الأصل في إقامة الموالد هو الاعتبار بسيرة صاحب المولد والانتفاع بذكراه، فضلاً عن انتهاز فرصة التجمع للتعارف والتعاون على البر والتقوى والانصراف إلى الله تعالى بذكره، والتعبد له، والاستماع إلى القرآن الكريم، والانتفاع بوعظ رجال الدين من العلماء، وذلك إلى جانب إخراج الصدقات، بالإضافة إلى الفائدة المعنوية والخير الذي يعم على المشاركين في هذا المولد أو المناسبة.
تهتم الطرق الصوفية بالاحتفال بالمناسبات الدينية، وأهمها ذكرى مولد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأهل بيته، كما تشارك الدولة والهيئات الرسمية في الاحتفال بهذه المناسبات بالإضافة إلى مناسبة ليلة القدر، وليلة الإسراء والمعراج، ورأس السنة الهجرية وتدعمها، كما تحتفل كذلك كل طريقة صوفية بذكرى مولد مؤسسها على طريقتها الخاصة.
ويثار جدال حول مشروعية الاحتفال بذكرى الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأولياء الله الصالحين، ولكن مهما اختلف المحدثون في الموالد ما بين مجيز ومنكر، فإن القاعدة هي رد الأمر المختلف فيه إلى الله ورسوله " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ " [سورة النساء : آية 59].
فهناك من قال بأن مثل هذا الاحتفال لم يفعله النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا الصحابة، ولا التابعون لهم بإحسان، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبًَّا لرسول الله ومتابعة لشرعه ممن بعدهم ولو كان خيرًا لسبقونا إليه(<!--)، وأن نشأة هذه الاحتفالات أحدثت في عهد الدولة الفاطمية – العبيدية المنتسبة إلى عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي – ولم يفعلوا ذلك محبة في الرسول (صلى الله عليه وسلم) بل لغرض آخر خفي(<!--) .
كما يرى بعض الباحثين أن اليوم الذي ولد فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو اليوم الذي توفي فيه، وهو يوم الثاني عشر من ربيع الأول كما دلت عليه كتب السير، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، ولو كان الدين بالرأي لكان اتخاذ هذا اليوم مأتمًا ويوم حزن أولى من اتخاذه يوم عيد واحتفال(<!--) .
وهناك من رأى بأنها ليست هي حرفة الصوفي الأصلية والأساسية، وليست هي شغله الشاغل ... فإن الصوفي وقته أعز عنده من الكبريت الأحمر، والموالد بخلاف ذلك تحرق الوقت وتضيعه وتقتله، وتخرج الصوفي عن المقصود الأساسي للقوم، وتضع المريد في مآزق كثيرة، ومنفرات غير شرعية قد ابتلينا بها في زمننا هذا(<!--) .
ونحن نؤمن مع من يؤمن بأن المسلم لا ينبغي أن يغتر بكثرة المحتفلين بمولده (صلى الله عليه وسلم ) في سائر الأقطار الإسلامية، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية لقوله تعالى : " وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ"(<!--). [سورة الأنعام : آية 116] .
وعلى الجهة الأخرى هناك من يرى أن الموالد وما يتبعها من مواكب هي امتداد للسنة النبوية، وإحياءً لها، عندما دخل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مكة فاتحًا، وقد تكاثر أهلها ، فدخلت الجماعات ، وهي تكبر وتذكر اسم الله تعالى، فالمواكب في هذه الموالد هي هزة قوية تلفت أنظار الناس ، وأرواحهم، كما أنها رمز يشير إلى قوة الدين، ورفع لوائه بين الناس، وتذكيرهم بتاريخ الإسلام المجيد، وأن كبار الأولياء مثل أبي الحسن الشاذلي كان يحرص على لفت أنظار الناس إلى المواسم الدينية الروحية، فكان يسير في المواكب ، وحوله أفراد من مختلف الطبقات من المجتمع رافعين الأعلام والرايات، ضاربين الكاسات والدفوف ليس بهدف الشهرة وذيوع الصيت، وإنما بهدف إحياء هذه المواسم في نفوس الناس(<!--) .
إذا كان هذا الجدال دار حول مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فعليه بحق أولى كما يرى بعض الباحثين أن تكون موالد الأولياء بدعة في الدين، وأن هذه الاحتفالات بالمشايخ لن تكون أغلى من الاحتفالات بمولد النبي (صلى الله عليه وسلم ) وإذا ثبت خروج هذا الاحتفال عن الشرع، فمن باب أولى يثبت خروج موالد المشايخ عنه(<!--) .
واللافت للنظر هذا التهافت على موالد الصوفية، فمولد السيد أحمد البدوي وهو من أشهر موالد الأولياء في مصر، يجتذب أكثر من مليون مواطن، من مختلف أرجاء مصر، مما يتسبب دائمًا في مشاكل أمنية، تستوجب إرسال تعزيزات من قوات الشرطة كل عام حتى يمكن السيطرة على حالة الأمن، وحفظ النظام(<!--) .
ونوجه النظر إلى الموالد ككل لا يقتصر روادها على أعضاء الجماعات الصوفية بل يشترك عديد من أفراد المجتمع في هذه الموالد، وبعضهم لا يرجع الدافع الأساسي والمبرر الحقيقي لحضورهم المشاركة الجادة في النشاط الديني الذي تفرضه المناسبة، بل جاءوا لممارسة بعض الأعمال التجارية والاقتصادية والترويحية، وبعضهم يقوم بأفعال خارجة عن حدود الدين الحنيف مما كان محل اعتراض من رجال الدين والأزهر الشريف والغيورين على التصوف وأهل الطرق الصوفية من المشايخ والمريدين.
ومن الإنصاف أن نشير هنا إلى أن مشيخة عموم الطرق الصوفية نفسها في مصر الآن تعترف بأن هذه الموالد بؤرة الانحراف والرذائل، ومن ثم فإنها قد أبلغت الجهات الحكومية بضرورة حماية المجتمع من ذلك(<!--) .
ومن ثمَّ فقد طالب بعض الباحثين المعاصرين مشيخة عموم الطرق الصوفية بإلغاء هذه الموالد، ورأى أن هذا الإلغاء سيعين على تنقية التصوف مما علق به علمًا وعملاً وسلوكًا؛ لأن التصوف السني الصحيح لا يزعزعه إلغاء هذه الموالد(<!--).
ونحن نتفق مع هذا الرأي ونرى أن التصوف هدفه الأساسي هو محاربة النفس، ومقاتلة الشيطان اللعين، واجتناب الكبائر، وتهذيب النفس وترقيتها إلى عوالم القدس والسمو بها، وعدم تضييع الوقت في هذه الأمور التي تفسد الحال دنيويًّا وأخرويًّا .
<!--
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(1) ابن باز: التحذير من البدع، ص 3-6.
(2) ابن كثير: البداية والنهاية، 11: 172، المقريزي: المواعظ والاعتبار، 1: 490 .
(3) محمد جميل زينو: الصوفية في ميزان الكتاب والسنة، ص 45، دون تاريخ، دار أبي الحسن، القاهرة.
(4) محيي الدين الطعمي: إعلام الصوفية في كل مكان ببعض بدع المتصوفة في هذا الزمان، ص 63، ط1، 1427هـ/ 2006م، مكتبة القاهرة.
(5) د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام، ص 120.
(6) د/ عبد الحليم محمود: قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، ص 45 .
(7) د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام، ص 121.
(8) عرفة عبده على: موالد مصر المحروسة بين الماضي والحاضر، ص 40.
(9) مشيخة عموم الطرق الصوفية: التصوف الإسلامي ورسالته، ص 60، 1378هـ/1958م.
(10) د/ عبد اللطيف العبد: التصوف في الإسلام، ص 130.
ساحة النقاش