جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قبل ثلاثة آلاف سنة أو ما يزيد من مولد السيد المسيح (عليه السلام) نشأت في منطقة غرب وجنوب آسيا أربع حضارات إنسانية هي حضارة ملوها في وادي السند وحضارة ماجان في الجنوب الشرقي للجزيرة العربية فيما يعرف الآن بعمان وثالثة على الساحل الشرقي للجزيرة العربية الممتد من جنوب وادي الرافدين إلى عمان الحالية وهي ما يعرف بحضارة دلمون. وإلى الشمال منها حضارة وادي الرافدين حيث قامت واحدة من أقدم الحضارات التي أسهمت بدور فعّال في تطور الإنسانية.
وتمثل هذه الحضارات حلقات وصل في طرق التجارة القديمة في ذلك الوقت. فقد كانت البضائع تنقل عن طريق البحر أو جزءاً منها عن طريق البر. وكانت دلمون التي تقع في موقع متوسط بين حضارات الشمال والجنوب والشرق هي حلقة الوصل بين هذه الحضارات ما جعلها تتبوأ أهمية استراتيجية.
الموقع الجغرافي
يشكل أرخبيل البحرين أو هذه المجموعة من الجزر جزءاً لا يتجزأ من البر الرئيسي الممتد من جنوب بلاد ما بين النهرين في الشمال إلى ماجان أو عمان اليوم في الجنوب. وتكون هذه المنطقة بأكملها الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية. وقد عرفت هذه المنطقة عند الأقدمين بأرض دلمون منذ خمسة آلاف عام. ويفترض أن تكون لدلمون حضارتها الخاصة، إلا أنها لم تكن بطبيعة الحال بمعزل عن الحضارات المجاورة. فقد كانت لها صلات بحكم موقعها المتميز بحضارة وادي السند في الجنوب وحضارة سومر في الشمال. وبسبب هذه الصلات أصبح لدلمون اسماً يتردد في أدبيات السومريين.
دلمون في الأساطير السومرية
كثيراً ما كان اسم دلمون يتردد في النصوص السومرية وكان يشار إليها على أنها «الأرض التي تشرق منها الشمس». فمن بين النصوص السومرية والآداب الأسطورية التي يرد فيها ذكر دلمون «أسطورة الخلق» التي تربط دلمون بأصل الخلق فتقدم أنشودة ثناء لهذه الأرض التي باركتها الآلهة وحبتها بوفرة من المياه العذبة وجعلتها تنال شهرة في أوساط الأسواق العالمية. فهذه الأرض، أرض اللبن والعسل، وثرواتها المصدرة لبلاد ما بين النهرين يعتبرها السومريون الأرض المفضلة لحياة أبدية. ويعتقد بعض الباحثين أنه، بناء على المصادر المتوافرة، لم تحظ أية بلاد أجنبية بمثل ما حظيت به دلمون. فسومر كانت في نظرهم مركز العالم وقمة الحضارة وكانت دلمون واقعة تحت هذا التأثير حيث إنها ساهمت في تنمية التجارة لأهميتها كموقع عند مفترق طرق التجارة الحيوية بالنسبة للاقتصاد السومري. ولهذا فإن اسم دلمون يتردد في النصوص الاقتصادية فيما يتعلق باستيراد المواد الضرورية لبقاء سومر.
وتُحدثنا بياتريس أندريه-سالفاني ، إحدى الباحثات في حضارة دلمون عن أهمية موقع دلمون عندما تقول:
«هناك عدة أسباب تاريخية وجغرافية وثقافية جعلت من دلمون تدين بها لموقعها المتميز في نظر سكان بلاد ما بين النهرين. ومعظم النصوص التي لدينا هي على هيئة منسوخات كتبت في القرون الأولى من الألفية الثانية، وهذه النسخ يجري تغييرها في بعض الأحيان أو تزيينها بإضافات. وفي هذا الوقت أصبحت دلمون السوق الوحيدة للتجارة بين البلاد النائية عن طريق الخليج. كما كانت ميناء للتجارة العابرة حيث كان يفد إليها ممثلو جميع البلاد لتبادل وتسويق منتجاتهم وكانت واقعة تحت سيطرة تجار أور. وأصبحت البحرين التي كانت تعني دلمون في ذلك الوقت محطة مثالية نظراً لموقعها الجغرافي، ولوفرة مصادر مياهها العذبة ولمنشآت رسو السفن فيها… وتمضي إحدى النسخ التي تم العثور عليها على هيئة أنشودة طويلة حول ازدهار دلمون بسبب دورها المتميز كمركز مهم للاستيراد:
دع البحر الواسع [يأتيك] بخيراته.
في دلمون تطيب السكنى؛
سيكون شعيرها شعيراً ممتازاً؛ سيكون رطبها كبير الحجم؛
وسيتضاعف محصولاها ثلاث مرات….
(5)هذا عن الناحية المادية والاقتصادية لدلمون وعلاقتها ببلاد ما بين النهرين. إلا أن هناك الجانب الروحي لأهمية دلمون كفردوس من الفراديس إن لم تكن هي جنة المنتهى ففي أسطورة من أساطير السومريين تبدأ بأنشودة تشيد بدلمون وتقارن طهارتها وكمالها بطهارة و كمال سومر:
« مباركة هي المدينة التي وهبناك إياها،
مباركة (أيضاً) بلاد دلمون،
مباركة أرض دلمون، أرض دلمون طهور،
أرض دلمون مضيئة، أرض دلمون مشعة،
عندما استوطن هناك، في البدء في دلمون،
في المكان الذي استوطن فيه إنكي مع زوجه،
(أصبح) المكان طهوراً، هذا المكان مشعاً».
في هذه الأرض المباركة في نظر السومريين حيث الانسجام التام بين الطبيعة والمخلوقات:
«في دلمون، لا ينعق غراب
الأسد لا بفترس،
الذئب لا بخطف الحمل،
والكلب لا يعرف كيف يرعى الماعز،
ولا الدب الوحشي عرف كيف يأكل الحبوب،
لا أحد يشكو من ألم في عينيه قال:
«عيناي تؤلماني»
لا أحد يشكو من ألم في رأسه قال:
«رأسي تؤلمني!»
(6)اعتبر السومريون دلمون أرضاً طاهرة ومقدسة مثلها في ذلك مثل سومر. ونظراً لقدسيتها وطهارتها فإن سكان البلاد المجاورة فضلوا أن يدفنوا فيها موتاهم. وربما لهذا السبب وجدت مقبرة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ المدون. فالمدافن التلية التي تحوي مئات الآلاف من القبور خير شاهد على حضارة دلمون. فالاعتقاد بأن دلمون هي الفردوس الذي نزل به الإنسان هي أرض الخلود التي ينعم فيها الموتى بالراحة الأبدية.
فهذه المقبرة لعصور ما قبل التاريخ تعتبر من مواقع المدافن التي تعود للعصر البرونزي. ويقدر علماء الآثار عدد هذه المدافن التلية بـ 170,000 قبر. كانت هذه المدافن علامة بارزة من علامات الآثار في البحرين. وقد فسر بعض علماء الآثار أن هذا العدد من المدافن التلية المتناثرة كدليل على أن سكان الحضارات المجاورة في الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين كانوا أيضاً يستخدمونها لدفن موتاهم. وهذا الرأي على أية حال قابل للنقاش.
(7)فمن خلال دراسة قيمة قام بها بيتر كورنوول تعتبر أول أطروحة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد في تاريخ وآثار البحرين. أثار كورنوول مسألة المقابر التلية وعارض ذلك الرأي القائل بأن البحرين كانت بسبب قدسيتها مقبرة استخدمها سكان البلاد المجاورة لنقل ودفن موتاهم فيها. وكانت حجته في ذلك دليلان: الدليل الأول: أن المقابر التلية كظاهرة ليست مقتصرة على البحرين وحدها. ففي منطقة الإحساء في الإقليم الشرقي من الجزيرة العربية توجد مقابر تلية مشابهة لما هو موجود في البحرين. ثانياً: إن عملية نقل الموتى قبل عدة آلاف من السنين في تلك القوارب البدائية لم تكن وسيلة مأمونة. لذلك فهو يستبعد أن يكون موقع البحرين قد استخدم لهذا الغرض وأنه تبعاًً لذلك فهذه القبور كانت لسكان البلاد في تلك الحقبة من تاريخ البحرين.
(8)لم تترك لنا حضارة دلمون أثاراً ذات قيمة كالمعابد الشاهقة ولا القصور المنيفة ولا المخطوطات ولا الإنتاج الإنساني كصناعات حرفية مميزة ولا خطوط لكتابة كالمسمارية أو الهيروغليفية مثلاً؟ إلا أننا نستطيع أن نقول بأمان أن الدلمونيين ربما كانوا قد برعوا في مجال التجارة وبالذات ذلك النوع من التجارة البينية والعابرة. فهل كان من بين إنجازاتهم اختراع أساليب تخزين البضائع التي يستوردونها ليعيدوا تصديرها؟
إلا أننا نعتقد أن سكان هذه المنطقة منذ أقدم العصور كانوا قد احترفوا مهنة الغوص إلى اللؤلؤ واستخراج هذه الدرر من مياه الخليج الدافئة. وهذا يقودنا إلى أسطورة جلجامش ذلك الملك الأسطوري الذي قدم لدلمون بحثاً عن زهرة الخلود وعندما عثر عليها التقطتها الحية الماكرة وفقد مبتغاه. يمكننا أن نتجاوز هذه الأسطورة ونأتي بتفسير مغاير لما هو معروف. فجلجامش لم يكن يبحث عن زهرة معينة أطلق عليها زهرة الخلود وإنما كان يغوص بحثاً عن درر الخليج ولآلئه. وهناك اعتقاد قديم مفاده أن اللؤلؤ عندما يسحق و يذاب في ماء تشربه وخصوصاً النساء فإنه قادر على شفاء العاقرات وإخصابهن وتجديد الحياة فيهن. ولعل عملية تجديد النوع البشري هو الخلود الذي كان يبحث عنه جلجامش. هل لنا أن نعتبر جلجامش هو الغواص الأول في دلمون الذي فتح آفاقاً أمام ظهور مهنة عجيبة ظلت مزدهرة على مدى بضعة ألفيات قبل أن يقضي عليها الاستزراع الصناعي لهذا الدر الجميل؟
إضافة إلى ذلك، فإن مواقع المدافن التلية هي بقايا ذلك الفردوس المفقود. واجبنا الآن المحافظة على هذه المواقع من الاندثار وأن لا نسمح لغابات الإسمنت أن تكتسحها. كما ينبغي علينا أن نبذل مساعينا لتسجيل هذه المواقع ضمن تراث الإنسانية لدى منظمة اليونسكو.
(9)لم يظهر سكان هذه الجزيرة في الماضي أي اهتمام بحضارة دلمون وتاريخها وآثارها لسوء الحظ ربما لأن علم الآثار والتنقيب عنها كان من بين العلوم التي لم يعيروها اهتماماًً يذكر. وكان لاهتمام الرحالة الغربيين وعلماء الآثار الفضل في الكشف عن أثار الحضارات السابقة سواء في العراق أو مصر أو الهند و في أميركا الجنوبية. أما بالنسبة للبحرين فقد بدأ الاهتمام بآثار وحضارة دلمون على أيدي نفر من المهتمين من محبي الآثار والتاريخ كان معظمهم من الهواة إن لم يكونوا جميعهم. وهذا التسلسل التاريخي يبين لنا متى بدأ هذا الاهتمام في نهابة القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين. إلا أنه من المعلوم أن أول من قام بإجراء دراسة علمية على تاريخ البحرين القديم وآثارها هو الباحث الأميركي بيتر كورنوول الذي سبقت الإشارة إليه. فقد حضر إلى البحرين في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي وقام بالتنقيب في المدافن التلية واكتشف أن معظم هذه القبور قد تم السطو عليها منذ القدم فلم يسلم قبر واحد منها من جرائم العبث.
لقد بدأ الاهتمام بآثار البحرين بوصول أول بعثة للآثار يقودها علماء أثار دنماركيون قاموا بالتنقيب في موقع قلعة البحرين وكشفوا معبد باربار و قد لقوا كل تشجيع من قبل حكومة البحرين. بعد الدنماركيين توالت بعثات التنقيب من فرنسية وبريطانية وعربية وهندية ويابانية وغيرها. و تشارك إدارة الآثار بدور فعال في هذا المضمار وتشرف على عمليات التنقيب والترميم.
كما أن الاهتمام بالآثار من قبل الدولة تجسد في إقامة العديد من المتاحف التي من بين مهامها الحفاظ على تراثنا الأثري وعرضه للجمهور. كذلك لا بد من ذكر جهود جمعية تاريخ وآثار البحرين وهي من جمعيات المجتمع المدني وإن كانت تلقى الدعم من الحكومة أسوة بغيرها من الجمعيات تقوم بدور بارز بالتعريف بحضارة البحرين وآثارها من خلال أنشطتها المختلفة.
(10)و بعد، هل كانت دلمون و مركز حضارتها في البحرين هو ذلك الفردوس الذي تغنى به الشعراء الأقدمون من الأشوريين على وجه التحديد؟
ينبغي علينا أن نعترف أن طبيعة الجزيرة قبل خمسة آلاف عام كانت بالتأكيد مختلفة عما هي عليه الآن. فمن المحتمل أنها كانت جنة خضراء نضرة لتوافر المياه العذبة وغابات النخيل الكثيرة التي كانت بمثابة جنات من نخيل وأعناب تجري من تحتها المياه العذبة. ومتى ما علمنا أنه حتى عهد قريب كانت البحرين تشتهر بينابيع مياهها وعيونها العذبة وأن قراها كانت تقارب 360 قرية كما وصفها أحد ملاحي الخليج قبل أربعة قرون فقط. ومتى ما علمنا أن بكل قرية كان يوجد أكثر من مصدر واحد للمياه ما جعل الزراعة تزدهر وتصبح حرفة أهل البلاد الرئيسية إلى جانب الغوص إلى اللؤلؤ وارتياد البحر. لذلك كانت بالفعل جنة للناظرين. ولعل مبالغات الشعراء التي غذتها مخيلتهم الخصبة أدت إلى تصوير دلمون على أنها جنة الله في أرضه.
على أية حال، ربما كانت هذه جنة وقد فقدت بسبب عوامل الطبيعة والتصحر وجور الإنسان وجشعه مما ساعد على إندثار هذه الجنة وفقدانها.
عزاؤنا أن هذه الجنة لا تزال ماثلة في ذاكرتنا وستبقى جنة عدن رمزاً لأرض دلمون خالدة متى ما بقي نفر من أبنائها يتغنون بها ويعتقدون أنها كانت بالفعل جنة الله في أرضه.
إعداد/ أمانى إسماعيل
ساحة النقاش