السّرّ*
محاورة قلبية مع الحق
رأيتُ رَبّي بعينِ قلبي |
فقُلتُ: مَنْ أنتَ؟ قال: أنتَ |
فليس للأينِ مِنْكَ أينٌ |
وليسَ أينٌ بحيثُ أنتَ |
أنت الذي حُزتَ كُلَّ أينٍ |
بنحو ( لا أينَ ) فأينَ أنتَ |
وليسَ للوهمِ مِنْكَ وَهمٌ |
فيعلمُ الوَهمُ أينَ أنتَ |
وجُزْتُ حدَّ الدُّنوِّ حَتّى |
لم يَعْلَمِ الأينُ أينَ أنتَ |
ففي بقائي ولا بقائي |
وفي فنائي وَجَدْتَ أنتَ |
في محو إسمي وَرَسمِ جسمي |
سألتُ عَنّي فقلتُ: أنتَ |
أشار سرّي إليكَ حتَى |
فَنيتُ عَنّي فقلتُ: أنتَ |
وغابَ عَنّي حفيظُ قَلبي |
عَرَفتُ سرّي فأينَ أنتَ |
أنت حياتي وسرُّ قلبي |
فحيثما كنتُ كنتَ أنتَ |
أحَطتُ علماً بكلِّ شيءٍ |
فكلُّ شيءٍ أراهُ أنتَ |
فَمُنَّ بالعَفوِ يا إلهي |
فليسَ أرجو سَواكَ أنتَ |
قد يصدم عنوان القصيدة الحلّاجية البعض فيظنّ أنّ الحلّاج يقيم حواراً مع الحقّ، ويذهب إلى أنّ الحقّ شخص بنى علاقة معه، يجالسه ويكلّمه مؤمناً أنه ينصت بكلّيّته ومستعد للرّدّ.
ومن يقرأ القصيدة بتأنٍّ، يجد ما هو أقرب إلى حوار مع الذّات، بل مناجاة بين الحبيب والمحبوب الملتحمين بانصهار عجيب، جعل منهما الواحد.
ولأنّ الحقّ لا يرى بالعين المجرّدة وذلك لأنّه أرفع من الحواس المائتة، ولأنّ الحقّ حبّ يفيض أنهاراً من العشق السّرمديّ الّذي لا ينضب، وحده القلب يراه ويعاينه ويناجيه كلّ حين.
رأيتُ رَبّي بعينِ قلبي |
فقُلتُ: مَنْ أنتَ؟ قال: أنتَ |
فليس للأينِ مِنْكَ أينٌ |
وليسَ أينٌ بحيثُ أنتَ |
أنت الذي حُزتَ كُلَّ أينٍ |
بنحو ( لا أينَ ) فأينَ أنتَ |
وليسَ للوهمِ مِنْكَ وَهمٌ |
فيعلمُ الوَهمُ أينَ أنتَ |
رأيت ربّي بعين قلبي، ولو لم يكن في قلبي لما رأيته. هو النّور المنسدل والمتسرّب إلى حنايا النّفس، يمحو ظلمتها ويحلّ فيها، كي تتمتّع بنعمة الحبّ. فينفتح القلب إلى الحياة بعد أن كان قبراً محكم الإغلاق، ليعلن معاينة مجد الحبّ.
ليس من مكان محدّد للحقّ، فجناحاه يمتدّان عبر اللّاحدود، يحلّقان في اللّامكان، ويرتفعان إلى اللّامكان. هو الحبّ الذي لا يحتويه مكان، ولا يمكن أسره في قوراير الأوان، ولا سجنه في علب الماضي ولا في تردّدات المستقبل. فالحقّ هو الموجود بذاته وينمو من فيض حبّه، ولا بداية له ولا نهاية. لذا لا نسال أينه، ولا نبحث عنه في مكان معيّن دون سواه ولا نسمّيه اسماً معلوماً فالأسماء للمتعدّد وليس للواحد، والحقّ واحد والحبّ واحد.
رأيت ربّي بعين قلبي، بل رأيته في أعماق قلبي، بل هو قلبي. ولمّا تساءلت من أنتَ؟ ردّ الصّدى صوت من هو فوق الزّمان والمكان وقال: "أنتَ"، وطبع صورته على صفحة قلبي.
وجُزْتُ حدَّ الدُّنوِّ حَتّى |
لم يَعْلَمِ الأينُ أينَ أنتَ |
ففي بقائي ولا بقائي |
وفي فنائي وَجَدْتَ أنتَ |
في محو إسمي وَرَسمِ جسمي |
سألتُ عَنّي فقلتُ: أنتَ |
أشار سرّي إليكَ حتَى |
فَنيتُ عَنّي فقلتُ: أنتَ |
أنت ومن أنتَ أيّها الحقّ الأقرب من ذاتي إليّ. أتجاوز ذاتي فأعبر إليك أنت الّذي تسكنني منذ الأزل. وأنظر إلى وجودي وأتامّل لا وجودي، فإذا بي أراكَ في الوجود واللّاوجود. أضمّك في أحشائي حتّى أفنى فيك، وأتبخّر كالدّخان في سماء حبّك.
أنتَ ومن أنتَ أيّها الحقّ الحبيب الّذي به أملك كلّ شيء وإن لم أمتلك شيئاً. كنز الدّهور يحلّ فيّ فأغتني من كلّ شيء ومن لا شيء. وأرفع عينيّ إلى الجبال حيث يحضر صوتك بقوّة وإذا بنغمة الصوت تهمس في قلبي وروحي: " أنا أنت".
كلّما بعدت عن ذاتي التقيت بك، وكلّما التقيت بك عادت إليّ ذاتي. وأنظر الجسم فإذا به من صنع يديك، وأتامّل الروح فإذا بها مجبولة بحبّك. أنت الخزّاف الّذي صنع خابية من رمل ونار، وسكب فيها خمرة الحبّ العظيم، ثملت الخابية يا سيّدي من فرط حبّك.
وغابَ عَنّي حفيظُ قَلبي |
عَرَفتُ سرّي فأينَ أنتَ |
أنت حياتي وسرُّ قلبي |
فحيثما كنتُ كنتَ أنتَ |
أحَطتُ علماً بكلِّ شيءٍ |
فكلُّ شيءٍ أراهُ أنتَ |
فَمُنَّ بالعَفوِ يا إلهي |
فليسَ أرجو سَواكَ أنتَ |
الحبيب هو الأمين، حارس النّفس والذّات وراعي الكيان وحاميه. إن غاب الحبيب حلّ العدم، فهو الكلّ في الكلّ وهو الوجود الحقيقيّ والكينونة الّتي ينبع منها كلّ كيان.
يحرّك الفيلسوف عقله الواعي ويستنفد طاقته الفكريّة والمنطقيّة في تحليل العدم، وأمّا العاشق فيعرّف العدم بكلمة واحدة ألا وهي "غياب الحبيب". هو الحياة ونبض القلب، فالقلب ليس العضو الّذي يستقبل الدّمّ ويدفعه وحسب، بل هو محور الحياة الّذي يستقبل النّور والحبّ ويدفعهما إلى العالم.
متى عرفتَ الحبيب، عرفت كلّ شيء ونلت جواباً على كلّ الأسئلة الفكريّة والوجوديّة واللّاوجوديّة بشكل تلقائيّ. وما رحلة البحث عنه سوى رحلة للوصول إليه. وما التّنقيب عن الحقيقة بشتّى الوسائل سوى التّنقيب عن الحبيب في أعماق الذّات. فالحقيقة هي فيض المعرفة والحكمة، وهي أنهار الحبّ الوفير الفائض من لدن العليّ.
فيا حبيب القلب وسيّده، ويا نور البصر والبصيرة، يا سراجاً ينير الدّروب المظلمة ويمحو عتمة اللّيالي، أغدق بعفوك وأفض حبّك، فليس للإنسان سواك.
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
* ديوان الحلّاج، أبي المغيث الحسين بن منصور بن محمى البيضاوي (244 هـ- 309 هـ/ 858-922 م)، صنعه وأصلحه أبو طرف كامل بن مصطفى الشيبي، منشورات الجمل 1997- الطبعة، الأولى- ألمانيا- كولونيا
ساحة النقاش