إن الأخلاق تُعتبر من أهم القيم المعنوية في الحياة، ومن أهم المقومات الحضارية، بل ومن أهم الأسس الإنسانية للنجاح الإجتماعي لأن النفوس جُبلت على حب من أحسن إليها وبُغض من أساء إليها، وأوضحت جميع الديانات السماوية أن الله سبحانه وتعالى أمر كل الناس بالإمتثال لأوامر أنبيائهم، فقال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، فخطاب الله سبحانه وتعالى لعباده من خلال أنبيائه هو الفيصل في الحكم على الجيد والسيئ، الحسن والقبيح، المباح والمحرم.

 

لقد جاء كل دين من عند الله ليكون نظام حياة نافذ في الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي، لا ليبقى مجرد شعور عاطفي متمركز في الضمير، ولا حتى مجرد شعائر تعبدية أسيرة لدور العبادة، هكذا هي التوراة، يقول الله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء)، وهكذا هو الإنجيل، يقول الله تعالى: (وقفّينا على ءاثارهم بعيسى ابن مريم مصدّقا لما بين يديه من التوراة وءاتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدّقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين، وقد إعتبر القرآن الكريم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم عوامل نجاحه، قال الله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يُحب المتوكلين) فالأخلاق من أهم عوامل النجاح الإجتماعي فما من مصلح أو قائد أو زعيم أو عظيم أو أي إنسان  إلا كانت الأخلاق من صفاته الرئيسية، فلا يستطيع أحد أن يؤثر على الآخرين إلا إذا كان ذا أخلاق رفيعة.

 

فالأخلاق هي شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تُعتبر مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين، وهي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخُلق الحسن من أعمال القلوب وصفاتها وأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلق يكون قلبياً ويكون في الظاهر.

 

أما أخلاقيات الإدارة فهي مجموعة من القواعد والأسس التي يجب على المهني التمسك بها والعمل بمقتضاها، ليكون ناجحاً في تعامله مع الناس، ناجحاً في مهنته ما دام قادراً على إكتساب ثقة عملائه والمتعاملين معه من رؤساء ومرؤوسين.

 

ولكن للأسف يَظن الكثير منا أن العمل والإدارة لا علاقة لها بالأخلاق، إذن فأين تكون الأخلاق؟ إن لم يكن العمل مرتبط بالأخلاق فأين نلتزم بالأخلاق؟ هل الأخلاق هي شيء نَلتزم به في المساجد ودور العباده فقط؟ كيف تكون أميناً إن لم تكن أمينا في عملك؟ هل يقال عنك أنك صادق إن كنت صادقاً مع أهلك وأصدقائك وكذاباً في عملك؟ ألا يقال لمن يغش في البيع أنه غشَّاش؟ ألا يقال لمن يُطفف في الكيل والميزان بأنه من المُطففين؟  وهناك من يعتقد أنه من السَذَاجة أن نتحدث عن الأخلاقيات في مجال العمل والتجارة ويستشهد على ذلك بمقولة: هذا عمل وتجاره وكل شئ مباح فيها  أهذا منطق للتفكير.

 

وكأنه يريد أن يقول أن التجارة والعمل هما في مفهوم الأجانب لا علاقة لهما بالأخلاق وبالعواطف كذلك، وفي الحقيقة فإن هذا خلاف الواقع ففي الجامعات الأجنبية تهتم بتدريس مادة تتعلق بأخلاقيات العمل والإدارة لدارسي الإدارة بل وفي التخصصات الأخرى مثل الهندسة والطب، فالأخلاق في الإدارة هي أمر مطلوب في العالم المتقدم بل وأي مخالفة لذلك تقابل بإستهجان كبير من الشخص العادي.. ويوجد في اللغة الإنجليزية مصطلح يسمى بـ Good Manners Right Conduct والذي يعني التصرف الصحيح بالسلوك الصحيح، أي لا يكفي أن تقوم بالعمل بالطريقة الصحيحة، بل يجب أن يكون سلوكك في تأدية هذا العمل صحيح أيضاً.

 

أحيانا ننظر إلى الأمور في إطار ضيِّق فنقول: يا أخي هذا أمر بسيط ولا توجد مشكلة من التلاعب فيه، في الواقع فإن أي مخالفة أخلاقية صغيرة تؤدي إلى مشاكل كبيرة، على سبيل المثال إن التلاعب في رقمٍ واحد في تقرير يومي يؤدي إلى تغير متوسط هذا الرقم على مستوى اليوم وعلى مستوى الشهر ويؤدي إلى أن تكون التقارير الشهرية والسنوية غير معبرة عن الحقيقة بل وتؤدي إلى فشل عمليات التحليل والتطوير لأن الأرقام لا علاقة لها بالواقع.

 

ويجب أن نعلم جميعاً بأن الإدارة لا تفترض أن الموظفين ليس لديهم أي مشاعر أو أنهم ليسوا بشراً، بل الإدارة تتعامل مع طبائع البشر وإحتياجاتهم، فكيف تستطيع تحفيز العاملين إن لم تتعامل معهم كبشر لهم إحتياجات ومشاعر؟ هل تتصور أن عدم إحترام العاملين هو شيء مقبول لأنه يأتي في إطار العمل؟ هل تتصور أنه من الصواب أن تطلب من أحد العاملين ألا يذهب لحضور جنازة أقرب أقاربه أو أن تمنعه من أن يأخذ أجازة ليعتني بابنه أو زوجته المريضة؟ إن كنت تستشهد بالأجانب فهم لا يفعلون ذلك، ألم تسمع أن رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير قام بأجازة طويلة عندما رُزق بمولود؟

 

إن العملٌ عمل.. نعم، ولكن ما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن تعطي كل ذي حق حقه فلا تجعل مشاعرك تجاه شخص ما تتحكم في قراراتك في العمل، لا تتحامل على شخص ما لأنه لا يخالف لوائح عمله لكي يُرضيك، لا تتنازل عن حقوق شركتك لكي تُجامل الآخرين، العمل يهدف للربح ولإكتساب المال ولكن من خلال إطار أخلاقي، فليس معنى العمل أن تخدع أو تخون الأمانة أو ترتشي أو تسرق أو تكذب أو تظلم أو تتلفظ بالبذيء من الأقوال أو ترتكب الشنيع من الأفعال.

 

إن أخلاقيات العمل أصبحت حاجة ملحة في مواجهة الفساد الإداري، تعبر عن المسئولية متعددة المستويات بدءاً من المسئولية الذاتية علي مستوي الفرد والمسئولية الأخلاقية في الولاء للمُثل العليا والمسئولية المهنية والمسئولية العامة ووصولا إلي المسئولية الوطنية والقومية والمسئولية الدولية.

 

إن الإدارة بالأخلاق فلسفة إدارية يتفق عليها ومعها الجميع لأنها تمثل أهم الركائز ومتطلبات العمل والتعامل الإنساني كالإستقامة والتسامح والوفاء والصدق والإخلاص والإنتماء والنجاح والعدالة والرضى وغيرها من الأخلاق والقيم النبيلة والسامية التي قامت عليها الأخلاق الإنسانية، وإن الإحتكام إلى هذه القيم يؤدي إلى الأداء والإنجاز والتميز.. وعليه يجب على الجميع العمل بروح الفريق الواحد والبحث عن هذه القيم وهي موجودة في داخلنا وما علينا إلا إيقاظها وتفجيرها والعمل بها لأن الفرد الإجتماعي والثقافي والأخلاقي القيمي يستطيع أن يساهم في حل مشكلاته ومشكلات مجتمعه وأن يساهم في حركة الإصلاح الإداري وإعداد وتهيئة أسس سلوكية ترصد أفعال الناس في حياتهم الخاصة وفي أماكن العمل بهدف الوصول والنجاح والإتصال والإرتباط والمشاركة والإندماج وإعطاء الحياة قيمة وأهمية، لذلك فإن الإدارة بالأخلاق والمثل مرساة للنجاح ونحن اليوم في أمس الحاجة لها أكثر من أي وقت مضى، لأننا نعيش مرحلة تحديثية وتطويرية جديدة ونحن بأمس الحاجة إلى القيم وإلى الرؤية التطويرية وأن من يستلمون المواقع الأمامية في المجتمع يجب عليهم أن يشكلوا عامل القدوة في ممارستهم الإدارية، فالقيم موضع إحترام من قبل الجميع وهي التي يلتقي حولها الناس كجماعات وهي تدفعهم للعمل معاً بغية الوصول إلى أهداف مشتركة، والقيم بمثابة القوة الجاذبة، وهي المنظومة التي تملك تأثيراً على الجماعات.

 

نحن أمة لا تنقصنا ولله الحمد قيم ولا مبادئ أخلاق.. نحن نفاخر بما لدينا من قيم وأخلاق رائعة وعريقة والأروع كونها محل إتفاق وإجماع وأن هذه الأخلاق والقيم هي مضمون مشروعنا التحديثي والتطويري الذي يجب أن يكون بالمستقبل القريب.. وما علينا إلا تحويلها إلى سلوك يومي في حياتنا الخاصة والعامة وفي مؤسساتنا وبيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا، وتقوية وعي كل الناس بأهميتها، وكذلك تعليمها للأجيال بالقدوة حتى تسود وتصبح هي السمة الغالبة على طبائعنا وهي إن إحتاجت فهي تحتاج إلى مزيد من الإقتداء والعمل المنظم وإلى القليل من البيروقراطية والمحسوبية والفساد والتسويف والمماطلة.

الدكتور / رمضان حسين الشيخ

خبير التطوير التنظيمي والموارد البشرية

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: الرسالة للتدريب والاستشارات
Al-Resalah

الرسالة للتدريب والاستشارات.. ((عملاؤنا هم مصدر قوتنا، لذلك نسعى دائماً إلى إبداع ما هو جديد لأن جودة العمل من أهم مصادر تميزنا المهني)). www.alresalah.co

  • Currently 37/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 3088 مشاهدة
نشرت فى 14 فبراير 2011 بواسطة Al-Resalah

ساحة النقاش

الرسـالة للتدريب والاستشارات

Al-Resalah
مؤسسة مهنية متخصصة في مجالات التدريب والإستشارات والبحوث والدراسات، وتُعتبر أحد بيوت الخبرة متعددة التخصصات في العالم العربي.. ومقر الرسالة بالقاهرة.. إن الرسالة بمراكزها المتخصصة يُسعدها التعاون مع الجميع.. فأهلاً ومرحبا بكم.. www.alresalah.co - للتواصل والإستفسارات: 00201022958171 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

2,030,625