وشيءٌ من سَرْدٍ قليل*
المسُّ الجنونيُّ للمعنى الدّقيقِ منَ الكتابة
فراس حج محمد
1
صباح الخير أيّتها اللّغةْ
أيّتها المنشورة جملة على شفة الشّمس
المسموعة إيقاعاً في هديل الحمامْ
في صوت عصفور تقافز ينقر حبّة تينٍ طازجة في حقلة البيتْ
أيّتها العامرة بالتّفاصيل الطّويلة في بلاد مُرْهَقَةٍ بها
تناضل أن يظلّ العيد عيداً والطّفل يلبس حلّته الجديدةْ
أيّتها المبتسمةُ السّاخرة في وجه العتاة الطغاة من الجُناةْ
أيّتها السّاحرة المتمرّدةْ
الخفيفة الظّلّ على شجر التّوت والبلّوط والزّيتون والرّمّان والقُنْديل والزّعترْ
صباح الخير والأقداحْ
وشعرٍ للهوى يشرحْ
صباح الحبّ موسيقى على درب الحياة
أيّتها اللّغة الّتي كانت
ستبقى حرّة
تخرج من معاجمها امرأةً ولوداً تصنع فرحة في كلّ عيدٍ وصباحْ
توزّع لحنها في جملةِ الدّفترْ
أطفالها يتراقصون في الطّرقات وينشدون:
"حيّ على الفرَحْ"
2
أنا الرّاء الّتي تُحدث الفرق الجنونيّ
لتفترق الحرب عن الحبّْ
لا أشتهي فيكِ الخصام
أشتهي رشّ عطر الياسمين على جذوعكْ
أتسلّق أيمنكِ العرفجيّ
أشعل أيسركِ العاطلَ من حمّالة الصّدرِ
أفتح ثغرة في السدّْ
تغلغلها الألف الطليقة
وأحضن مثل زرّ الورد وردتكِ اللّطيفة
وأمطر مثل غيم الله ماءً كوثريَّ الطّعم في أرض شفيفة
وأكتب أسفل النّهدين تحت السُّرة السّراءِ
آياتِي الطّريفة
3
الضّدّ ضدّكَ شعلتان شهيّتان
وشهوتان شقيّتان
ووردتان غريقتان في ذات الأوان
وجملتان هاربتان من وحي السّماء
على شفاهك نبتتان
تُحدّثان وتُحْدِثانْ
تجمعان وتَأْلفانْ
تؤلّفان حكاية أخرى قوام قوامها حرفانِ
أغنيتانْ
وغيمتان شجيّتانْ
كونان في البعد إلّا أنّنا ألف ترعرعها اليدانْ
4
النّصّ لا يُقيّم "جيّداً" أو "رديئاً" بين الحبيبة والحبيبْ
ولا يقال له: "جميلْ"
النّصّ يَصنع قُبلة محرومة في يوم عيدْ
تعويذةٌ أخرى معلّقة على صدر الجُمَلْ
تحمي من الانهيار المدوّي في سأمِ الخللْ
النّصّ قطعة روحٍ
غيمة وضمادة الوجع الطويلْ
والنّصّ لا يُعلي من المعنى الإضافيّ شيئاً
إلّا أنّه ليلكةٌ تزغردُ في شفاه العاشقينْ
5
قلقٌ جدّاً من المعنى
من الفوضى
تراوغني القصيدة؛ كلّما أمسكت تأويلاً هدّمه المجازْ
أصبحت بين صراعيْ بؤرةٍ في النّصِّ
تأخذني نحو منصّة الجمهور
سؤالي يسبق المعنى
ويمحو الشكُّ أضواءَ اليقين
قلق جدّاً على قلقي الوجوديِّ في هذا السّياق المعبّأ باللّغةْ
صوري يشكّلها الغموضُ الطّبيعيّ
والقارئُ المسترخي على أريكته الآنَ يغضبُ من تلصّصِ المعنى على الشّرفاتْ
يعيدُ قراءتي والنّصّ
يقشّر جلدة اللّفظة الخارجيّةِ
يحقن الجملة بالمصل المناسب كي أتوه على الطّريق
لا يدركُ لعنة المسّ الجنونيّ للمعنى الدّقيق من الكتابةْ
لا يقلقُ مثلي من المعنى
من الفوضى
ولا ينضج في مجاز النّصّ مثلي
6
أنا لا أكتب ما أشاء
النّصّ يستولي عليّ
والفكرة الهوجاء مثل اللّصّ تدخل السّطرَ
بأعجوبة تقاومني لتوجد بين أصابعي
لا شيء لي أبدا
مجموعة الألفاظ تأتي من مكان لستُ منتبهاً إليهْ
تفتح معجمها وتكمش ألفاظها
الكتابة ضربة حظّ لغويّ
تولد فجأة وتموت بالتّدريج أحياناً
وأحيانا تنحلّ مثل حزب ميّت مختلفٍ عليهْ
أكره كلّ ما أولدته الصّدفةُ لي
أعلن أنّي بريءٌ ممّا فعلته بي
أتوارى خلف خلفي لأمسح هذا السّواد المعيبْ
يضحك النّصّ منّي يعاندني ويغيبْ
ويبقى ما كتبت شاهداً وشهيداً عليّ
تُلقي الصّدْفة اللّغويّة خنجرها على شفتيّ:
ما الفرق بين النّصّ واللّصّ غير حرف اللّام والنّون:
يتلصّص النّصّ على المعنى
وينصّ اللّصّ بعض المفردات
ويشرع في بناء شرائعه على كتفيّ غصباً عن كلّ ما عداه
النّصّ ليس لصّاً فقط
أكبر من حاكمٍ ملِكٍ وأعظم من وحيْ
لكنّه أيضا أتفه من وهمٍ عابر في حياة المؤمنين
7
أحتاج كلّك في كلّي وأكثرْ
أحتاج كلّك إذ ينمو بكلّيَ يكبرْ
أحتاج حرفا أوّلكِ الشّهيّْ
تؤوّلني البقايا: الإسم والمعنى
تحمرّ السُّهى برقصتها وتخضرّ
أحتاجُ مرآك الـ (يمرّ) على مرآتيَ الحبلى
أراني عند كلّ غوايتينْ
أنبلَ أطهرْ
أحتاج أغنيتينِ أعبر فيهما عمري
فيرتدّ الشّباب إليّ مزهوّاً بطعم الحبّ
أبكرَ أنضرْ
أحتاجُ أبني خلايا الغيم في كرّاستي
أصلّي
أوصل الأسماء نحو مرفئها
لأقرأ ما تيسّر من أناجيلي وتوراتي وقرآني
وأفلت من جاذبيّتي الطّينيّة الأولى
ليكون كلّك لي
لكلّك
للأكوان معبرْ
أحتاج كلّك كي أصفوَ أكثرْ
8
لن أقبّلك في الموضع الّذي قبّلك فيه رجلٌ آخرُ
قبلي
فليس لك إلّا نهدانِ شهيّانْ
وخدّانِ مورّدانْ
وشفتانِ اثنتان
فمٌ واحدٌ أزهريُّ اللّسانْ
وتفّاحة واحدةْ
حتّى أنّه ليس لكِ إلّا جيدٌ واحدٌ في حديقة واحدة لا غير
ولن أجرّب رعشة مقسومة على رجلينْ
لكنّي سأكتب كلّ شيءٍ بيننا بقلبٍ أشعريّ
كأنّك لي وحدي
لا أعاني من بياضِ السّطرِ
أشواك الضّجرْ
فصباحٌ مفعم بكِ له مذاق الغيمِ في جسد القمرْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة شعريّة معدّة للنّشر بعنوان "وشيءٌ من سَرْدٍ قليل".
النص منشور في مجلة ميريت الثقافية- عدد 17- مايو- 2020