كثيرة هى رحلات مصر الاستكشافية فى مجاهل أفريقيا، و لكن واحدة هى أشهرها و أجملها و هى التى سجلها التاريخ و حفظتها جدران معبدها الجميل على صفحة صحراء الأقصر بغرب الوادى، إنها البعثة التى أرسلتها أول ملكة مصرية "حتشبسوت" التى تربعت على عرش مصر الفرعونية منذ ما يقرب من خمس و ثلاثون قرنا من الزمان، فقد صورت تلك الرحلة إلى "بلاد بونت" بأفريقيا (إريتريا و الصومال حاليا) الحياة هناك و الزراعة و أحوال السكان و جغرافية المكان الذى يأتى منه مصدر الحياة فى مصر و هو النيل، و جلبت معها الأشجار و بعض الحيوانات و المعادن. و منذ الأزل قدس الفراعنة هذا الشريان و أطلقوا عليه الإله "حابى" و كانت له قدسية خاصة، و لعل كلمات الشاعر الفرعونى منذ القرن التاسع عشر قبل الميلاد مازال يرن صداها فى الأذان و هو يقول " حمدا لله أيها النيل الذى ينفجر من باطن الأرض، ثم يجرى ليغذى مصر فهو الذى يسقى المروج، و قد خلقه "رع" كى يطعم كل دابة و ماشية، و يرسل الماء إلى الجهات البعيدة فيروى مجدبها و يطفئ ظمأها، إن إله الزراعة "قاب" يحبه، و إله الصناعة "منفتاح" معجب به. فهو ينبوع الحياه و صدق الحق حين يقول " و جعلنا من الماء كل شئ حى". و كانت تقام للنيل الاحتفالات (و الذى ما زال يحتفل بها لعصرنا هذا و هو يوم فيضان النيل أو "يوم وفاء النيل" اي وصول الفيضان الي ذروته كل عام), فتقام الأفراح, ويطل السرور من جبين الناس و الذى يأتى كل عام فى النصف الثانى من أغسطس، و وصل الأمر "و لعلها من الأساطير" بأن الفراعنة كانوا يلقون له بعروس فاتنة الجمال حتى يزداد ماءه و يفيض خيرة. و لعل هذه الرحلة التى وصلت لقلب أفريقيا عبر مياه البحر الأحمر لم تكن الأولى من نوعها و لكنها قد تكون الفريدة فى تسجيل أحداثها، و لقد عاود حكام مصر تلك الرحلات و ذلك الاهتمام لتأمين هذا المنبع السرمدى و أكسير الحياة فى مصر، و لعل مغامرات الخديوى إسماعيل قبل مائه و أربعون عام مضت و وصولة إلى منابع النيل و مد نفوذ مصر للبحيرات العظمى أكبر دليل على أهمية هذا الشريان، و قد تتابع الاهتمام بأفريقيا من أجل تأمين الحياة فى مصر عبر العصور.
فالنيل هو أعظم أنهار الدنيا قاطبة، فهو أطول أنهار العالم (6700 كم) و أجملها و أكثرها ملائمة للملاحة و هو ملهم الشعراء و الفنانين، فأثناء رحلته الطويلة يخترق النيل بلدان كثيرة شعوبها متنوعة و طبيعتها جذابة مليئة بالغابات الخضراء التى تملؤها الحيوانات و الزواحف و الطيور و النباتات النادرة فدول حوض النيل عشرة فمن تنزانيا أقصى الجنوب الشرقى لدول الحوض ، فبروندى – فرواندا، فالكنغو أقصى الجنوب الغربى للحوض– فأوغندا قلب منطقة البحيرات العظمى و منبع النيل الأساسى– فكينيا –ثم اثيوبيا – فإريتريا – فالسودان – فمصر المحروسة. و يأتى النيل الأزرق من بحيرة "تانا" التى ترقد فى الهضبة الأثيوبية ليمد مصر و السودان بحوالى 85% من كمية المياه التى تصلهما ليلتقى مع المنبع الثانى الذى يجلب مياه الأمطار التى تتساقط على البحيرات الاستوائية فى كل من بروندى و رواندا و الكنغو و كينيا و أوغندا حيث تتكون بحيرة فيكتوريا و أخواتها، بعدها يلتقى النيل ببحر الغزال فى السودان مكونا النيل الأبيض، و عند جوهرة السودان "الخرطوم" يلتقى النيلين الأزرق و الأبيض و يكونا نهرا واحدا عظيما هو "نهر النيل" الذى يسير بكل جلالته و مهابته نحو الشمال إلى كنانة الله فى أرضة "مصر" التى أقامت على ضفتيه و بفضلة أقدم و أرقى حضارات الكون، لذا صدق "هيرودوت" المؤرخ الإغريقي حين زار مصر فى القرن الرابع قبل الميلاد و قال "مصر هبة النيل" كما هى أيضا "مصر هبة المصريين" كما قال جمال حمدان جغرافى مصر الفذ.
تقول الجغرافيا أنه يتساقط سنويا على دول حوض النيل أكثر من 7000 مليار متر مكعب مياه أمطار، يصل حوض النيل منها فقط حوالى 1600 مليار متر مكعب سنويا (آى قرابة 23% من مجملها) و تبلغ حصة مصر من ايراد النهر 55.5 مليار متر مكعب سنويا (آى أقل من 4% من إجمالى مياه حوض نهر النيل)، و ذلك حسب اتفاقات دول الحوض التى ُسطرت بنودها منذ ما يربو عن نصف قرن من الزمان، حينها كان عدد سكان المحروسة لا يتجاوز العشرون مليونا، فما بالنا اليوم و الغد مع الزيادة الرهيبة فى عدد السكان و طموحات التنمية و الزراعة و الحاجة الملحة لمزيد من المياه و نذر حروب المياه تطل برأسها لتكون هى سبب حروب القرن الحادى و العشرين.
و خلال مشاركتى فى المؤتمر السابع للجمعية الأفريقية لعلوم الحاصلات الزراعية (ACSS) ديسمبر 2005، بجوار شاطىء بحيرة فيكتوريا حيث الفندق الأمبراطورى "بعنتيبى، بأوغندا، نظم لنا القائمون على المؤتمر زياره لمنبع النيل كانت محل ترحيب غالبية الحضور، حيث سارت بنا الحافلات خلال غابات و قرى تلك المنطقة الغنية بالخضرة و الجمال و المشبعة بالفقر و البؤس، حتى وصلت لهدفها إلى منطقة "جينجى" و هى مزار سياحى هام بأوغندا و تقع على حافة بحيرة فيكتوريا و هى بداية نهر النيل حيث تقول اللوحة الضخمة المثبتة هناك "إن نقطه المياه تتحرك من هذه المنطقة حتى تصل الى البحر المتوسط خلال ثلاثة أشهر قاطعه مسافة طولها قرابة 6700 كم"، و هالنا هناك هدير الماء و كأنه يتسابق للانحدار شمالا، ليروى ظمأ شمال حوض النيل حيث حضارة الفراعنة و أحفادهم.
و ينتاب أى مصرى حين تطأ قدماه تلك البقعة شعور عميق و رغبه عارمة فى تأمين هذا الموضع من الأرض مهما كلف من ثمن، و لعل هذا كان هو دافع كل رحلات مصر للجنوب عبر سنوات التاريخ، فهنا منبع الأورطى الذى يغذى المحروسة بإكسير الحياة، و خاصة مع ما يجرى حاليا على الساحة العالمية من قلق و تنامى النعرات التى بدأت تطفو على السطح، فما من لقاء يجمعنا بالأخوة الأفارقة من دول حوض النيل، و خاصة دول المنبع و إلا ينساب حديثهم عن حصص مياه النيل و رغبتهم فى إعادة صياغة تلك الاتفاقيات و إعادة توزيع الحصص، بحجه أن تلك الاتفاقات وقعت أيام الاستعمار، و لعل هذا أيضا ما يدور بين الساسة فى لقاءاتهم و تناولته وسائل الإعلام أكثر من مرة (مثلما ورد فى صحيفة الجمهورية فى 6/8/2008، من أن إثيوبيا ترفض مقترحات مصر والسودان للأمن المائي). و لعلنا نلحظ أن اهتمامنا بأفريقيا قد خفت فى العقود الثلاثة الأخيرة، فى الوقت الذى تهب فيه تغيرات إقليميه و عالمية تواكبت مع تيارات العولمة و ظهور قوى عديدة (حتى فى إفريقيا) تبحث لها عن دور مع تغيرات الخارطة العالمية يواكبها دعوات عالية لإعادة تنظيم الأمم المتحدة و مجلس الأمن، و كذا تحول منظمة الوحدة الأفريقية الى الإتحاد الإفريقى و الى إعادة الصياغة، فهل هذا ينسحب على الاتفاقيات المبرمة بين دول القارة، ناهينا عن وجود أيدى خفيه تعبث فى تلك المناطق لمصالحها و التى حتما سوف تؤثر على الجميع، و إن صنع بعضهم كما تفعل النعامة حين يقترب منها الخطر.
ساحة النقاش