كثر في الآونة الأخيرة الدعوات التي تصدر هنا وهناك بالعودة إلى قراءة النصوص كما كان سابقا، والمعتمدة على ما سار عليه الأقدمون من بيان للمعنى والحكم عليه، أو قل إن شئت الدقة على المناهج المستقاة من التراث العربي المجيد ، تجد قبولا بين أوساط المبدعين العرب أو على أدق تقدير بين ثلة منهم أمام ثلة أخرى عارضت ذلك وبشدة تارة وبلين أخرى .
وكلٌ يسوق أدلته التي تعتمد مرة على الحس القومي أمام الشعور بالغربة وضياع الهوية ( كما يرون ) وأخرى على الاعتزاز بالتراث ورؤيته المثال الذي يجب الاحتذاء به ، وعليه فإن خرجت القراءة للنص عن تلك المناهج فإنما يعني ذلك خروجا على الشرعية المكتسبة من عبق التراث والهوية ، بل واعتبار ذلك تشويه للنص والخروج بمسار المعنى عن مساره الحقيقي ، وإن شئت قلت إلباس المعنى قبعة بدلا من غطاء للرأس .
وقد يبدو ذلك صحيحا إلى حد ما إذا كنا نقصد من العملية النقدية تصويب مسار النص والمبدع معا ، وبالتالي فرض ما يسمى بالوصاية على النص والمبدع معا ، حيث يصبح للناقد الحق ليس في إبداء الرأي بل فيما يجب فعله وما لا يجب ، حتى يصل بالنص إلى حد الكمال ، نقول قد يبدو ذلك صحيحا ( مع الاحتفاظ بحق رفض هذا المعنى للنقد ) مع القصيدة التقليدية العمودية لكون النص يحمل أسسا جمالية تبيح ذلك ،حيث أنها تعبر عن موضوع معروف مسبق وله سقفه ومعانيه التي يمكن أن نصل إلى صواب أو خطأ المبدع في التعبير عن المعنى أو لا ، بجانب دوران النقد في حدود معنى الفحص والتدقيق .
إلا أن هذا أيضا لا يجوز لنا التسليم به وعدم مساسه، وخاصة مع الشعر المعاصر حيث تبدل الأسس من جهة ومن جهة أخرى تبدل الموضوع كمحرض جمالي إلى ما يسمى شعر التجربة وبالتالي مما يعني تحول الاستراتيجيات المعبرة عن المعنى ، حيث أن العملية النقدية أصبحت بالفعل الآن عملية إبداعية ثانية للنص الأصلي ( وهذا ما استقر عليه ) ولا يتوقف عند حدود كشف المعنى بل اتجه إلى ما يسمى إنتاج معنى لم ينتبه إليه المبدع ذاته اللهم ما دفعته إلى ذلك الحالة اللاشعور للعملية الإبداعية الأولى للنص .
لذا فإن حدود النقد تبعا إلى ذلك تقف عند حدود طرح الأسئلة والتي تلمح ولا تصرح ، وبالتالي لا تفرض وصايا ولا تحدد ما ينبغي على الأديب أو الشاعر قوله وما لا ينبغي ، والتي لا تتوقف عند حد القراءة الأفقية للعمل أو الرأسية بل على الربط بينهما ، ليس احتراما لرؤية المبدع الأصلي للنص وحرية الإبداع فقط بل لاحتمالية الوصول للمعنى في فترات لاحقة وبمناهج نقدية أخرى وليظل النص مفتوحا أمام القراءات فالحكم يعني الغلق والانتهاء إلى قناعة قد تتغير بتغير المفاهيم والمقاييس ، كما أنه يعني امتلاك الحقيقة المطلقة ، وهذا يتنافى مع المنطق .
ويبدو أن هناك تناسيا أو إهمالا للتغيير الذي طرأ ولا نقول التطور ( حيث أن التطور يعني التحول وبالتالي الأفضلية بين القديم والجديد وبين العمودية والتفعيلة وما بعد الحداثة ) نقول التغيير الذي طرأ على الأسس الجمالية للفن عموما والأدب والشعر خصوصا ،والتي تجعل من المناهج النقدية التراثية بالنسبة للشعر المعاصر غير مجدية ، بل إن محاولة تطويع النص المعاصر لهذه المناهج يشبه كمن يحاول أن يقرأ نصا باللغة الإنجليزية بقواعد اللغة العربية ، فليس غريبا إذن أن يبدو النص مبهما وليس غامضا غير ذي قيمة بل وعبثي ( ليس بمفهوم العبثية الفلسفية لكامي أو سارتر ) أو هو لغو من الكلام ، وبالتالي الخروج بالنص عن مساره الصحيح ودفن المعنى وتآكله وعليه فلا تفسير للنص على الوجهة الصحيحة ما يجعله يخالف الروح العربية الأصلية بالرغم من كون منتجه عربي الروح والهوى ولغته عربية فصيحة .
إذا ما الذي يمكن أن نقوله بعد هذه المقدمة الطويلة ؟ إن الذي نحاول أن نقدمه في هذه الكلمات أننا بهذه الدعوات إنما نفصل الأدب عن الحياة ونغرّب النص لا عن لغته وانتمائه بل عن واقعه وبيئته وبالتالي فإنما نحن نغيّب الأدب .
وإن كان الأمر كذلك ، فهل يعني طرح القديم والاتجاه لأوربة الأدب ، أو الاعتماد على المناهج الغربية ؟.
بالطبع لا ، لأننا في هذه الحالة نخاطب الوعي العربي بما لا يملكه ، وهذا لا يعني قصورا في الوعي العربي ، وإنما لكل وعي أسسه وحالته النفسية في قبول هذا أو رفض ذاك .
وهذا بالطبع ما يجعلنا نلقي باللائمة على الاتجاه الآخر ، والذي يأخذ بالنظرية الغربية ،ويطبقها كما هي ، وكأن النظرية قد باتت هدفا لا وسيلة ، وكأن الاتجاهين قد اشتركا في تقديس ما يقدمه من حيث عدم الميل إلى التطوير للنظرية للملاءمة ، وكأن الاتجاهين قد اشتركا أيضا في العقلية الاستهلاكية ، والتي تسيطر على أوجه الحياة العربية عموما والثقافية خصوصا ، حيث أصبحت الحياة العربية مستهلكة غير منتجة ومشاركة في الحضارة الإنسانية ، والرسائل والبحوث الزاخرة بها مكتبات الجامعات شاهدة على ذلك ، بل والكتب النقدية التنظيرية أو التطبيقية والتي اقتصر دورها على الشرح للقديم أو نقل الغربي الجديد دون الخروج من كل ذلك برؤية جديدة لنظرية منبثقة عن الوعي بما قدمته .
والغريب في الأمر أن العقلية الغربية لا تجد غضاضة ( برغم تقدمها ) في الأخذ من أي مصدر طالما يخدم تطورها وحتى وقتنا هذا ، والدليل على ذلك هؤلاء العلماء العظام العرب والذين يحملون الفكر العربي والثقافة الشرقية والعربية بامتياز ، لا تجد غضاضة في أن تأخذ من هذا أو ذاك لتشكل وعيها الجمالي ولكن حينما تفعل ذلك فإنما تفعله بوعي وبعد أن تجعله قاعدة انطلاق لرؤاها هي ، فهي حينما تفعل ذلك تفعله انطلاقا من الثقة بالهوية والعقل وليس من عقلية واهية ضعيفة مترددة .
فقد طرحت تقديس القديم وجعلته تراثا يجب الحفاظ عليه من جهة ومن جهة أخرى تجاوزته فهو قابل للنقاش والتعديل والتطور ليكون أكثر ملاءمة ومواءمة لعصرها ونمط حياتها .
فهل من المقبول أنك تجد وأنت محلق في الفضاء وقد بلغت أوج التقدم العلمي من يحدثك عن وقفته أمام الأطلال وتأوهاته للحبيبة وللفراق مثلما كان يفعل الأجداد حيث قمة الرجولة والفروسية أن تكون شديدا في ملاقاة العدو متهالكا أمام محبوبتك وكأنك عدت لتصبح عنترة وهي عبلة أو أنك قيس الذي جن ، نحن نحترم هؤلاء ولكننا لسنا هم ، هم قد عبروا عن رؤاهم ومبادئهم وحياتهم وملامحها وأعرافها وعلينا أن نفعل مثلما فعلوا ولكن بما يعبر عنا لا عنهم ، أو من يجعل همه الأوحد المبالغة في التراكيب والعبارات دون النظر لا في استراتيجية المعالجة أو الرؤى المطروحة .
وهل من المقبول اعتبار العمل عملا رائعا لمجرد أنه يدعو للقيم أو المثل العليا فيحول الوعظ وكأنه أقصوصة أو الخطبة قصيدة عصماء وبغض النظر عن مستواه الفني وانسياقه واعتماده على الأساليب القديمة بل والعبارات التي سار عليها الأقدمون منذ قرون خلت ولم يكلف نفسه عناء التطوير أو التعبير عن الذات .
وعلى الضفة الأخرى يجب الاعتراف أن التنظير للشعر الحديث لم يبلغ حد النضج والاستقرار ، بحيث أننا نجد أن المصطلحات النقدية مثلا مازالت متضاربة حد التضاد ولعل مصطلح الحداثة مثالا واضحا والذي بلغ تعريفاته ما يقرب من العشرين تعريفا حتى وصف بالمصطلح المراوغ ، مثالا آخر لتعريف الشعر ذاته حيث أنه كلام موزون مقفى على ظاهر التعريف ولم يقدم تعريفا آخر يواكب ما طرأ على الشعر من تغيير فإن سألت أحد الحداثيين ما الشعر لم يقدم لك تعريفا بل رفضا للتعريف المذكور آنفا ، فلا الذي رفضه قدم البديل أو حاول معرفة لماذا الإصرار على الوزن والقافية دون غيره من مظاهر الشعر وما دلالة ذلك ولا الذي قبله حاول تطوير تفسيره فلم يسأل لم وصف بالكلام ولم نصفه بالألفاظ مثلا ، وكلاهما توقف مفهوم الشعر عنده بحدود القصيدة مهملا المتلقي وبالتالي لم يتطور مفهوم الشعر ووقف عند حد تعريف العلامة النقدي قدامة بن جعفر .
إن الأمر أكبر من أن يناقش في بضع كلمات هنا أو هناك لأنه متعدد الأوجه والزوايا وحسبنا التساؤل والطرح للتفعيل وإعادة التفكير والنظر في أمور يمكن لها أن تنتج وجها جديدا للأدب بشقيه الإبداعي الأول والنقدي أو الإبداعي الثاني شريطة أن نمتلك الوعي المواكب لعصرنا والمعبر عنا لا عن الغرب أو القدماء من الأجداد وكذلك يعكس الهوية الواثقة لا الهوية المترددة الضعيفة الخائفة وإن كان هذا الضعف وذلك التردد هو الانعكاس الحقيقي للحياة العربية الآن فلعل الأدب يكون المدخل لتغيير ذلك كله ، وأخير نعود للتساؤل المطروح أصلا بعد هذه المرور السريع ،هل نغرّب النص أم نغيّبه ؟ أعتقد أننا في كلا الحالتين نغيبه
المصدر: المقال : تغريبٌ أم تغييبٌ للنص ؟!! للشاعر / هشام مصطفى
تعليق للدكتور / مصطفى عطية جمعة
نشرت فى 6 أغسطس 2011
بواسطة Alhafedh
عدد زيارات الموقع
41,482
ساحة النقاش