دكتورة/ ليلي عبد الله

دكتوراه الفلسفة في الإدارة العامة والمحلية


       تعني الإدارة العامة بالأساس الإدارة الحكومية، أي إدارة أجهزة القطاع الحكومي. وهي بذلك مسؤولة عن ترجمة سياسات الدولة إلى مشاريع وأنشطة على أرض الواقع. ويتطلب ذلك القدرة على صنع القرار داخل الإطار الإداري والسياسي، وهنا نلفت الانتباه إلى نقطة في غاية الأهمية وهو أن القرارات داخل الأجهزة الحكومية تختلف تماما عن القرارات في الشركات والمؤسسات الخاصة. ويأتي الفرق من عدة أوجه أولها وأهمها: أن الخدمات الحكومية لا ترتبط بالسوق؛ وبالتالي لا توجد لها أسعار تعكس قوى العرض والطلب، كما هو الحال بالنسبة للسلع الخاصة. وهكذا  يكون من الصعب تحديد المنفعة المتوقعة من المشروع أو الخدمة الحكومية، والتي تحتاج إلى نوع خاص من المهارات والمعرفة في قياس ذلك. الاختلاف الثاني هو أن طبيعة الخدمات العامة ذات تأثيرات جانبية تتعدى طرفي التبادل، وليس كما هو واقع الحال بالنسبة للسلع الخاصة، إضافة إلى كون السلع العامة لا نستطيع أن نستثني أحدا فمتى ما قدمت تكون مشاعا للجميع, والأمر الآخر هو أنه لا يمكن تجزئتها وهذا يتطلب استهلاكا جمعيا دون التمييز بين تفضيلات الأفراد.

  يدفع هذا الوضع نحو صنع القرار استنادا للقوانين والأنظمة الداخلية للبيروقراطيات العامة وعدم ارتباطها بقوى السوق؛ مما يعني بطء في القرار وعدم استجابة سريعة للمتغيرات والمستجدات في البيئة الخارجية. ومن هنا تأتي أهمية القيادات الإدارية والمستشارين والباحثين المتخصصين في حقل الإدارة العامة في عملية التطوير وتحسين أداء الأجهزة الحكومية. فبدون هذه الخبرات في الإدارة العامة، سنظل نعاني من مشكلة عدم التوافق بين تطور القطاع العام وتطور القطاع الخاص، وسيبقى القطاع الحكومي متخلفا يعطل المشاريع الخاصة أو لا ينجح في تنسيقها وتوجيهها استراتيجيا نحو أهداف تنموية؛ مما يشكل قصورا كبيرا ويضعف جهود القطاع الخاص في التكامل الاقتصادي والفشل في إيجاد أوضاع تكون مربحة للجميع.

   إذ إن مهمة الأجهزة الحكومية لا تتوقف عند تقديم سلع وخدمات، بل تتعداها إلى وضع الأنظمة وسن التشريعات التي تحفظ حقوق الأفراد وتحقق الصالح العام. ويدلل هذا الأمر بشكل واضح وصريح على أهمية تخصص الإدارة العامة؛ من حيث إنه تخصص تتداخل فيه عدة تخصصات نظرا لطبيعة الموضوعات والمشكلات التي يتناولها. فالتخصص يتكون جسمه المعرفي من السياسة والقانون، وعلم النفس والاجتماع، والاقتصاد، هذا إضافة إلى التخصصات الدقيقة مثل التخطيط والبيئة وإدارة الأعمال.

   ويعطي هذا التنوع المعرفي المتخصص في الإدارة العامة تميزا في القدرة على صنع القرارات أو تقديم الدراسات والاستشارات المهنية لا يستطيع غيره من المتخصصين في الحقول المعرفية الأخرى أداؤها. وتكمن الإشكالية هنا في أن مفهومالإدارة العامة ليس كتخصص فقط، ولكن كمنظومة إدارية لم يستوعب دوره الحقيقي وأهميته في التنمية المجتمعية. القصور في مفهوم الإدارة العامة نابع من عدم تطبيق المعايير المهنية؛ وبالتالي تحول العمل الحكومي الى عمل يستطيع أي أحد عمله؛ مما أدى إلى تدني مستوى الخدمات كما ونوعا.

  عزز هذا الوضع لدى المجتمع بجميع مستوياته ومكوناته هذا المفهوم الخاطئ وأصبحت الإدارة الحكومية شرا لابد منه، بدلا من تكون النظرة إيجابية بحيث ينظر لها كأرضية تسهم في انطلاقة المشاريع التنموية، وتحفزها وترعاها وتقدم الخدمات للمواطنين بكل يسر وسهوله. لقد أدى ذلك إلى التقليل من شأن الأجهزة الحكومية والخدمات التي تقدمها وبالتالي اتبع ذلك الاعتقاد بعدم أهمية تخصص الإدارة العامة.

   المشكلة الأساسية هو أن الإدارة العامة لا تطبق معاييرها العلمية في مكان العمل، بل إن هناك اعتمادا على إجراءات ووسائل أكل عليها الدهر وشرب وأصبحت عديمة الفائدة, ومع الأسف ما زال العمل بها مستمرا. الحديث هنا ليس عن المباني ولا عن وسائل الاتصال، وإنما عن الفكر والفلسفة الإدارية التي تسير الأجهزة الحكومية، والتي تعتمد على التسكين والبطء في الإجراءات والالتزام بالأوضاع الحالية، دون محاولة البحث عن حلول إبداعية وابتكارات جديدة تحسن الأداء وترتقي بمستوى الخدمات.

   إن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فكيف يمكن أن نتصور في ظل عدم احترام تخصصالإدارة العامة وتطبيق معاييره العلمية أن يرتقي الأداء الحكومي؟! متخصصو الإدارة العامة ليسوا فقط قيادات إدارية قادرة على صنع القرارات وإنما مستشارون وباحثون في تطوير النظم والإجراءات وتنمية الموارد البشرية والوسائل المالية وتقييم المشاريع العامة. إنه تخصص لا غنى عنه إذا ما كان هناك توجه وعزيمة نحو إصلاح الأجهزة الإدارية. هناك من يدعي أن وجود معهد الإدارة العامة كاف لتطوير الأجهزة الحكومية وهذا قول نصف الحقيقة، وهنا نسأل أين تلقى المتخصصون في المعهد تعليمهم ألم يتخرجوا في كليات الإدارة العامة. إنه من العجائب أن يكون لدينا معهد للإدارة العامة بحجم كلية ـ وهو أمر محمود ـ وتكون لدينا أقسام ضئيلة داخل كليات إدارة الأعمال. وكأنما الإشارة هنا إلى الاهتمام بالتقنيات والإجراءات والوسائل دون البحث في تطوير النظام الإداري.

  لقد كتبت في مرات سابقة في جريدة "الاقتصادية" عن أهمية التفريق بين مفهومي الإصلاح والتطوير، وأنه يلزمنا التفريق بين مفهومي التطوير الإداري والإصلاح الإداري من حيث إن الإصلاح الإداري يعنى بإحداث تغيير في الثقافة والنظام الإداري، وليس فقط تحديث النظم وإعداد برامج تدريبية وتعيين قيادات إدارية لا تتعدى كونها تطويرات ظاهرية. فمع أهميتها، إلا أنها لا تستطيع إحداث التغييرات المطلوبة، طالما أنها تدور في الفلك الإداري ذاته بثقافة تعدم الشفافية والمساءلة والرقابة السياسية من مجالس تشريعية.

    وقد أثرت بعض التساؤلات التي أعتقد بأهمية طرحها من حين لآخر لتبيان المسار والاتجاه الذي يجب أن نسلكه ونحن في السعي للتنمية الإدارية، ولا بأس من تذكير القارئ الكريم بها: أين نحن متجهون؟ وما الذي نحاول تحقيقه؟ هل هناك بناء للخبرة الإدارية؟ هل هناك متابعة وتقيم مستمر للأجهزة الإدارية؟ ما معايير تقييم الإدارة الناجحة؟ هل مديرو الإدارات العليا مطالبون بتقديم سياساتهم وخططهم المستقبلية حين توليهم مناصبهم؟ كيف نميز بين القيادات الإدارية الناجحة وبين تلك التي لا تمتلك قدرة إحداث تغيير الأشياء للأفضل؟ كيف يمكن التطوير ومازال لدينا أنظمة مالية بالية مبنية على ثقافة أن الأشياء من حولنا ثابتة لا تتغير؟! كيف نتقدم إداريا والمدير مطالب أن يكون روتينيا حتى الجمود لا مبدعا ومبتكرا؟! هل القوانين في خدمة الناس أم الناس في خدمة القوانين؟

     إن خبرتنا الإدارية المتواضعة مع مرور وقت طويل دليل واضح لما نعاني من قصور في جوانب كثيرة؛ مما يوضح أهمية تخصص الإدارة العامة في توثيق الخبرة والمعرفة والتجربة الإدارية التراكمية؛ وبما يهيئ لبناء نماذج وخبرة متميزة ونظم إدارية تتناسب مع متطلباتنا وخصوصيتنا، وإحداث تغيير أصيل في الثقافة الإدارية. إن ما علينا الاعتراف به هو أننا لم نستوعب القيم البيروقراطية، وفي الوقت ذاته لم نستفد من إرثنا الثقافي، وما فيه من قيم، وتكييفها بما يتناسب مع أوضاعنا الخاصة.

   التنظيم البيروقراطي نتاج حضارة وتجربة إنسانية مختلفة عنا لذا فهي غريبة لم نستطع استيعابها وفهم معانيها وتطبيق قيمها. فلم يكن مستغربا أن تكون بيروقراطياتنا هجينا بين قيمنا الاجتماعية والقيم البيروقراطية. فالمكاتب الحكومية مجالس تستضيف الأصحاب والأقارب ولتبادل الأحاديث والمصالح الخاصة. أما القوانين فافتقدت روحها والهدف الذي وضعت من أجله في النموذج البيروقراطي الغربي وأصبحت تفهم تجريديا فتارة تكون بوابة كبيرة يدخل منها الأصحاب والأقارب لتساق لهم الخدمات أشكالا وألوانا وعلى أطباق من ذهب وفضة, وتارة تكون سيفا يسلط على رقاب الآخرين ليحرموا من الخدمة وينبذوا في العراء! من هنا كانت أهمية الإدارة العامة، كتخصص يرصد التجربة الإدارية، ويسهم في تصميم نموذج إداري يحقق تطلعات المجتمع.

   وفي اقتصاد كالاقتصاد السعودي يمثل فيه القطاع العام الحصة الأكبر من الدخل الوطني، لا يمكن إغفال الدور المهم الذي تلعبه الإدارة العامة في الاقتصاد الوطني، إضافة إلى التوجه نحو اللامركزية وتطوير الإدارة المحلية؛وما يتطلب ذلك من بناء للقدرات.

   فنجد في الدول المتقدمة وهي تتبع نظام السوق في نظامها الاقتصادي، نجد أن تخصص الإدارة العامة في الجامعات، بتزايد عددا وأهمية، حتى تطورت كثير من أقسام الإدارة العامة لتكون كليات، بينما نجد العكس تماما في بلادنا! لقد حان الوقت لمراجعة الدور الحقيقي للإدارة العامة، كتخصص وكنظام ووضعها في التصور الصحيح، إذا ما أردنا أن ننجح في مشروعنا التنموي الوطني.

                                          د/ ليلي عبدالله عبد المعز 
                               دكتواره الفلسفة في الادارة العامة و المحلية 

<!--<!--<!--<!--

Laila2000
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

41,162