كلّ إنسان منّا يتوق إلى أن يكون حرّاً. يحلم ويسعى، يتمنّى ويترجّى أن يأتي يوم يقول فيه: "أنا إسانٌ حرٌّ". وكثيراً ما يضحّي بالغالي والرّخيص من أجل تحقيق هذا الهدف، فللحرّيّة ثمن باهظ جدّاً، قد يكلّفه أحياناً حياته.
مسيرة الإنسان، إذا ما أراد السّعي إلى الحرّيّة، تبدأ من داخل الإنسان إلى الخارج. فالحرّيّة تنبع من عمق الإنسان إلى ظاهره، فتغدو متينة، وصلة وصل وتفاعل مع الآخر.
وللحرّيّة شروط ومقاييس وثمن يجب أن يُدفع، ومن المهمّ جدّاً أن نعي أنّ كلّ إنسان حرّ، انتهج خطّاً في مسيرة حياته. وليس حرّاً لأنّه عاش في مكان معيّن أو لأنّه يفعل ما يشاء. الحرّيّة استحقاق، نسعى إليه من خلال ما تربّينا عليه، ومن خلال ما اكتسبنا من ثقافات متنوّعة، نوجّهها بخبرتنا الشّخصيّة بما يتوافق وهذا الهدف: "الحرّيّة" .
- التّحرّر من الدّاخل إلى الخارج :
التّحرّر من الدّاخل يبدأ بقدر وعي الإنسان على ما يدفعه إلى عيش الحرّيّة. وعادة، ومقابل هذا الوعي، تولد انتفاضة في الذّات. ولا تهدأ هذه الانتفاضة إلّا عند بلوغ الهدف المرجو. ولا نتكلّم هنا على صعيد الوطن، بل على مستوى الفرد وشخصه. هذا الوعي يساعد الإنسان على معرفة ذاته وتحديد قدراته وبالتّالي يرسم حدود حرّيّته مع الآخر. وبالطّريقة عينها يتّخذ قراراته ويلتزم بقناعاته، مميّزاً بين العمل ودوافع العمل. كما يمكنه التّمييز بين الإنسان الحرّ والإنسان الغارق في العبوديّة، من خلال التّصرّفات وردّات الفعل. كما تشكّل الحرّيّة عبئاً لمن لا يتمتّعون بها. لذا، التّربية على الحرّيّة يرافقها بشكل متوازٍ، التّربية على الوعي، والصّدق مع الّذات .
الإنسان الحرّ، هو صاحب قرار. إمّا نعم، إمّا لا .
من المهمّ جدّاً أن يتمتّع الإنسان الحرّ بما نسمّيه"الخيار". فلكلّ موقف يوميّ ضمن علاقة أو خارجها، ضمن العائلة، العمل...، قرار يجب أن يٌتّخذ. وغالباً ما نعتقد أنّنا أسياد أنفسنا ونملك حرّيّة اتّخاذ القرار، إلّا أنّنا وفي عمق ذواتنا نشعر أنّنا اسرى لظروف، أو واقع نمرّ به، لعادات وتقاليد إجتماعيّة، لردّات فعل نعيشها ونتفاعل معها أو أسرى الخوف من نظرة الآخر. لذا وجب علينا إعادة النّظر بالخيارات الّتي نقوم بها وغالباً ما تنعكس سلباً علينا وعلى محيطنا، إذا ما اتّخذت عن وعي وإدراك ومسؤوليّة. وهنا يكون الخيار قليلاً لأنّه بين ال(نعم) وال(لا)، بين القبول والرّفض، تتكوّن مسيرة الإنسان الشّخصيّة فينمو وينضج ويتطوّر. وبالتّالي وجب تحديد إذا ما كان الخيار المتّخذ، ناتجاً عن وعي أو عن ردّة فعل على خيارات الآخرين. من هذا المنطلق، باستطاعة كلّ إنسانٍ أن يعيش حرّاً، إذا ما تمتّع بالوعي كعنوان لحياته، والخيار الصّائب والسّليم كأساسٍ لمسيرته .
يتمتّع الإنسان الحرّ بنظرة الأمل. الأمل بغدٍ أفضل، ببناء إطار أفضل له وللآخرين. أمل يبعد عنه الخوف، فيتخطّى كلّ الحواجز والصّعوبات، ينمّي ذاته، ويطوّرها ويحيا حرّيّة داخليّة، تنعكس خارجيّاً على محيطه.
والأمل ينبع من الذّات وليس من الآخر، ولا نتوقعنّ الكثير من الآخر، فغالباً ما يخيب أملنا. ليس لأنّ الآخر سيّء، وإنّما لأنّ كلّ إنسان يتمتّع بمقدّرات معيّنة. فلنتوقّع القليل لنحصل على الكثير .
- وطن أسير :
يعيش الإنسان الحرّ في وطن يتقاسمه مع آخرين، ولكلّ فرد منطلقاته ومعطياته وقناعاته وقراراته. وإذا ما توفّر التّوافق والتآلف في قلب الوطن الواحد، تكون النّتيجة ما نشاهد اليوم من صراعات على ساحات أوطاننا. وما يحدث اليوم على مرءى من أعيننا، يشير إلى أنّنا نحيا في وطن أسير .
بغضّ النّظر عن السّياسة، وعن الأحداث اليوميّة الّتي نشهدها من صراعات وتعصّب وجهل، يتجلّى لنا بوضوح أنّ كلّ فرد من الوطن يحيا لذاته، لمآربه الشّخصيّة والفرديّة، ولا يحيا كلّ فرد للوطن. فالمصالح والاعتبارات الشّخصية تعلو على الانتماء للوطن وبالتّالي تجعله أسير النّزاعات والتّجاذبات. ويتحرّر الوطن من أثره، عندما يتربّى كلّ فرد على أهمّيّة المصلحة العامّة، قبل المصلحة الخاصّة. فالمصلحة العامّة هي المكان الّذي يجد فيه كلّ إنسان ذاته وبالتّالي يضع من ذاته ويحصد ما يزرع. فينمو ويتطوّر ويتفاعل مع الجماعة في جوٍّ آمن، صحّيّ وسليم. ويغدو الوطن مأوىً يحتضن الجميع، كما يحتضن كلّ الأجيال القادمة كي نعيش في وطن حرٍّ لا وطن أسير .
شعار الوطن الحرّ، هو السّلام. ولكن على حساب من، وفي سبيل ماذا؟
يكون الوطن أسيراً عندما تسود فيه المحسوبيّات، فيعيش كلّ فرد ويستفيد ويكبر على حساب الآخر ويذلّه. ولا بدّ لهذا الذّلّ أن ينتج القهر والانفجار يوماً ما، فيتحوّل إلى حروب وصراعات وتناقضات. فنأسر الوطن لأشخاص، ننتمي إليهم، نتزعّم لهم، ونسير وراءهم رغم كلّ شيء مبرّرين ما نفعله أنّه لخدمة الوطن، في حين أنّه خدمة للشخص الّذي أسر الوطن .
الشّعب الّذي يحيا في وطن، يتألّف من أفراد هم أعمدة له. يعيشون الولاء له وليس لأشخاص. يعيشون الولاء للدّاخل فيبنون داخل الوطن، وليس الولاء للخارج فيدمّرون الوطن. نخدم الوطن عندما ننتمي إليه ويكون ولاؤنا له، ونقبل أنّه للجميع، ولا نعود ونأسره لكلّ فرد منّا، متنازعين عليه .
-شعب يتوق إلى الحرّيّة :
ليحقّق شعب حرّيّته، عليه أن يكون قادراً على تصنيف الحرّيّة .
كلّ شعب يتوق إلى الحرّيّة، ويدفع الغالي والرّخيص من أجلها، من دم وأرواح وأبناء. ولكن توجد نقاط أساسيّة يجب أن تتوفّر عند هذا الشّعب :
الأولى: عيش الفعل وليس ردّة الفعل .
تنثر كلمات هنا وهناك، كلمات جميلة ومعبّرة، ولكنّها قاسية وصعبة وقد تكون خياليّة أحياناً، لأنّها تتطلّب مجهوداً وسيطرة على الذّات. كما تطلّب الكثير من الوعي الّذي يرشدنا إلى محدوديّتنا لنبقى ثابتين على أرض الواقع .
أن يعيش شعب فعل وليس ردّة فعل، يعني أن يكون واقعيّاً. أن يتطلّع الواحد للآخر ويفكّر ويخطّط ويصل إلى استنتاج أنّ ما يمكنه القيام به اليوم، علّه لا يقوى على القيام به في المستقبل. عيش الفعل يتطلّب المسؤولية والوعي والحرّيّة. أمّا ردّة الفعل، فتجعل الأمور تتفلّت من أيدينا وبالتّالي يسعى كلّ منّا إلى تنفيذ ما يراه صائباً بعيداً عن المصلحة العامّة .
الثّانية: الجرأة على القول والفعل.
وتتلخّص بالجرأة على قول الحقيقة وتطبيقها. والجرأة على قبول الآخر بحقيقته، وكما هو. وبالتّالي، إنّ الشّعب الّذي لا يتجرّأ على قول الحقيقة ولا يقبل الآخر، هو شعب يعيش الخوف، والخائف لا يمكنه أن يحيا بحرّيّة .
قليلون هم من يتجرّأون على عيش حرّيّتهم، لأنّ الحرّيّة باهظة الثّمن. وقد تخيفنا أحياناً لأنّ ما نرجوه هو أن نحيا الحرّيّة المطلقة، ولا نقوى على ذلك إلّا إذا تربّينا على الحرّيّة وعشنا أحراراً في وطن حرّ .
ساحة النقاش