جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
<!--<!--<!--
هى فى الرابعة والثلاثين من العمر...تعمل بأحد البنوك...لديها من الأبناء ثلاثة أتت للعيادة النفسية وهى منهارة ولاتتمالك نفسها من البكاء ، هدأت قليلاً تحاول أن ترتب الكلمات لكن لاتعرف من أين تبدأ،تركتها فى نوبة البكاء حتى هدأت ثم طلبت كوباً من الماء،نظرت قليلاً إلى الأرض ثم اعتدلت فى جلستها وتنهدت وكأن شريط الذكريات يمر أمام عينيها....عشرة أعوام وأنا أحبه وهو يتفنن فى اختراع الأساليب لإهانتى والتقليل من شأنى...هكذا بدأت فى سرد قصتها وأنا أنصت إليها...وأراقب دموعها وملامح وجهها التى بدت وكأنها تسطر ألام السنين فى كتاب لم تطوى صفحاته بعد فمازال مفتوحاً لتكتب فيه المزيد فهى لم تقرر الإنفصال عن هذا الزوج بعد....فهى ما زالت تحبه بجنون كما تدعى.....لقد أتيت إلى العيادة لتخلصينى من حبه الذى يتملكنى وكأنه ذهب لساحر أو كما قال لى بعض الأقارب إنه عمل لى عمل...لا أعرف ماذا أقول لك...تعرفت عليه وأنا فى الجامعة كان يكبرنى بعامين ولو حكيت كيف كان الموقف الذى تعرفت عليه ربما تندهشى...حيث كان على موعد مع شقيقته وهى صديقتى ليقوم بتوصيلها بالسيارة وتأخرت عليه نصف ساعة فنهرها أمام الجميع وأحرجها بشكل جعل الجميع ينتقده أما أنا فقد لمحته ينظر لى خلسة...ربما خفت منه فى هذه اللحظة أو تملكنى الخوف من نبراته الحادة...ربما لاحظ على ذلك لا أعلم..لكن لا أدرى لماذا انشغلت به بعد ذلك فقد خفق قلبى وانتفض حباً وإعجاباً بهذا الشخص.....تطور الأمر ثم أصبح ارتباطاً رسمياً وخطوبة وزواج...حذرنى منه شقيقى لأنه كان يرى أنه حاد الطباع وعصبى المزاج..لكن قلت له إن حبى له قادر على أن يغيره ...وقال لى أنت حرة لكنى نصحتك وهذا قرارك.لكن يبدو أننى كنت مخطئة فحتى فى يوم زفافنا لم يستطع أن يمسك نفسه عن إندفاعه وحدته وإلقاء التهم على فى أشياء لاذنب لى فيها...لا أعلم كيف أتحدث فى هذا الموضوع فأنا لم أتكلم فيه مطلقاً منذ 10 سنوات..لكن كلما فعل شيئاً أتذكر ذلك الموقف...لم يكتب لنا التوفيق فى إقامة العلاقة الخاصة من أول ليلة وكنت أعرف أن ذلك أمر عادى ويمكن أن يحدث لكثيرين...أما هو فقد استشاط غضباً ووصفنى بأننى خام وعندى برود ولا أفهم شيئاً عن الحياة الزوجية...بالله عليك هو يعرف جيداً أننى من أسرة تربى الأبناء على الدين والأخلاق وأنا كنت أرى من الطبيعى أننى لا أعرف الكثير عن تفاصيل هذه العلاقة لكن هذا يأتى مع الخبرة من خلال الحياة الزوجية...لكن كبرياءه منعه أن يعترف أنه هو أيضاً لم ينجح فى ذلك وفوراً كنت أنا السبب..وهكذا أصبح أسلوب التعامل ..مع أى مشكلة نمر بها أكون أنا السبب حتى مشاكله فى عمله أنا السبب فيها لأنى لا أستطيع أن أفهمه وأهيئ له الجو المناسب فى البيت..مع العلم بأنه على خلاف متكرر مع زملائه فى العمل...فهل أنا السبب فى ذلك أيضاً؟...لكن طوال هذه السنين كان يفعل بى ما يفعل من ذل وإهانات وأنا أسامحه وألتمس له العذر بأنه عصبى بعض الشئ ..لكن مع مرور السنين بدأت أشعر بأننى لم أعد أتحمل خاصة أنه يتمادى فى سلوكه معى وكلما سامحته زادنى تجريحاً وإهانة..فأحياناً أشعر أننى كم مهمل كقطعة أثاث فى المنزل..لايبالى بأفكارى بل يأخذ رأيى ليفعل عكسه ثم يتهمنى بأننى لا أعرف كيف أفكر...مشاعرى لاتعنيه فى شئ..يقضى أياماً فى المنزل وقد أصابه الخرس كنوع من العقاب لى لأننى تجرأت مثلاً وفكرت أن أناقشه أو أراجعه فى أمر من أمور حياتنا..ناهيك عن العزلة الإجتماعية التى يفرضها على والتى خدعنى فى بداية حياتنا بأنه يغار على من أن يكون لى وقت مع غيره حتى ولو كانت أمى أو صديقاتى..فهو يريد أن أكون له هو فقط...سعدت فى بداية الأمر بمثل هذا الكلام لكن أعتقد أنه فعل ذلك ليحكم سيطرته على...وقد فعل...خاصة وأننى كرهت الاختلاط والزيارات فلو حدث وكانت هناك مناسبات اجتماعية وصادف أن التقينا بأحد من أقاربى أو أصدقائى فلا مفر من سخريته منى أم الجميع أو أن ينادينى باسم لايصح مطلقاً أن يطلقه على وينادينى به أمام الناس من باب الدعابة والمرح كما يقول فكان ينادينى بأم الهم ..بحجة أن يعرف الجميع كيف أنه يتحملنى ويتحمل نكدى...لقد عشت سنوات وسنوات تحت وطأة الإهانة والتحقير وكلما اعترضت هددنى بالطلاق...قلت لها أفهم من ذلك أنك ترفضين الطلاق رغم كل هذا بل وتخافين من الانفصال؟ سكتت لحظات ثم نظرت إلى وأومأت برأسها إيجاباً...نعم أخشى أن يطلقنى..وإلا لما جئت إليك...فأنا أشعر أننى لست طبيعية كل ما يفعله بى وأنا أشعر أننى أحبه أو أخشى أن يبتعد عنى لا أدرى لماذا .....أنا لا أعرف كيف أتصرف...أهلى يرفضون بقائى معه وأنا أقول لهم لن أقدر على الانفصال بحجة الأولاد..لكن الحقيقة أننى أنا من أخاف من فكرة الابتعاد عنه هل فكرة الفشل ترعبنى...أم أننى أحبه لا أعرف.......
ذكرتنى هذه الحالة بإحدى المرات التى التقينا فيها كفريق عمل من المعالجين وكنا نناقش موضوع اضطرابات الشخصية وسألتنى إحدى الزميلات لماذا تتزوج أو لماذا يتزوج شخص سوى من شخص لديه اضطراب فى الشخصية ويكمل معه...قلت لها ومن قال أنه سوى..قد يحدث أن يرتبط شاب بفتاة لديها اضطراب شخصية أو العكس لكن بعد فترة يكتشف أو يكتشف الحقيقة ويحدث الانفصال...لكن من يستمر فى مثل هذه العلاقات المسيئة والمهينة هو بلا شك إنسان غير سوى....فالنرجسى مثلاً يبحث عمن يدعم نرجسيته وهو فى الغالب شخص تربى مع أب أو أم نرجسية..والشخص السادى يبحث عمن يستمتع بممارسة السادية عليه والشخص الإعتمادى يبحث عن شخص يستمد ثقته بنفسه من خلال سيطرته على الأخرين بجعلهم يعتمدون عليه.لكن لماذا يرفض البعض الانفصال عن شريك حياته الذى يسئ إليه دون أمل فى أن يتغير هذا الشريك للأفضل؟؟فى الواقع الأمر يتلخص فى أحد الدوافع النفسية الغير سوية والتى تظهر جلياً فى بعض الأحيان عند اختيار شريك الحياة وهو ما يسمى بالتكرار القهرى للإساءة...أى أن هذا الشخص تربى فى أسرة أساءت إليه فى طفولته فيظل عاكفاً على البحث عمن يكرر نفس الأسلوب من الإساءة المفرطة التى عومل بها فى طفولته..إنه دافع خفى تحركه معتقدات راسخة خاطئة حول الذات....فالإهانة المستمرة فى الطفولة تحطم الثقة بالنفس وتصيب صورة الذات فى مقتل وتؤدى إلى تراكم بعض المعتقدات السلبية حول الذات مثل أنا إنسان غير مرغوب فى أنا ما حدش حيحبنى ..أنا ما حدش حيفكر فى وينتج عن ذلك افتراضات خاطئة مثل أنا مش المفروض أدور على علاقة رومانسية أنا مش المفروض اختار واللى يختارنى لازم أرضى به..لأنى فى الغالب مش حالاقى أحسن من كده وتستمر العلاقة وتنمو معها مثل هذه الافتراضات الخاطئة ويدرك شريك الحياة المسيئ مثل هذه الافتراضات ويلمح ويتمعن فى صورة الذات المحطمة ويبدأ فى التلاعب بالأخر فهو يهدد بالانفصال وأبداً لن يفعل وإنما هى طريقة يحكم بها السيطرة تماماً مثلما رأت صاحبة المشكلة...لكن لماذا كل هذا الخوف من الانفصال؟لأن الانفصال يعنى تأكيد الأفكار والمعتقدات الراسخة حول الذات فيما يتعلق بكونها إنسانة سيئة ولايمكن لأحد أن يحبها حتى من أحبها وتزوجها لم يستطع أن يكمل معها مشوار الحياة...إنها بطلاقها ترى أنها تقضى على أخر أمل ينفى ما تردد عنها فى أسرتها منذ الطفولة وأنها ....وأنها.....وفى بعض الأحيان قد يكون الاختيار لشريك الحياة المسيئ لأسباب أبسط من ذلك فمثلاً قد يكون تربى أحد الأشخاص مع أب دائم الوصف له بأنه لايصلح لأى شئ ( أنت مش نافع فى حاجة) أو من تربى مع أم جامدة المشاعر لاتعطى وقتاً لحب الأبناء والاهتمام بالجانب العاطفى فى التربية فيمكن أن ينشأ الطفل ويصبح شاباً فيما بعد ولديه قناعة أنه لايستحق الحب وفى الموقفين قد يكون الشخص متصالحاً مع الفكرة وراضياً بهذا الوصف عن ذاته فحينما يبحث عن شريك الحياة فتجده يبحث عن صورة تحاكى صورة الأب أو الأم الناقدة أو الجامدة والمختزنة فى العقل الباطن إنه لايطمئن إلا فى وجود الصورة التى اعتاد عليها ونظم حياته على قبولها ربما من منطلق إن اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفهوش ..لقد اعتاد هذا النظام فى التعامل وحتى ولو كان مهيناً فإن قبول أى من الأساليب الجديدة فى المعاملة قد يعد أمراً عصيباً بالنسبة له يبعث على القلق والمعاناة...وقد لايبحث مثل هؤلاء عن حل لمشكلاتهم لأنهم اختاروها وتصالحوا معها وقبلوها...لكن المشكلة فيمن لديه صراع بين الرفض والقبول مضطراً حتى لايهدم ماتبقى من صورة الذات إذا ما أدى الرفض لهدم العلاقة مثل صاحبة هذه الحالة...ومثل هذه الحالات تحتاج للعلاج النفسى التبصيرى والمعرفى السلوكى التحليلى...إنها بحاجة لبناء صورة إيجابية عن الذات مع ضرورة التئام ما خلفته إساءة الطفولة من أثار أدخلت صاحبتها فى حلقة مفرغة من الالتصاق بمن يهدم صورة الذات ومزيد من هدم صورة الذات وهكذا...ولايبقى إلا الألم الذى لايعرف له صاحبه سبب...وباللعجب!!!
د.نهلة نور الدين حافظ
أخصائى الطب النفسى
المصدر: ملفات العيادة النفسية
ساحة النقاش