فى ملفات أجهزة المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية : 15 محاولة لاغتياله بالسم في القهوة
تشريح جثمان عبد الناصر يحسم الجدل حول وفاته

 
 

*لا يصدق الناس أن الشخصيات الخالدة هي شخصيات بشرية طبيعية يمكن أن تموت مثلها مثل غيرها دون مؤامرة أو ضغينة *لا يوجد رسول أو زعيم إلا وتشكك الناس في موته.. من النبي محمد إلي نابليون بونابرت.. ومن يوليوس قيصر إلي جمال عبد الناصر *بعد أربعين سنة بالضبط علي وفاة عبد الناصر لم تخف الشبهات الجنائية في وفاته.. وجاءت الرواية التي كشفها محمد حسنين هيكل في "الجزيرة" لتصب زيتا علي نار

روي هيكل قصة " فنجان القهوة " الذي أعده أنور السادات لعبد الناصر في مطبخ جناحه بفندق هيلتون النيل بعد أن أخرج منه المسئول عن مطبخ الرئيس محمد داود.. أراد السادات أن يخفف عن عبد الناصر ضيقه من ياسر عرفات الذي عقد من أجله القمة العربية الأخيرة لإنقاذ رجاله من مذابح أيلول الأسود في الأردن.. وجاء السادات بفنجان القهوة بنفسه.. وقدمه لعبد الناصر الذي شربه.. ولكن هيكل ينفي أن يكون السادات قد قتل عبد الناصر بالسم لأسباب إنسانية وعاطفية وعملية.. ورغم تكرار النفي الواضح والحاسم إلا أن سمير صبري المحامي عن رقية ابنة السادات قدم بلاغا ضد هيكل يطالبه فيه بتحقيق الواقعة.. " مع حفظ موكلته أدبيا وجنائيا ".

وليس هناك عقاب جنائي في مثل هذه الحالة لأن المضار المباشر من الواقعة أنور السادات في ذمة الله.. ولا يبقي سوي التعويض المادي لعائلته.. كما حدث في القضية التي خسرتها هدي عبد الناصر أمام رقية أنور السادات.. وكانت هدي عبد الناصر قد اتهمت أنور السادات بقتله أباها بتقديم كوب من عصير المانجو إليه.

أي أن فنجان القهوة في رواية هيكل أصبح عصير مانجو في رواية هدي عبد الناصر.. لنصل إلي رواية ثالثة هي أن حسن التهامي قدم إليه عصير جوافة في المطار ذات يوم.. ولكن.. نفيت الرواية لسبب بسيط هو أن عبد الناصر لم يكن يحب عصير الجوافة.. كما أن سامي شرف أقرب مساعدي عبد الناصر إليه هو الذي شرب عصير الجوافة رغم انه هو ايضا لا يحبه.

وهيكل هو الشاهد الوحيد علي رواية فنجان القهوة.. فباقي الأبطال والشهود ــ عبد الناصر والسادات ومحمد داود وياسر عرفات ــ ماتوا أو قتلوا.. ولكن.. هيكل روي الواقعة لهدي عبدالناصر التي روتها إلي أفراد آخرين من أسرتها ومن أصدقائها.

وذات يوم في صيف 1995 كان سامي شرف يزور عثمان صابر الذي كان المرافق الدائم للسيدة تحية عبد الناصر في قرية الرواد بالساحل الشمالي فلمحه هيكل الذي يسكن الشاليه المجاور فدعاه علي فنجان قهوة وروي له القصة التي لم يكن سكرتير الرئيس ووزير شئون الرئاسة يعرفها. وواقعة فنجان قهوة السادات التي رواها هيكل علي مسئوليته حدثت قبل وفاة جمال عبد الناصر بثلاثة ايام فهل يمكن أن يتحمل السم لو كان في القهوة طوال هذه المدة؟.. الإجابة هي أن هناك أنواعا من السموم يسري مفعولها ببطء لأيام وربما لشهور قبل أن تحدث الوفاة.. والدليل علي ذلك سم الزرنيخ الذي دس لنابليون في منفاه بجزيرة مالطا بجرعات صغيرة أتت تأثيرها بعد نحو السنة.

وهناك بالقطع رقابة محكمة علي طعام وشراب الرئيس.. كان يشرف عليها الدكتور صلاج جبر.. بجانب عدد من أطباء التحاليل لا يزال بعضهم علي قيد الحياة.. وكان الطعام يأتي من أكثر من متعهد.. ويختار طعام متعهد ما بطريقة عشوائية ليجري عليها التحاليل اللازمة.

أما غالبية أفراد عائلة الرئيس، فكانوا كما تقول هدي عبد الناصر يعيشون حياتهم بطريقة طبيعية دون تحاليل أو رقابة.. بل إنهم كانوا في المصيف يأكلون السندوتشات من المحلات المفتوحة للجميع.. وذات مرة جاءت إليهم علبة حلويات شامية من دمشق لم يترددوا في التهامها بمجرد فتحها.

ولا تسجل دفاتر رئاسة الجمهورية سوي واقعة واحدة لدس السم في طعام عبد الناصر بواسطة جرسون في جروبي ــ المحل الشهير وكان مسئولا عن حفلات الرئاسة ــ لكن.. ما أن قدم الجرسون فنجان القهوة المسمومة إلي عبد الناصر حتي قبض عليه.

كان ذلك في الإسكندرية.. وبدأت الواقعة ببحار يحتسي الخمر في بار رخيص وهو يهذي بكلمات فهم منها الكثير.. وتابعته أجهزة الأمن واتضح أنه شاذ جنسيا.. علي علاقة بالجرسون وستة أشخاص غيره بينهم امرأة.. يشكلون خلية الاغتيال.. وعرفت الخطة.. وترك الجرسون يصل إلي مداه.. ولكن في اللحظة المناسبة قبض عليه.. وكشفت التحقيقات أن إسرائيل هي التي جندته.. كما سنعرف من رصد كل محاولات اغتيال عبد الناصر أن السم في القهوة هو الوسيلة التي اتفقت عليها كل أجهزة المخابرات المتآمرة عليه وأن عدد هذه المحاولات كان 15 محاولة.

والحقيقة أن الشك في أن عبد الناصر مات مقتولا له ما يبرره.. فقد سمع بنفسه من خلال التجسس علي السفارة الأمريكية في القاهرة (عملية الدكتور عصفور) أنهم يريدون التخلص منه بالقتل.

وهناك سجل منشور وموثق بكل المحاولات التي دبرت له منذ أن صعد نجمه بتأميم القناة في يوليو 1956.. ففي خلال الحرب التي جاءت بعد التأميم سيطر علي أجهزة الأمن اعتقاد بأن الطائرات البريطانية يمكن أن تدك بيته في مصر الجديدة فنقل زوجته وأولاده إلي بيت في ناحية الزمالك حيث يعيش الأجانب ويصعب علي المعتدين المغامرة بقصفها.

كانت هذه الفترة مشحونة بمحاولات متنوعة للتخلص منه لم تكشف إلا فيما بعد.. ففي ربيع 1975 ظهر مساعد سابق لوكالة المخابرات المركزية (الأمريكية) علي قناة تليفزيون "جراناد" البريطانية ليعترف بأن الوكالة سبق أن درست خطة لاغتيال عبد الناصر غداة فشل العدوان الثلاثي وحرب السويس.

وفي كتابه " حبال من رمال " يشرح ضابط المخابرات الأمريكية ويلبر كرين ايفلاند التفاصيل فيقول : " إن المخابرات المركزية (سي. اي. أيه) والمخابرات البريطانية (اس. اي. اس) كونتا مجموعة عمل مشتركة قبل حرب السويس بشهور لبحث الموقف من جمال عبد الناصر الذي تجرأ وعقد صفقة الأسلحة الروسية.. وكانت كل الخيارات مفتوحة بما في ذلك القتل.

مثل المخابرات المركزية كيرميت روزفلت وجيمس أيكلبرجر مسئول الوكالة في القاهرة الذي مارس نشاطه السري تحت غطاء دبلوماسي حيث كان وزيرا مفوضا في السفارة وانضم إليهما من واشنطن ويلبر كرين ايفلاند.. أما المخابرات البريطانية فكان يمثلها جورج يونج نائب رئيس إدارة الخدمة السرية.. وأحيانا كان يشارك في الاجتماعات جون سنكلير رئيس الخدمة السرية الذي يحمل لقب سير.

وفي لقاء جري في الأسبوع الأخير من شهر مارس 1956 قال جورج يونج : " المهم البدء بالإطاحة بعبد الناصر حتي لا يستخدم الطائرات السوفيتية ضد إسرائيل ".. وهكذا " يجب أن يتم كل شيء خلال شهر علي الأكثر ".. وعندما قال إيفلاند " " إن الحديث عن إزاحة عبد الناصر هو مجرد تمنيات لا أكثر " رد عليه يونج وهو يحرك سيف يده علي رقبته بحدة : " لا شك أنك نسيت قطع الرءوس ".

بعد 30 سنة علي حرب السويس و16 سنة علي رحيل عبد الناصر فوجئ العالم بما نشره بيتر رايت في كتابه " صائد الجواسيس " عن رغبة الغرب المحمومة في التخلص من عبد الناصر وقلب نظام حكمه.

وبيتر رايت كان مساعد مدير المخابرات الحربية البريطانية (أم ــ 15) في فترة الصدام العنيف بين القاهرة ولندن.. كما أنه كان من بين الذين كلفوا بالتخلص من عبد الناصر والتنصت علي السفارة المصرية في لندن.. وقد أغضب كتابه الحكومة البريطانية فلم تتردد في اللجوء إلي القضاء لمصادرته وكان ذلك متوقعا فلم يطبع الكتاب في بريطانيا وإنما في أستراليا.

وقبل أن تفجر أزمة السويس تلقت المجموعة (6) في المخابرات الحربية البريطانية تعليمات بوضع خطة لاغتيال عبد الناصر علي أن تشرف عليها الإدارة المتخصصة في لندن مع التنسيق مع عملاء المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط ومصر ويضيف بيتر رايت "واقترحنا التخلص منه باستخدام غاز الأعصاب".. ثم يضيف : " إن المخابرات البريطانية طلبت مني ومن زملاء آخرين إجراء تجارب علي عملية استخدام غاز الأعصاب في عمليات الاغتيال السياسي بحيث يوضع الغاز في أنابيب وتوصيلات تمر عبر أجهزة التكييف ".

وكانت التجارب التي نقوم بها تستهدف معرفة مدي إمكانية استخدام هذا الغاز في تسميم الرؤساء.. وكنا نعتمد في ذلك علي عقار الهلوسة الذي يتعاطاه الشباب بأن نضاعف الجرعات التي ندسها للرؤساء مما يؤدي إلي الوفا بالتسمم.. وكنا نستخدم هذه المادة بكميات قليلة في استجواب الجواسيس ".

وقد سألني هنري ريكون من موظفي المخابرات البريطانية أن اتعاون معهم في قتل عبد الناصر بالسم لأن من السهل دس كميات منه في الشراب أو الطعام.. أو فنجان قهوة.. وكان احد عملائنا يستطيع الوصول إلي عبد الماصر في أحد أماكن إقامته.. لكنه سرعان ما عاد وقال إن ذلك صعب . وبعد الوحدة بين مصر وسوريا دفع الملك سعود بن عبد العزيز 5 ملايين دولار إلي عبد الحميد السراج لقتل عبد الناصر بضرب طائرته وإسقاطها.. لكن السراج ابلغ عبد الناصر بالمؤامرة واصبح مقربا منه.

وفي كشف حساب وكالة المخابرات المركزية ثلاث محاولات دبرتها لاغتيال عبد الناصر خلال الفترة ما بين العدوان الثلاثي (1956) وفشل مبدأ إيزنهاور في لبنان (1958).. وقد جاءت بعض الفقرات المحذوفة من كتاب فكتور مارشيتي وجون ماركس عن الوكالة التي كانا من رجالها.

وباقي ما جاء في هذه الفقرات يؤكد أن الوكالة جهزت ثلاث مجموعات للاغتيال دفعت بها إلي مصر فقبض علي المجموعتين الأولي والثالثة وعجزت المجموعة الثانية عن التنفيذ.

وحسب ما جاء في تقرير لجنة تشرش التي شكلها الكونجرس بعد فضيحة ووترجيت للتحقيق في جرائم ونشاط المخابرات الأمريكية فإن الوكالة حاولت اغيتال : فيدل كاسترو (كوبا) وجمال عبد الناصر (مصر) وعبدالكريم قاسم في العراق والأسقف مكاريوس (قبرص) وشارل ديجول (فرنسا) وانديرا غاندي (الهند) وكوامي نكروما (غانا) وأحمد سوكارنو (أندونيسيا).. ولكنها لم تنجح سوي في اغتيال اثنين فقط من القائمة هما سلفادور الليندي في شيلي وباتريس لومومبا في الكونغو. حاولت الوكالة اغتيال فيدل كاسترو بسيجار مسموم.. وحاولت اغتيال عبد الكريم قاسم بمنديل مبلل بمادة مسممة تؤدي إلي عجز جسدي من خلال تسرب السم إلي الخلايا.. وحاولت اغتيال جمال عبد الناصر بواسطة دس السم في فنجان قهوة.

وقد توصل إلي هذا الأسلوب ثلاثة من ضباط الخدمة السرية في الوكالة هم ريمون روكا ووليم هود ونيوتن ميللر كلفوا في سنة 1956 بدراسة كيفية اغتيال جمال عبد الناصر وغرق الضباط الثلاثة في ملفات الوكالة بحثا عن نقاط ضعف عبد الناصر وقرأوا ادق التفاصيل عنه وبعد جهد مكثف انتهوا إلي حقيقة بدت ساذجة هي أن افضل أساليب اغتياله هي أكثرها بساطة مثل وضع السم في مشروب غالبا فنجان قهوة يقدم إليه بطريقة لا تثير الريبة.

وأمام لجنة التحقيق الأمريكية اعترف مايلز كوبلاند بأن المخابرات المركزية اقترحت اغتيال عبد الناصر أول مرة بعد صفقة لأسلحة السوفيتية عام 1955 لكنه اضاف : " إن ذلك كان مجرد اقتراح ولم يتحول إلي خطة ".. واضاف كوبلاند : " إن المخابرات المركزية لم تأحذ الأمر بجدية إلا بعد أن طلب أنتوني أيدن صراحة التخلص من عبد الناصر ".. وبناء عليه تشكلت اللجنة المشتركة بين المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية والتي اجتمعت ثلاث مرات لكنها لم تتوصل إلي شيء محدد.. وكشفت لجنة التحقيق أن كوبلاند بحث بنفسه خطة لإطلاق الرصاص علي عبد الناصر عن قرب في سنة 1957 ولكنه لم يجد الظرف المناسب للتنفيذ ".

بعد عامين وردا علي محاولات مصر لقلب النظام العراقي قرر عبد الكريم قاسم اغتيال عبد الناصر فتسلل إلي دمشق مجموعة من القناصة لاصطياده وهو يلقي خطابا في شرفة قصر الضيافة ولم يكن من الصعب معرفة أبعاد المؤامرة قبل وقت كاف.. وكان أن احاط حراس عبد الناصر به بطريقة أزعجته فلم يتردد في طردهم قائلا في عصبية : " ربنا هو اللي بيحرسني ولو ربنا أراد ولا انتوا ولا غيركم يحوشوا القدر ".

وفي معرض روايته للأسرار الشخصية لعبد الناصر يقول محمود الجيار سكرتيره الخاص : إن عبد الناصر كان عائدا من تنزانيا ولكن قبل هبوط طائرته دق التليفون في بيته وقال المتحدث : " جهزوا البيت للحداد ".. وتكرر الاتصال المزعج ثلاث مرات وسارعت أجهزة الأمن لكشف السر وتأخرت طائرة عبد الناصر في الهبوط.. ولكن اتضح أن الأمر كان من تدبير بعض رجال المشير عبد الحكيم عامر لوضع عبد الناصر في مصيدة الأمن والوهم بالخطر الدائم علي حياته.

ولا شك أن هناك عشرات الوقائع الأخري التي تؤكد أن الرغبة في التخلص من عبد الناصر بالقتل كانت عارمة وهو ما يضاعف من الشبهات الجنائية في وفاته.. ولكن.. لن تحسم هذه الشبهات إلا بحل واحد هو تشريح جثمانه للوصول إلي الحقيقة.. وربما كان الحل صادما لعائلته.. إلا أنه لا مفر آخر.. وإلا نغلق هذا الملف ولا نتحدث فيه.

المصدر: محمد يحى السطيحه المحامى عن صحيفة الفجر

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,861,855