العقل المصري .. وثورة للتنوير
ترك لنا الشرع أمورًا تتحمل المرونة والموائمة لنسلك فى حياتنا وفق ظروف الحياة ومتطلبات العصر، لذلك فإن القطع فى مثل هذه الأمورلا ينتهى إلى نص بعينه .. وفى هذا مرونة وتقديرٌ للإنسان الذى خلقه الله بعقل يُميز وبصيرة مدركة.. وحينما تختل البصيرة ينزلق العقل إلى معرفة لا تفيد وحيث الجهل بها لا يضر، فنجد الإنسان فى هذا الوضع متزمتًا متطرفًا، لا يناقش بموضوعية ولا يستقر على طريق واضح أو هوية محددة ..هكذا أصبحت تلك السلوكيات مُعبرة عن ظاهرة خطيرة فى مجتمعنا المصرى .
لقد مرت مصر بعقود زمنية ساد فيها الاستقرار، وازدهرت خطوات النهضة وتحرر فيها العقل من الخرافات وتماسكت أطياف البنية المجتمعية حول أهداف كبرى وطنية، منذ بداية حركة التنوير عام1899 التي قادها الشيخ محمد عبده مروراً بثورة 1919.. إلى نشأة الأحزاب واستقرار نظام الحكم وقيادة الوفد لنهضة سياسية كبرى، ولم يظهر خلال هذه الفترة الطويلة أى نوع من الطائفية أو سلوكيات متطرفة بارزة أو حتى مستترة.. فقد إرتدت المرأة المصرية البُرقع (غطاء الوجه) كعادة عُرفية.. وخلعته "هدى شعراوى" أمام سعد زغلول زعيم الأمة تعبيراً عن التحرر العقلى وليس الأخلاقى، وتعبيراً عن أهمية مشاركة المرأة للرجل فى مناحى الحياة ... ولم يقل أحد يومها أنه زىّ إسلامى وبدونه لا تكون المرأة فى كامل إيمانها .. وأقر محمد عبده إنتفاء العلة فى تحريم التماثيل، فنحن لا ننحتها كى نعبدها .. حتى وصل المصريون إلى إنشاء كلية الفنون الجميلة .. وقاموا بالاكتتاب من أجل تنفيذ محمود مختار لتمثال نهضة مصر ..
واليوم وفى القرن الواحد والعشرين يحارب البعض نشاط كلية الفنون الجميلة ويتهمون النحات المصرى أحيانا بالزندقة !!.. وناقش محمد عبده قضية تعليم المرأة .. وسارت المرأة فى طريق تعليمها حتى وصلت إلى أعلى المستويات، لتقف المرأة المنقبة فى أيامنا هذه منادية بأولوية فضل النقاب على مسيرة التعليم والعمل والإنتاج !! وأنشأ المصريون المسرح القومى إقراراً بالفن الراقى الهادف .. لنصل اليوم إلى الجدل والهوس حول تحريم الموسيقى وشيطنة كل صور الغناء وإتهام الكتاب بالإلحاد!! ... وهكذا يستمر الإصرار على العودة الى نقطة الصفر ..
ما الذى أعاد العقل المصرى إلى تخلف فكرى وانحسار فى البنية المعرفية، بل ويصر على أن يشغل نفسه صباح مساء بأمور تافهة ليس لها الأولوية فى حياتنا ؟ لقد أقرت نظم الحكم البائدة سياسات مضطربة طويلة الأمد غابت فيها الرؤية الصحيحة عبر عقود مضت، بدأت بعد حرب أكتوبر 1973 العظيمة.. فقامت بإطلاق اليد لتيار متطرف بفكر ضحل ظناً منها أن هذه هى السياسة العبقرية لمواجهة جماعة الإخوان المسلمين .. فانتشرت الأفكار المتطرفة التى تجادل فى أمور غير مستقرة، أو التى لم يبت فيها الشرع على نحو فاصل .. ونتيجة سياسات عشوائية غابت فيها رؤية التنمية، تلك التى يجب أن تواكب النمو السكانى، ضعفت الموارد وانحسرت الدخول، فسافر الكثير بحثاً عن زيادة الدخل فى دول أخرى ليتأثروا بحضارات وثقافات ضحلة تمثلت فى أفكار متطرفة نمت وترعرعت فى ظل أفكار التيار المتطرف الذى إنتشر فى المجتمع المصرى.. كل ذلك فى الوقت الذى لا توجد فيه سياسة حكومية تؤدى إلى توحد الشعب حول مشروع وطنى أو قومى يشغل المصرى فيه عقله ويؤكد ذاته.. فمن بين سمات الشعب المصرى المحورية هى التحدى الدائم لقدراته، والتمركز حول هدف جماعى أووطنى، فإذا غاب هذا الهدف أضطرب سلوكه وأخذ يشبع تأكيد ذاته وتحقيقها فى أمور لاتمثل أدنى أولوياته.. وفي الوقت الذي غابت فيه سياسة البحث العلمى، وغابت إرادة التقدم توجه العقل المصرى إلى المعرفة السطحية والجدل المريض، وأصبحت مؤسسات الإعلام والتعليم تقود هذه الحركة ، حيث تبث الأفكار الهدامة والسطحبة والمظهر الماسخ للتعليم وليس جوهره .. بل ظهرت الفتاوى الشاذة عبر شاشات التلفرة، وظهر من يغذى الشعب بتفسير الأحلام وتوجيه المنام .. وأصبح كل من هب ودب خبير فى التنمية البشرية والعلاقات الزوجية، ، وارتفع سيف الحرام والحلال على معظم نشاطنا اليومى.. فالنحت حرام، والتصوير بكل عدساته حرام.. وامتلئت الأسواق بالكتيبات الصفراء التى ليس عليها رقابة أو إمارة ، تلك الداعية إلى النقاب كدليل إيمانى، يفوق الإخلاص فى العمل والتقدم.
وإذا كان هذا هو حالنا قبل ثورة 25 يناير ..التي تمثل لنا الأمل في التغيير والتقدم ..فلماذا يستمرالحال على ماهو عليه ؟ ..بل أسوأ مما كان .. مازال حالنا بعد الثورة تغيب فيه رؤية التقدم وإرادة التغيير ، بل أكاد أقر بأن هناك إستهدافاً من الإعلام بتكريس الجمود العفلى للأمة ومناصرة الفكر المتخلف ..لابد من الإسراع في تبنى سياسات ناهضة بالأمة .. سياسات تجدد الأمل عن حق، وتبعث الروح التقدمية فيها .. لابد من مشروع لتنوير الأمة وتعديل البنية المعرفبة للشعب .. فهل القنوات الفضائية بكل هالاتها وإمكاناتها عاجزة عن القيام بما قام به فرد واحد مخلص هو الشيخ محمد عبده ..؟ لن يُقضى على الأفكار المتزمتة والعقلية المنغلقة إلا بثورة تنويرية يقوم بها علماء الأمة ومثقفيها .. وسياسة تعليمية هادفة .. وهذا قليل من كثير يجب عمله فى ظل عدالة وديمقراطية خالصة لوجه الله .. هذا إن أردنا إصلاحاً.. والله المستعان
ساحة النقاش