إن مجرد النظر إلى سياسات تتعلق بالتعليم من منطلق أنها تقبل التغيير والتبديل كمثل التغيير فى سياسات أى وزارة أخرى يعتبر مشكلة تدل على أننا نفتقد معنى المنظومة التعليمية المستقرة ولا نعي خطورة هذاالتحبط على المجتمع ومستقبل البلاد.
فيمكن أن يصل القمح الفاسد - كما عودنا عليه النظام السابق الفاسد - وبسرعة يمكن إعادته إلى المصدر الذى بلانا به .. بل يمكن أن نأكله، وقد ينجح العلاج الطبى معه .. أما أن نعمل بقرار فاسد في التعليم ، ثم نكتتشف خطأه ، ثم نحاول تعديله بآخر .. فهذه مصيبة كبرى ، فقد ننجح في تعديله لكن بعد أن يكون التلميذ قد أكل به وهضم، وتعامل به وهبط .. وتخرج به جيل يعيث فى الأرض فساداً .. وهذا هو ما أصبحنا فيه اليوم نتيجة سياسات وزارات فاسدة في عهود بائدة متتالية للتعليم .. سياسات قامت على "الترقيع" فليس لديها رؤية لمنظومة تعليمية متكاملة مرنة تستوعب المستجدات العالمية وثقافة الشعب ومطالبه..
نحن في أمس الحاجة اليوم الى منظومة تتضح أهدافها وتخدمها القرارات المنطقية في مصر الثورة.. فهل مازلنا ننظر لوزارة التعليم على أنها وزارة خدمات لا استثمارات .؟. وهل مازلنا غافلين عن التعليم باعتباره الاستثمار البشرى غالى الثمن الذى يمكن به ومعه أن نصلح من جميع الوزارات الأخرى ، وجميع مجالات الحياة.؟
فإن أردنا إصلاحاً - وليس أمامنا الآن سوى هذا الخيار- فلابد أن يتفرغ مجلس الوزراء لمدة معينة.. فقط للتعليم ، خاصة بعد الفترة الانتقالية التى تمر بها البلاد واستقرار الاصلاح السياسي نتيجة لثورة الكرامة العظيمة ، ولينظر في اقرار منظومة تعليمية تحقق أهداف الوطن مع مشاركة فعالة عملية لانظرية من شيوخ التربية وعلماء النفس التربوي وخبراء المقررات الممارسين لواقع التعليم المصرى .. هذه المنظومة تجيب على سؤالين هامين ، هما: ماذا نريد من التعليم حالياً ومستقبلاً ؟ .. وكيف يتم تنفيذ ذلك ؟ ذلك لأن اى منظومة تعليمية لابد ببساطة أن تجيب على ثلاثة أسئلة هامة : ماذا نعلم ؟ لماذا نعلم ؟ وكيف نعلم ؟
ويجب أن تعتمد هذه المنظومة على استراتيجية طويلة المدى وحلول عاجلة ، على أن تكون الحلول العاجلة فى خدمة الاستراتيجية طويلة المدى ومحققة لأهدافها ، فهيبة المعلم لن تعود إلا بإعادته مربياً يعمل فى منظومة محترمة متكاملة، فلا يلبى "طلبات المنازل" تلك التى جعلت يد التلميذ فوق يده!!
ويجب أن تقوم المنظومة التعليمية على التدرج فى الإصلاح من المرحلة الابتدائية لتصعد إلى بقية المراحل بثمارها الطيبة ، حتى الوصول إلى جامعة تعود إلى التعليم الفعال والبحث العلمى.. ومن الحلول التى أراها تخدم الاستراتيجية طويلة المدى:
* التغاضى تماماً عن أى تعليم نظامى لطفل "ما قبل المدرسة" أعني عدم دراسة مقررات بعينها , إنها فترة مرح ولعب، حتى يصل معلم رياض الأطفال بالطفل إلى "لعب موجه" يُنمى به ميولاً واستعدادات، ليتم تفريغها فى أنشطة متنوعة، من خلالها يمكن للمعلم أن يكتشف ميولاً ابداعية للطفل وهنا يعمل المعلم المدرب على توجيهها وتنميتها ...
* إلغاء تدريس اللغة الإنجليزية تماماً فى مرحلة ما قبل المدرسة، وحتى السنة الثالثة من المرحلة الابتدائية ، والتركيز على اللغة العربية ، فتدريس اللغة الإنجليزية مبكراً لن يصل إلى أهدافه بدون أن يكتسب الطفل الحس اللغوى المبكر فى اللغة الأم (العربية) ً .. لقد فَقَد تلميذنا تذوق اللغتين نتيجة دراسة اللغتين معاً .
* العودة إلى الاهتمام بمقرر الدين الإسلامى والمسيحى واحتساب درجاته .. على أن يتم النظر باهتمام إلى منهج مشترك متدرج يبنى عقيدة المسلم والمسيحى وليس مجرد تعليم الطقوس الدينية ، فالتركيز على العقيدة يكسب المواطن منطقية السلوك وينمي الكثير من السمات الايجابية ، مثل : التسامح والتعاطف ونبذ التعصب ، واحترام الرأى الآخر ، وتعزيز الوسطية ..والوطن في أمس الحاجة الى هذه السمات الآن ومستقبلاً .
* وابتداءً من الصف الأول الابتدائى وحتى الثالث الابتدائى لا يبقى الطفل فى الفصل الدراسى أكثر من أربع ساعات ، تزيد بالتدريج حتى نهاية المرحلة الابتدائية . يتعلم فيها اللغة ومبادئ الحساب والدين بما يتناسب والعمر الزمنى المتدرج. وبهذا يجد الطفل فسحةٌ من اليوم الدراسى لأنشطة متنوعة وممارسة هوايات حقيقية ..
ومع هذه الخطوات التي من السهل التبكير بها ، تكون استراتيجية النهوض بالمنهج الفعال الذي يتكامل عبر المقررات المختلفة ، محققاً للأهداف الموضوعة للمنظومة ، أيضا يجب ملائمة الامتحانات وأسلوبها مع هدف التعليم في تنمية مهارات الفهم والتحليل والتطبيق والتقويم ...يجب أن نصل بطلابنا الى حالة من بهجة التعلم .. وليس عذاب التعلم ..
والله المستعان
د. حمدى الفرماوى
أستاذ علم النفس التربوى
كلية التربية -جامعة المنوفية
ساحة النقاش