هُروب ..

                            قصة قصيرة
                        د.علي أحمد جديد 
                              كنــا ثلاثتنا نركض معاً ...
كان أبي في الأمام يتقدمنا, وخلفه كانت أمي تركض على نفس مواقع خطواته .. ووراءهما تماماً كنت انا . كنا نركض هلعين في دروب المخيم الضيقة نقصد الهروب من المخيم للنجاة بأنفسنا بعد أن تحّول المخيم إلى كتلة من اللهب وبات قطعة من الجحيم المتفجر كما هو حال القطاع كله . كنا نركض لاهثين ، و الخوف يفوح من عيوننا كمارد رمادي بلون السماء المخضبة
بسحب ربيعية تتوغل نحو الأفق البعيد وتتوجه إلى البحر المتمردة أمواجه بصخبها المعهود . 
ومن هنا حيث نحن نركض كنا نرى السحب بوضوح وهي تختلط بكتل الفوسفور الأبيض المتهاوية مثل قناديل البحر القاتلة . 
كان الصباح الباكر ينشط هادئاً
تلفعنا برودته المختلطة برائحة الأرض وتلفُّ خوفنا المطل من عيوننا وهي تبحث عن درب إلى خارج المخيم الملتهب بالقذائف . 
- ألــم يكن من الأشرف لنا لو أننا بقينا في الدار مثل كثيرين غيــرنا ؟!.. 
قالت أمي ذلك وهي تلهث متابعة الركض بيني وبين أبي . 
لــم تتلق رداً على تساؤلها من أبي الذي اكتفى أن أشارلها بالسكوت دون أن يلتفت وراءه ،وكأنه يتستر بصمته ولهاثه ونحن نتابع الركض دون توقف ولا استراحة .
لما وصلنا إلى قمة الرابية المواجهة للمخيم ، توقفنا ثلاثتنا نلتقط ما نستطيع من الأنفاس . التفتنا معاً نحو المخيم فبدت البيوت قبالتنا مجتمعة إلى بعضها ومتراصة وكأنها تلوّح لنا مودِّعةً بحزن.. وبألم ..بكليهما معاً . فقط لأننا آثرنا هجرها وتركناها تتلقى القذائف الطافحة بحقد عنصري أسود ،  وتقاوم الانفجارات بصلابة وثبات.
 
 - أنا لا أجد سبباً واحداً يدفعنا إلى الهروب .. إنها ليست المرة الأولى التي نواجه القذائف فيها .. كنا نصمد رغم ضعفنا ، لكننا اليوم أقوى وهناك من يفعل كل شيء لتسليحنا وزيادة قوّتنا في الثبات و الصمود . تعالوا نرجع إلى دارنا ونواجه أقدرانا بعزيمة وإيمان .
 
عادت أمي تقول مقاومة الدموع في عينيها ، بينما كان أبي لا يشيح بنظره عن بيوت المخيم ويتأملها بألم ظاهر ، أطلق تنهيدة من أعماقه والتفَت يحثنا على متابعة الركض بحثاً عنخلاصٍ نلوذ به أو عن بعض أمانٍ مفقود .
انحدرنا نحو الجهة المقابلة من الرابية لتخفي المخيم وراءها ، وفي الأسفل كنا نقطع السهل 
المحروثة أرضه .. كنا نركض وندوس الشقوق الجديدة وهي تحتضن البذار برطوبتها . هربت 
 السحب قليلاً نحو الشرق و اندلقت من خلفها أشعة باهتة ومتكسرة من شمس خجولة . غطّت قسماً من أرض السهل الرطبة وتمطَّت أمامنا لتعتدل حرارة الطقس نحو الدفء باستحياء 
بينما تابعت النسمات الواهنة لَسع وجناتنا ببرودتها وتمسح عيوننا التي تفيض بدموع مفعمة بالخوف وبالحزن وقد تحجّرت نظراتنا سابحةً في فراغ لا حدود له ولا انتهاء وهي تبحث عن شيء من الأمان البعيد .. البعيد ، حتى ولو كان أماناً زائفاً .
كنا نهرول لاهثين إلى لا مكان ، وتعرجات السهل المحروثة أرضه حديثاً كانت مبللةً وتتيح للتربة الرطبة أن تَعلَقُ بأسفل أحذيتنا فتزيد من ثقل خطواتنا المثقلة أصلاً بعدمرغبتنا وإرادتنا الطوعية في الطوعية الهروب من المخيم ، كما تزيد من تشابك الخوف فتُفاقِمُ من ثقل هرولتنا الثقيلة .. وكأن الأرَض في تلك اللحظات تتشبث بنا وتستحلفنا أن نبقى فوق أديمها . كأنها كانت ترجونا وتتوسلنا أن ننغرس في تربتها وأن نتجذر فيها كما هي بيوتنا الصامدة في مواجهةالحقد و القذائف ، وكماهي أشجارنا بشموخها ، وعشبها الطري في تحديه لجنازير الدبابات فوقه رافضاً التخلي عن جذوره الرقيقة أو الانفصال عنها . كل ما على الأرض حولنا من بيوتٍ وزهورٍ ونبتاتٍ وأشجار .. وكل ما تحت الأرض من جذوٍر وبذوٍر كان يتمسك بنا ويستصرخنا للبقاء .. وحتى الشمس بأشعتها الواهنة
، والنسمة على وجناتنا الباردة كانت تنادينا للصمود و البقاء .. لكننا ، ابداً ، لم نكن ندرك النداء . 
حين اعتدلت الدرب أمامنا ، وصرنا على أرض جافة ، توَقَفنا نزيل ما تشبت بأحذيتنا من طين الأرض التي يئست من تلبية ندائها لنا . فجأة ، انشقت الأرض أمامنا عن سيارة جيبٍ صهيونية انتصبت في مواجهتنا . كانت أمامنا تماماً ومحركها يجأر مُنتحِباً بصوتٍ صاخبٍ يطغى على أصوات انفجارات القذائف في المخيم الذي صار بعيداً بعض الشيء . 
كان فوق الجيب الصهيونية مدفع رشاش يشرئب مُصوَّبَاً نحوناً ، ووراءه يتمترس جندي تلمودي تلتمع عيناه بحقد عميق لا قرارة له . كانوا أربعة بلباسهم العسكري على صهوة الجيب التلمودية . تجمدنا ثلاثتنا في وضعيتنا ، وتوقفت أيدينا عن إزالة الطين المتمسك بنا .. حبسنا أنفاسنا في محاولة لتخفيف تدفق الدم في عروقنا باتجاه رؤوسنا . كانت قلوبنا تخفق بشدة .. ترتعد ويعلو ضجيج نبضاتها في أسماعنا حتى تكاد تغطي على صوت جئير الجيب الصهيونية الرابضة في مواجهتنا وفي عيون جنودها نظرات تشتعل بكل ما في الكون من أحقاد.. 
نعم ، هكذا اتضح لنا !!.
ساد الصمت المريب ثقيلاً للحظات بدت وكأنها دهرٌ طويل ، ولم نكن نسمع خلالها سوى انفجارات 
نبضاتنا المتلاحقة تقرع في آذاننا . وبغتة ، فاجأنا والدي وهو يرفع كلتا يديه عالياً ويتقدّم نحو
الجنود التلموديين القابعين على متن الجيب الصهيونية أمامنا بينما يواصل محركها أنينه اللاهث دون انقطاع . كان يتوجّه نحوهم بتثاقل وببطء شديدين ، بينما وقفنا – أمي وأنا – لا نبدي 
حراكاً ، ونحاول تفسير ما يفعله أبي . كنا نراقبه بتوجسٍ وحذر ، و الخوف الكامن فينا لا تتوقف
سياطه عن جَلْدِنا دون رحمة . كان والدي يتابع خطواته نحو الجيب الصهيونية بإصرار وبتثاقل
ظاهِرَين ، ولما اقترب أطلق كلماته التي خرجت من فمه واهِنةً وجافَّةً تكاد تتكسر حروفها وتتلاشى من شدة الارتعاش . قال : 
- يـا .. ياخواجا ، نحن لا علاقة لنا بشيء .. الرَبُّ وحده يعلم ويشهد أننا قد غادرنا المخيم بثيابنا التي علينا ..
سكت قليلًا يبلع ريقه ويلتقط ما تبقى من الأنفاس ليتابع : 
- خرجنا من دارنا هناك و لا نحمل أي مال أو حتى متاع .. هه .. شوفة عيونكم .
 
قال ذلك بلهجة أقرب إلى النحيب وفيها الكثير من التوسل . كان يتباكى قاصداً وينتحب بتواصل حتى يكاد صوت انتحابه أن يطغى على عويل محرك الجيب الصهيونية . 
كانت أنفاس أبي تخرج بصعوبة ظاهرة وشديدة الوضوح ويكاد قلبه يتوقّف في صدره عن الخفقان نتيجة الرعب المفاجئ الذي تمكّن منا ثلاثتنا . وكذلك التعب المستولي عليه بعد أن صرفنا
ساعات الصباح في محاولتنا النجاة بالهروب من المخيم .
 
- توقف .. توقف حيث أنت ولا تتقدم خطوة واحدة .
صرخ الجندي التلمودي بأعلى صوته من فوق الجيب الصهيونية المنتحبة فتَسمَّرَ والدي في موضعه الذي بلغه بقدميه المقهورتين . 
عاد الجندي التلمودي يسأل والدي بلغة عربية سليمة :
 
- إلى أي ن أنتم ذاهبون ؟..
 
َعلَتْ وجهَ أبي ابتسامةٌ متزلفة تُحتَضَُر على ملامحه . كانت ابتسامته تلك أكثر من ميتة ، 
ونظراته تتنقّل زائغةً بين فوّهة الرشاش التي تحدجنا وهي موجهة إلى صدورنا ، وبين رؤوس 
النجمة الستة المطبوعة على باب الجيب الصهيونية بحِرَفيةٍ واتقان . ثم استدرك يَردُّ بطلاقةٍ وتَزلّف :
- أرض الله واسعة يا خواجا .. لقد خرجنا عائلتي وأنا بأجسادنا كما ترانا .. تركنا كل شيء هناك تحت قصفكم المجنون . تركنا الدار التي تهدمت و المتاع و الأرض .. و الروح تركناها هناك أيضاً ..
لم يستطع والدي أن يكمل كلماته وقد غلبته دموعه . سكت واستدار برأسه وعينيه نحو المخيم .. كان يتأمل الأرض المحروثة التي كانت تتشبث بنا ، ويتأمل بيوت المخيم بين الدخان و اللهب .. وتوقف بنظراته عند أشجار الزيتون المنتصبة بشموخ وهي تتصدى للريح المفعمة بدخان البارود الحاقد ، وكبرياؤها يقاوم سحابات الفوسفور الأبيض المتتابعة .
اتسعت رقعة الابتسامة الشامتة على وجه الجندي التلمودي وهو يتابع الهلع على ملامح أبي وفي لهجته المستكينة . وعاد يسأل من جديد :
 
- قل لي بصراحة , هل أنتم من تنظيم (الجهاد) ؟..
ردّ أبي باستغراب ظاهر :
- ماذا تعني بسؤالك ياخواجا؟.. 
- أعني أنكم إرهابيون من (الجهاد الإسلامي) وخرجتم بتمويه هروبكم لتنفيذ عملية إرهابية ضدنا .. 
- أقسمتُ لك بالربّ أنك مخطىء في ظنك هذا , كما أقسم أيضاً أننا لا علاقة لنا بحركة (الجهاد مطلقاً) !!
- إذاً فأنتم من (حماس) وخرجتم لتنفيذ عمل إرهابي ضدّنا ..
- كيف يمكن لأعزل مثلي أن يقوم بعملٍ ضّد دباباتٍ ومدافعَ ومجنزراتٍ تُطبِقُ على القطاع 
كله !!..
 
 ابتسم الجندي التلمودي ابتسامة صفراء لا تخفي حقدها الخبيث وقال :
 
- أخبرني بصراحة إذاً ، هل أنتم من (الجهاد) أم من (حماس) ؟.. 
- ياخواجا ، أريدك أن تعرف أننا عائلة مسيحية مستورة .. عاش آباؤنا و أجدادنا على هذه الأرض الطاهرة منذ ولادة السيد المسيح عليه وعلى أمه السلام ، وبعد مجيئكم إلى أرضنا صرنا لاجئين في مخيماتٍ على أرضنا .. فهل ترى أن المنطق يدعو إلى انضمامنا لتنظيمات إسلامية مثل (حماس) أو (الجهاد) ؟!! .. 
- انتم فلسطينيون ، ومهما كانت ديانتكم ستبقون إرهابيين تستهدفوننا بإرهابكم حتى بسكاكين المطابخ .. 
- أقسم لكم يا خواجا نحن لاعلاقة لنا بأيّ منظمة من المقاومة .. لاعلاقة لنا إلا برغيف يومنا الذي تحرموننا إياه بحِصاركم وبقذائفكم .. نحن لا نسعى إلى سلاح و لا لسكاكين ..
التفت والدي إلينا بعد قوله هذا وكأنه ينتظر تأييدنا .. كان وجهه يمتقع ويزداد اصفراره .. وكأن 
عروقه تتيبس في جسده ، كما أن نظراته لا تنفك تفشل في الوصول إلينا .. أو كأنه كان يخشى وصول نظراته إلينا حتى لانكتشف من خلالها ما يمور في صدره من مخاوف . كان ينظر نحونا ولا 
يرانا ، بل من المؤكد أنه لم يكن يرى أي شيء يواجه نظراته الميتة . أما نحيبه العميق الذي 
كان قد بدأه لحظة توجهه نحو الجيب الصهيونية فقد كان ذلك النحيب يخفت ضجيجه حتى يكاد يختفي .كان رعب والدي يُملي عليه لهجة التزلف و الاستكانة بوضوح وكأنه يخفف فيه الخوف .. كل المؤشرات التي تدل فيه على التماسك و الثبات ، والحياة ، وكذلك دمعه في مآقيه .. وحتى مسامات جلده بدت وكأنها قدتبخر الماء منها ، وكأن دمه قد ُجُفَّ في عروقه . كل ما فيه كان جافاً جفاف موتٍ خاوٍ من أي مؤشرات تدل على شيء من الحياة . كان مثل ورقة خريفية قطعت مرحلة اصفراها على غصن يحترق ويموت . 
ربما كان أبي يعاني ذلك في تلك اللحظات ، لأنه بدا أقرب إلى التقصف و الانهيار . بدا مخلوقاً
خيالياً من غير لحم يكسو عظامه ومن غير دم .
ربما كان كذلك وهو يكابد الندم على محاولته اقتلاع جذوره من أرض جدّه وأبيه حين ظن أنه سينجح في إمكانية حمايتنا بالهروب و الاعتماد على سراب غير حقيقي وليس له وجود . 
تابع يقول :
 
- ياخواجا ، نحن إنما نحاول النجاة بأنفسنا من هذا الجحيم المحيط بنا ، ولم يتبق من عائلتي التي كانت عشيرة كبيرة سوى أنا وزوجتي هذه .. وابننا الذي تراه معنا .. 
ثلاثة من أولادي كانوا يعملون بالصيد ، وقضوا معاً حين استهدفتم مركبهم بصواريخكم . لقد خرجنا من المخيم وحدنا ورفض الباقون الخروج معنا .. رفضوا الهروب مثلنا وأصروا على البقاء هناك رغم أنهم يبيتون الليل في العراء خوفاً من قذائفكم التي لم تترك شيئاً قائماً على أصوله .. لم تترك البيوت ، و لا المدارس .. وحتى الكنائس و المساجد لم توفرها قذائف طائراتكم الأمريكية . كل شيء بات خراباً ومهدماً ، ولم تتركوا مكاناً يصلح للجوء . وكذلك هي المقابر هناك ، بات حالها حال غيرها ولم تعد آمنة من القذائف و لاتصلح للجوء الأحياء إليها .. ولا لاحتواء الأموات فيها .. 
قهقه الجندي التلمودي بزهوٍّ وتفاخر وهو يقول :
- لن نضيّع الوقت في ترهات كهذه . ولأنكم لا تحملون سلاحاً تهددون به ولا سكيناً ، فإننا سنمنحكم فرصة الاختيار .. 
- وماذا سأختار ؟!.. 
- أنت ، أم زوجتك .. أم هذا الصبي . وأنت صاحب القرار . 
وضع أبي يده على صدره وكأنه يبحث عن خفقات قلبه . حاول أن يقول شيئاً ، فلم تسعفه الكلمات . ضرب بيده على صدره فوق موقع القلب مرة .. وثانية .. وثالثة فانطلقت الكلمات من فمه بذعرٍ واضح وهو يقول : 
- ماذا تقصد يا خواجا ؟ .. 
- أقصد أن تختار واحداً منكم نبقيه على قيد الحياة . أنت ، أم زوجتك .. أم ابنكم هذا ؟..
انهارت ركبتا أبي الهزيلتان أصلاً ، وَخرَّ جاثياً على ركبتيه فوق  الأرض وهو يرسم إشارة الصليب على صدره يستنجد الرَبَّ بطلب الخلاص ، بينما أمسكت أمي برأسي تشدُّني إلى صدرها وتحتضنني بقوة لم أستطع التفريق فيما إذا كانت تقصد حمايتي من بطش التلموديين أم انها لا تريد 
الموت منفصلة عني !!. 
كنت أصغي إلى ضجيج ضربات قلبها تتلاحق في صدرها بوضوح .. ويداها ثابتتان حول رأسي تشدّانه بقّوة محاولة أن تُنفِذَني إلى داخل صدرها . عاد صوت أبي بلهجة فيها من الموت ما يفوق الموت نفسه .. كان توسله واضحاً وهو يقول :
- يا خواجا أستحلفكم بكل غالٍ وعزيز عليكم أن تتركونا نمضي بسلام .. لقد أخبرتكم أننا قد تخلّينا عن كل شيء هناك للنجاة بأنفسنا ..
قاطعه الجندي التلمودي مَزهوّاً بتوسلات والدي وانكساره :
- إنني أعطيك فرصة للإبقاء على واحد منكم ، وإذا تلكأت في الاختيار فلن تبقى هذه الفرصة 
طويلاً ..
وبينما كان أبي جاثياً يواصل انتخابه وتوسلاته وهم يقهقهون على متن الجيب الصهيونية
انتفضت أمي تُبعدني عنها لتنطلق نحو أبي كصاعقةٍ مفاجِئة ولتمسك به وتُنهِضَه بقوّةٍ ماعَهِدتُها فيها من قبل وهي تصيح بالجنود التلموديين بصوتها المجلجل كالرعد : 
- اسمع يا هذا أنت ومَن معك في هذه العربة الحقيرة .. لقد واجهنا حقدكم سبعين عاماً ، ونواجه قذائفكم القاتلة كل يوم ، بل كل لحظة ، ولن تخيفنا هذه الدمى التي في أيديكم الآن .. لن ترهبنا أسلحتكم ولا أسلحة من يدعم أحقادكم .. إما أن تقتلونا ثلاثتنا معاً ، أو تتركونا نمضي في طريقنا كما خرجنا مجتمعين من دارنا ..
لقد عشنا معاً , وغادرنا المخيم معاً
فلا تظنوا أن الموت سيفرِّق بيننا لأننا سنموت هنا معا .. أو سنكمل ماتبقى لنا من العمر معاً ..
ثم توجهت بكلامها إلى أبي الذي بدأ يتماسك ليقف بصلابة من جديد وهي تقول بثقةٍ وإباء : 
 
- إثبت واقفاً كما عرفتك دائماً ، وإذا كان الموت مكتوباً لنا في هذه اللحظة فلن نموتَ إلا ونحن واقفين معاً ، وأنفاسنا هذه لن يستطيع أحد أن يوقفها في صدورنا سوى الربّ الذي
نفخها فينا ..
 
هبط من الجيب الصهيونية تلمودي مدجج بحقده وبسلاحه وراح يصفق بكفيه 
وهو يقول :
 
- رائع .. رائع جداً ولم يسبق لي أن شاهدت كأدائك على خشبات أرقى المسارح ..
ردّت أمي بإصرار :
- نحن نعيش حياتنا بتحدياتها الواقعية .. نواجه الموت ونواجه كل شيء مواجهة حقيقية دون تزييف أو تمثيل كما تفعلون .. 
وضع الجندي يده على كتف أمي وحاول أن يتحسس ظهرها وهو يقول :
 
- وأنا أواجه الآن امرأة تزخر بأنوثة متفجرة رغم التعب و الإعياء الظاهرين عليها , ولابدّ لها من شباب يُشبِعون تعطشها ويطفئون اشتعالها ..
انتفضت أمي تبتعد عنه وهي تنهره باحتقار وتصيح :
 
- أيها اليهودي القذر ..
 
استجمع والدي قواه من جديد وانقضَّ عليه يكيل له اللكمات و الشتائم ، فترجّل تلموديان آخران من الجيب الصهيونية وهرعا يضربان أبي بعقبيّ بندقياتهما على رأسه وعلى ظهره ، وهو يزيد من قوّة لكماته في وجه الجندي التلمودي تحته حتى أدماه من فمه وأنفه .
خارت قوى والدي تحت ضربات التلموديين فانهار مستلقياً على ظهره . فانطلقت بدوري نحو الجنود المتجمعين على ضرب أبي ورحت أضربهم بقبضتيّ و أنا أبكي وأصرخ بكل قوّتي . حاولت أن أدافع عن أبي وأن أُسهِمَ معه في حماية أمي ، وأدركت أن صراخي 
وبكائي كانا أقوى من كل الضربات التي وجهتها إليهم . 
فاجأتنا طلقاتٌ من مسدس قائد الجيب الصهيونية الذي مازال يقبع في المقعد الأمامي فتوقف الجنود التلموديين مبتعدين عن أبي وهم يلهثون كأفاعٍ سامَّةٍ تفحُّ بحقدٍ مُبين . توجّه قائدهم يقول لنا : 
- سوف نترككم ترحلون معاً ولن نتعّرض لأحدٍ منكم ..
والتفتَ إلى أمي وهو يتابع قوله : 
- سترحلين مع زوجك وابنك الآن . ولكن كوني على ثقة أيتها القطة المتنمرة أن الأيام القادمة ستجعلكم تندمون لأننا لم نقتلكم اليوم . نحن الآن نحاصركم كما ترون ، وعندما نأتي إليكم ستكتشفون بأننا لا نلهو أبداً .. وحينها ستتمنون الموت ولن تنالوه .
قالت أمي وهي تساعد أبي على النهوض : 
- أعرف أننا سنلاقيكم مجدداً ، وأن اللقاء سيكون الأخير بيننا ..
سنواجهكم كما نواجه قذائفكم اليوم .. وستجدون أننا بانتظاركم بقصار سكاكيننا وبقبضاتنا وبصدور شبابنا العارية ولن تجدونا مثلكم فئران الملاجئ . سنسترد أرضنا ونُطهّر كنائسنا وأولها (كنيسة
القيامة) وكل مساجدنا ومعابدنا بدءاً من (المسجد الأقصى) الذي سنطهره من رجسكم ومن أحقادكم ، وسترجع (القدس) بوابة السماء معمَّدةً بالدماء وخالية من احتلالكم البغيض . 
- مهلاً .. مهلاً .. لعلك لا تعلمين أن هذه الأرض لنا وأن الربَّ وَعدَنا بها .. لأننا نحن شعب الربّ
المختار .. 
- لأن هذه أرض الرسالات السماوية ترفضكم وترفض وجودكم . عمّرها أجدادنا وزرعها أباؤنا فإنها ستعود لنا .. 
- لن تعود إلا لنا كما وعَدَ الربُّ شعبَه بها ..
- ستعود لنا ، لأننا أصحابها منذ التكوين .. 
- لن تعود .. 
- بل ستعود .. 
- لن .. 
- بل ..
 
احتد غاضباً وصاح بأعلى صوته :
- اغربوا عن وجهي ، وإذا كنتم ما تزالون هنا خلال دقيقتين فلن أوفّر أحدَكم من طلقاتي ..
وأطلق رشقةً من رصاص بندقيته في الهواء . فتوجّهنا عائدين إلى المخيم من جديد .. وبرغم ما نالنا من التعب ومن الضرب و الإعياء كنا نركض بخفّةٍ .. وبرشاقة . لم يكن الخوف يدفعنا هذه المرة ، بل كانت فرحتنا بالعودة إلى الدار و 
الأرض .. و الأحباب . 
وكان الجنود التلموديون يواصلون إطلاق رصاصهم في الهواء وكأنهم يُبعِدون الخوفَ الذيكان يلاحقنا قبل أن نراهم ، وأطبق عليهم حيث لا ملجأ يحميهم من براثنه التي تتربص بهم في قبضات المقاومين ، بينما نحن نهرول دون أدنى شعور بالتعب . 
كان شوقنا يدفعنا إلى الدار بين شموخ أشجار الزيتون والسرو و الليمون وهي تتصدى لحقد قذائفهم دون خوفٍ وبكل صمود .

المصدر: د.علي أحمد جديد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 208 مشاهدة
نشرت فى 17 يناير 2024 بواسطة Arabauthors

الإتحاد الدولي للمؤلفين العرب

Arabauthors
الإتحاد الدولي للمؤلفين العرب مجلة للمؤلفين والكتاب والشعراء مجلة للسلام والتسامح واحترام الآخر *** رئيس مجلس ادارة الاتحاد/ دكتورة/ سابرينا »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

45,868