأسباب .. وهو الذي تعود التأفف والشكوى منذ مولده .. وتلك شيمة تتناقض مع الإيمان .. فما كان يضيره لو أنه أمتطى فضائل الصبر كما يفعل الصالحون من بني البشر .. كان يشتكي من قدر .. ثم كان يشتكي من وطن .. وكل الأوطان في عالم اليوم لا يمنح إلا بالقدر المتاح المقدور .. ولا يلام من يفتقد .. وتلك السفينة التائهة تحتوي في جوفها المئات والمئات من الجاحدين للنعم من أمثاله .. والطامعين في المزيد .. والكل يحمل في جوفه تلك الحجج الكاذبة .. وهي تلك الافتراءات التي تلطخ صور بلادهم وأوطانهم بأبشع أنواع النعوت .. مجرد افتراءات وأكاذيب لكسب عواطف الإفرنج .. ففي سبيل بلوغ تلك الجنان المزعومة تهون الأوطان وتداس تحت الأقدام .
        وفجأة تلبدت الغيوم .. وبدأت الأجواء تنذر بالوبال .. وعلامات توحي بدنو عاصفة هوجاء .. وعندها ظهرت بوادر الخوف في الوجوه .. حيث بدأت الأمواج تتعالى وتتراقص .. وحيث تلك الرياح العاتية التي بدأت تركل سفينة النحس بالأرجل .. فأخذت السفينة تجاري الأمواج والرياح في رقصاتها .. وتتمايل معها علواَ وانخفاضاَ ثم يميناَ ويساراَ .. لحظات حرجة مؤلمة تعني الموت الأكيد .. وتلك صرخات الرجال قبل صرخات النساء والأطفال .. والعيون تنظر مشفقة في العيون .. والكل ينتظر كلمة عزاء من أحد ولكن لا يتوفر من يجيب .. وتلك زلزلة من الخوف الشديد أربكت حسابات الناس .. فتلك الأم تطلب النجدة لنفسها ووليدها وبالعدم تكتفي بنجدة وليدها .. ولكن لا حياة لمن تنادي .. والكل كيوم المحشر ينادي يا نفسي ويا نفسي .. لا يجزي والد عن ولده ولا يجزي مولود عن والده .. وكان صاحبنا خائفاَ وجلاَ لا يدري ماذا يفعل في تلك اللحظات الحرجة العصيبة .. فأحس فجأة بأن يداَ غضة تمسك بأنامله .. فنظر فإذا بصبي صغير يافع يمسك بيده وهو يرتجف من الخوف الشديد .. وكان الصبي يتكلم بكلمات ولكن كانت كلماته ترحل مع أصواتأأتاأـأ العاصفة .. وعندها مال مقترباَ لوجه الصبي فإذا بالصبي يقول له :   ( أنا فقدت أهلي في زحمة الهرج والمرج فالمرجو المساعدة !! )  .. فما كان منه إلا أن طمئن ذلك الصبي ثم تشابكت أنامله بأنامله .. ثم فجأة مالت السفينة ميلة حاسمة لتقذف بجميع ركابها في البحر .. وعندها وجدت الناس نفسها تواجه الموت وتلاطم الأمواج .. ثم تفرقت وتشتت المجموعات .. وتباعدت الصيحات في ظلمات الأمواج رويدا رويدا .. وعندما أفاق صاحبنا من هول الكارثة .. وبعد دقائق قليلة وجد نفسه يسبح في الماء .. وبرفقته ذلك الصبي الصغير الذي ما زال يتشبث بأنامله .. وعندها حرص أن يقي ذلك الصغير حتى النهاية .. ثم لاحظ أن هنالك العشرات والعشرات من أطواق النجاة البيضاء الطافحة فوق سطح الماء .. وهي تلازم الأمواج طلوعا ونزولاَ .. وعندها اجتهد صاحبنا حتى تمكن من التقاط طوقين له وللصبي الصغير .. ومنذ تلك اللحظات القاتلة لم يشاهدا أحدا من ركاب السفينة .. حيث أن الكل كان يواجه الموت بطريقته الخاصة .. أما هو فكان يجيد السباحة غير أنه كان يجهل الوجهة التي تحتمل اليابسة .. ورغم ذلك فقد ألهمه الحظ أن يسبح في الاتجاه الصحيح .. وفي المعية ذلك الصبي الصغير الذي كان شجاعاَ بذلك القدر .. فلم يتخاذل ولم يبكي من فرط الأحوال .. بل كان يجد ويجتهد بنفس القدر مما خفف عنه الكثير من العبء .. وبعد ساعتين من السباحة المتواصلة ظهرت في الأفق ملامح جزيرة صغيرة .. وعندها كانت الفرحة الكبرى في نفسه وفي نفس ذلك الصغير .. ومجرد ملامح اليابسة كان كفيلاَ في تنشيط العزيمة والاجتهاد من أجل الحياة .. وحين بلغا اليابسة تسلقا الصخور حتى تمكنا من سهل الجزيرة .. كانت الملابس مبتلة وكانت الرياح تجلب البرد القارص .. فبحثا عن فجوات بين الصخور تمثل بقعة دافئة .. ثم مرت الساعات وعندها كانت الرياح كفيلة بتجفيف الملابس رغم قساوة البرد الشديد .. وكان لا بد من الانتظار هنالك دون حيلة في الكف .. حيث المصير المجهول .. وحيث المكان المجهول .. وحيث البحر المجهول .. ولكن شاءت الأقدار أن تمر فوق الجزيرة طائرة هليوكوبتر تبحث عن الناجين من تلك الكارثة الكبيرة .. فتقدما للواجهة وهما يلوحان بأطباق النجاة البيضاء .. فشاهدهما قائد الطائرة .. الذي هبط بطائرته فوراَ لإنقاذهما .. وقيل لهما أن تلك الجزيرة الصخرية الصغيرة هي ضمن الجزر الإيطالية العديدة في البحر الأبيض المتوسط .
        وبعد ذلك تم ترحيل صاحبنا والصبي الصغير إلى معسكر للاجئين مقام في جزيرة إيطالية أخرى كبيرة .. كان المعسكر يضم الآلاف والآلاف من المهاجرين من كل أنحاء العالم .. من دول آسيا والشرق الأوسط ومن دول أفريقيا .. وهنالك كانت بداية المشوار المفجع الطويل .. حيث جملة من التحقيق والإجراءات .. وحيث الأخذ والرد .. ومن الطريف في الأمر أن صاحبنا رغم أنه لم يتزوج في حياته إلا أن الإيطاليين أصروا أن ينسبوا ذلك الطفل له .. وأوراقه كانت ضمن أوراق العائلات المهاجرة وليست ضمن الأفراد المهاجرة .. والأمر يختلف كثيراَ عند التعاملات .. فهو في عرف الإيطاليين والد ذلك الطفل الصغير .. رضي أم أبى .. ورغم محاولاته العديدة في شرح الحيثيات التي جمعته مع ذلك الصبي إلا أن الإيطاليين رفضوا أن يلبوا الشرح بالاستيعاب .. فأصبح صاحبنا أمام الأمر الواقع .. فتعجب من غرابة الحيثيات ثم سأل الصبي عن اسمه .. ومن حسن الحظ أن الطفل كان من أصل عربي .. غير أنه كان يفتقد الكثير من المعلومات عن أهله وعن عناوينهم .. ثم كان من العجيب أن أحدا من أقرباء الصبي لم يظهر ضمن أحياء السفينة المتواجدين في المعسكر .. وتوالت الأيام الكئيبة في ذلك المعسكر ..  فالحياة كانت تزداد ضيقاَ وقسوة يوما بعد يوم  .. حيث المزيد والمزيد يومياَ من المهاجرين القادمين الجدد .. أما السلطات الإيطالية فكانت تماطل كثيراَ في اتخاذ القرارات .. فلا تسمح باللجوء إليها .. كما لا تسمح بالعبور فوقها .. كما لا تعجل بالإبعاد إلى مواطن القدوم .. ولذلك فإن ذلك المعسكر يمثل سجناَ رهيباَ دون أحكام قضائية .. وهنالك من يتواجد في جحيم المعسكر لشهور وشهور .. وفيهم من يتمنى العودة للأوطان بأي شكل من الأشكال .. أما صاحبنا والصبي الصغير فقد َجاء الفرج أخيراَ حين سمحت السلطات الإيطالية بحق اللجوء لهما في إيطاليا .. وعندها انتقل صاحبنا مع الصبي إلى مدينة ايطالية ريفية ليعمل فيها .. ثم استأجر سكناَ صغيراَ .. وألحق الصبي بمدرسة محلية .. وعندما هدأت الأمور قليلاَ بدأ يفكر في تلك الأحداث والمجريات العجيبة .. فهو ذلك الشاب العازب الذي كان في الماضي يشتكي من جور الأحوال في الوطن .. حيث لا مستقبل يلوح في الآفاق .. ولا زوجة تقف عند الأعتاب .. ولا ولـد يفرح الألباب .. ثم أراد وطنـاَ آخر غيـر وطنـه وتوجـه تلقاء بلاد الإفرنج .. فإذا بالحياة هنالك تبدأ بالمعكوس .. فيصبح أبـاَ بغير زوجة .. ومسئولاَ بغير خبـرة .. ورغم كل ذلك فإن النفس ما زالت تشتكي من قلة السعادة والفرحـة .. والأحوال قبل الهجرة هي الأحوال بعد الهجرة .

ـــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 187 مشاهدة
نشرت فى 25 أكتوبر 2015 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

765,702