القادسية، بدأ القتال..
عُدنا إلى معسكرنا، وذهبنا إلى أميرنا سعد وقصصنا عليه ما حدث عند يزدجرد.
فى ذلك الوقت كان جيش الفرس يتحرك بقيادة رستم حتى استقر عند نهر العتيق باتجاه جيشنا.
أخي؛ هل تريد أن نسير سويًا؟ هيا بنا.. وبينما نحن نسير إذ بفارس من الفرس قادم باتجاة معسكرنا.. ذهبنا ومعنا بعض الجند وأخذناه إلى أميرنا سعد، فقال: إن رستم يريد وفدًا للمناظرة و المفاوضة.
جهّز أميرنا سعد وفدًا على رأسه رِبعي بن عامر وذهبنا إلى رستم ودخلنا خيمته المليئة بالخمور والسلاح والأزياء المطلية بالذهب. توجهت عيون رستم إلى ربعي وسأله عن مجيئنا لهم، فرد ربعي في هدوء وثبات: إنَّ الله ابتعَثَنا؛ لنُخرِجَ مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان إلى عَدْل الإسلام، فأرسلَنا بدِينه إلى خَلْقه ندعوهم إليه.
صمت رستم قليلاً ثم طلب منا أن نعطيهم بعض الوقت للتفكير.. فقال ربعي: نؤجِّلكم ثلاثةَ أيام، فانظرْ في أمرك وأمرهم، واخترْ واحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجِزية، أو القتال.
وسمح لنا بالذهاب وعُدنا إلى معسكرنا من جديد.
بعد فترة زمنية نرى فارسًا آخر قادم إلى معسكرنا وقال ما قاله الفارس الذي كان قبله. اعتقد يا أخي أنهم يريدون مطاولة اللقاء، ولكن لماذا ياعمرو؟
الله أعلم يا أخي.
جهّز أميرنا وفد من جديد على رأسه المغيرةَ بن شُعْبة، وذهبنا جميعًا من جديد إلى رستم ودخلنا تلك الخيمة ووقفنا حيث وقفنا أول مرّة مُصْطفِّين. ثم يتقدم المغيرة من الصف ويؤكد لرستم ما قالة ربعي، ثم تلتفت عيون رستم لنا جميعًا، ويتحدث بعرضه المال علينا. هذا الأبله يعتقدُ أننا خرجنا من ديارنا من أجل المال والغنائم والدنيا، والله ما خرجنا إلا لنُصرة هذا الدين.
والله ياعمرو إن إسلامهم أحب إلينا من غنائمهم.. ندعو الله لهم بالهداية يا أخي.
وإذ بالمغيرة يرد على رستم وهو يحاول إغرائنا بالمال: إنَّ الله بعث إلينا نبيه فسعِدْنا بإجابته واتباعه، وأمَرَنا بجهاد مَن خالف أمرَنا، وأخبرنا أنَّ مَن قُتِل منّا على دينه فله الجنة، ومَن عاش مَلَك وظَهَر على مَن خالفه، ونحن ندعوك أن تؤمن بالله وبرسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتدخل في دِيننا، فإن فعلتَ كانتْ لكم بلادكم، ولا يدخل عليكم فيها أحدٌ إلاَّ مَن أحببتم، وإن أبيتَ ذلك، فالجزية عن يَدٍ وأنت صاغِر، وإن أبيت فالسيف بيننا وبينكم، والإسلامُ أحبُّ إلينا منهما.
يحمر وجه رستم وتتغير نبرة صوته وتصبح حادة مليئة بالغضب والكره وهو يقول: لا صُلح بيننا وبينكم.
أصبح اللقاء العسكري أمر حتمي يا أخي، لنعود ونستعد ونتهيأ ونتلو من القرآن ما نستطيع ونصلي وندعوا الله أن ينصرنا.
ذهبنا إلى أميرنا سعد لنقص عليه ما حدث، فوجدناه مريضًا بعرق النسا؛ هو لا يقوى على الحركة، كما أن هناك دمامل قد ظهرت فى جسده، لا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقما.
استرح أيها السيد الأمير وأعط لنا الأوامر من هذا القصر، وسوف نحملك إلى أعلى القصر لكي تنظر إلى أرض المعركة وتشرف عليها.
من سيقودنا يا عمرو فى القتال إذن؟ قد تولى القيادة خالد بن عرفطة العذري بأمر من سعد بن أبي وقاص؛ يعطيه سعد الأوامر وهو يقوم بترتيبنا وإخبارنا بالأوامر ويفعل كل ما يأمر به سعد.
بعد عدة أيام علمنا بتوجُّه جيش الفرس إلينا، سيبدأ القتال قريباً. قد حان موعد صلاة الظهر، ثم نسمع المؤذن...
الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر
أشهد ألا إله إلا الله.. أشهد ألا إله إلا الله
أشهد أن محمدًا رسول الله.. أشهد أن محمدًا رسول الله
حى على الصلاة.. حى على الصلاة
حى على الفلاح..حى على الفلاح
الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله.
هيا يا أخي لنستعد للصلاة ونصطف.. سيصلى بنا أميرنا سعد.
انتهينا من الصلاة.. ثم أمر سعد القرَّاء ليقرأوا لنا سورة الأنفال؛ كما كان يفعل الحبيب، ثم ترى عيون كل من حولك تذرف الدموع؛ فقد هشّت قلوبنا في ذلك الوقت، ونزلت علينا السكينة من عند الله واطمئنت قلوبنا وتهيأت نفوسنا للقتال.
ظهر جيش الفرس أمامنا.. هيا يا أخي لنركب الخيول وننضم لفرسان قبيلة بني أسد.
قد بدأ يوم أرماث...
هل عيني صادقة فيما تراه ياعمرو؟ هل حقًا معهم فيلة حربية؟
إنها فيلة يا عمرو وعليها رجال يحملون النبال!
يا أخي لا يغرك جمعهم ولا فيلتهم، فإن كان الله معك فمن عليك؟ تذكر قول الله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)
ويقول الله أيضًا (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) اذكر الله يا أخي فبذكره تطمن القلوب، واثبت أثابك الله.
تدق طبول الفرس ومعها تسمع نهيم الفيلة...
تكبير الله أكبر.. الله أكبر.
ثم تسمع من القصر بصوت ضخم وغليظ قادم من فم سعد بن أبي وقاص يقول: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر!
إنهُ الأمر لبدء الهجوم يا أخي، فلنحمل على بركة الله على عدو الله.. الله أكبر.
لنلتحم معهم. كان سلاح الفيلة فى وجهتنا، نقاتل الفيلة، إن الجمال والخيول تخشى الفيلة، فعندما اقتربنا منهم أصبحت الخيول تتردد وبعضهم أصبح يتراجع ونحن في وسط القتال.
اقتربت الفيلة وأصبحت تضرب هذا وتكسر ضلوع هذا وتهشم جسد هذا تحت أقدامها، في تلك اللحظة ترددت خيولنا ووقعنا عنها؛وكأن الزمن توقّف بك وأصبحت أُذُنك لا تسمع إلا نهيم الفيلة وصوت صرخات الشهداء وتكسير الضلوع وصليل السيوف. جميعهم دخلوا في أُذُنك في وقت واحد، وأنت ما زالت طريحًا على الأرض.. قد تلطخ وجهك بالتراب ودخل فى فمك وأنفك وفي عينيك، وعندما تحاول فتح عينك تجد يدًا ممدودة إليك.. لا تفزع إنها يدي.. قم يا أخي إما شهادة وإما نصر.. الله أكبر!
وأنت تقوم لاتحاول أن تستجمع قواك، فترى من يتهشم جسده من الفيل ومن سقط طريحًا على الأرض يرفع إصبعه وهو ينطق الشهادة.. احمل رمحك يا أخي وقاتل ولا تحزن إن الله معنا!
وجِّهوا الأسلحة إلى عيون الفيله، واقطعوا التوابيت المُعلقه بهم!
وجِّهوا الأسلحة إلى راكبي الفيلة أيضاً! هيا يا أخي خذ هذا الرمح، الله أكبر.. سقط فيل.. تكبير!
أحسنت الرمي يا أخي.. جزاك الله كل خير..استمر أعانك الله استمر.
انظر إن الفيلة أصبحت مضطربة! أصبحت الفيلة تقتل أصحابها من الذعر الذي أصابها.. الله أكبر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)
استمر فى القتال يا أخي فوالله إننا منصورون..
استمر القتال حتى غروب الشمس.
توقف عن القتال يا أخي توقف فقد توقفوا، وإن شاء الله نكمل القتال غدًا.. هيا بنا ننقل جثث الشهداء.. ثم نسترح قليلاً.
وللحديث بقية فى الجزء الثالث.
