الاثنين، 1 سبتمبر، 2014
قصة "مقهى عاشقوه"
"مقهى عاشقوه" الثلاثاء27/9/2011م" سعيد المنزلاوياعتدت منذ طفولتي أن أسير في الطرق الرئيسة، وأن أتجنب ما استطعت الطرق الداخلية والجانبية. عودني والدي على ذلك وأنا طفل صغير، ربما خوفًا عليَّ ـ وقتذاك ـ من الضياع أو الأذى. وشببت ولا زلت أحرص على ما عودني عليه والدي. إلا أنني في الآونة الأخير، خالفت ذلك وشدني شارع جانبي للسير فيه؛ ربما يكون أطول قليلاً أو كثيرًا، مما لو اجتزت الطريق الرئيسي، إلا أن شيئًا ما يشدني إليه. هو شارع لا يختلف كثيرًا عن سائر الشوارع، إلا أنه يتميز عنها جميعًا في أن فتاتي تسكن فيه، في أن الشمس لا تشرق إلا من منزلها، وأن البدر لا يغادر شرفة منزلها، وأن القلب لا يخفق ويزداد عدد دقاته إلا عندما أمر أمام منزلها. ولكم تكون سعادتي عندما ينعم عليَّ القدر فأراها أو أسمع صوتها، أو تلتقي عيوننا. ولا أستطيع أن أحدثك بما أشعر به لحظة لقاء العيون، وحديث العيون، ونجوى العيون. شعور لو دهمتني معه سيارة منطلقة ما شعرت بها، لو حطمت رأسي بمطرق حديدية ما أحسست. ففي تلك اللحظات النادرة المختلسة من مخالب الزمن، أفقد الحس والحياة وأصبح جسدًا بلا روح؛ لأن روحي تسبح هناك في نهر عينيها، تداعبها وتناجيها.على كثرة ما سرت في هذا الشارع، إلا أنني لا أذكر من معالمه إلا منزلها. فلو سألتني عما يجاوره، أو يكون أمامه أو وراءه، ما استطعت أن أخبرك. فقد اختزل هذا الشارع بكل ما فيه من أحياء وموجودات في شخص فتاتي، في شرفة منزلها، التي تطل منها كالبدر، فتنير ظلام قلبي، وتبدد وحشته. غير أنه في مساء هذا اليوم الذي أحدثك فيه، وقعت عيني على مقهى تطل عليه شرفة منزلها. صدقني إذا قلت لك أن هذه أول مرة ألمح فيها هذا المقهى، على كثرة ما سرت في هذا الشارع.ولعل الذي لفتني إليه، هو تلك اللافتة فوق بابه، والتي كتب فيها "مقهى عاشقوه". استوقفني الاسم طويلاً، وحاولت أن أستنطق حروفه؛ لأعرف دلالته، ولكنني لم أعرف. فأرسلت النظر إلى رواده، ويا لله! ما أعجب هذا المقهى ورواده! إنه ليس مقهى عاديًّا، كالذي نحتسي فيه الشاي، وننفق فيه الساعات في لعب النرد والدومنو. كما أن رواد هذا المقهى ليسوا من أصحاب المعاش، أو العاطلين وإنما تنم سحناتهم عن طول السهر، وآهاتهم تصدر عن لوعة وحنين. رددت البصر مرة أخرى إلى العنوان ثم إلى رواده، وجعلت أرجع البصر بينهما، إنهم جميعًا من الرجال، وإن اختلفت أعمارهم، فهذا طفل لم يبلغ الحُلُم بعد، وهذا شاب يافع يمتلئ شبابًا وحيوية، وبين أنامله يثمر حب نضير. لكنَّ نبض القلب أخبرني بأن هذا الشاب يعاني في حبه، يتمزق قلبه شوقًا ولهفة.وهذا شيخ هرم لم يبق في أعضائه عضو حي إلا قلبُه الذي كان سريع النبض عالي الدقات كمن يعدو في سباق. كانوا مزيجًا غريبًا من البشر جمع بينهم المكان والزمان. تُرى ما هي حكايتهم؟ وما الذي ساقهم إلى هذا المكان قبالة شرفة محبوبتي، التي أحببتها منذ أول لحظة وقعت عليها عيني. دون أن أشعر جذبت مقعدًا وجلست إلى إحدى الطاولات، وطلبت كوبًا من الشاي. بالرغم من أنني جلست على طاولة وحدي، إلا أنني شعرت أننا جميعًا نجلس متلاصقين على طاولة واحدة. رحت أتفرس في ملامح مجالسي، وأفصح كلُّ وجه عن قصة صاحبه دون أن ينبس بكلمة واحدة. كان الحديث بيني وبينهم هو حديث الخواطر والأحاسيس، كان كل واحد منا كتابًا مفتوحًا، كانت القلوب جميعًا على الطاولة، يمكن لأي واحد فينا أن يتلمسها، أن يناجيها، أو يكلمها، أن يتفرس فيها، وأن يقرأ ما هو متغلغل فيها. كانت درجة الشفافية بيننا عالية لدرجة أننا كنا نقرأ أفكار بعض، ونحس بما يسكن بين جوانحنا من سعادة أو ألم، من راح أو شقاء. كان الطفل الصغير يجلس عن يميني، يرسل العبرات حارة مع ارتعاشة أطرافه، كان أشبه برضيع يحبو نحو أمه، ولكنه فقد أمه، فراح يبحث عن حنان الأم؛ حتى تسكن روحه، وتطمئن نفسه. مددت يدي لأمسح دمعتين ترقرقتا من عينيه الرماديتين، فتفجرت عينه بالدمع الغزير، ثم انزوى في ركن وراح ينتحب بشدة تمزقت لها جوانحي الثكلى، وودت أن لو كنتُ أمًّا حانية لهذا الولد الصغير. آآآه كانت صرخة عالية تمزقت لها أحشائي، التفت كالملدوغ إلى صاحبها، فإذا هو الشيخ الهرم، كان بياض شعره أشبه بقطرات النَّدَى في الصباح النَّدِيِّ، كان يرمق الجالسين بعينين أشبه بقبرين مظلمين. كان إذا وقف خطا برجله اليمنى إلى الأمام، بينما تتشبث رجله اليسرى بالأرض في تعلق شديد بالحياة. تُرى ما الذي يجعل شيخًا هرمًا جاوز السبعين وربما الثمانين يتشبث بأحبال الحياة وكأنه شاب في العشرين؟ كان قلبه على الطاولة يحكي قصة هذا الأمل الكبير الذي جعله يتعلق بالدنيا، ربما أكثر منا نحن الشباب. لقد أنفق هذا الشيخ عمره يكد ويتعب من أجل أولاده، كانت له زوج وفية، ولكنها كانت كقطع الأثاث بلا حس أو نبض. مضت حياتها معه في رتابة، حتى جفت ينابيع الحب في قلبه، ولم تتفجر مرة أخرى إلا بأنامل تلك الفتاة التي محت بيدها الغض عقودًا من العمر، فعاد بين يديها شابًا يمتلئ حيوية وحبًّا في الحياة، جعلته ولأول مرة يشعر بأن للحياة لونًا خصبًا ومذاقًا طيبًا.لم يكن هذا الشيخ يبحث عن جسد يشبع فيه رغباته الدفينة، وإنما هو أشبه بأرض مجدبة أعاد لها الحياة ماءٌ متدفق ونمير. كانت هي ثمرةَ الحب التي أثمرت في قفر حياته شجرة يانعة؛ فأذاقته بهجة الحياة، ولكن بعد أن ولت منها الحياة. كانت آهاته ندمًا، حرقة، أسفًا لعمر ولى وضاع لم يتنسم فيه نسيم الحب، حتى إذا ما آذن بالذبول والأفول، برقت نجمة، ولكنها بعيدة المنال. في الوقت الذي كنت أحمل فيه للشيخ رثاءً، كنت كذلك أرى الأمل الغض في عين الشاب العاشق الولهان، لعله الوحيد الذي يحق له أن يحب، وأن يجني ثمار حبه وهواه، فأمامه العمر والأمل إنه يحبها كنفسه، بل وأكثر. إنها حياته، بل وأكثر. إنه يعيش لأجلها هي وحدها. كان قلبه الشاب في عنفوان الحب والهوى، لو يستطيع لكلل هامها بنجوم السماء، لوضع بين يديها الأرض والقمر وما تتمناه. ولكنها كانت منصرفة عنه، لم تشعر بحرارة حبه، بشدة وجده. كان قلبها متعلقًا برجل آخر، كانت تراه فارسها، كانت تراه في حلمها، كانت تراه دون غيره، كان قلبها لا يهتز إلا له، ولا يبكي إلا إذا ابتعد عنها. لم تشعر لحظة بالقلوب الصرعى التي تجلس قبالتها تنتظر نظرة تحيا بها، وتتشوف لكلمة تقتات منها. كانت عيوننا جميعًا معلقة بشرفة منزلها، ننتظر إشراقها كالشمس، ظهورها كالبدر، عطاءها كالحيا. تعلقت آذاننا بصوت قدميها النحيلتين تمشيان صوب الشرفة، اشرأبت أعناقنا تريد أن تسبق إليها بعيوننا الظمأى. ثم أطلت علينا كالنسيم العليل، حتى فقدنا في برده حواسنا، هرعنا جميعًا إليها أرواحًا بلا أجساد. كانت القلوب على الطاولة يزداد نبضها، ويعلو صوت نحيبها. وفجأة أظلمت الدنيا، ولم أعد أرى شيئًا، وإنما شعرت بالقلوب على الطاولة تتجمع معًا وتسكن قلبي، وبأرواحهم تمتزج وتحل بجسمي. عاد النور مرة أخرى، فلم أر المقهى، ولا رواده. فقط كل ما كنت أراه هو فتاتي في شرفة منزلها، تسرح ببصرها بعيدًا نحو الأفق، ربما تنتظر فارسها فوق فرسه الأبيض. ربما تسأل عنه نجوم السماء، ربما تغزل خيوط حلمها من ضوء القمر الفضي. بينما أنا مَن أحبها وهواها لا تلتفت إليَّ ولا تعيرني اهتمامًا. ثم غادرتِ الشرفة؛ لتترك وراءها آهات وأنات خنقتها الدموع.