بعث لي أحد الزملاء برواية قديمة عنوانها «الجبل» للروائي المصري فتحي غانم، مرفقاً بها تعليق يقول «هذه رواية معمارية أحببت أن تقرأها»، وفعلاً قمت بقراءتها في نفس اليوم، فاهتمامي بأي علاقة تربط العمارة بالأدب يفوق أي اهتمام آخر، ومع ذلك فقد أثارت هذه الرواية الكثير من المواجع والشجون، فقد كانت تتحدث عن أحد المشاريع المهمة التي وضعت المعماري المصري المعروف (حسن فتحي) على خارطة المعماريين العاملين، وكان ذلك المشروع هو قرية «القرنة» في صعيد مصر (تقع في الشاطئ الغربي للنيل في منطقة الأقصر). فقد كانت هذه القرية تمثل أحد المشاريع النموذجية التي حاولت بها الحكومة المصرية (قبل الثورة) لتوطين سكان الجبل الفقراء الذين كانوا يعيشون على سرقة الآثار الفرعونية وبيعها للسياح، أثناء قراءة الرواية تكثفت في ذهني كل الصورة التي تعلمتها أثناء الدراسة عن هذا المشروع وتذكرت الناقد المعماري الأمريكي (جيمس ستيل) وقد كان استاذاً في جامعة الملك فيصل، قبل أن يصبح معروفاً في التنظير المعماري ومحاضراته عن حسن فتحي وعن مشروع «القرنة» على وجه الخصوص، فالرواية تهدم كل الصور الجميلة التي احتفظ بها لتلك القرية الوادعة التي تعلو مساكنها قبب جميلة، متناسقة يملؤها دفء مادة الطين والطوب «النيء». كما أنني أتذكر كل الدراسات التي كانت تؤكد على الهدف الإنساني النبيل، الذي كان يدعو له المعماري حسن فتحي، فقد كان الهدف هو تطوير سكان «القرنة» الذين يسكنون كهوفا في الجبل بصورة بدائية، ولا أحد يختلف على هذا الهدف النبيل. على أن الرواية قلبت في ذهني كل تلك الصورة الجميلة ودفعتني بقوة إلى حوار يومي ومفصل يتحدث عن مشاعر سكان الجبل الفقراء الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على الانتقال من كهوفهم إلى قرية نموذجية دون أن يستشيرهم أحد ودون أن يفكر أحد في رغباتهم والأهم من ذلك أن المعماري العظيم فكر في تحسين مساكنهم ولم يفكر مطلقاً في كيف سيكسبون قوت يومهم.. فهل يكفي أن يسكن الفقراء في مساكن جيدة حتى تتحسن حالتهم الاجتماعية؟ هذا السؤال الذي نغفله عندما نتخذ قرارات مصيرية تمس مجموعة من البشر لها تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية يجعل من المشاريع العظيمة تتهاوى وتفشل وتتحول إلى مستنقعات اجتماعية ذات رائحة كريهة..
(2)
هذه الرواية تجسد الحالة الاجتماعية للبيئة العمرانية، فهي تتحدث عن التأثير المدمر الذي يمكن أن تحدثه القرارات العمرانية على المجتمع، وتؤكد أن بناء مساكن جديدة للناس لا يعني أبداً أننا سنحقق لهم السعادة. أحداث الرواية تدور حول مقاومة شرسة من قبل سكان الجبل للنزول وسكن القرية النموذجية، فبالنسبة لهم المساكن الجديدة ستقطع «رزقهم» وستزيد من صعوبات حياتهم. هذه الرؤية ربما لم يفهمها المعماري ولم يستطع أن يفهمها المسؤولون، لكن الكاتب حاول أن ينقلها على لسان الناس البسطاء الذين يرون في المسكن شيئا آخر غير الذي يراه المصمم والمسؤول. ببساطة لقد كانوا مصرين على العيش كما يريدون هم لا كما يراد لهم، وهو الأمر الذي تعاني منه كل مشاريع إسكان الفقراء، في جميع أنحاء العالم، فتلك المشاريع استخدمت كورقة رابحة للبعض دون أن تحسن من حالة الفقراء.
(3)
أثناء قراءتي للرواية تذكرت الفترة التي عملت فيها مع مؤسسة الأمير عبدالله لوالديه للإسكان التنموي، وهي مؤسسة تتطلع لبناء مساكن للفقراء، فقد قربني العمل مع المؤسسة من قضايا كثيرة تمس تركيبة الفقر الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى المكانية، وتذكرت أحد ورش العمل التي حضرتها مع المؤسسة وكانت تتحدث عن تجارب من العالم كلها تجمع تقريباً على أن نقل الفقراء من أماكنهم إلى مشاريع إسكان جديدة يؤدي إلى زيادة معاناة هؤلاء الفقراء ولا يحل أيا من مشاكلهم وبالتالي غالباً ما تفشل تلك المشاريع. والفكرة هنا أن نقل السكان يعني تفكيك المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والمكانية التي طوروها خلال عقود من الزمن ويصعب عليهم إعادتها مرة أخرى في البيئة الجديدة. وتذكرت هذا الزخم من مشاريع الإسكان الخيري في المملكة وهو أمر يؤكد أننا نمر بطفرة «إسكان خيري» لا نعلم نتائجها، فالظاهر هو عمل الخير والتقليل من معاناة المحتاجين قدر الإمكان وتحسين حالة الفقراء المادية، على أن المشكلة الحقيقية هي أنه لم يقم أحد بدراسة ما إذا كانت هذه المشاريع حسنت من حالة الفقراء أم أنها زادتها سوءاً.
(4)
أذكر على سبيل المثال أن أحد المشاريع الإسكانية التي قدمت للفقراء كانت بعيدة عن وسط المدينة، فاكتشف القائمون على المشروع بعد ذلك أن سكان الحي لا يملكون المقدرة المادية لتوفير المواصلات إلى أعمالهم. هذه المشكلة البسيطة كفيلة بأن تجعل من المسكن الجديد عبئاً ثقيلاً على الأسرة الفقيرة وأن تزيد من معاناتها. قلت في نفسي إن سكان «القرنة» رفضوا سكن القرية الجيدة لأنها ستجعل من حياتهم «مسخا» باهتة بعد أن تتفكك التركيبة الاجتماعية التي كانوا عليها وتختفي تلك التقاليد التي توارثوها، فبالتأكيد لن تحقق لهم المساكن الجديدة ما كانت تحققه لهم كهوفهم البدائية، لأنها تظل من صنع رجل واحد لم يكلف نفسه حتى استشارتهم أو دراسة أسلوب حياتهم، بيئة فرضت عليهم لا تربطهم بها أي صلة. وتذكرت كثيرا من المشاهدات التي تؤكد أن الأسر التي تقدم لها مساكن جديدة غالباً لا تستطيع أن تحافظ على جودة تلك المباني فالمقدرة المادية محدودة وبالتالي لا تكون هناك صيانة ملائمة ويصبح المسكن بعد ذلك في حالة سيئة. وأنا هنا لا أريد أن أغلق الأبواب ولا أن أقول إن بناء مساكن للفقراء هو أمر غير مجد ولا يحقق الأهداف المرجوة منه، ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن المسألة لا يمكن أن تؤخذ بالسطحية التي هي عليها الآن.
(5)
لقد عقدت إحدى نساء الجبل منتقدة قرية «القرنة» النموذجية أنها «غير راضية عن القباب التي صنعها المهندس في البيوت، فهي لا تعرف القبة إلا في ضريح الولي، وهو مقبرة، فلماذا يصر المهندس على إسكانهم داخل مقبرة، إنها لم تمت بعد، حتى تدخل بيتاً له قباب». لقد أثارتني هذه الكلمات، فأنا من الذين يرون أن توسيع قاعدة المشاركة في اتخاذ القرار أحد أهم عناصر نجاح أي عمل يمس الناس، فما بالكم عندما يكون هذا العمل هو المكان الذي يمارس فيه الناس حياتهم. لقد كان رفض سكان الجبل الانتقال إلى القرية النموذجية ذات المساكن الجديدة مركباً، فإلى جانب غياب التفكير في ما سيعمله السكان في قرية جميلة دون توفير لقمة العيش، كان هناك عائق ثقافي، فما يريده المعماري مختلف عمّا يريده الناس، والنظرة الفوقية التي مارسها المصمم على الناس جعلته يفكر في الشكل أكثر من المعنى الذي يمكن أن ينقله هذا الشكل، فقد رفض السكان المساكن الجديدة لأنها تذكرهم بالقبور مع أنهم يسكنون في كهوف بدائية. إحدى الخواطر التي خطرت لي أثناء قراءة الرواية هي تلك التصاميم الموحدة الجامدة لمشاريع إسكان الفقراء التي تفترض أن هؤلاء الناس يفتقرون لأي رؤية جمالية وأنهم لا يتمتعون بأي حس بالفردية التي تفترض الاختلاف. قد تكون مشاريع الإسكان لدينا لا تشعر الناس بأنها قبور ولكنها بالتأكيد تشير بوضوح إلى أنها مساكن للفقراء، فهذا التجمع من المساكن الموحدة الشكل لأسر فقيرة سيجعل من «القرية الجديدة» خلال سنوات معدودة «خرابة جديدة» تضاف للخرائب التي تكتظ بها مدننا، دون أن تتحسن الحالة المادية لهؤلاء الناس.
(6)
يبدو أن التعامل مع قضية الفقر تحتاج إلى خطط تبتعد عن «العاطفة» والاستعجال، لأنها قضية تتعامل مع أناس لهم مشاعرهم وطموحاتهم التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار. لقد توقفت عند عبارة مصمم «القرنة» التي يقول فيها: «ليس كل مهندس تأتي له الفرصة كي يبني بلدا.. أنا أتت لي الفرصة، لكن أعرف أن لي أعداء يحسدوني ويريدون تحطيم المشروع». لقد كان المعماري يبحث عن مجده الشخصي أكثر من اهتمامه بسكان القرية وما يريدونه فعلاً. ويظهر لي أن هنالك الكثير الذين يفكرون في صورتهم الشخصية أكثر من استفادة الناس فعلاً من الأعمال التي يقدمونها للناس. أذكر أن أحد المسؤولين عن إحدى مؤسسات الإسكان الخيرية كان متحمساً لبناء مساكن مصنوعة من مادة «السيبوركس»، وهي مادة خرسانية خفيفة سريعة التنفيذ، وفي اعتقادي أنه كان يفكر في سرعة خروج المشروع للناس أكثر من التفكير في الصعوبات التي سيواجهها السكان الفقراء وكيف سيتعاملون مع تقنية معقدة مثل هذه يصعب صيانتها، ويمكن أن نقيس على ذلك العديد من مظاهر البحث عن المجد الشخصي على حساب الناس. لقد كنت أسأل نفسي لماذا يوجد بيننا فقراء ومحتاجون رغم كل هذا البذل من رجال الخير، وتيقنت أن الأمر مرتبط بغياب آلية واضحة للعمل من أجل الناس.
(7)
بعد أن فرغت من قراءة الرواية ازداد إيماني بأهمية تمتين العلاقة بين العمارة والأدب، فرغم أنني كنت أتوقع أن أقرأ عن جماليات العمارة وخصوصية المكان، إلا أنني وجدت فيها الرؤية النقدية و«الحكاية» التي عادة ما نفتقر لها عندما نحاول أن نتحدث عن عمارتنا، فقد جعلتني أتعرف على الجانب الاجتماعي لمشروع كنت أراه دائماً أحد المشاريع العظيمة، بينما هو في الحقيقة كان مشروعاً فاشلاً لا يحترم الإنسان ولا يقدم سوى رؤية شخصية لمعماري يبحث عن الشهرة والمجد الشخصي. التاريخ المعماري للمجتمع أو التاريخ الاجتماعي للعمارة لا يمكن أن يكتبه معماريون، بل يجب أن يكتبه نقاد يتمتعون بحس إنساني يمكنهم من بناء «حكاية العمارة»، لأن المعماريين يفكرون في الصورة أكثر من معناها، بينما تفترض «حكاية العمارة» أننا نبحث عن معنى الصورة أكثر من شكلها. وما يمكن أن أقوله إن «الحكاية» هنا جعلتني أشعر أننا نقوم ببناء مساكن تزيد من الفقر بدلاً من أن تقلل منه لأنها مساكن تعبر عن صور وأشكال لم يفكر في معناها بعمق.
ساحة النقاش