فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

 

"رغبات ذاك الخريف" وتجليات الواقع المرير!!

فراس حج محمد/ فلسطين

صدرت رواية الكاتبة الأردنية ليلى الأطرش "رغبات ذاك الخريف" في طبعتها الأولى عام 2011، وقد حازت الرواية قبولا ورواجا بين جمهور النقاد والقراء على حد سواء، وهي بلا شك رواية كاشفة ومعرية لعصب الحقيقة ومرارة الواقع المعيش بكل مستوياته وتعدد أماكنه وأزمنته، عبر زمن روائي سبق عام 1948 بسنوات، وحتى عام 2005، فتبدأ الرواية الحديث عن نكبة فلسطين وما سبقها من أحداث، وتنتهي بنكبة عمان –إن صح هذا التعبير- والتي تمثلت بتفجير الفنادق الثلاث "راديسون ساس" و"جراند حياة" و"ديزْ إنْ" عام 2005 على أيدي عصابات لم تفصح الرواية عن انتمائهم وأيديولوجيتهم.

تتصارع على مساحة السرد الحكائي والحدث الروائي في رواية "رغبات ذاك الخريف"، شخوص تحركوا في فضاء روائي مفتوح على وجع إنساني ووجودي قاتل وأليم، شخوص روائية وحقيقية، وحيوات كثيرة هدها البؤس والتعب، أسر فلسطينية تغربت عن الوطن لتعيش مأساة اللجوء، وما عانته تلك الأسر في متاهات الغربة، وتحطم أحلامها على صخرة الواقع السياسي الذي خذلها، فلم تعد تحلم بالعودة إلى فلسطين الوطن والأمنية، بل زاد تشردها وابتعادها أكثر لتنسى الوطن في غمرة الحياة ومصاعبها.

يتناثر اليقين، ويغدو القلق والتلاشي سمة بارزة تقتل النفس وتعشش فيها الأفكار الهروبية أو الاستسلامية الماجنة، فمن هارب إلى فضاء إلكتروني موهوم ليصنع حلما متخيلا عبر محادثات التشات، إلى آخر منغمس في المباريات الرياضية أو الأغاني الماجنة والمسلسلات، وإما أن ترميه الآمال في أحضان الأحزاب الإسلامية التي تدغدغ المشاعر والعواطف عبر نصوص مؤولة، لتحقيق رغبات مكتومة في نفوس من يحرك وقودها من الشباب الباحث عن قطعة أمل يتمسك بها، وإما أن تجد ملجأها في ترهات السحرة والمشعوذين عربا وغير عرب، لنكتشف في النهاية أنها لم تكن إلا مجرد حلقات متسلسلة مفضية لانعدام الأفق لصناعة جيل قادر على التغيير.

وتلامس الرواية كذلك أحلام شباب ضائعين في أوطانهم، يحلمون بتحقيق أماني بسيطة وأحلام متواضعة، فيهجرون الوطن على أمل أن يجدوا في بلاد الغربة منافذ لتحقيق تلك الرغبات الخريفية، فيسافر أحدهم إلى فرنسا والآخر إلى أمريكا، وإذا بالواقع قد تغير، فتنتكس الآمال وتتبعثر الأحلام، فتغير حياة الغربة وأسبابها الموضوعية المستجدة مسار حياتهم، فغيث الصيدلاني الذي حلم بأن يكون عالم جينات وراثية مشهورا ينتهي تاجر عقارات، فيغنى وينسى طموحاته العلمية، فلا مكان لها في عالم تغيرت معادلاته.

وأما موسى عبد الحميد، فإنه لم يكمل حلمه بأن يصبح كوافيرا مرموقا في باريس عاصمة الأناقة والجمال، فتنتهي به الآمال إلى التجارة كذلك، بعد أن عانى الأمرين من مرارة التشرد والاختباء كالجرذان خوفا من الشرطة التي تلاحق العمال غير الشرعيين المقيمين في فرنسا، وليرتمي أخيرا في أحضان سيدة فرنسية خمسينية ذات الأربعة أبناء فيحصل على الإقامة، ويظهر للعلن، وقد دفع ثمنا باهظا أحلامه وأمانيه!!

وتتابع الرواية خيبات الأمل مع محاسن الطيرواي وزوجها الذي تزوج عليها سكرتيرته، فتبوء أحلام محاسن بالفشل الذريع تجاه رجل أحبته وباعت أهلها من أجله، ووقفت بجانبه وجعلت منه رجلا كما تقول الرواية، لتكون النهاية الطلاق البائن بينونة كبرى وكراهية مطلقة، ويزداد شقاء زوجها سامي محمود أيضا عندما تموت زوجته الثانية "عطاف"، فيعود مرغما من أجل أن يكمل مشوار الحياة ليتابع ولده وابنته، ولكن بعد أن خسر علاقته وحميميته مع زوجة أحبته حتى النخاع.

وترسم الرواية فصلا آخر للشقاء الإنساني وهذه المرة مع رجاء وزياد البستاني اللذين انتظرا يوم عيد الحب ليحتفلا معا في أجواء بيروت الرومانسية، حيث الموت لهم بالمرصاد، فيكون عبث تفجير موكب رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري قاطعا وحاسما في القضاء على أن يتبادل المحبون الهدايا، تلك الهدايا التي ظلت محبوسة في الأدراج تنتظر وقتا أجمل لترى النور، ولم يستسلما لما حدث فيقرر زياد التوجه إلى عمان لاحقا برجاء ليخطبها، فيكون نزيل فندق "غراند حياة" الذي يترنح تحت وقع تفجير آثم، فينتهي الحلم ويتبعثر مع أشلاء البشر الذين قتلوا بلا ذنب في تفجير لا يرحم.

ولعل من أكثر الحيوات شقاء إنسانيا حكاية عثمان وخديجة الزوجين السودانيين اللذين جاءا إلى عمان ليبحثا عن تحقيق حلم أن يكون لهما طفل، فتنهي الحياة وشقاؤها مسيرة الحلم على وقع التفجيرات الآثمة، فيطمعان بعد كل المعاناة من الغنيمة بالإياب، لتنتهي الرواية بجملة على لسان عثمان "كيف يمكن لطفل نحلم به أن يعيش في عالم مجنون كهذا؟"

نهاية طبيعية تنتهي بها رواية صورت بؤسا وتعاسة بشرية، متلونة الحكايات والأشخاص، ممتدة في المكان والزمان؛ ماضيا وحاضرا ومستقبلا في ظروف مختلفة، لتلتقي كلها عند نقطة ارتكاز واحدة هي: أن لا مكان لأحلام كبيرة أو صغيرة في هذا الواقع الكارثي، فالكل يفقد أحلامه وينأى عنها، وتزداد المسافة يوميا بين الشخص والحلم لينغرس أكثر في واقع أسود.

هذه هي "رغبات ذاك الخريف"، صورت الحياة بكل رغباتها، ولم تكن تلك الرغبات لتزهر، وكيف لها ذلك، وقد نبتت في صحراء الواقع في خريف ليس له آخر؟ رواية تفتش عن أمل فلا تجد له أي بارقة تلوح في الأفق، لم تجد سوى الموت لتنتهي به، فيكون الموت العبثي الكارثي الأعمى خاتمة فصول الرواية تلخيصا لحياة البشر الذين يسيرون في دهاليزها منتظرين موتهم، وقد ماتت أحلامهم وجفت خضرة أمانيهم، لا فرق عندهم إن ماتوا بمرض السرطان، أو قضوا نحبهم بالجوع أو بسبب تفجير، فلا مفر من أن يحيوا حياتهم، وليكن ما يكون!!

أبدعت ليلى الأطرش في تصوير حيوات متعددة مرتكزة على بؤرة الفكرة الواحدة، وإن تعددت ألوان المصائب وأشكالها، ولكن يا ترى هل ستكون "رغبات ذاك الخريف" عاملا مثبطا في معابثة الأمل والبحث عنه؟ فعلى الرغم من قوة الحقنة إلا أن نفوسنا ستنهض من كبوتها لتبحث عن أمل جديد نتنفسه كل صباح، فالحياة بلا أمل، وإن كان مصنوعا بالوهم والتصور والخيال، حياة لا طعم لها فعلا، فحياة مشدودة بحبل أوهام الأمل أفضل مليون مرة من حياة نستسلم فيها لواقع أمر من العلقم، فلم نخلق في هذه الحياة إلا لنهزم اليأس، ولو دفعنا أعمارنا ثمنا لذلك.

وعلى الرغم من "رغبات ذاك الخريف" القاسية المؤلمة، إلا أن الأمل يتسلل من بين ركام الموت، لتقرأ في الرواية هذه الفقرة: "في لحظات الكارثة أو الفاجعة يمسح العقل المحب كل احتمال ويبقي الحياة، لا يقبل بغير الأمل، ونجاة الأحبة، ويرفض القلب إلا الرجاء بالحياة، فينكر ويقصي غيرها في مواقف الموت".

 

 

المصدر: مقال خاص
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 231 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

726,614

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.