اولا مقدمة 
نشأة المماليك 
مقدمة
تعتبر فترة حكم المماليك من الفترات التاريخية المجهولة عند كثير من المسلمين، بل عند كثير من مثقفي المسلمين، وذلك قد يكون راجعاً لعدة عوامل.. ولعل من أهم هذه العوامل أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت كانت قد تفرقت تفرقاً كبيراً، حتى كثرت جداً الإمارات والدويلات، وصغر حجمها إلى الدرجة التي كانت فيها بعض الإمارات لا تتعدى مدينة واحدة فقط!!.. وبالتالي فدراسة هذه الفترة تحتاج إلى مجهود ضخم لمتابعة الأحوال في العديد من الأقطار الإسلامية.
ومن العوامل التي أدت إلى جهل المسلمين بهذه الفترة أيضاً: كثرة الولاة والسلاطين في دولة المماليك ذاتها، ويكفي أن نشير إلى أن دولة المماليك الأولى ـ والمعروفة باسم دولة المماليك البحرية (وسنأتي إلى تعريف ذلك الاسم لاحقاً إن شاء الله) ـ حكمت حوالي 144 سنة، وفي خلال هذه الفترة حكم 29 سلطانًا!.. وذلك يعني أن متوسط حكم السلطان لم يكن يتعدى خمس سنوات.. وإن كان بعضهم قد حكم فترات طويلة، فإن الكثير منهم قد حكم عاماً أو عامين فقط!.. أضف إلى ذلك كثرة الانقلابات والاضطرابات العسكرية في فترة حكم المماليك، فقد قتل من الـسلاطين التسعة والعشرون عشرة، وخُلع اثنا عشر!!.. وهكذا كانت القوة والسلاح هي وسيلة التغيير الرئيسية للسلاطين، وسارت البلاد على القاعدة التي وضعها أحد سلاطين الدولة الأيوبية (قبل المماليك) وهو السلطان "العادل الأيوبي"، والتي تقول: "الحكم لمن غلب"!!..
ولعل من أهم أسباب عدم معرفة كثيرين بدولة المماليك هو تزوير التاريخ الإسلامي، والذي تولى كبره المستشرقون وأتباعهم من المسلمين المفتونين بهم, والذين شوهوا تاريخ المماليك لإنجازاتهم المشرقة والهامة؛ والتي كان منها: وقوفهم سداً منيعاً لصد قوتين عاتيتين من قوى الشر التي حاولت هدم صرح الإسلام، وهما التتار والصليبيون، وكان للمماليك جهاد مستمر ضد هاتين القوتين، وعلى مراحل مختلفة، وظلت دولة المماليك تحمل راية الإسلام في الأرض قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تسلمت الخلافة العثمانية القوية راية المسلمين..
وأنا لست في هذا الكتاب بصدد الشرح والتفصيل لأخبار دولة المماليك، فإن هذا يطول البحث فيه، ولكني سأفرد إن شاء الله كتابين كاملين سأشرح فيهما بالتفصيل نشأة المماليك، وقصة دولتهم وجهادهم..
أما الكتاب الأول فسيكون عن الحروب الصليبية، وسأتحدث فيه إن شاء الله عن تاريخ الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، ودور آل زنكي، ثم الدولة الأيوبية، ثم نشأة المماليك، ودورهم في صد هذه الحملات الصليبية..
وأما الكتاب الثاني فسيكون عن دولة المماليك ذاتها من البداية إلى النهاية..
لكني في هذا الفصل سأحاول أن أمر باختصار شديد على الأحداث التي أدت إلى ظهور دولة المماليك، والتي كانت تحكم مصر في الوقت الذي وصل فيه التتار إلى الشام، وذلك خلال اجتياحهم للعالم الإسلامي..




الدولة الأيوبية

لكي نفهم هذه الفترة بوضوح لابد من العودة إلى الوراء قليلاً لمتابعة الأحداث من بدايتها..
لقد أسَّسَ البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي دولة الأيوبيين في سنة 569 هجرية، وظل يحكم هذه الدولة عشرين سنة إلى سنة 589 هجرية، ووحد في هذه الفترة مصر والشام، وتزعم الجهاد ضد الممالك الصليبية باقتدار، وحقق عليهم انتصارات هائلة، والتي من أشهرها موقعة حطين الخالدة في ربيع الثاني سنة 583 هجرية، وفتح بيت المقدس بعد حطين بثلاثة شهور فقط في رجب من نفس السنة، وترك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله دولة قوية عظيمة تبسط سيطرتها على مصر والشام والحجاز واليمن وأعالي العراق وأجزاء من تركيا وأجزاء من ليبيا والنوبة.. وحُصر الصليبيون في ساحل ضيق على البحر الأبيض المتوسط في الشام.
لكن ـ سبحان الله ـ بوفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تقلص دور الجهاد ضد الصليبيين، وفُتن المسلمون بالدولة الكبيرة، وكثرت الأموال، وانفتحت الدنيا، واتسعت البلاد، وكان من جراء هذه العوامل وغيرها أن حدثت انقسامات شديدة في الدولة الأيوبية، وتفككت الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله..
ولسنا بصدد التفصيل في هذه الخلافات والصراعات والاستقلالات، فسنفصل فيها إن شاء الله عند الحديث عن الحملات الصليبية في كتاب الحروب الصليبية، ولكن نذكر هنا أن الصراع بين أمراء الأيوبيين استمر نحو ستين سنة متصلة منذ موت صلاح الدين الأيوبي في سنة 589 هجرية، وإلى انتهاء الدولة الأيوبية في سنة 648 هجرية، ولم يكن هذا الصراعُ صراعَ كلام وسباب وشقاق فقط.. بل كان يصل إلى حد التقاتل بالسيوف، وإراقة الدماء المسلمة، وأدى ذلك بالطبع إلى الفُرقة الشديدة، والتشرذم المقيت.. بل كان يصل أحياناً الخلاف وانعدام الرؤية إلى درجة التعاون مع الصليبيين ضد المسلمين!! أو التعاون مع التتار ضد المسلمين!! وكل هذا من جراء الوقوع تحت فتنة الدنيا الرهيبة التي طالما حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
روى ابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة"..
صدقت ـ والله ـ يا رسول الله..
لقد جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الجهاد نصب عينيه، وجعل له هدفاً واحداً هو قتال الصليبيين، وإعلاء كلمة الدين، فجمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا ـ فعلاً ـ وهي راغمة..
أما معظم السلاطين الذين جاءوا من بعده فقد جعلوا الدنيا أكبر همهم، فتفرق عليهم الأمر تماماً، فما عادوا يدركون الصواب من الخطأ، ولا الحق من الباطل، فتارة مع المسلمين، وتارة مع الصليبيين، وتارة مع التتار، فجعل الله عز وجل فقرهم بين أعينهم، فمنهم من مات ذليلاً، ومنهم من مات فقيراً، ومنهم من مات طريداً، ومنهم من مات حبيساً..
كان هذا هو واقع المسلمين في معظم الفترة التي تلت حكم البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي رحمه الله..

عز الدين أيبك
وضعت شجرة الدرّ كل هذه الأمور في ذهنها، ومن ثم اختارت رجلاً من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات، والهدوء النسبي، وكلها صفات حميدة في نظر شجرة الدر، فوجدت في هذا الرجل ضالتها.. وكان هذا الرجل هو "عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي".. وهو من المماليك الصالحية البحرية.. أي من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ولم تختر شجرة الدرّ رجلاً من المماليك الأقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس، وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع..
وبالفعل تزوجت شجرة الدرّ من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم كما رسمت، وذلك بعد أن حكمت البلاد ثمانين يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثاني من نفس السنة.. سنة 648 هجرية.. وهكذا في غضون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك.. وهم الملك الصالح أيوب رحمه الله ثم مات، فتولى توران شاه ابنه ثم قتل، فتولت شجرة الدرّ ثم تنازلت، فتولى عزّ الدين أيبك التركماني الصالحي!..
وتلقب عزّ الدين أيبك "بالملك المعز"، وأخذت له البيعة في مصر..
وكأن الله سبحانه - بهذه الأحداث – أراد أن يمهّد عقول المصريين لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم..
وقبل الشعب في مصر بالوضع الجديد.. فهو ـ وإن لم يكن مثالياً في رأيهم ـ إلا أنه أفضل حالاً من تولي امرأة، كما أن البديل من الأيوبيين في مصر غير موجود، والبديل من الأيوبيين في الشام غير موجود أيضاً؛ فأمراء الأيوبيين في الشام كانوا في غاية الضعف والسوء والعمالة والخيانة.. وقد مرّ بنا قبل ذلك تخاذلهم وتعاونهم مع التتار، وكذلك تخاذلهم وتعاونهم مع الصليبيين..
واستقر الوضع نسبياً في مصر بزعامة عزّ الدين أيبك، والذي يعتبر أول حاكم مملوكي في مصر، وإن كان بعض المؤرخين يعتبر أن شجرة الدرّ هي أولى المماليك في حكم مصر لأنها أصلاً مملوكة أو جارية.
وبدأت شجرة الدرّ تحكم من وراء الستار ـ كما أرادت ـ، وهي مؤيدة بالمماليك القوية، وخاصة ـ كما ذكرنا ـ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس..
ولكن يبدو أن ذكاء شجرة الدرّ قد خانها عند اختيار ذلك الرجل؛ فالملك المعز عزّ الدين أيبك لم يكن بالضعف الذي تخيلته شجرة الدرّ ولا المماليك البحرية، فقد أدرك الملك الجديد من أول لحظة مرامي الملكة المتنازلة عن العرش، وعرف خطورة إخوانه من المماليك البحرية في مصر وقوتهم، فبدأ يرتب أوراقه من جديد، ولكن في حذر شديد..
كان الملك المعز عزّ الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدرّ ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه، ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوة مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً بالولاء، وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكوّن ما يعرف في التاريخ "بالمماليك المعزية" نسبة إليه (المعز عز الدين أيبك)، ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله، وأقوى فرسانه، وأعظم أمرائه مطلقاً وهو "سيف الدين قطز" رحمه الله..
وكان هذا هو أول ظهور تاريخي للبطل الإسلامي الشهير: سيف الدين قطز، فكان يشغل مركز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.. وسيأتي إن شاء الله حديث قريب عن قطز رحمه الله وعن أصله..
ومع أن الملك المعز عزّ الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور شديد.. أما هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدرّ التي لا تريد أن تعامله كملك بل "كصورة ملك".. وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس الآن على عرش مصر، ويُلقب بالملك.. أما هم فيلقبون بالمماليك.. وشتان!!..
لكن الملك الذكي المعز عزّ الدين أيبك لم يُستفز مبكراً.. بل ظل هادئاً يعد عدته في رزانة، ويكثر من مماليكه في صمت..
ومرت الأيام، وحدث أن تجمعت قوى الأمراء الأيوبيين الشاميين لغزو مصر، وذلك لاسترداد حكم الأيوبيين بها.. وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة.. والتقى معهم الملك المعز عزّ الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى "العباسية" وهي تقع على بعد حوالي عشرين كيلومترًا شرقي الزقازيق الآن، وذلك في العاشر من ذي القعدة سنة 648 هجرية، أي بعد أربعة شهور فقط من حكمه، وانتصر الملك المعز عزّ الدين أيبك على خصومه انتصاراً كبيراً، ولا شك أن هذا الانتصار رفع أسهمه عند الشعب المصري، وثبت من أقدامه على العرش..
وفي سنة 651 هجرية (بعد 3 سنوات من حكم أيبك) حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله ـ وهذه نقطة تحسب له ـ للإصلاح بين الطرفين، وكان من جراء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شمالاً تحت حكم مصر، فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عزّ الدين أيبك على مصر، والخليفة العباسي ـ وإن كان ضعيفاً، وليست له سلطة فعلية ـ إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية هامة..

بين أيبك وأقطاي
كل هذه الأحداث مكنت الملك المعز عزّ الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر، ومن ثم زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبخاصةٍ فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها.. فكما يقول "المقريزي" في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك": "لقد بالغ فارس الدين أقطاي في احتقار أيبك والاستهانة به، بحيث كان يناديه باسمه مجرداً من أي ألقاب"، وهذا يعكس اعتقاد فارس الدين أقطاي أن هذا الملك صورة لا قيمة لها، وتخيل قائد الجيش ينادي الملك هكذا: يا أيبك.. ولا يناديه هكذا صداقة بل احتقاراً..
هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية ـ وقد يكون الشعب ـ ينظرون إليه على أنه مجرد "زوج" للملكة المتحكمة في الدولة.. هذا جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي ليضمن الأمان لنفسه، وليثبت قوته للجميع.. وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته..
انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى الأميرات الأيوبيات، فأدرك أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماءً واضحاً للأسرة الأيوبية التي حكمت مصر قرابة ثمانين سنة، وإذا كانت شجرة الدرّ حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي مصر لكونه زوجاً لأميرة أيوبية، فضلاً عن قوته وبأسه وتاريخه وقيادته للجيش في موقعة المنصورة الفاصلة؟!..
هنا شعر الملك المعز عزّ الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، والانقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقاً من إهانة واحتقار، وما يفعله الآن من زواج بالأميرة الأيوبية ما هو إلا مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم، ومن ثم أصدر أيبك أوامره "بقتل" زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.. لأنه "ينوي" الانقلاب!!!..
وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية، وتم ذلك في 3 شعبان سنة 652 هجرية..
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته، ويبرز كلمته، وبدأ دور الزوجة شجرة الدرّ يقل ويضمحل؛ فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة، وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت الأوضاع في بلده، فرضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام الأيوبيون بالصلح..
وبقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين متنافرين: المماليك البحرية الذين يدينون بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عزّ الدين أيبك..
وحيث إن فارس الدين أقطاي نفسه ـ وهو أكبر المماليك البحرية قدراً، وأعظمهم هيبة ـ قد قُتل، فاحتمال قتل بقية زعماء المماليك البحرية أصبح قريباً.. وبات المماليك البحرية في توجس وريبة.. وما استطاعت زعيمتهم شجرة الدرّ أن تفعل لهم شيئاً، وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفاً من الملك المعز عز الدين أيبك، وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق، ودخل ركن الدين بيبرس في طاعته..
وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وإن كان العداء بينه وبين المماليك البحرية قد خرج من مرحلة الشكوك والتوقعات وأصبح معلناً وصريحاً، و من جديد توسط الخليفة العباسي المستعصم بالله ليضمن استقرار الأوضاع في مصر والشام، لأن انضمام المماليك البحرية إلى الأمراء الأيوبيين بالشام قد يشعل نار الفتنة من جديد بين مصر والشام، ونجحت وساطة الخليفة العباسي، واتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين التي كانت تابعة للملك المعز، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس ـ زعيم المماليك البحرية الآن بعد قتل فارس الدين أقطاي ـ آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف الأيوبي..

شجرة الدرّ تحترق!!
مرت السنوات، والملك المعز عزّ الدين أيبك مستقر في عرشه، وقد أصبح قائده سيف الدين قطز قائداً بارزاً معروفاً عند الخاصة والعامة، واختفي تقريباً دور الزوجة الملكة القديمة شجرة الدر، وهذا كله ولاشك جعل الحقد يغلي في قلب شجرة الدر، ولا شك أن عزّ الدين أيبك كان يبادلها الشعور بالكراهية، فهو يعلم أنها ما تزوجته إلا لتحكم مصر من خلاله، ولكن أحياناً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!..
وجاءت سنة 655 هجرية وقد مرت7 سنوات كاملة على حكم الملك المعز عز الدين أيبك، وأراد الملك المعز أن يثبت أقدامه على العرش بصورة أكبر، بل وتزايدت أطماعه جداً في المناطق المجاورة له في فلسطين والشام، ولم تكن له طاقة على تنفيذ أحلامه بمفرده، فأراد أن يقيم حلفاً مع أحد الأمراء الكبار في المنطقة ليساعده في ذلك، ولما كانت الخيانة في العهود أمراً طبيعياً في تلك الآونة، فإنه أراد أن يوثق الحلف برباط غليظ وهو...... الزواج!!..
واختار الملك المعز عزّ الدين أيبك بنت حاكم الموصل الأمير الخائن "بدر الدين لؤلؤ"، والذي تحدثنا عنه كثيراً، وعن تعاونه المقزز مع التتار..
وعلمت شجرة الدرّ بهذا الأمر فاشتعلت الغيرة في قلبها.. وركبها الهم والغم، وعلمت أنه لو تم هذا الزواج الجديد فستطوى صفحتها تماماً من التاريخ، وأعْمَتها الكراهية عن حسن تقدير الأمور، وهي التي اشتهرت بالحكمة، فلم تقدّر أن زعماء المماليك البحرية قد اختفوا، وأن القوة الحقيقية الآن في أيدي المماليك المعزّية الذين يدينون بالولاء والطاعة للملك المعز عز الدين أيبك.. لم تقدّر كل ذلك، وقررت بعاطفة المرأة أن تقدم على خطوة غير مدروسة، ولكنها مألوفة لديها، فقد فعلتها قبل ذلك مع توران شاه ابن زوجها السابق، وهي ستفعلها الآن مع زوجها الحالي.. وهذه الخطوة هي: قتل الزوج الملك المعز: عزّ الدين أيبك.. فليُقتل وليكن ما يكون!.. هكذا فكرت شجرة الدر!!..
وبالفعل دبرت مؤامرة لئيمة لقتل زوجها الملك، وتم تنفيذ المؤامرة فعلاً في قصرها في شهر ربيع الأول سنة655 هجرية، ولينتهي بذلك حكم المعز عزّ الدين أيبك بعد سبع سنوات من الجلوس على عرش مصر، وهكذا تكون شجرة الدرّ قد قتلت اثنين من سلاطين مصر: توران شاه ثم عز الدين أيبك..
وعلم الجميع بجريمة القتل، وأسرع سيف الدين قطز قائد الجيش والذراع اليمنى للمعز عز الدين أيبك، ومعه ابن عزّ الدين أيبك من زوجته الأولى وكان اسمه نور الدين علي.. أسرعا ومعهما فرقة من المماليك المعزية، وألقيا القبض على شجرة الدرّ..
وطلبت أمّ نور الدين علي وزوجة المعز عزّ الدين أيبك الأولى أن يترك لها الأمر في التصرف مع ضرتها شجرة الدرّ، وكانت النهاية المأساوية المشهورة، أن أمرت أمّ نور الدين جواريها أن تُقتل الملكة السابقة "ضرباً بالقباقيب"!!!..
ولعل هذا هو حادث القتل الوحيد في القصة الذي له خلفية شرعية مقبولة، فقد قتلت شجرة الدرّ عزّ الدين أيبك دون مبرر معقول.. فليس الزواج من امرأة أخرى جريمة، وليس الانفراد بالحكم دون الانصياع لحكم الزوجة جريمة، ولذلك فليس لديها مسوغ شرعي للقتل فكان لابد أن تُقتل.. ولكن المؤكد أن الطريقة التي قتلت بها لم تكن طريقة شرعية.. بل كانت طريقة نسائية بحتة.. لم يقصد منها القتل فقط، بل قصد منها الإهانة والتحقير والذل، على نحو ما فُعل بالخليفة المستعصم بعد ذلك عند سقوط بغداد عندما قتل رفساً بالأقدام!..
وهذه نهايات خاصة جداً يكتبها الله عز وجل لبعض الملوك ممن لم يرع حق الله وحق الشعوب في الدنيا!!..
وبعد مقتل الملك المعز عزّ الدين أيبك ثم مقتل شجرة الدرّ بويع لابن عزّ الدين أيبك وهو نور الدين علي، والذي لم يكن قد بلغ بعد الخامسة عشر من عمره، وهذه مخالفة كبيرة جداً ولا شك، ولكن لعله قد وُضع في هذا التوقيت لكي يوقف النزاع المتوقع بين زعماء المماليك على الحكم.. وتلقب السلطان الصغير بلقب "المنصور"، وتولى الوصاية الكاملة عليه أقوى الرجال في مصر في ذلك الوقت وهو سيف الدين قطز قائد الجيش، وزعيم المماليك المعزّية، وأكثر الناس ولاءً للملك السابق المعزّ عزّ الدين أيبك.. وكانت هذه البيعة لهذا السلطان الطفل في ربيع الأول من سنة 655 هجرية..
وأصبح الحاكم الفعلي لمصر هو .... سيف الدين قطز رحمه الله..

من هو سيف الدين قطز؟
سيف الدين قطز هو واحد من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين.. اسمه الأصلي "محمود بن ممدود"، وهو من بيت مسلم ملكي أصيل.. وسبحان الله!!.. كم هي صغيرة تلك الدنيا!!.. فقطز رحمه الله هو ابن أخت جلال الدين الخوارزمي!!!.. وجلال الدين هو ملك الخوارزميين المشهور، والذي تحدثنا عنه كثيراً في أوائل هذا الكتاب، والذي قاوم التتار فترة وانتصر عليهم، ثم هُزم منهم، وفرّ إلى الهند، وعند فراره إلى الهند أمسك التتار بأسرته فقتلوا معظمهم، واسترقوا بعضهم، وكان محمود بن ممدود أحد أولئك الذين استرقهم التتار، وأطلقوا عليه اسماً مغولياً هو "قطز"، وهي كلمة تعني "الكلب الشرس"، ويبدو أنه كانت تبدو عليه من صغره علامات القوة والبأس، ثم باعه التتار بعد ذلك في أسواق الرقيق في دمشق، واشتراه أحد الأيوبيين، وجاء به إلى مصر، ثم انتقل من سيد إلى غيره، حتى وصل في النهاية إلى الملك المعز عزّ الدين أيبك ليصبح أكبر قواده كما رأينا..
ولعلنا نلحظ بوضوح في قصة قطز التدبير العجيب لرب العالمين سبحانه.. فالتتار مكروا بالمسلمين واسترقّوا أحد أطفالهم وباعوه بأنفسهم في دمشق.. ليباع بعد ذلك من واحد إلى واحد ليصل إلى بلد لم يرها قبل ذلك، ولعله لم يكن يسمح بها في هذه السن الصغيرة.. ليصبح في النهاية ملكًا عليها, وتكون نهاية التتار الذين قاموا بنقله من أقاصي بلاد المسلمين إلى مصر على يديه هو بالتحديد!!! وسبحان الذي يدبر بلطف, ويمكر بحكمة, ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. "ومكروا مكرًا, ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون"..
نشأ قطز رحمه الله ـ كبقية المماليك ـ على التربية الدينية القويمة، وتشبع بالحمية الإسلامية القوية، وتدرب منذ صغره على فنون الفروسية، وأساليب القتال، وأنواع الإدارة، وطرق القيادة.. فنشأ شاباً فتياً أبياً محباً للدين معظماً له.. وكان رحمه الله قوياً صبوراً جلداً.. كل هذا بالإضافة إلى أنه وُلد في بيت ملكي، فكانت طفولته طفولة الأمراء، وهذا أعطاه ثقة كبيرة في نفسه، فهو لم يكن غريباً على أمور القيادة والإدارة والحكم، وفوق كل هذا فإن أسرته قد هلكت تحت أقدام التتار، وهذا ـ ولا شك ـ جعله يفقه جيداً مأساة التتار.. وليس من رأى كمن سمع..
كل هذه العوامل مجتمعة صنعت من قطز رجلاً ذا طراز خاص جداً.. يستهين بالشدائد، ولا يرهب أعداءه، وذلك مهما كثرت أعدادهم، أو تفوقت قوتهم..
لقد كان للتربية الإسلامية العسكرية، والتربية على الثقة بالله، والثقة بالدين، والثقة بالنفس أثر كبير في حياة قطز رحمه الله..
نعود إلى الوضع في مصر..
لقد قتل الملك المعز عز الدين أيبك، ثم قتلت بعده زوجته شجرة الدر، ثم تولى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وتولى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير..
وكما أحدث صعود شجرة الدرّ إلى كرسي الحكم قبل ذلك اضطرابات كثيرة في مصر والعالم الإسلامي، فكذلك أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسي الحكم نفس الاضطرابات، وكانت أكثر الاضطرابات تأتي من قبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وتزعم أحد هؤلاء المماليك البحرية ـ واسمه "سنجر الحلبي" ـ الثورة، وكان يرغب في الحكم لنفسه بعد مقتل عز الدين أيبك، فاضطر قطز إلى القبض عليه وحبسه.. كذلك قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام، وذلك ليلحقوا بزعمائهم الذين فروا قبل ذلك إلى هناك أيام الملك المعزّ، ولما وصل المماليك البحرية إلى الشام شجعوا الأمراء الأيوبيين على غزو مصر، واستجاب لهم بالفعل بعض هؤلاء الأمراء، ومنهم "مغيث الدين عمر" أمير الكرك (بالأردن حالياً) الذي تقدم بجيشه لغزو مصر! وكان أميراً ضعيفاً جداً، ومع ذلك كان صاحب أطماع أكبر كثيراً من حجمه!.. ووصل مغيث الدين بالفعل بجيشه إلى مصر، وخرج له قطز فصدّه عن دخول مصر، وذلك في ذي القعدة من سنة 655 هجرية، ثم عاد مغيث الدين تراوده الأحلام لغزو مصر من جديد، ولكن صدّه قطز مرة أخرى في ربيع الآخر سنة 656 هجرية..
ومن الجدير بالذكر أن هذه المرة الأخيرة التي حاول فيها المغيث عمر الأيوبي أن يغزو مصر كانت - كما أشرت ـ في شهر ربيع الآخر سنة 656 هجرية، أي بعد سقوط "بغداد" عاصمة الخلافة الإسلامية بأقلّ من شهرين فقط!!.. فبدلاً من توجيه كل الطاقة إلى قضية التتار إذا به يتوجه لحرب المسلمين!! إنه مرض الحَوَل السياسي الذي كان منتشرًا في تلك الأيام وفي أي زمان يبتعد المسلمون فيه عن ربهم!
سقطت بغداد ـ كما مرّ بنا ـ في صفر سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في الإعداد لغزو الشام، وحاصر ابنه أشموط ميافارقين بداية من رجب سنة 656 هجرية، وبدأ هولاكو في التحرك من فارس إلى الشام مروراً بشمال العراق في سنة 657 هجرية، واحتل نصيبين والرها وإلبيرة، واقترب من حلب.. وأصبح واضحاً أن هولاكو لن يهدأ حتى يسقط الشام بكامله، وبعد الشام لابد أن تكون الخطوة التالية هي مصر..
وقطز رحمه الله - وإن كان يدير الأمور فعلياً في مصر ـ لكن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يضعف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلاً.
وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين.. في ضوء كل ذلك لم يجد قطز رحمه الله أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل "نور الدين علي" على كرسي أهم دولة في المنطقة، وهي مصر، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها..
هنا اتخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، واعتلاء قطز بنفسه عرش مصر، ولم يكن القرار غريباً؛ فقطز هو الحاكم الفعلي للبلاد، والجميع - بمن فيهم السلطان الطفل نفسه - يدركون ذلك تمام الإدراك، ولكن هناك صورة هزلية مضحكة يتحرك قطز من خلفها، وهي صورة السلطان الطفل، فما كان من قطز إلا أن رفع هذه الصورة الهزلية ليظهر من ورائها الأسد الهصور الذي على يديه ستتغير معالم الأرض، وتتغير جغرافية العالم، وتتغير كثيرٌ من صفحات التاريخ..
حدث هذا الأمر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام.. ومنذ أن صعد قطز رحمه الله إلى كرسي الحكم وهو يعدّ العدّة للقاء التتار..
وستحدث أحداث جسام على أرض مصر..
وسيُنتهج نهج جديد على ذلك الزمن..
وستُرفع رايات جديدة ما رُفِعت منذ أمد..
وستُجهز جيوش ما جُهّزت منذ أزمان طويلة..
وسيكون اليوم الذي لا يشبهه من أيام الزمان إلا قليل..
كيف سيحدث كل ذلك؟!!
هذا حديث يطول شرحه، وهو موضوع الفصل القادم... "الإعداد لعين جالوت!"..

الملك الصالح نجم الدين أيوب
في هذه الصفحات سأقفز بكم خمسين سنة من الصراع، وأصل بكم إلى السنوات العشر الأخيرة من الدولة الأيوبية، وبالتحديد إلى سنة 637 هجرية، وذلك حين تولى عرش مصر السلطان الأيوبي "الصالح نجم الدين أيوب" أو "الملك الصالح"، والذي يعد من أفضل السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين لا يعرفون شيئاً عن هذا السلطان العظيم حتى في مصر، والتي كانت مقر حكمه الرئيسي..
تولى الملك الصالح أيوب حكم مصر سنة 637 هجرية، وكالعادة الجارية في تلك الأيام استعدّ الأمراء الأيوبيون في الشام للتقاتل معه على خلافة مصر.. وحدثت بينهم مناوشات وحروب، ووصل الأمر إلى مداه في سنة 641 هجرية عندما توحدت قوى الأيوبيين المتناثرة في الشام، وتحالفت مع الصليبيين لحرب الملك الصالح أيوب!!.. وذلك في مقابل أن يتنازل أمراء الشام الأيوبيون عن بيت المقدس للصليبيين!!!..
والحق أن المرء لا يستطيع أن يتخيل كيف قبل أولئك الأمراء أن يتنازلوا عن بيت المقدس للنصارى، والمسلم الصادق لا يتخيل التفريط في أي بقعة إسلامية مهما صغرت، فكيف ببيت المقدس خاصة، والذي به ـ كما يعرف الجميع ـ المسجد الأقصى، والذي حرَّرَهُ جدهم البطل صلاح الدين رحمه الله من أيدي الصليبيين، وأريقت في سبيل تحريره دماء كثيرة، ومرت على المسلمين فترات عصيبة، وحروب مريرة.. لكن - سبحان الله ـ هذا ما حدث بالفعل!..
وتوحدت قوى أمراء الشام الأيوبيين مع الصليبيين في جيش كبير، وبدأ الزحف في اتجاه مصر.. وهنا أعد الملك الصالح جيشه، ووضع على قيادته أكفأ قادته وهو ركن الدين بيبرس، واستعد للمواجهة.. وكان الجيش المصري قليلاً وضعيفاً إذا قورن بالأعداد الكبيرة لجيوش الشام والصليبيين، ولذلك استعان الملك الصالح بالجنود الخوارزمية الذين كانوا قد فروا من قبل من منطقة خوارزم بعد الاجتياح التتري لها، والذي فصلنا فيه في الصفحات السابقة..
وكان هؤلاء الجنود الخوارزمية جنوداً مرتزقة بمعنى الكلمة.. بمعنى أنهم يتعاونون مع من يدفع أكثر، ويعرضون خدماتهم العسكرية في مقابل المال، فاستعان بهم الملك الصالح أيوب بالأجرة، ودارت موقعة كبيرة بين جيش الملك الصالح أيوب وبين قوى التحالف الأيوبية الصليبية، وعرفت هذه الموقعة باسم موقعة غزة، وكانت في سنة 642 هجرية، وكانت هذه الموقعة قد وقعت بالقرب من مدينة غزة الفلسطينية ـ نسأل الله عز وجل أن يحررها، وأن يحرر كامل فلسطين إن شاء الله ـ وانتصر فيها الملك الصالح انتصاراً باهراً، وقُتل من الصليبيين أعداد كبيرة وصلت إلى ثلاثين ألف مقاتل، وأسرت مجموعة كبيرة من أمرائهم وملوكهم، وكذلك أسرت مجموعة من أمراء الأيوبيين، واستغل الصالح أيوب الفرصة واتجه إلى بيت المقدس الذي كان الأيوبيون في الشام قد تنازلوا عنه للصليبيين، فاقتحم حصون الصليبيين، وحرّر المدينة المباركة بجيشه المدعم بالخوارزمية في سنة 643 هجرية، وبذلك حُرّر بيت المقدس نهائياً، ولم يستطع جيش نصراني أن يدخله أبداً لمدة سبعة قرون كاملة، إلى أن دخلته الجيوش البريطانية في الحرب العالمية الأولى في يوم 16 نوفمبر سنة 1917 ميلادية، وذلك بالخيانة المعروفة لمصطفي كمال أتاتورك.. نسأل الله أن يعيده من جديد إلى الإسلام والمسلمين..
ثم إن الملك الصالح أيوب أكمل طريقه في اتجاه الشمال، ودخل دمشق، ووحّد مصر والشام من جديد، بل اتجه إلى تحرير بعض المدن الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الصليبية، فحرر بالفعل طبرية وعسقلان وغيرهما..
غير أنه حدث تطور خطير جداً في جيش الصالح أيوب رحمه الله، حيث انشقت عن جيشه فرقة الخوارزمية المأجورة!.. وذلك بعد أن استمالها أحد الأمراء الأيوبيين بالشام مقابل دفع مال أكثر من المال الذي يدفعه لهم الصالح أيوب، ولم تكتف هذه الفرقة بالخروج، بل حاربت الصالح أيوب نفسه، ولم يثبت معه في هذه الحرب إلا جيشه الأساسي الذي أتى به من مصر، وعلى رأسه قائده المحنك ركن الدين بيبرس..
وخرج الصالح أيوب من هذه الحرب المؤسفة وقد أدرك أنه لابد أن يعتمد على الجيش الذي يدين له بالولاء لشخصه لا لماله.. فبدأ في الاعتماد على طائفة جديدة من الجنود بدلاً من الخوارزمية.. وكانت هذه الطائفة هي: "المماليك"..
.
من هم المماليك؟
المماليك في اللغة العربية هم العبيد أو الرقيق، وبخاصة هم الذين سُبُوا ولم يُسب آباؤهم ولا أمهاتهم.. ومفرد المماليك مملوك، وهو العبد الذي يباع ويشترى.. (العبد الذي سُبِي أبواه يعرف بالعبد القن وليس المملوك(..
ومع أن لفظ المماليك بهذا التعريف يعتبر عاماً على معظم الرقيق، إلا أنه اتخذ مدلولاً اصطلاحياً خاصاً في التاريخ الإسلامي، وذلك منذ أيام الخليفة العباسي المشهور "المأمون"، والذي حكم من سنة 198 هجرية إلى 218 هجرية، وأخيه "المعتصم" الذي حكم من سنة 218 هجرية إلى 227 هجرية.. ففي فترة حكم هذين الخليفتين استجلبا أعداداً ضخمة من الرقيق عن طريق الشراء من أسواق النخاسة، واستخدموهم كفرق عسكرية بهدف الاعتماد عليهم في تدعيم نفوذهما..
وبذلك ـ ومع مرور الوقت ـ أصبح المماليك هم الأداة العسكرية الرئيسية ـ وأحياناً الوحيدة ـ في كثير من البلاد الإسلامية.. وكان أمراء الدولة الأيوبية بوجه خاص يعتمدون على المماليك الذين يمتلكونهم في تدعيم قوتهم، ويستخدمونهم في حروبهم، لكن كانت أعدادهم محدودة إلى حد ما، إلى أن جاء الملك الصالح أيوب، وحدثت فتنة خروج الخوارزمية من جيشه، فاضطر رحمه الله إلى الإكثار من المماليك، حتى يقوي جيشه ويعتمد عليهم، وبذلك تزايدت أعداد المماليك جداً، وخاصة في مصر..
مصادر المماليك:
كان المصدر الرئيسي للمماليك إما بالأسر في الحروب، أو الشراء من أسواق النخاسة.. ومن أكثر المناطق التي كان يجلب منها المماليك بلاد ما وراء النهر، (النهر المقصود هو نهر جيحون، وهو الذي يجري شمال تركمنستان وأفغانستان، ويفصل بينهما وبين أوزبكستان وطاجكستان)، وكانت الأعراق التي تعيش خلف هذا النهر أعراق تركية في الأغلب، وكانت هذه المناطق مسرحاً دائماً للقتال وعدم الاستقرار، ولذلك كثر الأسرى القادمون من هذه المناطق، وكثرت أسواق الرقيق هناك، ومن أشهر مدن الرقيق في ذلك الوقت كانت "سمرقند" و"فرغانة" و"خوارزم" وغيرها.. لذلك كان الأصل التركي هو الغالب على المماليك، وإن كان لا يمنع أن هناك مماليك من أصول أرمينية ومن أصول مغولية، كما كان هناك مماليك من أصول أوروبية، وكان هؤلاء الأوربيون يعرفون بالصقالبة، وكانوا يستقدمون من شرق أوروبا بوجه خاص..
كل هذا كان يحدث على مدار عشرات أو مئات السنين، ولكن الأمر الذي استحدثه الملك الصالح أيوب ـ وتبعه بعد ذلك سلاطين دولة المماليك ـ أنه كان لا يأتي إلا بالمماليك الصغار في السن، أي في مرحلة الطفولة المبكرة، وكان غالبهم من بلاد غير مسلمة، وإن كان يحدث أحياناً أن يؤسر بعض الأطفال المسلمين غير الناطقين بالعربية، فلا يُعرفون، ولا يُعرف أصلهم أو دينهم، فيعاملون معاملة الرقيق..
تربية المماليك:
وكان الصالح أيوب ـ ومن تبعه من الأمراء ـ لا يتعاملون مع المماليك كرقيق.. بل على العكس من ذلك تماماً.. فقد كانوا يقربونهم جداً منهم لدرجة تكاد تقترب من درجة أبنائهم.. ولم تكن الرابطة التي تربط بين المالك والمملوك هي رابطة السيد والعبد أبداً، بل رابطة المعلم والتلميذ، أو رابطة الأب والابن، أو رابطة كبير العائلة وأبناء عائلته.. وهذه كلها روابط تعتمد على الحب في الأساس، لا على القهر أو المادة.. حتى إنهم كانوا يطلقون على السيد الذي يشتريهم لقب "الأستاذ" وليس لقب "السيد"..
ويشرح لنا المقريزي رحمه الله كيف كان يتربى المملوك الصغير الذي يُشترى وهو ما زال في طفولته المبكرة، فيقول:
"إن أول المراحل في حياة المملوك هي أن يتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، ثم بعد ذلك يُدفع إلي من يعلمه القرآن الكريم، ثم يبدأ في تعلم مبادئ الفقه الإسلامي، وآداب الشريعة الإسلامية.. ويُهتم جداً بتدريبه على الصلاة، وكذلك على الأذكار النبوية، ويُراقب المملوك مراقبة شديدة من مؤدبيه ومعلميه، فإذا ارتكب خطأً يمس الآداب الإسلامية نُبه إلى ذلك، ثم عوقب"..
لهذه التربية المتميزة كان أطفال المماليك ينشئون عادة وهم يعظمون أمر الدين الإسلامي جدًا، وتتكون لديهم خلفية واسعة جداً عن الفقه الإسلامي، وتظل مكانة العلم والعلماء عالية جداً جداً عند المماليك طيلة حياتهم، وهذا ما يفسر النهضة العلمية الراقية التي حدثت في زمان المماليك، وكيف كانوا يقدرون العلماء حتى ولو خالفوهم في الرأي.. ولذلك ظهر في زمان دولة المماليك الكثير من علماء المسلمين الأفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام والنووي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وابن حجر العسقلاني وابن كثير والمقريزي وابن جماعة وابن قدامة المقدسي رحمهم الله جميعاً، وظهرت أيضاً غيرهم أعداد هائلة من العلماء يصعب جداً حصرهم..
ثم إذا وصل المملوك بعد ذلك إلى سن البلوغ جاء معلمو الفروسية ومدربو القتال فيعلمونهم فنون الحرب والقتال وركوب الخيل والرمي بالسهام والضرب بالسيوف، حتى يصلوا إلى مستويات عالية جداً في المهارة القتالية، والقوة البدنية، والقدرة على تحمل المشاق والصعاب..
ثم يتدربون بعد ذلك على أمور القيادة والإدارة ووضع الخطط الحربية، وحل المشكلات العسكرية، والتصرف في الأمور الصعبة، فينشأ المملوك وهو متفوق تماماً في المجال العسكري والإداري، وذلك بالإضافة إلى حمية دينية كبيرة، وغيرة إسلامية واضحة.. وهذا كله - بلا شك - كان يثبت أقدام المماليك تماماً في أرض القتال..
وكل ما سبق يشير إلى دور من أعظم أدوار المربين والآباء والدعاة، وهو الاهتمام الدقيق بالنشء الصغير، فهو عادة ما يكون سهل التشكيل، ليس في عقله أفكار منحرفة، ولا عقائد فاسدة، كما أنه يتمتع بالحمية والقوة والنشاط، وكل ذلك يؤهله لتأدية الواجبات الصعبة والمهام الضخمة على أفضل ما يكون الأداء..
وفي كل هذه المراحل من التربية كان السيد الذي اشتراهم يتابع كل هذه الخطوات بدقة، بل أحياناً كان السلطان الصالح أيوب - رحمه الله - يطمئن بنفسه على طعامهم وشرابهم وراحتهم، وكان كثيراً ما يجلس للأكل معهم، ويكثر من التبسط إليهم، وكان المماليك يحبونه حباً كبيراً حقيقياً، ويدينون له بالولاء التام..
وهكذا دائماً.. إذا كان القائد يخالط شعبه، ويشعر بهم، ويفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويتألم لألمهم، فإنهم - ولاشك - يحبونه ويعظمونه، ولا شك أيضاً أنهم يثقون به، وإذا أمرهم بجهاد استجابوا سريعاً، وإذا كلفهم أمراً تسابقوا لتنفيذه، وبذلوا أرواحهم لتحقيقه.. أما إذا كان القائد في حالة انفصال عن شعبه، وكان يعيش حياته المترفة بعيداً عن رعيته.. يتمتع بكل ملذات الحياة وهم في كدحهم يعانون ويتألمون، فإنهم لا يشعرون ناحيته بأي انتماء.. بل إنهم قد يفقدون الانتماء إلى أوطانهم نفسها.. ويصبح الإصلاح والبناء في هذه الحالة ضرباً من المستحيل..
وكان المملوك إذا أظهر نبوغاً عسكرياً ودينياً فإنه يترقى في المناصب من رتبة إلى رتبة، فيصبح هو قائداً لغيره من المماليك، ثم إذا نبغ أكثر أعطي بعض الإقطاعات في الدولة فيمتلكها، فتدر عليه أرباحاً وفيرة، وقد يُعطى إقطاعات كبيرة، بل قد يصل إلى درجة أمير، وهم أمراء الأقاليم المختلفة، وأمراء الفرق في الجيش وهكذا..
وكان المماليك في الاسم ينتسبون عادة إلى السيد الذي اشتراهم.. فالمماليك الذين اشتراهم الملك الصالح يعرفون بالصالحية، والذين اشتراهم الملك الكامل يعرفون بالكاملية وهكذا..
وقد زاد عدد المماليك الصالحية، وقوي نفوذهم وشأنهم في عهد الملك الصالح أيوب، حتى بنى لنفسه قصراً على النيل، وبنى للمماليك قلعة إلى جواره تماماً.. وكان القصر والقلعة في منطقة الروضة بالقاهرة، وكان النيل يعرف بالبحر، ولذلك اشتهرت تسمية المماليك الصالحية "بالمماليك البحرية" (لأنهم يسكنون بجوار البحر) .
وهكذا وطد الملك الصالح أيوب ملكه بالاستعانة بالمماليك الذين وصلوا إلى أرقى المناصب في جيشه وفي دولته، وتولى قيادة الجيش في عهده أحد المماليك البارزين اسمه "فارس الدين أقطاي"، وكان الذي يليه في الدرجة هو ركن الدين بيبرس، فهما بذلك من المماليك البحرية..

 

 

AlaaMarei

Alaa Marei Export Logistics Section Head

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 595 مشاهدة
نشرت فى 13 إبريل 2012 بواسطة AlaaMarei

Alaa Marei

AlaaMarei
دراسه اللوجستيك والتجا ره الخا رجيه والتصدير والاستيراد والجما رك والامداد والتموين »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,048,155