المنمنمات
المُنَمْنَمَة هي صورة مزخرفة في مخطوط. وقد اشتهرت بها المخطوطات البيزنطية والفارسية والعثمانية والهندية وغيرها.
يتميز التصوير الإسلامي الذي عرف باسم "المنمنمات" بخصائص مميزة تشمل الجوانب التقنية والأسلوبية والوظيفية التي يطمح إليها هذا التصوير، وينطلق هذا كلّه من فلسفة تتناول الإنسان والكون والدين في إطار عرفاني، وتربط فلسفة التصوير في الإسلام بين العام المادي و بين العالم الروحي ربطاً محكماً ينزع إلى الكمال و يجعل من أعمال الفن نمطاً فريداً في مزاياه، تقربه من أن يكون نوعاً من ممارسة طقس ديني، وقد ارتبط هذا النوع من التصوير بتطور المخطوطات التي تناولت شتى المعارف العلمية منها و الادبية، وترقى أقدم المخطوطات إلى القرن الثاني عشر الميلادي، و إن كانت أعداد قليلة منها معروفة في مصر و إيران منذ القرن التاسع الميلادي، ولقد عرف الرسم اهتماماً واسعاً في إيران منذ القرن السابع الميلادي، حيث تفاعل الرسم الإيراني مع الرسم الصيني.
تلتقي في تصوير المنمنمات الإسلامية تأثيرات عدة: عربية وإيرانية وصينية ومغولية وسلجوقية وهندية وتركية وعثمانية. كما تظهر بعض التأثيرات البيزنطية في فترات محددة، وخاصة حول القوس المتوسطي، ويمكن أن نلحظ تأثيراً باهتاً لها يفي المنمنمات المعاصرة. لفن المنمنمات عدة مدارس، فهناك المدرسة البغدادية و المدرسة المغولية والمدرسة التيمورية، ثم المدرسة الصفوية والمدرسة المملوكية والمدرسة التركية والمدرسة الهندية، ثم المدرسة المعاصرة.
لقد تميزت كل من هذه المدارس بميزات خاصة و يشكل نشاطها مجتمعاً المسيرة الرئيسية لتطور فن المنمنمات في العالم الإسلامي. وقد عملت شعوب العالم الإسلامي جميعها بدأب إليى هذه الدرجة أو تلك في تطوير هذا الفن الذي يعتقد البعض بأنه "مولود الرسوم الصينية" نظراً لغلبة العرق الأصفر على الرسوم بسماته المميزة وغزارة التفاصيل المرتبطة بأسلحة المغول وعاداتهم وتقاليدهم وبيئتهم، وهي تأثيرات بقيت ملحوظة لفترة من الزمن، ثم تضاءل ظهورها تدريجياً تحت ضغط التأثيرات المحلية، و ينطبق هذا على منمنمات أغلب المدارس في فتراتها المبكرة.
الواقع أن عبارة منمنمة تتصف بسعة دلالتها، فهي إنتاج فني صغير الابعاد، يتميز بدقة في الرسم و التلوين، وهو اسم يطلق عادة على الاعمال الملونة وغيرها من الوثائق المكتوبة المزينة بالصور أو الخط أو الهوامش المزخرفة، وقد حقق فن المنمنمات المرتبط بالمخطوطات كمالاً رفيعاً خلال القرون الوسطى في الشرقين الأوسط و الأدنى وحتى في أوروبا، وقد استخدم لفظ المنمنمات للتعبير عن أعمال التصوير، و خاصة الصور الشخصية الصغيرة الحجم، التي كان يجري رسمها وتلوينها على الخشب والعاج والعظام والجلود والكارتون والورق والمعدن وغيرها من المواد.
لعب الفنانون الإيرانيون دوراً مهماً في أكثر المدارس الفنية للمنمنمات، فقد تفاعلت خبراتهم في كل من المدرسة العباسية في بغداد، وخاصة لدى وصول البرامكة إلى موقع السلطة، فقد استجلب هؤلاء العديد من الفنانين الإيرانيين إلى بغداد، فشاركوا في تأسيس مدرسة المنمنمات فيها، وقد عرف من المدرسة السلجوقية محاولة الحفاظ على أصالة الرسم الإيراني و سماته المحلية وأبعاده عن تأثيرات الفن الصيني، لكن باستيلاء المغول على إيران وظهور المدرسة المغولية تغيرت ملامح المنمنمات، إذ أوجد المغول مدارس في تبريز و شيراز و مرو ارتبطت بالأسلوب الصيني، ثم ظهرت المدرسة الهراتية أو التيمورية في سمرقند و هي من أبرز مدارس الرسم الإيراني على وجه الإطلاق، وعندما تأسست المدرسة الصفوية في العهد الصفوي انتقل مركز الفن الإيراني من "هراة" إلى "تبريز"، وتعتبر رسوم المدرسة الصفوية صفحة جديدة في الرسم الإيراني.
لقد أسس الفنانون الإيرانيون المدرسة التركية لفن المنمنمات بعد استقدامهم من قبل السلاطين العثمانيين، كالسلطان سليمان القانوني، كما وأن المدرسة الهندية تأثرت هي الأخرى بالفن الإيرانية بعد أن انتشر الإسلام في الهند على يدي "بابر" حفيد تيمورلنك. وهكذا، وبهذه الصورة المكثفة والمختصرة إلى أبعد الحدود يمكن استنتاج الدور الريادي البارز الذي لعبته إيران في تطور فن المنمنمات عبر التاريخ الذي يمتد أكثر من عشرة قرون في بقاع جغرافية مترامية الاطراف. لقد عكس الفن الإيراني عبر تاريخه مراحل تطور الأمة، وعكس أحداثها المهمة وهموم شعبها وتعاقب أطوارها الحضارية، وتفاعلها مع الأمم الأخرى، فكان الفن في إيران مواكباً لمسيرة الإنسان دائماً.
في هذه المساحة الصغيرة أود أن أعبُر إلى ما وراء السطور وأن أقرأ قلق الفنان الأول، ذلك الفنان الذي يهب عمراً بأكمله، أو يكاد، في سبيل إتقان عمله.. يبذل الساعات الطويلة والأيام والشهور وربما السنوات من أجل كتابة آية قرآنية قصيرة، متمثلاً باخلاص مغزى الحديث النبوي الشريف: (إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه)، فيحاول ما استطاع أن يترجم النور المشع من بين الحروف إلى تعبير فني عال وزخرفة رافلة بالفرح والدلال والطمأنينة الروحية.. تتحول الخطوط والألوان المتقشفة بين يديه إلى نوع من العبادة في ملكوت الوجد والعرفان، ثم يأتي فنان آخر، يغمس يديه بماء الطين ليشكل أباريق وكؤوس بهيجة مبرهناً على أن الإنسان يمكن أن يجسد بدائع الحياة بعد أن منحه الله القدرة على الإبداع، فنان ثالث ينكب على قطعة خشبية يحفرها ويعرقها عبر خطوط دقيقة جداً راسماً منظراً حياً لصياد أو غزالة راقصة على العشب بأسلوب غاية في المهارة، ورابع يستعيد على النحاس زخرفات الأزمنة الماضية ونقوشها المعبرة عن القوة والاعتماد بالنفس في التروس والصولجانات والسيوف؟
لقد وصلتنا منمنمات الفنانين الإيرانيين البديعة كرسائل عابرة للزمن، تارة في شكل آنية أو خزفية أو منحوتة نحاسية أو خشبية أو قطعة من العقيق أو الحرير، وتارة في لوحة خط مزخرفة ومذهبة لتصير هوية مميزة للفن القادم من إيران، والحق أن مداها اتسع لتصير هوية للفن الإسلامي في كل مكان، فن عريق يميزه الانتماء للشرق بكل ما فيه من سحر وجمال.
ومما لا شك فيه أن ما يشد المشاهد إلى هذه الفنون جميعاً هو تلك النقاط المتوهجة والمشتركة بين فنون الحضارة الإسلامية، بمهاراتها ومضامينها الإنسانية الراقية، بل إن الباحث الجاد يندهش من جدال البعض حول شرعية الفن ولا شرعيته، وفي تراثنا الإسلامي شواهد لا حصر لها تجعل من مجرد التساؤل أمراً نافلاً ومن الإجابة بدهية لا تحتاج لبراهين، فلم يشكل انتشار الإسلام عائقاً أمام الفنون، بل إن الفنون المختلفة تطورت وازدادت ألقاً وتميزاً في فضائه، ثم إن الأهم هو نشوء ما يمكن تسميته بجمالية إسلامية خاصة، نابعة من الحس الحضاري الرفيع والعمق الروحي الذي من الصعب أن نجد مثيلاً له في فنوننا المعاصرة اليوم، ربما لهذا السبب تفاجأ بإقبال الجمهور الغربي على الفنون الشرقية بينما لا نلحظ الاهتمام ذاته من جانب الجمهور الشرقي نفسه في غالب الأحيان، وفي أمثلة كثيرة كان (المستشرق) هو الذي يقود الباحثين والنقاد إلى روعة الفنون في حضارتنا الإسلامية!
ولكن لم تكن الصورة دائماً بمثل هذا التجاهل، بل سبق العديد من الشعراء إلى استلهام معاني صورهم من روعة الجمال الأخاذ في المنمنمات، فنقرأ شاعر الحب والغزل نزار قباني وهو يقول: (حديثك سجادة فارسية/ وعيناك عصفورتان دمشقيتان/ تطيران بين الجدار/ وبين الجدار/ وقلبي يسافر مثل الحمامة/ فوق مياه يديك/ ويأخذ قيلولة تحت ظل السوار).. فالسجاد الفارسي بمنمنماته وتفاصيله الصغيرة شكل خلفية لكل تلك الصور اللاحقة في القصيدة.
أما إذا عدنا إلى السؤال الأول في أعلى الصفحة والذي تمحور حول مصدر (التصغير) والنمنمة في الفن فلعل في بيت الإمام علي وتأمل مضمونه أبلغ جواب: (وتعزم أنك جرم صغير/ وفيك انطوى العالم الأكبر). ملاحظة: هذه المقالة كتبت من وحي معرض (ربيع القرآن) الذي أقامه المركز الثقافي الإيراني بالدوحة حديثاً.
مدارس في فن المنمنمات
المدرسة العباسية (بغداد): يقول بازيل غمري في كتابه (الرسم الإيراني): «يجب أن تبدأ دراسة الرسم الإيراني بالنسخ الخطية للعصر الفارسي، والمدرسة العباسية اسم يطلق على النسخ الخطية المذهبة والمزينة بالرسوم التي اهتم بها الخلفاء العباسيون وجمعوها في عاصمتهم بغداد». عرفت اسبانيا هذا الفن لمئات السنين، إلا ان شمال أفريقيا لم يشهد الا النمط الهابط منه. وحين أمسك البرامكة بزمام الامور في الدولة العباسية، قدم عدد كبير من الفنانين إلى بغداد ليكرسوا المدرسة التي اشتهرت باسم المدرسة البغدادية، والحقيقة ان هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة تاريخية موسعة، الا ان المعروف تاريخياً ان الكثير من الآثار القيمة لهذه المدرسة اتلفت في حوادث نهب مكتبات بخارى و سمرقند.
كان الفنانون الإيرانيون من ذوي الذوق الرفيع اول مَن قام في القرون الأولى للهجرة بتذهيب القرآن الكريم وتزيينه، وتزيين حواشي الكتب بالنقوش الاسليمية والخطائية وأنواع الزخارف. ثم تطور هذا الابداع فيما بعد وأصبح للنقوش الاسليمية والخطائية اصولها وقواعدها المعروفة، وربما سنحت الفرصة للحديث عنها في موقع آخر. توسعت هذه النقوش في عصور السلاجقة والمغول والتيموريين، وتجاوزت مجال تذهيب الكتب لتشمل الفسيفساء ونقوش السجاد. بعد ابداع التصاميم والنقوش المعروفة، ظهر فن جديد هو رسم الصور والقصص، تجلت ارهاصاته في منمنمات المدرسة العباسية.
يذكر آرثر اپهام پوپ ان هناك نسخاً لكتاب كليلة ودمنة وكتاب في البيطرة الصيدلة باسم (دماتريا مديكا) ومقامات الحريري تحمل رسوماً على نمط منمنمات المدرسة البغدادية، وفي سياق الحديث عن المدرسة العباسية (بغداد) يقول بازيل غري: "باختصار لا يمكن تحديد تفاوت واضح بين المنمنمات الإيرانية التي انجزت في العصر العباسي ومنمنمات سائر انحاء آسيا، ولعل الفرق الوحيد الذي احدثه الإيرانيون هو الانسجام في اعمالهم اثر حملات المغول على بلادهم ، ويبدو انهم كانوا بحاجة إلى هزة شديدة ليكون نبوغهم قادراً على تدجين الفن الجديد وتطييعه بالوافد من الشرق الاقصى".
المدرسة المغولية: شهدت هذه الحقبة تكاملاً ملحوظاً في فن الرسم واساليبه التقليدية، فقد كان فن المنمنمات في العصر السلجوقي محافظاً على هويته الإيرانية المحضة، بعيداً عن نفوذ الرسوم الصينية، وبعد انقراض السلاجقة استطاع الإيرانيون ان يحافظوا ـ بأعجوبة ـ على ثقافتهم التقليدية، وحين قدم المغول وقعوا تحت تأثير الثقافة الإيرانية ، إلا انهم أثروا كثيراً في المسيرة الفنية التي كانت في سبيلها نحو التكامل، فظهرت مراكز ونتاجات فنية جديدة في تبريز وشيراز ومرو.
مدرسة هرات: أعقب المرحلة المغولية ظهور عهد فني جديد في إيران حمل اسم مدرسة هرات، ويطلق عليها أيضاً المدرسة التيمورية أو مدرسة سمرقند وبخارى، اذ كانت هاتان المدينتان مركزي الفنون عصرئذ. يذكر التاريخ ان ثلاثة من خلفاء تيمور اتخذوا من هرات عاصمة لهم واهتموا بالثقافة والفن خلافاً لسيرة جدهما الذي عرف بدمويته، وكان هؤلاء السلاطين الثلاثة بايسنقر، شاهرخ، حسين بايقرا المؤسسين الحقيقيين لمدرسة هرات التي يعتبرها بعض اساتذة المنمنمات من ابرز مراحل تقدم الرسم في إيران، ولعل الاستاذ الأكثر ابداعاً في تلك الفترة هو كمال الدين بهزاد الذي يطلق عليه بعض المستشرقين اسم هراتي. بلغ التذهيب والمنمنمات غايتهما في هذه المدرسة، وأصبحت هرات مركزاً تستقطب النخبة من فناني ذلك العصر، ولعل ابرز آثار هذه المدرسة كتاب (خمسة نظامي) للفنان كمال الدين بهزاد، (گلچين) لاسكندر سلطان، (شاهنامه) لمحمد جركي، (بوستان سعدي) لبهزاد وغيرها.
المدرسة الصفوية: حين امسك الصفويون بزمام الامور انتقل مركز الفن في إيران من هرات إلى تبريز، وظهرت بوادر التغيير، فقد اتجه الرسم نحو الطبيعة وخرج من الاطر الضيقة للكتاب إلى الرسوم الجدارية، وبرز اساتذة كبار مثل رضا عباسي مؤسس المدرسة الصفوية التي تميزت بوضوح عن المدرستين المغولية والتيمورية، وكانت ميزتها الابرز انها كانت أكثر رقة من سابقتيها. ومن ابرز رموزها: رضا عباسي، خواجه نصير بن عبد الجبار استرآبادي، فرخ بيك، ميرزا محمد تلميذ الخواجه عبد العزيز وغيرهم. وكان لانفتاح إيران على الغرب، وبلدان آسيا في العهد الصوفي أثر كبير على فن الرسم، أدى إلى ظهور آثار قمية توزعتها المتاحف العالمية والإيرانية ولا شك ان العصر الصفوي يمثل مرحلة جديدة في تاريخ المنمنمات الإيرانية.
المدرسه المعاصرة: شهدت السنوات المائة الماضية ازدهاراً في المنمنمات تجي بظهور نتاجات فنية رائعة. بدأ عصر الازدهار بعد انشاء مدرسة كمال الملك عام 1908 وقدوم الاساليب الفنية الأوروبية الحديثة واهتمام الرسامين الايرانين بها. لصيانة الاساليب الإيرانية من الضياع، وتشجيع الفنون الإيرانية التقليدية والصناعات اليدوية الوطنية انشئت مدرسة فنية أخرى عام 1930 وكان فن النمنمات (المينياتور) من بين الفروع التي شملتها هذه المدرسة إلى جانب فروع الصناعات اليدوية والفنون التقليدية الأخرى، وقد اجرت المدرسة امتحاناً لاختيار الاستاذ قبل بدء الدراسة بعام، وكان المشرف على الامتحان الاستاذ حسين طاهر زادة وبهزاد الذي يعد مؤسس الفنون التقليدية المعاصرة في المدرسة الفنية الوطنية ، وأحد رموز فن المنمنمات في إيران، وقد وقع اختياره على المرحوم هادي تجويدي ليكون أول أستاذ للمنمنمات في المدارس المعاصرة.
ساحة النقاش