ما حجم التضحيات التي يجب أن تقدمها المرأة لكي تصبح رسامة وتحتل مكانتها على قدم المساواة مع كبار أساتذة عصرها؟ السؤال قد يبدو بليداً اليوم. ولكنه لم يكن كذلك في القرن التاسع عشر، بعد أربعة قرون بدا فيها تاريخ الفن مجبولاً من الرجال فقط. وفي سيرة ماري كاسّات وأعمالها ما يشكل جواباً. هي ابنة أسرة أمريكية ثرية، رفضت العيش التقليدي المتبع في محيطها، وسافرت إلى أوربا للدراسة، وتكريس حياتها للرسم. كانت من أولى المعجبات بلوحات أدغار ديغا، منذ أن شاهدت واحدة منها في واجهة متجر للوحات. فكتبت إلى أحد أصدقائها تقول: «اعتدت الذهاب إلى هذا المتجر، وإلصاق أنفي بزجاج الواجهة لأتشبع أكثر ما يمكن من فنه. لقد غيَّر حياتي». كان إعجابها بديغا هو ما دفعها إلى أن تعلِّم نفسها بنفسها فن الرسم من دون كلل. حتى شاهد ديغاس نفسه رسومها وقال: إنه ما كان ليصدِّق أن امرأة يمكنها أن ترسم بهذه الجودة. (!) طورت كاسّات تقنيتها الخاصة بنفسها، وبشكل متناغم مع المذهب الفكري - الفني لمجموعة الانطباعيين الذين نسجت معهم صداقات متينة، وأمضت عمرها في فرنسا تدافع عنهم وتروِّج لأعمالهم. و«النزهة في الزورق» هي واحدة من لوحاتها المعبِّرة عن قربها من مناخ الانطباعيين، وأيضاً أصالة شخصيتها الفنية المستقلة. فمنذ عصر النهضة، لم يرسم أي فنان أوربي علاقة الأم بطفلها بالأمانة والعمق اللذين رسمت بهما كاسَّات هذه العلاقة. فالرسامة لا تستسيغ العواطف الميلودرامية على ما يبدو. فالأم التي نراها هنا في الزورق، تبدو يقظة متنبهة. تحتضن طفلتها بحرص واعتزاز، ولكن من دون أن تتطلع إليها بأي حنان ظاهر للعيان كما عودنا التقليديون. إنها نزهة في الزورق، ولكن الإبحار يستدعي الحذر عند من هو غير بحَّار.. وهذا الحذر هو ما جعل هذه الأم تجلس بهذا الشكل وتتخذ هذه الوضعية، وترسم هذه النظرة اليقظة على وجهها، وتتشبث بطفلتها هذا التشبث. هذه الواقعية الشديدة تؤكد أن الرسامة خطَّت مسودتها الأولى لهذه اللوحة من خلال المشاهدة الحية في «أنتيب» جنوب فرنسا على المتوسط حوالي العام 1893م. ولكن إلى جانب موضوع اللوحة، يكشف الأسلوب قرباً أكبر من الانطباعيين. فالضوء المتوسطي القوي يغمر هذه اللوحة شبه الخالية من الظلال. والخطوط الصفراء العريضة وسط هذا العالم الأزرق تكشف إحساساً مرهفاً بالجانب التزييني. وانعكاس الضوء على الخشب الأصفر هو ما يلون وجه الرجل الظاهر في هذه اللوحة، كما ولو أن الضوء يأتيه من تحت. وهو الأمر الذي جعل البعض يقولون إنه لو عرض الجزء الذي يمثِّل الرجل لوحده من اللوحة، لرجح الخبراء أنه من رسم هنري دي تولوز لوتريك. في سنواتها الأخيرة، عاشت ماري كاسَّات في عزلة طوعية داخل جدران قصرها، محاطة بمجموعة عظيمة من أهم لوحات القرن التاسع عشر، حرمها فقدانها لبصرها من الاستمتاع بها. وعندما سألها أحدهم عن سبب حضور موضوع الأمومة بهذا الشكل الكبير في أعمالها. قالت: «إنه جزء من طبيعة المرأة ورسالتها أن تحمل أطفالها». كثيرون يرون في هذا الجواب جوهر الفلسفة التي أمَّنت لماري كاسّات مكانتها الكبيرة في تاريخ الفن خلال القرن التاسع عشر.
عدد زيارات الموقع
58,227
ساحة النقاش