وعدُ الحزانَّا
”وعدٌ كُتِبَ على جُدرانِ الهوى“
قصة قصيرة
مالك أمير أحمد
____________
أطلت الغيومُ أمام الشمسِ ناقمةً الحالَ، وزحفت الأمطارُ متساقطة على منزلٍ قد بُنيَّ على مر الأيامَ، أنوارهُ مُضاءةٌ تُرحِبُ بالزائرينَ ليلَ نهارَ، فتىً وفتاةٌ يجلسانِ على الأرصفةِ وهم في البردِ كالأمواتَ، يتعانقانِ ليحميا انفسهما من الامطارِ التي تنزِلُ من السماءِ كالنارِ لتحرِقَ أبدانِهما العجفاء، عجوزٌ يخرجُ من منزلٍ كستهُ الالام، وجد الفتى والفتاة على أعتابِ الهلاكَ، نظر لهما كنظرةِ الغريق الذي يتشبثُ بطوقِ النجاة، نادى عليهما كمن يُنادي الأحبةَ بعدَ فُراقَ:
– أيها الفتَيانِ لِمَ تجلِسانِ هكذا في الامطارِ، أليس لديكما ملجئٌ تحتميانِ بهِ من عذابِ السماءِ
حدثهُ الفتى بعباراتٍ تقشعِرُ لها الرؤوسُ والأجسادَ:
– ما لنا ببيتٍ أو مسكنٍ للاختباء، منذُ سنتينِ ونحنُ ننتقِلُ عبرَ الشوارعِ والأرصفةِ لنجِدَ مكانً للبقاءَ، هذهِ أختي التي بقيت لي من هذهِ الحياة، أرجوك يا عماه أدخلنا لمنزلِك ليومٍ واحدٍ فقط، أشفق علينا أم الشفقةُ قد زالت من القلوبِ والأبصارَ
بكى العجوزُ كأنهُ لم يبكي منذُ سنواتَ وهو قائلٌا بعجزِ اللِسانَ:
– أوجعت قلبي يا بُنّيْ وأعدت لي خناجِرَ الذكرياتِ التي لم تنفك عن كاهلي وجعلت الحزنَ في العِظامَ، ادخلا أيُها الفتَيانِ من بردِ السماءِ الآنَ
خطى الفتَيانِ أولى الخطوات لمنزلٍ أشبه بمنزل الجداتِ دافِئٌ من الداخِلِ وبارِدٌ من الخارجِ كقساوةِ الناسِ، ظلَ الخوفُ يتأرجح في قلبيهما إلى أن أطمئنا للعجوزُ الجالسُ على أريكةِ الالامِ والاحلامِ، نظرَ في حزنٍ أبكى الفتَيانِ الجالِسانِ:
– والآن أخبراني لماذا تعيثانِ في الأرضِ بحثً عن ملجئٌ للأحتماءِ
حدثتهُ الفتاةُ بمرارةٍ جعلت الدمعُ يسيلُ على الوجهِ كقطعةِ ثلجٍ ذابت وأصبحت حُطامَ:
– أقول لك ماذا أو ماذا، إننا في الحياةِ نُشبِهُ العدمَ، من عامينِ وعدتنا والدتنا بأنها لن ترحل ولن تتركنا في مهب الريح، سأحكي لك ما جرى يا عماه كي تدركَ القصةَ والمغزى من السيرِ في الأزقةِ والطرقات، "ومثل كل يومٍ، خرجةُ من الغرفةِ على أملِ أن أجِدَ والدتي لم تذهبَ لمثواها في الأخرةِ، وجدتُ جثمانها على الأرضِ، وقبلها بيومٍ قالت لي بالوعدِ "لن أبتعِدَ عنكِ يا عدن، سأعيشُ معكم حتى تُزهقَ الروحُ للرب، أعدكِ أن أعيش ما تبقي لي من العمر، لكن وصيتي لكِ قبل انقضاء الأجل "كوني من الشجعان ولا تجعلي النفسَ تُضلُكِ في سبيل الملذاتِ والشهوات، اجعلي القوةَ ملاذُكِ من الباطشين والضالينَ والمضلينَ، ستلتقينَ الخائنَ وهو يطعنكِ والصديق وهو يضحك في وجهكِ وخلفكِ شيطانٌ من جحيم، ستعرفين أن من أحببتِهم هم أول من خذلوكِ وحطموا ثقتكِ، وصيتي لكِ هيَ وداعٌ على أملِ لقاءٍ جديد وبدايةُ قصصٍ ونهاياتُ حكاياتٍ تُختتم بالأحزان، اقول لكِ وداعًا كالوداعِ الذي حطمَ القلوبَ وأبكى العيون وجعلَ النورَ ظلامَ، وداعًا صغيرتي"، منذ تلك الكلمات يا عماه وأنا خائفة من وعدها، لم تفي بالوعدِ أبدًا وأصبحَ وعدها كوعدٍ قد كُتِبَ على جُدرانِ الهوى
عجِزَ لسانُ العجوزِ عن الردِ والقولِ لكنه رغمَ ذلك قال بالقولِ الفصلِ:
– هل كان بها مرضٌ أم أن السعادةَ لم تدُمِ، لا تقولِ عن والدتكِ هذا الكلامَ فهيَ قد وعدتكِ وماتت ومات معها الوعدِ، الكلُ سيموتُ في القريبِ العاجلِ
قال الفتى كلامً وياليتهُ لم يقلِ:
– والدتي كانت مُصابةٌ بسرطانِ القلبِ، لكنها لم تُبِح لكي لا تجعلنا في الحزنِ للأبدِ، وشفائها لا على يدِ طبيبٍ أو شيءٍ فإن لم يُقدر لها العيشُ فلن يشفيها أحدٌ، أنا أيضًا لم أقل لأختي حقيقةَ أني توارثتُ هذا المرض وأني في أخرِ مراحلهِ
قال كلامهُ بشيءٍ من الألمِ والوجعِ، تفاجأت الفتاةُ بهذا الردِ، كأنَ الحياةَ قد كتبت على جبينها أن تعيشُ في المرِ طوال العمرِ، قال العجوزُ بأسى على حالِ الفتى المسكينِ:
– لِمَ لم تخبر شقيقتك بهذا المرضِ، اتنتظِرُ أن تموت يا ولدي؛ وتترُكَ شقيقتك المسكينةُ لكلابِ السككِ، ستذهبُ معي لكي يفحصوكُ ويعرِفُ هل حالتُكَ تدهورت أم لا
احنى رأسهُ بخجلٍ لأنهُ أخفى الحقيقةَ عن شقيقتهِ، يالا ذَلِكَ الألمُ الذي يسِنُ أشواكهُ داخِلَ القلبِ، لداخِلِ السيارةِ يجلسونَ بوجعٍ؛ والعجوزُ يقودُ على مهلٍ، ينظرُ الفتى عبرَ النافذةِ لـ يرى الضاحكينَ حزانَّا، تخيلَ الطريقَ يقولُ له ناصحً "يا ولدي عندما ترى الضحكاتِ على الافواهَ لا تأخذ بهذا المظهرِ لأن ما خلفَ الضحكةِ ألامَ، ستقسُ الحياةُ عليكَ يا ولدي وستحرمكَ من اغلى الناسَ، ستكونُ بعدها جسدًا بلا روحٍ وستلجئُ للانتحارَ ليُخلصكَ من هذا العذابَ، لكن تيقن يا ولدي أن الحياةَ مجردُ إختبارَ، إن فشلت لا فرصةَ لك للنجاةَ، ستقولُ يا ويلتاهُ إني راجِعٌ للدنيا لأصحح الاخطاء، لكن ستعيشُ مرةً واحدةً يا ولدي فخيركَ للناسِ تجنبُ أذاهم ومساعدةُ المسكينِ وقتَ الحاجة، الحياةُ يا ولدي لن تقف على أحد فموتُ عزيزٍ هو قدرٌ وأنتَ لن تُغيرَ الأقدارَ، وإن لم تسمع نصيحتي فأنتَ في الجحيمِ لا محالة"، خطى خطواتهِ للمشفى بخوفٍ وفزعَ، احتضنته شقيقته كأنها أخر الاحضانِ وبداية الأحزانَ، أخذه الطبيبُ للفحصِ، ما بينَ الشجنِ والفرحِ قطرة دمعٍ على الوجهِ، قال العجوزُ مواسيًا الفتاةَ علهُ يعطيها بذرةَ أملٍ:
– اتعرفينَ حقًا يا عدن أن هذا العجوزُ الجالسَ بجواركِ خانهُ الأملُ، منذُ خمسة عشرَ عامًا مضى كانت لديَ زوجةً وطفلة، كانتا أملي في الحياةِ يا عدن لكن شخصٌ بسيارةٍ داسهما، وقتها احسست أن الموتَ هو الحياةَ وعليّ أن أنهي هذا العذابَ، كنتُ سأرمي نفسي من النافذة لكني قلتُ لنفسي، ستموتَ ولا عودةَ للحياةَ وستقولُ هيهاتَ لكن بعد فوات الاوانَ، حقًا يا عدن بعد أن رأيتكِ أنتِ وأخاكِ احسستُ بالأم...
قاطعَ كلامهُ خروجُ الطبيبِ وهو لا يستطيعُ القولَ وعجزَ عنهُ اللسانَ لكنه عاجلَ بالقولِ قبل ضياعِ الاملِ أو أنهُ ضاعَ؛
– بعدَ فحصهِ تبينَ أنهُ في أخرِ مراحلِ السرطانَ، وتدمرت كل أعضائه وتلف الكبد وكل شيء ولا سبيل لهُ للنجاةَ، وعمليته مخاطرة لأنَ نِسبةَ فشلها 90٪ فهل نقوم بتجهيزه للعملية أم ماذا، القرارُ لكم وأنتم ستقررون حياتهُ ومماته
بعدَ تفكيرٍ وبكاءَ قالت لهُ الفتاةُ وقلبها يتحولُ لذراتِ تُرَابَ:
– موافقة على إجراء العملية لكن هل لي أن أراهُ، أرجوك فهو أخي الذي بقى لي من هذهِ الحياةَ
فتحَ لها البابَ، ارتمت في احضانهِ لدقائقٍ معدوداتَ، بكت كمن لم يبكي من سنواتٍ عجافَ، وعدها بالبقاءِ معها وأن لا يتركها أبدًا، وها هيَ لحظةُ تحقيقِ الوعدِ أو تخرجُ الروحُ للربِ، خرجت وقد خرجَ قلبها الذي صرخَ قائلًا "إنَ الوعودَ لا تتحققُ أيها الرجلُ، لا تعِد بشيءٍ لن تُفهِ، لأننا في الحياةِ وليسَ في الحلمِ؛ ففي الحياةِ وعودٌ تُقالُ ولا وفاءَ من البشرِ"، ينتظرونُ على أملِ الخروجُ بالخبرِ، الانتظارُ صعبٌ وهم كالنارِ على الورقِ، ينتظرون ساعاتٍ وساعاتَ وخفِضت الاصواتُ إلا من هلعِ الأطِباء، خرجَ الطبيبُ لتهرولَ لهُ الفتاةُ وكأنها رأت الأملِ، قال الطبيبُ وهو يبكي ويعطيها رسالةً من شقيقها:
– البقاء لله
ضغطت على الرسالةِ والدموعُ تنهمِرُ، فتحتها لترى رائحةَ الموتِ "أختي الجميلة عدن أذكركِ أن لا تحزني للفراق فأنا كنتُ سأموتُ وإن كان ليس الآن فبعد زمانٍ، يؤلمنا الفراق كأنهُ خنجرٌ في الأبدان، دعيني أقول لكِ شيءً، وإنَ الروحُ لتهوى الأحبةَ فأنا موجودٌ داخِلَ القلبِ يا عدن السماءِ والأرض، وعندما تحينُ لحظات الحزن تذكري أن الحياةَ لن تبقي على أحدٍ وستدور وستبقينَ داخِلَ قوقعةِ الأحزان، لا تكوني بين أربعةِ جدرانِ فتهلكي، الحزن هو محطةٌ من المحطات وبعدها سترينَ العالمَ والخيبات، بعد اللقاءِ يكونُ الوداعٍ على أملٍ ضائع، تذكريني كلما ضاقت بكِ الحياة، الوداعُ للأبد"، نظرت الفتاة للعجوزُ وقالت ببكاءَ:
– ومن ذا الذي يتحملُ الالامَ، لقد أصبحنا أجسادَ بلا أرواحٍ وعذبتنا السنينُ والأيامَ، لقد أصبح الناسُ لا يوفونَ بالعهدِ، هذهِ الوعودُ كُتِبت على جُدرانِ الهوى.
٭ ٭ ٭
تمت
مالك أمير أحمد
8/2/2023