صور من جهاد بعض مشايخ التصوف على مر القرون
التصوف الإسلامي باختصار هو مجمل تراثنا الروحي، وهو جزء هام من تراثنا العربي الإسلامي لا يمكن التنكر له ، أو تجاهله بأي حال من الأحوال .
يقول الإمام الذهبي : ".... إنما التصوف والتأله والسير والمحبة ، ما جاء به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، من الرضا عن الله ، ولزوم تقوى الله ، والجهاد في سبيل الله " .
ويعنينا هنا في هذه الدراسة الموجزة ، العبارة الأخيرة من كلام مؤرخنا الكبير، أي الجانب الجهادي أو القتالي عند الصوفية.
ولا نعدو الصواب إذا قلنا : إن هذا الجانب المهم غفل عن الخوض فيه جل الدارسين لهذا العلم ورجاله. بل حاولت فئة واسعة من المستشرقين، وبعض من حذا حذوهم من الباحثين المعاصرين، أن يصم التصوف بالخمول والكسل، والضعف والخنوع، والتهاون عن مقارعة الغزاة وصد المعتدين . ولعمري إننا لا نعرف من أين جاءت هذه الإشاعات والترهَّات ، مع أن واقع الحال يخالف ذلك تماماً، فالنصوص والأخبار والآثار التي في بطون أمهات الكتب تؤكد أن الجهاد بفرعيه : الأكبر والأصغر ، أي جهاد النفس وجهاد الأعداء دارت عليه رحى التصوف . وأن هذين الجهادين ركنان أساسيان في الحياة الروحية الإسلامية.
وكيف يغيب عن بال الصوفية الآيات الكثيرة والأحاديث الشهيرة التي تبين فضل الرباط والجهاد ، وهم خواص أهل السنة ، كما يقرر الإمام القشيري في رسالته ، وإن خلت مصنفاتهم من الإشارة إلى موضوع الجهاد الحربي إلا ما ندر، كقول أبي طالب المكي (ت 386 هـ) : ".... ولذلك صار الجهاد أفضل لأنه حقيقة الزهد في الدنيا " .
وقريب من ذلك ما جاء في كتاب الإحياء للإمام الغزالي :
" إن المنافقين كرهوا القتال ، خوفاً من الموت ، أما الزاهدون المحبون لله تعالى، فقاتلوا في سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص" وفي موطن آخر يقول حجة الإسلام : "ولقد عظم الخوف من أمر الخاتمة فأسلم الأحوال عن هذا الخطر خاتمة الشهادة" .
والملاحظ أنه عندما ظهر التصوف رافقته مجموعة من الفضائل المستمدة من الفتوة ، وفي مقدمتها : الشجاعة والتضحية . يقول العارف سهل التستري (ت 273هـ) : "أصل هذا الأمر الصدق والسخاء والشجاعة" . ويذكر غيره : "الأساس الأول للصوفي هو تقوية الصلة بالله ، والشجاعة بالقتال للجهاد .
ومع الاعتراف بأن الذي ساعد على توافد الصوفية وسياحتهم في العواصم والثغور بهذه الأعداد الوفيرة ، هو الفرار من مشاهد الفتن، وتطاحن الأحزاب التي برزت إبان العصرين الأموي والعباسي، وغرق كثير من الناس في ملذات الدنيا وشهواتها، فوجد هؤلاء في هجرتهم إلى تلك الأماكن آفاقاً رحبة لجهادهم، ورضى نفوسهم وراحتها.
يقول أحمد بن أبي الحواري (ت 230 هـ) : "في الرباط والغزو نعم المستراح إذا مل العبد من العبادة، استراح إلى غير معصية" .
ولننتقل الآن إلى أرض الواقع، ونورد شواهد حية من جهاد الصوفية على مر العصور والأزمان.
** الإمام الحسن البصري (ت 110 هـ) الذي يعده الصوفية في هرم سلسلة شيوخهم وناشر علومهم . قال أبو طالب المكي : "كان الحسن رضي الله عنه أول من أنتهج سبيل هذا العلم ، وفتق الألسنة به ، ونطق بمعانيه ، وأظهر أنواره ، وكشف قناعه ." وذكر الحفاظ : "لازم الحسن العلم والعمل ، وكان أحد الشجعان الموصوفين في الحرب" .
وعن ابن سعد أن رجلاً سأل الحسن : يا أبا سعيد هل غزوت ؟! قال : نعم ، وقال أيضاً: "غزونا إلى خراسان ومعنا ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. واشتهر عن الحسن قوله : أدركت سبعين بدرياً ما كان لباسهم إلا الصوف . ومن مأثوراته : "ما عمل عملٌ بعد الجهاد في سبيل الله ، أفضل من ناشئة الليل" .
ومن أعظم من لحق بالحسن بالبصري ، واختلف إلى حلقته وتأثر بمواعظه : محمد بن واسع- رحمه الله- (ت 123هـ) ، ومالك بن دينار (ت 131 هـ) . وقد رافق الأول والي خراسان قتيبة بن مسلم في فتح ما وراء النهر، وكانت عليه مدرعة صوف خشنة. وقد جعل قتيبة مرة يكثر السؤال عنه، فأخبر أنه في ناحية من الجيش متكئاً على قوسه، رافعاً أصبعه إلى السماء، فقال قتيبة: لأصبعه تلك أحب إليَّ من مئة ألف سيف شهير، وكان ابن واسع كثير الصمت ، ومن كلامه: ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله فيه .
** شقيق البلخي - رحمه الله - (ت 194هـ) صحب إبراهيم بن أدهم وأخذ عنه الطريق .
قال حاتم الأصم : كنا مع شقيق نحارب التُرك ، في يوم لا تُرى إلا رؤوس تطير ، ورماح تُقصف ، وسيوف تُقطع فقال لي : كيف ترى نفسك يا حاتم في هذا اليوم ؟! تراه مثل ما كنت في الليلة التي زُفّت إليك امرأتك ؟؟ قال : لا والله . قال : لكني والله ، أرى نفسي في هذا اليوم مثل ما كنتُ تلك الليلة . واستشهد شقيق في غزاة كوملان فيما وراء النهر .
** ويفرد لنا الجوزي فصلاً خاصاً في كتابه (صفة الصفوة) للزهاد والصوفية الأوائل الذين رابطوا في العواصم والثغور في القرن الثاني ، نذكر منهم الشهيد ابن أبي اسحق السبيعي ، وحارس ثغر المصيصة محمد بن يوسف الأصبهاني ، وحارس ثغر طرسوس أبا معاوية الأسود ، والغازي أبا يوسف الغسولي ، والفتى المرابط يوسف ابن اسباط . (ت 199هـ) رحمهم الله جميعاً . ونطوي أسماء وأسماء من رهبان الليل وفرسان النهار من أهل القرن الثاني ، ليستوقفنا القرن الثالث وما يحوي من إشارات واضحة لمئات من المتطوعين الصوفيين ، خرجوا من ديارهم ، ووقفوا حياتهم على جهاد الروم ، ودرء خطرهم عن البلاد الإسلامية ، وكان مشايخهم يرافقونهم للموعظة والإرشاد، وبث الحماسة الدينية، "فكان لذلك أبعد الأثر في الصمود والنصر في كثير من المواقع" ، فمما يستفاد من رواية لابن العديم أنه في هذا العصر، تجمع الصوفية من كل صوب في ثغور الشام ، إذ وفدوا إليها للجهاد في سبيل الله. ومنهم : أبو القاسم الأبار، وأبو القاسم القحطبي، وأبو القاسم الملطي ، رحمهم الله .
** ومنهم أبو سليمان الداراني - رحمه الله - (ت 205هـ) العارف المشهور ، وهو ممن كان يرتاد الثغور . وتلميذه أحمد بن أبي الحواري رحمه الله ، ريحانة الشام كما كان يسميه الجنيد . وقد شوهد مرابطاً في ثغر انطرسوس يجاهد في سبيل الله . وتقدم قوله : في الغزو والرباط نعم المستراح .
** ومن أكابرهم أستاذ القوم أبو القاسم الجنيد البغدادي رحمه الله (ت 298هـ) وقد أجمع العلماء قاطبة على فضله وإمامته حتى عده ابن الأثير :"عالم الدنيا في زمانه" وقال ابن تيمية فيه : "الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة ، إمام هدى" ، إلى أن قال : " ومن خالفه فمن أهل الضلال . وعن جهاده في سبيل الله يقول الجنيد : "وخرجت يوماً في بعض الغزوات ، وكان قد أرسل إلي أمير الجيش شيئاً من النفقة ، فكرهت ذلك ، ففرقته على محاويج الغزاة" .
** السيد الشيخ عبد القادر الجيلاني (470 – 561هـ ) : ويذكر الدارسون أنه تاب على يديه أكثر من مائة ألف، يقول شكيب أرسلان : إن له أتباعاً لا يحصى عددهم، ووصلت طريقته إلى أسبانيا، وبواسطة أنوار هذه الطريقة زالت البدع بين البربر، يقول عنه الشيخ أبو الحسن الندوي ( وقد استطاع الشيخ عبد القادر الجيلاني أن يستمر في دعوته وجهاده أكثر من نصف قرن، في بيئة اشتد فيها الاستبداد وأخفقت فيها الدعوات السياسية، واحتمل الأمراء والخلفاء نقده الشديد وإنكاره على تصرفاتهم، وقد كان لخلفائه وتلاميذه فضل كبير في المحافظة على روح الإسلام وحماسة الدعوة والجهاد ) وقد كان الشيخ عبد القادر الجيلاني ومريدوه يدعون للإسلام ويحاربون عدوه، ويفتحون قلوب الغلاظ الشداد للإسلام حتى صاروا يدخلون في دين الله أفواجاً .ومن جهاده الذي كان له الأثر الأكبر في الانتصار على الغزو الصليبي لبيت المقدس قيامه في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فقد كان يستقبلهم ويعدهم ثم يعيدهم إلى مناطق الثغور، ولقد أصبح منهم القادة والمجاهدون وكان على رأس الذاهبين الى دمشق الشيخ موسى بن الشيخ عبد القادر الذي عمل في تدريس الطلاب حتى وفاته عام 616هـ، ومن مشايخ التصوف الكثير الذين اعتمد عليهم صلاح الدين في جهاده وتحريره لبيت المقدس من مختلف الطرق الصوفية الذين اجتمعوا تحت راية الجهاد وقيادة صلاح الدين.
** والسلطان صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر الأقصى : قد ورد عنه أنه خلال المعارك كان يصحب علماء الصوفية لأخذ الرأي والمشورة فضلاً على أن وجودهم يعتبر حافزاً قوياً للمريدين على القتال ببسالة وشجاعة نادرة .
** والأمير عبد القادر الجزائري الصوفي الأشعري الذي جاهد الاحتلال الفرنسي بين (1832-1847م) قائد الثورة في الجزائر ضد الاحتلال وصوفيته لا تخفي على أحد بالطبع .
** البطل المجاهد عمر المختار الصوفي الزاهد التابع للطريقة الصوفية السنوسية (1858-1931م) الذي جعل من زاويته الكبرى في واحة الجغبوب مقراً ومركزاً للعمليات العسكرية حتى استشهاده .
الشيخ أحمد السنوسي : استطاع صد الاستعمار الفرنسي والإيطالي عن طريق إنشاء الزوايا الصوفية في ليبيا والجزائر والصحراء حتى وصل إلى بحيرة تشاد في وسط إفريقيا ، والتي كانت تقوم بالدعوة إلى الإسلام ، فدخل كثير من الناس إلى الإسلام في نيجيريا وغانا والسنغال والكونغو وتشاد وأوغندا ... وضايقوا البعثات التبشيرية المسيحية ، فخافت الدول الاستعمارية من خطر الدعوة السنوسية ، فحاربتها بكل الطرق ، وضاق بهم المندوب الانجليزي ( اللورد كتشنر ) فأرسل للسيد السنوسي يتضرع إليه أن يخفف دعوته .
** الشيخ الصوفي محمد بدر الدين الحسني (1851-1935م) : ويعتبر المفجر الحقيقي للثورة السورية الكبرى ( 1925-1927م) وأصله من المغرب من ذرية الشيخ الجزولي صاحب دلائل الخيرات ولد في دمشق من أب قادري الطريقة كان فقيهاً زاهداً عارفاً بالله يغوص على مكنونات علم التصوف بدقة ، وعليه قرأ شيوخ المتصوفة في دمشق . وصفه صاحب الأعلام أن كان "ورعاً صواماً بعيداً عن الدنيا ، ولما قامت الثورة على الاحتلال الفرنسي في سوريا كان الشيخ يطوف المدن السورية متنقلاً من بلدة إلى أخرى ، حاثاً على الجهاد وحاضاً عليه ، يقابل الثائرين وينصح لهم الخطط الحكيمة ، فكان أباً روحياً للثورة والثائرين المجاهدين" .
وعلى كل فإن هذا البحث يفتح آفاقاً جديدة ، ويحتاج إلى دراسة واسعة أشمل؛ لأن مثل هذه الدراسة لن تعمق فهمها واحترامنا لتراثنا الروحي فحسب، ولكنها سوف تعمق وعينا بأنفسنا، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهذا مطلب بالغ الأهمية في هذه المرحلة من تاريخنا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن جهاد أهل التصوف كان مكرسًا كله لقتال العدو الغازي أو لنشر الإسلام، ولم ينقل إلينا التاريخ تورط أهل التصوف في الفتن الداخلية في المجتمع الإسلامي أو الخلافات المذهبية أو العرقية أبدا حاشاهم من ذلك، وإنما كان دورهم جمع كلمة المسلمين وتوحيدهم في الوعظ والإرشاد على كلمة لا إله إلا الله، ولم يكفروا أحدا من أهل القبلة أو يخرجوه من الملة إلا من كان كافرًا صريح الكفر .
ساحة النقاش