فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

رواية كورونية في المطبعة!

فراس حج محمد/ فلسطين

أعلن قبل أيام أحد الكتاب الروائيين الفلسطينيين عن أنه أنهى كتابة رواية عن "كورونا"، وأنها الآن في المطبعة، وستكون جاهزة بعد أيام قليلة. هذا خبرٌ تلقاه أصدقاؤه الفيسبوكيون كالعادة بالترحيب والتهليل وكثير من عبارات المباركة، ومدح العمل وكل تلك اللغة التي تبعث عن "القرف"، لما فيها من انجرار وراء شهوة نرجسية لدى الطرفين، ولأننا "مجتمع ثقافي" بالمجمل أبعد ما نكون عن الثقافة لم يقف أحد عند هذه الحادثة التي سبقتها إرهاصات كثيرة، ودعاوٍ كثيرة للكتابة، وإعداد مسابقات وكتب حول جائحة، حبست ثلاثة أرباع العالم في بيوتهم، وهددت حياتهم بالموت.

هذا الكاتب الذي أعلن عن "روايته" العظيمة بالكثير من الفرح والحماس، وهو يبث الخبر السعيد، ذكّرني بالمثل الشعبي الفلسطيني: "ناس في عزاها، وناس في هناها"، مع العلم أنه لن يكون في هناءة عندما تصدر روايته لأنها ستكون في أغلب الأحيان مستندة إلى الشكليات والأخبار الصحفية، وما سمع وما يقرأ وما يشاهد. إن كثيرا من الحقائق المؤلمة التي سيخلفها الفايروس ستكون صادمة للضمير الإنساني، فكيف ستكون الرواية إذن وهي أشبه بجرد سردي لغوي شكلي، ليس له أي سند من عمق أو فلسفة؟

لم يمضِ على أزمة كورونا الوقت الطويل ليجعلها موضوعا روائيا ناجحا، فالأزمة ما زالت في بدايتها، والعالم ما زال يتلقى المفاجآت الواحدة تلو الأخرى بفعل طبيعة الفايروس وخطورته وانتشاره، والألغاز والأحاجي التي أحاطت فيه، عدا ما خلفه من ضحايا ومآسٍ إنسانية وصحية واقتصادية وسياسية وثقافية. لقد أوقف هذا "الشبح الصغير" العالم الذي لم يتوقف عن الدوران منذ وجد وحتى الآن.

ربما علينا أن نعي أن مدة شهرين ونصف ليست كافية لإنتاج رواية جيدة، حسب ما دافع الكاتب عن نفسه عندما اعترضتُ على هذه الرواية من حيث هي رواية كورونية وصلت المطبعة، وتتهيأ أن تلبس غلافها لتلطمنا بجمالها الأنيق، ولو قمنا بعملية حسابية بسيطة لهذه المدة، الشهرين ونصف، فكم هي المدة التي قضاها الكاتب في تأمل الحدث أولا؟ ومتى فكّر بكتابة روايته هذه؟ وهل فكّر بالشكل الروائي والتقنيات السردية التي سيوظفها في الرواية؟ وكم استغرقته الكتابة؟ وهل تمت مراجعة مسودة الرواية؟ وكم مرة أعاد كتابة بعض الفقرات أو بعض الجمل على الأقل؟ مع أنه من المهم هو تأمل الكتابة ذاتها وربما احتاج لإعادة كتابة الرواية بمسودات متعددة كسيناريوهات محتملة للحبكة والشخوص وما إلى ذلك. وهل استند إلى مخطط روائيّ كما يفعل كتاب الرواية في العادة؟ هذه أسئلة متعلقة بالوقت لدى الكاتب، ناهيك عن الأسئلة المتعلقة بدار النشر، فهل تم تدقيق الرواية لغويا مثلا وعرضها على محرر أدبي؟ إن دور النشر في فلسطين لا تفعل ذلك، إذن فلنتجاوز عن هذه النقطة. ألم يقرأ الناشر الرواية؟ ألم تعرض على لجنة إجازة للأعمال التي تنشر؟ ربما عليّ أيضا أن أتتجاوز هذه الأسئلة أيضا، ففي فلسطين لا مكان لهذه الأسئلة أيضا بالنسبة لصناعة النشر التي لها أمراضها المعدية الكثيرة. يبدو أن صنعة الرواية في فلسطين أيضا ينطبق عليها المثل الشعبي: "من الشجر للحجر"، بمعنى من حاسوب الكاتب مباشرة للمطبعة، وخير البر عاجله أيها المثقفون!

لا شك في أن ثمة كتابا متعجلين، ليس في فلسطين وحدها، يسابقون الزمن، ويريدون تسجيل سبق روائي، كأول روائي وأول رواية كتبت عن "كورونا"، إن هذا المنطق الأدبي الساذج جدا يجعل الأدب تحت رحمة الكارثة التي لم تنته بعد. أنهم يوقعون رواياتهم غير الناضجة في شرك الرداءة قطعا، لاسيما أولئك الكتاب الذين لم يعيشوا الأزمة في أشد بؤرها ألما وجنونا، أما أولئك الكتاب الروائيون الذين عايشوا الأزمة وما زالوا يعايشونها فإنهم قلقون إلى حد الخوف على حياتهم، فليس بمقدورهم وهم بين الحياة والموت أن يكتبوا مقالا، عدا أن يكتبوا رواية. إن هؤلاء الروائيين في بؤرة العاصفة، فكيف سيكتب روائي متعجل نيابة عنهم يجهل صنعة الرواية رواية عن كورونا؟ إن الأمر يحمل كثيرا من مشاعر الشفقة على الطرفين.

أظن أننا ما زلنا في رحلة توهان وضياع رؤى لم تصل إلى حد إتاحة الفرصة للتأمل العميق لإخراج رواية. فالرواية حتى تكون عملا ناجحا يلزمها تأمل التجربة ذاتها والعيش معها، تجربة بهذا العمق وهذا الأثر، لن يفلح كاتب في الكتابة عنها مهما أوتي من قوة في الأدوات، ومن خصب في الخيال، ومن ثراء في اللغة. وهذا ليس حكم قيمة على رواية في علم الغيب، ولكن منطق الأشياء يقول مثل هذه الحقائق التي ربما لا يختلف عليها منصفان، لو أرادا أن يقولا الحقيقة بعيدا عن المجاملات والخوف.

وأخيرا بدأت كثير من الأصوات النقدية والأدبية تضيق ذرعا من زج الأدب في عاصفة كورونا القاتلة، شعرا ورواية، وثمة كتابات ناقدة وبحق لهذا السيل "المجنون" من الكتابة الكورونية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة اختلافا بين الرواية من جهة، وبين الخاطرة والمقالة بأنواعها والقصيدة من جهة أخرى، بل إن القصائد الملحمية الكبرى تحتاج إلى وقت كالرواية، لما تحتاجه القصيدة من رؤى فلسفية مجازية التصوير والعرض واستحضار الخيال المنبثق عن الواقع والمفضي إليه. والرواية أيضا تحتاج إلى الوقت لاستخراج الفكرة المناسبة، فهي ليست مجرد حكاية، وجمع أقاصيص من هنا وهناك. وتوليفها على شكل "حاوية سردية" يطلق عليها صاحبها لقب رواية. ولنعلم أن ثمة روايات استغرق كتابها عشر سنوات بل أكثر وهم يكتبون ويتأملون ويضيفون ويحذفون ويعدلون، فالروايات العظيمة ليست بنت العجلة والتقارير الصحفية والتأثر العاطفي، ولا تخضع كذلك لشروط السبق الصحفي. إننا وضعنا الأدب كله اليوم في مأزق كبير لن يتعافى منه سريعا، وقد لا يتعافى منه أبدا، لتضاف تلك الأزمة إلى أزماتنا الإبداعية التي لا تكفّ عن التفريخ في عالم مهووس بالرواية والروائيين.

أيّــار 2020

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 332 مشاهدة
نشرت فى 2 مايو 2020 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

725,715

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.