فرناندو بوتيرو، ومنذ بدأ يخوض فن الرسم قبل نحو نصف قرن، يحقق لوحات مزعجة: مزعجة للديكتاتوريين العسكريين، وللسياسيين الكاذبين، والكهنة الذين يتاجرون بالدين، ولرجال الادارة المتورطين في الفساد والتهريب، ولرجال العصابات الذين ينقلون المخدرات من كولومبيا الى العالم، وخصوصاً الى الولايات المتحدة، أحياناً بالتواطؤ مع سياسييها، وأحياناً من دون ذلك التواطؤ.
منذ بداية احترافه الرسم وبوتيرو يخوض معاركه، ولكن مع حرص دائم على سمو اللغة التشكيلية لديه، وهي لغة تصويرية لا غياب فيها للانسان وللمناخ، بحيث تبدو كل لوحة من لوحاته، جزءاً من مسرح الحياة الكبير. ولعل أكثر ما يلفت في لوحات بوتيرو، الى التلوين المنتمي مباشرة الى عالم سطوع الشمس اللاتيني، هو الحجم الضخم الذي يجعله لشخصيات لوحاته (وحتى لتماثيله البرونزية الضخمة التي عرضت قبل سنوات في اضخم الجادات في مدن عالمية مثل باريس ومدريد، لكن هذه حكاية اخرى). غير ان ثمة هنا العنصر الاساس الآخر في معظم تلك اللوحات، وهو العنصر المشهدي، حيث تكاد كل لوحة من لوحات بوتيرو ان تشكل حكاية قائمة في ذاتها. وهي، على أي حال، حكاية تكون في العادة مستقاة من حدث حقيقي، تسجله ذاكرة الفنان، ثم ريشته.
ومن بين لوحات هذا النوع لوحة «مجزرة الابرياء» التي رسمها فرناندو بوتيرو سنة 1999، أي في وقت راح يصعّد معركته ضد عصابات المهربين الذين كانوا يهيمنون على مدينة ميديللين، بين مدن كولومبية اخرى، ناشرين الموت والدمار كي يتمكنوا من ممارسة التهريب كما يحلو لهم وسط تواطؤ رسمي لا يحتمل. ونحن نعرف ان فرناندو بوتيرو، لفرط ما صعّد من وتيرة استخدامه الفن سلاحاً ضد العصابات، اضطر في نهاية الامر الى ان ينفي نفسه نحو اوروبا، كيلا تتمكن العصابات من تنفيذ ما هددته به من خطف وقتل إن هو لم يوقف رسم لوحاته لفضحها. نفي نفسه يومها، لكنه لم يتوقف عن رسم اللوحات الكاشفة، هو الذي يرسم بغزارة ويعتبر ان كل مشهد صالح لأن يكون لوحة فنية. وهذا المشهد الذي نراه في «مجزرة الابرياء» انما هو صورة لحدث حقيقي ذبح فيه واحد من افراد العصابات الكولومبية اسرة تتألف من أم وأب وطفلهما. ومن الامور ذات الدلالة في هذه اللوحة ان يرسم بوتيرو المجزرة اذ تحدث امام الكنيسة، وكأنه يتساءل: من يحمي الابرياء إن كانت، حتى، الكنيسة عاجزة عن ذلك؟ فالكنيسة صامتة هنا، محايدة تماماً، مقفلة الابواب، وتكاد واجهتها تختفي تماماً تحت وطأة الحجم الذي اعطاه بوتيرو للقاتل. انه حاضر في ضخامته وجبروته، مشرعاً خنجره يهم ان يذبح به الام وقد أمسك بشعرها، فيما هي تحاول مقاومته ودفعه بعيداً. ومن الواضح هنا ان الأم، التي تكاد تضاهي القاتل في حجم كتلة جسدها، تحاول ان تحمي ابنها الطفل الذي تحمله بين ذراعيها، أكثر مما تحاول ان تحمي نفسها. وكذلك واضح هنا ان فعل المقاومة الذي تبديه هذه الام هو الذي دفع الفنان الى اعطائها ذلك الحجم الذي يبدو ضخماً مقارنة بالحجم الذي اعطاه للأب الذي يركع متضرعاً غير قادر على اية مقاومة في مواجهة خنجر المجرم. هذه اللوحة هي، في نهاية الامر، لوحة رعب حقيقي... تنتمي الى جزء من اعمال بوتيرو جعل النقاد الاوروبيين يسمونه «رسام البؤس والتعاسة». اما هو فإنه يعتبر نفسه رسام الجرح العميق. ويرى انه اذا كان يمكنه ان يقول انه يسير على خطى سابقين له، فإنه انما يسير على خطى كبار رسامي الجداريات المكسيكيين، ريفيرا، سيكييروس وأوروزكو. غير ان هذه الاندفاعة النضالية، وهذا الانتماء الى أمس جدراني قريب، لا يمكنهما ان يخفيا انتماء بوتيرو في الوقت ذاته الى جانب من جوانب الفن الايطالي النهضوي، حيث ان الناظر الى هذه اللوحة مثلاً، لن يعدم امكان مقاربتها، مع بعض اجواء لوحات هيروتيموس بوش، وكأن بوتيرو اراد بهذا المزج بين التفاصيل الكلاسيكية النهضوية، وبين نضالية الجدرانيين المكسيكيين ان يجعل من نفسه وريث اصالة ومعاصرة، عرفتا كيف تضعان نفسيهما دائماً في خدمة الانسان، انما من دون جعل ذلك كله يتم على حساب لغة الفن وقيمه. وهذا ما يتجلى في كل اعمال بوتيرو، سواء أكانت لوحات يصور فيها اجواء مصارعة الثيران، او بورتريهات اجتماعية «كاريكاتورية المنحى» يحاول من خلالها ان يقول كلمته في الواقع الاجتماعي والطبقي، في وطنه بل في القارة كلها، او في لوحات الصراع الذي يخوضه ضد الديكتاتوريين ورجال العصابات ومصاصي دماء الشعب، وصولاً الى لوحات سجن أبو غريب، التي أقامت الادارة الاميركية ولم تقعدها اوائل العام الفائت. في كل هذه الاعمال يحضر الموقف السياسي وتحضر الرسالة والادانة، ولكن قبل هذا وذاك يحضر المشهد كفعل جمالي، كمسرح للحياة اعادت تكوينه ريشة فنان يعرف ماذا يريد من لوحته.
وفرناندو، الذي يعيش منذ حين متنقلاً بين باريس ومدريد، مع اطلالات سريعة وخفية على بلده كولومبيا، ولد العام 1932 في مدينة ميديللين، وكان في الثانية عشرة من عمره حين راح عم له متحمس لمصارعة الثيران يصحبه الى المباريات حيث اثر فيه منظر الثيران في ضخامتها كما في حركتها، الى درجة اننا حتى اليوم، لا نزال نجد الثور في لوحاته خلف الانسان ومن خلاله. وبعد سنوات مراهقته، واذ قرر بوتيرو ان يختار الفن طريقاً لحياته، سافر الى باريس حيث درس الفن، ثم توجه الى فلورنسا في ايطاليا حيث تأثر كثيراً بأعمال كبار معلمي فن النهضة الايطالي ولا سيما بالرسام جيوتو، الذي انطبعت لديه أحجام الشخصيات عنده. وفي العام 1958، فاز بوتيرو بجائزة محلية في بلده مكنته من ان يعود الى باريس ليدرس الفن مجدداً. وحين عاد الى بلاده وضع كل فنه في خدمة لوحات تحاول ان تفضح العنف والظروف السياسية. وكان ذلك في وقت بدأت الآداب والفنون الاميركية اللاتينية تصبح على الموضة في العالم اجمع. وهكذا كانت انطلاقته العالمية وراحت معارضه تتلاحق، في العواصم الغربية، وصدرت عنه الكتب والدراسات بحيث اصبح يعرف بـ «اشهر فنان أميركي لاتيني حي في عالم اليوم». ومنذ فترة اعلن بوتيرو انه اهدى أربعين لوحة اساسية من اعماله الى متحف بلاده «كي يراها الناس ويحبوا الفن» كما قال.
المصدر: ابراهيم العريس، جريدة الحياة، جزء من مقال نشر بعنوان " ألف وجه لألف عام - «مجزرة الأبرياء» لفرناندو بوتيرو: الفن الكبير لمساندة القضايا"
نشرت فى 17 مايو 2011
بواسطة khatwloun
عدد زيارات الموقع
58,227
ساحة النقاش