الولد مِنَّة من الله عز وجل يهبها لمن يشاء من خلقه؛ من أجل التكاثر وبناء صرح أمة الإسلام لبنة لبنة بواسطة الأسرة التي تعتبر المحضن الطبيعي للأولاد. إنها المشتل الحقيقي لتكوين الأولاد تكويناً سليماً, وتنشئتهم تنشئة سوية، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة، فهي لها دور حاسم في توفير جو صحي لتربية الأولاد على أساس المودة والرحمة.
إن المؤثر الأساسي والأول على سلوك أي فرد كان هما الوالدان والأسرة بصفة عامة. والأسئلة التي نجد أنفسنا أمامها تتجلى في الآتي: كيف يمكن للوالدين مراقبة أولادهم، وما هي مظاهر اهتمامهم بالأولاد؟ وأين تبرز معالم إهمال الوالدين للولد, وإلى ماذا يؤدي هذا الإهمال؟.. إنها أسئلة سنلقى لها الحل بإذن الله في السطور التالية:
الاهتمام بالأولاد: كيف ولماذا؟
ينبغي على الوالدين الحرص على مراقبة سلوك وتصرفات أبنائهم وبناتهم: وتوجيههم إلى جادة الصواب كلما لمسوا خطأ أو انحرافاً مهما صغر حجمه أو حقر شأنه. فالخطأ الصغير إذا لم يتم إصلاحه وتقويمه في حينه قد يصير عادة وصواباً عند الطفل يصعب مع توالي الأيام تداركه وتسديده. والرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا المثلى في التوجيه والتربية. فقد رأى غلاماً يسيء في طريقة الأكل فقال له: "يا غلام: سَمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك". والغلام كان هو الصحابي عمر بن أبي سلمة الذي قال عن هذا التوجيه النبوي: "فما زالت تلك طِعْمَتِي بعد"
. يلزم الوالدين تلقين الأولاد حقيقة الإسلام الصافية الطاهرة: وما يتضمنه من مبادئ وتشريعات سمحة وأحكام عادلة, وغرس الإيمان في قلوبهم والتي تكون تربة خصبة صالحة للزرع ما داموا في سنواتهم الأولى من عمرهم. وغرس الإيمان في القلوب لا يكون بشكل اعتباطي وعشوائي, وإنما على الوالدين إثارة قصة عن الإيمان تتناسب وعقل الطفل حتى يستوعبها جيدا، وأيضاً توجيه انتباهه إلى ما يتسم به هذا الكون الفسيح من ظواهر ومخلوقات عجيبة تدل على عظمة الخالق، ومن ثم سيهتدي الطفل بفضل الله إلى سبيل التدين باعتبار أن التدين فطرة إنسانية لا تحتاج إلا إلى الصقل والمتابعة والتوجيه المستمر حتى لا يشوب هذه الفطرة النقية أية تشوهات أو انحرافات.
على الوالدين التمثل بالقيم والفضائل الإسلامية: والاستعانة بالصبر والحكمة؛ لأن توجيه الأولاد وتربيتهم أمر ليس بالهين وإنما يحتاج إلى طول النفس وكثير من الجلد. ولا ينبغي على الوالدين زجر الطفل أو تعنيفه؛ لأن العنف والقسوة عليه تدفعه إلى العناد والتحدي بتطلعه إلى هذا الممنوع عليه.
إن معاملة الوالدين لأولادهم يجب أن تكون مبنية على التفتح واختيار كل ما هو حسن بحيث لا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي الحنيف... هناك من الوالدين من ينهج طريقة الحرمان مع أبنائه وبناته كوسيلة للردع والتربية، لكن النتائج تأتي للأسف معكوسة تماماً، فالحرمان في الأكل أو الشرب أو الملبس أو تحقيق الوعود والرغبات للأولاد يؤدي بهم حتماً إلى اقتراف المحرم والممنوع بشكل خفي مع الظهور أمام الآباء بمظهر الابن الطيب والصالح، وهذا يترتب عليه ازدواج في الشخصية.
. وهذا السلوك يفضي في النهاية إلى أن يصبح الولد منافقاً. وقد أشار ابن خلدون إلى هذا الأمر في مقدمته الشهيرة: "ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك سطابه القهر وضيق على النفس في انبساطها, وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل, وحمل على الكذب والخبث, وعلمه المكر والخديعة لذلك صارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية.."
. يقول الدكتور ناصر بن عبد الله التركي: ينبغي من الوالدين أن يدركا نفسيات أولادهم, وأن يستخدما في سبيل صياغتها وتوجيهها أروع الأساليب وأبرعها. فيلزم الوالدين وبالخصوص الوالد أن يتقرب إلى أولاده, ويراعي مستواهم العقلي والزمني, فيلاعبهم ويسمعهم من كلمات المحبة ما تبتهج به نفوسهم وبذلك يحبونه.. فإذا أمرهم أطاعوه وامتثلوا عن قناعة، فهناك فرق بين طاعة قائمة على الحب والاحترام والتقدير وبين طاعة قائمة على العنف والقهر والكبت فالأولى طاعة ثابتة، والثانية طاعة موقوتة هشة سرعان ما تزول وتتلاشى بزوال الشدة والعنف. معرفة أحوال الأولاد: تعتبر أيضاً من مظاهر الاهتمام بهم من قِبَل الوالدين. مثلاً معرفة ما نوعية قراءاتهم, والكتب التي تستهويهم, والأصحاب الذين يلازمونهم, والأماكن التي يذهبون إليها.. كل هذا يقوم به الوالدان دون الوقوع في فخ الرقابة اللصيقة. (وتأديب الرجل لولده خير له أن يتصدق بصاع) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتأديب يكون أساساً عندما يكون الولد صغيراً أو شابا لأنه في هذه المرحلة يكون أكثر قبولا للمؤثرات التي تكتنفه، فهو يأخذ الفكرة وترسخ فيه وتدوم. قال ابن القيم رحمه الله: "ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ عما عوده المربي في صغره من حرد وغضب, ولجاج وعجلة, وخفة مع هواه وليس وحدة وجشع, فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك, وتصير هذه الأخلاق صفات وهيئات راسخة له، فلو نحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يوماً ما".
الموضوعية في معاملة الأولاد: من أجل أن تصير شخصياتهم متكاملة على أسس سليمة، لهذا يجب على الأم خاصة نظراً لعاطفتها وحنانها العظيم أن تمنح لولدها حباً معتدلاً لا غلو فيه ولا إسراف وأيضاً أن لا تحرمه تماماً من الحنان، بل إن خير الأمور أوسطها فلا القسوة تفيد ولا المبالغة في التدليل تفيد في شيء.
مظاهر الوالدين للأولاد: يرى الدكتور سمير فياض أن مشاغل الحياة عندما كثرت انصرف الآباء عن أولادهم, فصاروا لا يعطونهم من الوقت والرعاية إلا الشيء القليل دون حقهم، فنجد بعض الآباء قد استحوذت المادة على تفكيره, فنجده يمضي جُلّ وقته خارج المنزل من أجل مزيد من الكسب ليس فقط لتأمين قوت أولادهم بل ليشتري لهم به مزيداً من الكماليات, وهو لا يدرك أنهم أحوج إلى رعايته, وتوجيهاته التربوية. ويزيد الطين بِلة انشغال الأم أيضاً عن شؤون أولادها بالخروج إلى العمل دونما حاجة ضرورية إليه, وعلى حساب حاجيات أولادها, بحيث تدخلهم إلى دور الحضانة المنتشرة هنا وهناك, أو تتركهم في عهدة الخادمات الشيء الذي يؤدي إلى غياب حنان الأم في نفوسهم.. إن غياب الدور الرقابي والتوجيهي للوالدين على الأولاد يُفضي لا محالة إلى نشأة الأولاد بلا توجيه ولا تأديب, ويتسبب في التنافر والتنابذ بين أفراد الأسرة الواحدة، ويحل محل الوالدين عامل الإعلام خاصة الرديء منه بحيث يلعب دوراً حاسماً في تربية الطفل واكتسابه لأنماط سلوكية غير مرغوبة.
ومن المظاهر الأخرى لإهمال الوالدين: ضربهم القدوة السيئة لأبنائهم وبناتهم؛ فمعاملتهم بقسوة زائدة أو لين زائد, ومراقبتهم إلى حد تكبيل حرياتهم, أو إهمالهم الكامل, هي أساليب خطيرة في التربية, تؤدي طبعاً إلى فساد أخلاق الأولاد, وبالتالي تفكك الأسرة والمجتمع. ومن المعلوم في علوم التربية الحديثة أن معاملة الولد معاملة فظة لا رحمة فيها ولا مودة، بل فيها الكثير من التوبيخ والتقريع والازدراء والسخرية من شخصيته الطرية تُعدُّ سلوكاً خطيراً على الحالة النفسية لهذا الولد, حيث يغزوه الخوف والانكماش والانطواء, فتحيط به العقد والأمراض النفسية من كل جانب، وقد يفر من البيت بسبب ما يعانيه من معاملة سيئة، وهناك حتماً خارج بيت الأسرة سيلتقي بقرناء السوء الذين لن يتورعوا في تلقينه دروس الانحلال والميوعة والفساد والانحراف. إن هُجران المنزل من أهم نتائج إهمال الوالدين للأولاد، وأخطر عواقبه؛ لأن بُعد الولد عن رقابة الوالدين ورعايتهما يجعله يتصرف كما يحلو له بدون حسيب ولا رقيب. كما أنه من العواقب الوخيمة لهذا الإهمال سفر الابن عن البيت أياماً معدودات دون سؤال، خاصة إذا كان السفر إلى البلاد التي يتفشى فيها المنكر من خمر وزنا ومخدرات وانحلال خلقي وما أكثر هذه البلاد... يُسافر الابن بدعوى السياحة وتُسافر البنت – للأسف العميق – لوحدها دون محرم لها بدعوى الدراسة! الترفيه عن النفس, أو تسافر مع صُوَيْحِبَاتِها, فتصير فريسة سهلة لبعض الذئاب البشرية الذين لا يرف لهم جفن حتى يصلوا إلى مبتغاهم, ويقضوا أوطارهم الدنيئة، فتقع الفتاة المسلمة ضحية الانحراف والفساد, وقد تحمل سفاحاً أو تعود حاملة لبعض الأمراض الخطيرة, كالإيدز أو الكباد... إن ظاهرة السفر بين الشباب تحتاج إلى وقفة تأمل وتحرٍ ودراسة. إننا نرى أبناء المجتمع الإسلامي خاصة المراهقين منهم يذهبون للخارج, ويزرعون بذور الانحلال والفساد. ومما يزيدنا أسفاً هو أننا نجد بعض الأسر المسلمة تتخلى عن كثير من التزاماتها الشرعية عند السفر إلى الخارج فقط لتواكب الأجواء هناك.
ساحة النقاش