الجزء الرابع من سورة طه إلى سورة ص سورة طه وهي مكية روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي: حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة ـ يعني عبد الرحمن بن يعقوب ـ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام, فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا, وطوبى لأجواف تحمل هذا, وطوبى لألسن تتكلم بهذا» هذا حديث غريب وفيه نكارة, وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىَ * إِلاّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىَ * تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرّحْمَـَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ * لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي, حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: طه يا رجل, وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: طه بمعنى يا رجل.. وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح: هي معربة. وأسند القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى, فأنزل الله تعالى: {طه} يعني: طأ الأرض يا محمد {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} ثم قال: ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة وقوله: {ما أنزلنا عليم القرآن لتشقى} قال جويبر عن الضحاك: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه, فقال المشركون من قريش: ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى, فأنزل الله تعالى: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتقشى إلا تذكرة لمن يخشى} فليس الأمر كما زعمه المبطلون, بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيراً كثيراً, كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال: حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا العلاء بن سالم, حدثنا إبراهيم الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب, عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» إسناده جيد, وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي, ذكره أبو عمر في استيعابه, وقال: نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة, وروى عنه سماك بن حرب. وقال مجاهد في قوله: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} هي كقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة: {ما أنزلنا عليك القرآن لتقشى} لا والله ما جعله شقاء, ولكن جعله رحمة ونوراً ودليلاً إلى الجنة {إلا تذكرة لمن يخشى} إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر, وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه. وقوله: {تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى} أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك, رب كل شيء ومليكه القادر على ما يشاء, الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها, وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها, وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام, وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه. وقوله: {الرحمن على العرش استوى} تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً, وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} أي الجميع ملكه, وفي قبضته, وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه, وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره. وقوله: {وما تحت الثرى} قال محمد بن كعب: أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعباً سئل فقيل له: ما تحت هذه الأرض ؟ فقال: الماء. قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض. قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الماء, قيل: وما تحت الماء ؟ قال: الأرض, قيل: وما تحت الأرض ؟ قال: الصخرة, قيل: وما تحت الصخرة ؟ قال: ملك, قيل: وما تحت الملك ؟ قال: حوت معلق طرفاه بالعرش, قيل: وما تحت الحوت ؟ قال: الهواء والظلمة وانقطع العلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام, والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء, والحوت على صخرة, والصخرة بيد الملك, والثانية سجن الريح, والثالثة فيها حجارة جهنم, والرابعة فيها كبريت جهنم, والخامسة فيها حيات جهنم, والسادسة فيها عقارب جهنم, والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه, فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه» وهذا حديث غريب جداً, ورفعه فيه نظر. وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت ابن الفضل الأنصاري ؟ قال: نعم, عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, فأقبلنا راجعين في حر شديد, فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين, قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم, ثم قال: أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه, فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس, فقلت: أيها السائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاك, فقال: أيهم هو ؟ فقلت: صاحب البكر الأحمر, فدنا منه فأخذ بخطام راحلته, فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنت محمد ؟ قال: «نعم». قال: إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «سل عما شئت» قال: يا محمد أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قال: صدقت ثم قال: يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل أبيض غليظ, وماء المرأة أصفر رقيق, فأي الماءين غلب على الاَخر نزع الولد» فقال: صدقت, فقال: ما للرجل من الولد, وما للمرأة منه ؟ فقال «للرجل العظام والعروق والعصب, وللمرأة اللحم والدم والشعر» قال: صدقت, ثم قال: يا محمد ما تحت هذه ؟ ـ يعني الأرض ـ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق» فقال: فما تحتهم ؟ قال «أرض». قال: فما تحت الأرض ؟ قال: «الماء». قال: فما تحت الماء ؟ قال: «ظلمة». قال: فما تحت الظلمة ؟ قال: «الهواء». قال: فما تحت الهواء ؟ قال: «الثرى». قال: فما تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء, وقال: «انقطع علم الخلق عند علم الخالق, أيها السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال: فقال صدقت, أشهد أنك رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس هل تدرون من هذا ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «هذا جبريل عليه السلام». هذا حديث غريب جداً, وسياق عجيب, تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا, وقد قال فيه يحيى بن معين: ليس يساوي شيئاً, وضعفه أبو حاتم الرازي, وقال ابن عدي: لا يعرف. قلت: وقد خلط في هذا الحديث, ودخل عليه شيء في شيء وحديث في حديث, وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه, والله أعلم. وقوله: {وإن تجهز بالقول فإنه يعلم السر وأخفى} أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي يعلم السر وأخفى, كما قال تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفوراً رحيماً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {يعلم السر وأخفى} قال: السر ما أسره ابن آدم في نفسه {وأخفى} ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه, فالله يعلم ذلك كله, فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد, وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة, وهو قوله: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} وقال الضحاك {يعلم السر وأخفى} قال: السر ما تحدث به نفسك, وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد. وقال سعيد بن جبير: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً, والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً, وقال مجاهد {وأخفى} يعني الوسوسة, وقال أيضاً هو وسعيد بن جبير {وأخفى} أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} أي الذي أنزل عليك القرآن, هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى, وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة. ** وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىَ * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدًى من هنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى, وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه, وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم, وسار بأهله قيل: قاصداً بلاد مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين, ومعه زوجته, فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية, ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب, وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به, فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء, فينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً, أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه, فقال لأهله يبشرهم: {إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس} أي شهاب من نار. وفي الاَية الأخرى {أو جذوة من النار} وهي الجمر الذي معه لهب {لعلكم تصطلون} دل على وجود البرد. وقوله: {بقبس} دل على وجود الظلام, وقوله: {أو أجد على النار هدى} أي من يهديني الطريق, دل على أنه قد تاه عن الطريق, كما قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {أو أجد على النار هدى} قال: من يهديني إلى الطريق, وكانوا شاتين وضلوا الطريق, فلما رأى النار قال: إن لم أجد أحداً يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها. ** فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ يَمُوسَىَ * إِنّيَ أَنَاْ رَبّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىَ * إِنّنِيَ أَنَا اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلآ أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصّلاَةَ لِذِكْرِيَ * إِنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىَ * فَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْهَا مَن لاّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىَ يقول تعالى: {فلما أتاها} أي النار, واقترب منها {نودي يا موسى} وفي الاَية الأخرى {نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله} وقال ههنا {إني أنا ربك} أي الذي يكلمك ويخاطبك {فاخلع نعليك} قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف: كانتا من جلد حمار غير ذكي, وقيل: إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال سعيد بن جبير: كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة, وقيل: ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: {طوى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هو اسم للوادي, وكذا قال غير واحد, فعلى هذا يكون عطف بيان, وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه, وقيل: لأنه قدس مرتين, وطوى له البركة وكررت, والأول أصح كقوله: {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى}. وقوله: {وأنا اخترتك} كقوله: {إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه, وقد قيل: إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتلكيم من بين الناس ؟ قال: لا, قال: لأني لم يتواضع إلي أحد تواضعك. وقوله: {فاستمع لما يوحى} أي استمع الاَن ما أقول لك وأوحيه إليك {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقوله: {فاعبدني} أي وحدني, وقم بعبادتي من غير شريك {وأقم الصلاة لذكري} قيل: معناه صل لتذكرني, وقيل: معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي, ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة, عن أنس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها, فليصلها إذا ذكرها, فإن الله تعالى قال: وأقم الصلاة لذكري», وفي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك». وقوله: {إن الساعة آتية} أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها. وقوله: {أكاد أخفيها} قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: أكاد أخفيها من نفسي, يقول: لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: من نفسه: وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {أكاد أخفيها} يقول: لا أطلع عليها أحداً غيري. وقال السدي: ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني أكاد أخفيها من نفسي, يقول: كتمتها عن الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة: أكاد أخفيها, وهي في بعض القراءات: أخفيها من نفسي, ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين. قلت وهذا كقوله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقال: {ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة} أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا منجاب, حدثنا أبو نميلة, حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال: أقرأنيها سعيد بن جبير: أكاد أخفيها, يعني بنصب الألف وخفض الفاء, يقول أظهرها, ثم قال أما سمعت قول الشاعر: دأب شهرين ثم شهراً دميكاًبأريكين يخفيان غميراً قال السدي: الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس, والأريكين موضع, والدميك الشهر التام, وهذا الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى: {لتجزى كل نفس بما تسعى} أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {وإنما تجزون ما كنتم تعملون} وقوله: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها} الاَية, المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة, وأقبل على ملاذه في دنياه, وعصى مولاه واتبع هواه, فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر {فتردى} أي تهلك وتعطب, قال الله تعالى: {وما يغني عنه ماله إذا تردى}. ** وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَىَ * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشّ بِهَا عَلَىَ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىَ * قَالَ أَلْقِهَا يَمُوسَىَ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ * قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاُولَىَ هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام, ومعجزة عظيمة, وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل, وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل. وقوله: {وما تلك بيمينك يا موسى} قال بعض المفسرين: إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له, وقيل: وإنما قال له ذلك على وجه التقرير, أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها, فسترى ما نصنع بها الاَن {وما تلك بيمينك يا موسى} استفهام تقرير {قال هي عصاي أتوكؤ عليها} أي أعتمد عليها في حال المشي {وأهش بها على غنمي} أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي. قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثميحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود, فهذا الهش ولا يخبط, وكذا قال ميمون بن مهران أيضاً. وقوله: {ولي فيها مآرب أخرى} أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك, وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت, فقيل: كانت تضيء له بالليل وتحرس له الغنم إذا نام, ويغرسها فتصير شجرة تظله, وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة, والظاهر أنها لم تكن كذلك, ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعباناً فما كان يفر منها هارباً, ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية, وكذا قول بعضهم: إنها كانت لاَدم عليه الصلاة والسلام, وقول الاَخر: إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة, وروي عن ابن عباس أنه قال: كان اسمها ما شا, والله أعلم بالصواب. وقوله تعالى: {قال ألقها يا موسى} أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها {فألقاها فإذا هي حية تسعى} أي صارت في الحال حية عظيمة ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة, فإذا هي تهتز كأنها جان, وهو أسرع الحيات حركة, ولكنه صغير, فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة, {تسعى} أي تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حفص بن جميع, حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس {فألقاها فإذا هي حية تسعى} ولم تكن قبل ذلك حية, فمرت بشجرة فأكلتها, ومرت بصخرة فابتلعتها, فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً, ونودي: أن يا موسى خذها فلم يأخذها, ثم نودي الثانية: أن خذها ولا تخف, فقيل له في الثالثة: إنك من الاَمنين, فأخذها. وقال وهب بن منبه في قوله: {فألقاها فإذا هي حية تسعى} قال فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون فدب يلتمس كأنه يبتغي شيئاً يريد أخذه, يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها, ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها, عيناه توقدان ناراً, وقد عاد المحجن منها عرفاً, قيل: شعره مثل النيازك, وعاد الشعبتان منها مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف, فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب, فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية, ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال: {خذها} بيمينك {ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان, فلما أمره بأخذها, أدلى طرف المدرعة على يده, فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً ؟ قال: لا ولكني ضعيف, ومن ضعف خلقت, فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب, ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها, وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين, ولهذا قال تعالى: {سنعيدها سيرتها الأولى} أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك. ** وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىَ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ آيَةً أُخْرَىَ * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَىَ * اذْهَبْ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسّرْ لِيَ أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مّن لّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي * وَاجْعَل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِيَ أَمْرِي * كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام, وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الاَية الأخرى, وههنا عبر عن ذلك بقوله: {واضمم يدك إلى جناحك} وقال في مكان آخر {واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه} وقال مجاهد: {واضمم يدك إلى جناحك} كفك تحت عضدك, وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها, تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر. وقوله: {تخرج بيضاء من غير سوء} أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم, وقال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح, فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل, ولهذا قال تعالى: {لنريك من آياتنا الكبرى} وقال وهب: قال له ربه: ادنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة, فاستقر وذهبت عنه الرعدة, وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه. وقوله: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فاراً منه وهارباً فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم, فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه: قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني, وإن معك أيدي ونصري, وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري, فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي, وأمن مكري, وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي, وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني, فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار, فإن أمرت السماء حصبته, وإن أمرت الأرض ابتلعته, وإن أمرت الجبال دمرته, وإن أمرت البحار غرقته, ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لاغني غيري, فبلغه رسالتي, وادعه إلى عبادتي, وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي, وحذره نقمتي وبأسي, وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي, وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى, وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة, ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا, فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني, وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزه بالمحاربة, تسبه وتتمثل به, وتصد عباده عن سبيله, وهو يمطر عليك السماء, وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب, ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل, ولكنه ذو أناة وحلم عظيم, وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده, فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت, ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة, ولا قليل مني, تغلب الفئة الكثيرة بإذني, ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به, ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين, ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين نظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت, ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما, وكذلك أفعل بأوليائي وقديماً ما جرت عادتي في ذلك, فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العناء, وما ذاك لهوانهم علي ولكن لسيتكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا, واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا, فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع, وسيماهم في وجوههم من أثر السجود, أولئك أوليائي حقاً حقاً, فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك, واعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها, وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي, أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي, أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني, أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني, وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والاَخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري, رواه ابن أبي حاتم {قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به, فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم, بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفراً, وأكثرهم جنوداً, وأعمرهم ملكاً, وأطغاهم وأبلغهم تمرداً, بلغ من أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله, ولا يعلم لرعاياه إلهاً غيره, هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه, ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه, فهرب منهم هذه المدة بكمالها, ثم بعد هذا بعثه ربه عز وجل إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, ولهذا قال: {رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري} أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري, وإلا فلا طاقة لي بذلك {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} وذلك لما كان أصابه, من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, كما سيأتي بيانه, وما سأل أن يزول ذلك بالكلية, بل بحيث يزول العي, ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة, ولو سأل الجميع لزال, ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة, ولهذا بقيت بقية, قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال: {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} أي يفصح بالكلام. وقال الحسن البصري {واحلل عقدة من لساني} قال: حل عقدة واحدة. ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن عباس: شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه, وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عمرو بن عثمان, حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر, حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له: فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك, ولست تعرب في قراءتك, فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال: نعم. قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلّ عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه, ولم يزد عليها, هذا لفظه. وقوله: {واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي} وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه, وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السلام. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن نمير, حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه, عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر, فنزلت ببعض الأعراب, فسمعت رجلاً يقول: أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ؟ قالوا: لا ندري. قال: أنا والله أدري. قالت: فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه, قال: موسى حين سأل لأخيه النبوة, فقلت: صدق والله. قلت: وفي هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام: {وكان عند الله وجيهاً}. وقوله: {اشدد به أزري} قال مجاهد: ظهري, {وأشركه في امري} أي في مشاورتي {كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً} قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً. وقوله: {إنك كنت بنا بصيراً} أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة, وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك. ** قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَمُوسَىَ * وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَيْكَ مَرّةً أُخْرَىَ * إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّكَ مَا يُوحَىَ * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمّ بِالسّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوّ لّي وَعَدُوّ لّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىَ عَيْنِيَ * إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل, وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من امر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه, لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان, فاتخذت له تابوتاً, فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل, وتمسكه إلى منزلها بحبل, فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر, فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} فذهب به البحر إلى دار فرعون {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} أي قدراً مقدوراً من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى, فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون, ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له, ولهذا قال تعالى: {يأخذه عدو لي وعدو له * وألقيت عليك محبة مني} أي عند عدوك جعلته يحبك, قال سلمة بن كهيل {وألقيت عليك محبة مني} قال: حببتك إلى عبادي {ولتصنع على عيني} قال أبو عمران الجوني: تربى بعين الله وقال قتادة: تغذى على عيني. وقال معمر بن المثنى {ولتصنع على عيني} بحيث أرى, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف, وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة. وقوله: {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها} وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها, قال الله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} فجاءت أخته وقالت: {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة, فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها, فقبله ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الاَخرة أغنى وأجزل, ولهذا جاء في الحديث «مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» وقال تعالى ههنا: {فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن} أي عليك {وقتلت نفسا} يعني القبطي {فنجيناك من الغم} وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله, ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين, وقال له ذلك الرجل الصالح: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين}. وقوله: {وفتناك فتونا} قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب التفسير من سننه قوله {وفتناك فتوناً} (حديث الفتون) حدثنا عبد الله بن محمد, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا أصبغ بن زيد, حدثنا القاسم بن أبي أيوب, أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل لموسى عليه السلام {وفتناك فتوناً} فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً, فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون, فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً, فقال بعضهم: إن بني اسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه, وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب, فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام, فقال فرعون: كيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه, ففعلوا ذلك, فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم, والصغار يذبحون, قالوا: ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم, فاقتلوا عاماً كل مولد ذكر, واتركوا بناتهم, ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً, فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار, فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم, فتخافوا مكاثرتهم إياكم, ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم, فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان, فولدته علانية آمنة, فلما كان من قابل, حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن, وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به, فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين, فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم, فلما ولدت فعلت ذلك, فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها: ما فعلت با بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه. فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون, فلما رأينه أخذنه, فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن: إن في هذا مالاً, وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه, فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها, فلما فتحته رأت فيه غلاماً, فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط, وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى, فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت لهم: أقروه, فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه, فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم, وإن أمر بذبحه لم ألمكم, فأتت فرعون فقالت: قرة عين لي ولك, فقال فرعون: يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها, ولكن حرمه ذلك», فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئراً, فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت, فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها, فلم يقبل. وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكراً: أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه, فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون, والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به, فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات: أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون, فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك, وذلك من الفتون يا ابن جبير, فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها, فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر, فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه رياً, وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئراً, فأرسلت إليها فأتت بها وبه, فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي ترضعي ابني هذا, فإني لم أحب شيئاً حبه قط. قالت أم موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع, فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً, فإني غير تاركة بيتي وولدي, وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه, فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده, فرجعت به إلى بيتها من يومها, وأنبته الله نباتاً حسناً, وحفظه لما قد قضى فيه. فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم, فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أتريني ابني فدعتها يوماً تريها إياه فيه, وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك, وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم, فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون, فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به, ونحلت أمه لحسن أثرها عليه, ثم قالت: لاَتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه, فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض, فقال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك, فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه, وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به. وأريد به فتوناً فجاءت امرأة فرعون فقالت: ما بدالك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال ألاترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ؟ فقالت: اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به, ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه, فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين, عرفت أنه يعقل, وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل, فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين, فتناول الجمرتين, فانتزعهمامنه مخافة أن يحرقا يده, فقالت المرأة: ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به, وكان الله بالغاً فيه أمره, فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع, فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والاَخر إسرائيلي, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً, لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره, فوكز موسى الفرعوني فقتله, وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي, فقال موسى حين قتل الرجل: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين, ثم قال: {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}. فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار, فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون, فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم, فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه, فإن الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت, فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم, فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي رأى, فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني, فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم: {إنك لغوي مبين}, فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال, فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني, فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين, أن يكون إياه أراد, ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني, فخاف الإسرائيلي وقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله, فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس, فأرسل فوعون الذباحين ليقتلوا موسى, فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم, فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة, فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره, وذلك من الفتون يا ابن جبير. فخرج موسى متوجهاً نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك, وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل, فإنه قال: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل * ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} يعني بذلك حابستين غنمهما, فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء, فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما, وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة وقال: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلاً بطاناً, فقال: إن لكما اليوم لشأناً, فأخبرتاه بما صنع موسى, فأمر إحداهما أن تدعوه, فأتت موسى فدعته, فلما كلمه قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان, ولسنا في مملكته, فقالت إحداهما: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوته وما أمانته ؟ فقالت: أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا, لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه, وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له, فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك, ثم قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق, فلم يفعل هذا إلا وهو أمين, فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت, فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج, فإن أتممت عشراً, فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} ؟ ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة, وكانت سنتان عدة منه, فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً. قال سعيد وهو ابن جبير: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال: هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت: لا, وأنا يومئذ لا أدري, فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك, فقال: أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً, ويعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده, فإنه قضى عشر سنين, فلقيت النصراني فأخبرته ذلك, فقال: الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك, قلت: أجل وأولى, فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن, فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه, فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام, وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه, فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه, وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه, فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهما السلام, فانطلقا جميعاً إلى فرعون, فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما, ثم أذن لهما بعد حجاب شديد, فقالا: {إنا رسولا ربك} قال: فمن ربكما ؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال: فما تريدان ؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت, قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل, فأبى عليه وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين, فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة, فاغرة فاها, مسرعة إلى فرعون, فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل, ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء, يعني من غير برص, ثم ردها فعادت إلى لونها الأول, فاستشار الملأ حوله فيما رأى, فقالوا له: هذان ساحران {يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى}, يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش, وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب, وقالوا له: اجمع لهما السحرة, فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما, فأرسل إلى المدئن فحشر له كل ساحر متعالم, فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا: يعمل بالحيات, قالوا: فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل, فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي, وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم, فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى. قال سعيد بن جبير: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ؟ فـ {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال: بل ألقوا, فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة, فأوحى الله إليه أن ألقِ عصاك, فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيمة فاغرة فاها, فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزراً إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصاً ولا حبلاً إلا ابتعلته, فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا, ولكن هذا أمر من الله عز وجل, آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله, ونتوب إلى الله مما كنا عليه, فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه, وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه, فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه, وإنما كان حزنها وهمها لموسى, فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة, كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات, كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل, فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً, فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه, ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه, فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل, فيصير عاصياً لله. فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال: وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه, ثم ذكر بعد ذلك العصا, فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى, فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى, فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه, التقى عليهم البحر كما أمر, فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه, فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه, ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه} الاَية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم, ومضى فأنزلهم موسى منزلاً وقال: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم, فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها, فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوماً, وقد صامهن ليلهن ونهارهن, وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم, فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضعه فقال له ربه حين أتاه: لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان, قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك, ارجع فصم عشراً ثم ائتني. ففعل موسى عليه السلام ما أمر به, فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك, وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك, فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية, ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا, فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير, ثم أوقد عليه النار فأحرقته, فقال: لا يكون لنا ولا لهم, وكان السامري من قوم يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل, ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا, فقضي له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة, فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري ألا تلقي ما في يدك, وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ؟ فقال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر, ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد, فألقاها ودعا له هارون, فقال: أريد أن يكون عجلاً, فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد, فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار, قال ابن عباس: لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه, وكان ذلك الصوت من ذلك, فتفرق بنو إسرائيل فرقاً, فقالت فرقة: يا سامري ما هذا وأنت أعلم به ؟ قال: هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق, فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى, فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا, وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى, وقالت فرقة: هذا من عمل الشيطان, وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق, وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به, فقال لهم هارون: {يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري} قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ثم أخلفنا, هذه أربعون يوماً قد مضت, وقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه: يتبعه, فلما كلم الله موسى وقال له ما قال, أخبره بما لقي قومه من بعده {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} فقال لهم ما سمعتم في القرآن, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وألقى الألواح من الغضب, ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له, وانصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم {فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي, قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً}, ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه, فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة, واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون, فقالوا لجماعتهم: يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا, فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل, فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض! فاستحيانبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل, فقال: {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا} وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به, فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون, الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل} فقال: يا رب سألتك التوبة لقومي, فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي, هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد, فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن, وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون, واطلع الله من ذنوبهم, فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا, وغفر الله للقاتل والمقتول. ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة, وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب, فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف, فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها, فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم, فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون, ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم, ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون, خلقهم خلق منكر, وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها, فقالوا: يا موسى إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم, ولا ندخلها ما داموا فيها, فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه ؟ قال: نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم, فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم, فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غا لبون, ويقول أناس: إنهم من قوم موسى, فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} فأغضبوا موسى, فدعا عليهم وسماهم فاسقين, ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ, فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين, وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار, وظلل عليهم الغمام في التيه, وأنزل عليهم المن والسلوى, وجعل لهم ثياباً لا تبلىَ ولا تتسخ, وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً, وأمر موسى فضربه بعصاه, فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين, وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها, فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس. رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل, فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به, ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ فغضب ابن عباس فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري, فقال له: يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتلمن آل فرعون ؟ الاسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره, وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى, وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيرهما, كلهم من حديث يزيد بن هارون به, وهو موقوف من كلام ابن عباس, وليس فيه مرفوع إلا قليل منه, وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار, أو غيره, والله أعلم, وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً. ** إِذْ تَمْشِيَ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىَ أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمّ جِئْتَ عَلَىَ قَدَرٍ يَمُوسَىَ * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي * اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَآ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لّيّناً لّعَلّهُ يَتَذَكّرُ أَوْ يَخْشَىَ يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام: إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه, يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل, ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد, والأمر كله لله تبارك وتعالى, وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء, ولهذا قال: {ثم جئت على قدر يا موسى} قال مجاهد: أي على موعد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {ثم جئت على قدر يا موسى} قال: على قدر الرسالة والنبوة. وقوله: {واصطنعتك لنفسي} أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي أي كما أريد وأشاء. وقال البخاري عند تفسيرها: حدثنا الصلت بن محمد, حدثنا مهدي بن ميمون, حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التقى آدم وموسى فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة, فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة ؟ قال: نعم, قال فوجدته مكتوباً عليّ قبل أن يخلقني, قال: نعم فحج آدم موسى» أخرجاه. وقوله: {اذهب أنت وأخوك بآياتي} أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي {ولا تنيا في ذكري} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا, وقال مجاهد عن ابن عباس: لا تضعفا, والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله, بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون, ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه, وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له, كما جاء في الحديث «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه». وقوله: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى} أي تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} هذه الاَية فيها عبرة عظيمة, وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك, ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين, كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فقولا له قولاً ليناً}, يا من يتحبب إلى من يعاديهفكيف بمن يتولاه ويناديه ؟ وقال وهب بن منبه: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله: {فقولا له قولاً ليناً} قال: لا إله إلا الله, وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري {فقولا له قولاً ليناً} أعذرا إليه قولا له: إن لك رباً ولك معاداً, وإن بين يديك جنة وناراً, وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن سبرة عن علي في قوله {فقولا له قولاً لينا} قال: كنه, وكذا روي عن سفيان الثوري: كنه بأبي مرة, والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق, ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع, كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. وقوله: {لعله يتذكر أو يخشى} أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة, أو يخشى أي يوجد طاعة من خشية ربه, كما قال تعالى: {لمن أراد أن يذكر أو يخشى} فالتذكر الرجوع عن المحذور, والخشية تحصيل الطاعة, وقال الحسن البصري: {لعله يتذكر أو يخشى} يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه, وههنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل, ويروى لأمية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق. وأنت الذي من فضل منّ ورحمةبعثت إلى موسى رسولاً مناديا فقلت له: فاذهب وهارون فادعُوَاإلى الله فرعون الذي كان باغيا فقولا له: هل أنت سويت هذهبلا وتد حتى استقلت كما هيا وقولا له: آأنت رفعت هذهبلا عمد أرفق إذن بك بانيا وقولا له: آأنت سويت وسطهامنيراً إذا ما جنه الليل هاديا وقولا له: من يخرج الشمس بكرةفيصبح مامَسّت من الأرض ضاحيا وقولا له: من ينبت الحب في الثرىفيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبة في رؤوسه ؟ففي ذاك آيات لمن كان واعيا ** قَالاَ رَبّنَآ إِنّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىَ * قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىَ * فَأْتِيَاهُ فَقُولآ إِنّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رّبّكَ وَالسّلاَمُ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ * إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنّ الْعَذَابَ عَلَىَ مَن كَذّبَ وَتَوَلّىَ يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام, أنهما قالا متسجيرين بالله تعالى شاكيين إليه: {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما, فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أن يفرط يعجل. وقال مجاهد: يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى: يعتدي {قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} أي لا تخافا منه, فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه, وأرى مكانكما ومكانه, لا يخفى عليّ من أمركم شيء, واعلما أن ناصيته بيدي, فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري, وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما بعث الله عز وجل موسى إلى فرعون قال: رب أي شيء أقول ؟ قال: قل هيا شراهيا. قال الأعمش: فسر ذلك: أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء, إسناده جيد, وشيء غريب {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك} قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال: مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد. وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه, وهما يقولان: إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل, فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترىء أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه بطال له يلاعبه ويضحكه, فقال له: أيها الملك إن على بابك رجلاً يقول قولاً عجيباً يزعم أن له إلهاً غيرك أرسله إليك. قال ببابي ؟ قال: نعم, قال: أدخلوه, فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه, فلما وقف على فرعون قال: إني رسول رب العالمين, فعرفه فرعون, وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه, وهما لا يعرفانه, وكان طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت, ثم عرفاه وسلما عليه, فقال له موسى: يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني. قال: افعل ما أمرك ربك, فذهبا وكان ذلك ليلاً, فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون, فغضب وقال: من يجترىء على هذا الصنيع الشديد, فأخبره السدنة والبوابون بأن ههنا رجلاً مجنوناً يقول إنه رسول الله, فقال علي به, فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه. وقوله: {قد جئناك بآية من ربك} أي بدلالة ومعجزة من ربك {والسلام على من اتبع الهدى} أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى, ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله «بسم الله الرحمن الرحمن, من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد, فإني أدعوك بدعاية الإسلام, فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله, سلام عليك, أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر, فلك المدر ولي الوبر, ولكن قريشاً قوم يعتدون, فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب, سلام على من اتبع الهدى, أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون {والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته, كما قال تعالى: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى} وقال تعالى: {فأنذرتكم ناراً تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى} وقال تعالى: {فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى} أي كذب بقلبه, وتولى بفعله. ** قَالَ فَمَن رّبّكُمَا يَمُوسَىَ * قَالَ رَبّنَا الّذِيَ أَعْطَىَ كُلّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمّ هَدَىَ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُولَىَ * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّي فِي كِتَابٍ لاّ يَضِلّ رَبّي وَلاَ يَنسَى يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه, قال {فمن ربكما يا موسى} أي الذي بعثك وأرسلك من هو, فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري {قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يقول خلق لكل شيء زوجه. وقال الضحاك عن ابن عباس: جعل الإنسان إنساناً, والحمار حماراً, والشاة شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: أعطى كل شيء صورته. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: سوى خلق كل دابة. وقال سعيد بن جبير في قوله: {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} قال: أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه, ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة, ولاللدابة من خلق الكلب, ولا للكلب من خلق الشاة, وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح, وهيأ كل شيء على ذلك, ليس شيء منها يشبه شيئاًمن أفعاله في الخلق والرزق والنكاح. وقال بعض المفسرين: أعطى كل شيء خلقه ثم هدى, كقوله تعالى: {الذي قدر فهدى} أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه, أي كتب الأعمال والاَجال والأرزاق, ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه. يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على ما أراد {قال فما بال القرون الأولى} أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لماأخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق, وقدر فهدى, شرع يحتج بالقرون الأولى, أي الذين لم يعبدوا الله, أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره, فقال له موسى في جواب ذلك, هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط علهيم, وسجزيهم بعملهم في كتاب الله, وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال {لا يضل ربي ولا ينسى} أي لا يشذ عنه شيء, ولا يفوته صغير ولا كبير, ولا ينسى شيئاً يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط, وأنه لا ينسى شيئاً, تبارك وتعالى وتقدس وتنزه, فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان: أحدهما عدم الإحاطة بالشيء, والاَخر نسيانه بعد علمه, فنزه نفسه عن ذلك. ** الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نّبَاتٍ شَتّىَ * كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلّهَا فَكَذّبَ وَأَبَىَ من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه, فقال: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ثم اعترض الكلام بين ذلك, ثم قال: {الذي جعل لكم الأرض مهداً} وفي قراءة بعضهم مهاداً أي قراراً تستقرون عليها, وتقومون وتنامون عليها, وتسافرون على ظهرها {وسلك لكم فيها سبلاً} أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى: {وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً لعلهم يهتدون} {وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى} أي من أنواع النباتات من زروع وثمار, ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع {كلوا وارعوا أنعامكم} أي شيء لطعامكم وفاكهتكم, وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً {إن في ذلك لاَيات} أي لدلالات وحججاً وبراهين {لأولي النهى} أي لذوي العقول السليمة المستقيمة, على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} أي من الأرض مبدؤكم, فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم, ومنها نخرجكم تارة أخرى {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا} وهذه الاَية كقوله تعالى: {قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة, فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال: منها خلقناكم, ثم أخذ أخرى, وقال: وفيها نعيدكم, ثم أخرى, وقال: ومنها نخرجكم تارة أخرى. وقوله: {ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى} يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والاَيات والدلالات, وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً, كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} الاَية. ** قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَمُوسَىَ * فَلَنَأْتِيَنّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الاَية الكبرى, وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً, ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء, فقال: هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك, وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك, فإن عندنا سحراً مثل سحرك, فلا يغرنك ما أنت فيه, {فاجعل بيننا وبينك موعداً} أي يوماً نجتمع نحن وأنت فيه, فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر في مكان معين ووقت معين, فعند ذلك {قال} لهم موسى {موعدكم يوم الزينة} وهو يوم عيدهم ونيروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم, ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية, ولهذا قال: {وأن يحشر الناس} أي جميعهم {ضحى} أي ضحوة من النهار, ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح, وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج, ولهذا لم يقل ليلاً ولكن نهاراً ضحى, قال ابن عباس: وكان يوم الزينة يوم عاشوراء. وقال السدي وقتادة وابن زيد: كان يوم عيدهم. وقال سعيد بن جبير: كان يوم سوقهم, ولا منافاة. قلت: وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده, كما ثبت في الصحيح, وقال وهب بن منبه: قال فرعون: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه. قال موسى لم أومر بهذا إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك, فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلاً, وقل له أن يجعل هو, قال فرعون: اجعله إلى أربعين يوماً ففعل, وقال مجاهد وقتادة: مكاناً سوى منصفاً. وقال السدي: عدلاً. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مكاناً سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستو حين يرى. ** فَتَوَلّىَ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمّ أَتَىَ * قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىَ * فَتَنَازَعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَىَ * قَالُوَاْ إِنْ هَـَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىَ * فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىَ يقول تعالى مخبراً عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين تولى, أي شرع في جمع السحرة من مدائن ممكلته, كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان, وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً, كما قال تعالى: {وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم} ثم أتي. أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة, وجلس فرعون على سرير مملكته, واصطف له أكابر دولته, ووقفت الرعايا يمنة ويسرة, وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه ومعه أخوه هارون, ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفاً, وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم, ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم, يقولون {أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين} {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً} أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة, وليست مخلوقة, فتكونون قد كذبتم على الله {فيسحتكم بعذاب} أي يهلككم بعقوبة هلاكاً لا بقية له {وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم} قيل معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم, فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي, وقائل يقول بل هو ساحر, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: {وأسروا النجوى} أي تناجوا فيما بينهم {قالوا إن هذا لساحران} وهذه لغة لبعض العرب, جاءت هذه القراءة على إعرابها, ومنهم من قرأ {إن هذين لساحران} وهذ اللغة المشهورة, وقد توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه. والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه ـ يعنون موسى وهارون ـ ساحران عالمان, خبيران بصناعة السحر, يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس, وتتبعهما العامة, ويقاتلا فرعون وجنوده, فينصرا عليه, ويخرجاكم من أرضكم. وقوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر, فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها, يقولون: إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض, وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم, وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق, سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله: {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال: يصرفا وجوه الناس إليهما. وقال مجاهد {ويذهبا بطريقتكم المثلى} قال: أولو الشرف والعقل والأسنان. وقال أبو صالح: بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة: بخيركم. وقال قتادة: وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل, وكانوا أكثر القوم عدداً وأمولاً, فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما. وقال عبد الرحمن بن زيد: بطريقتكم المثلى بالذي أنتم عليه. {فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفاً} أي اجتمعوا كلكم صفاً واحداً, وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا الأبصار, وتغلبوا هذا وأخاه {وقد أفلح اليوم من استعلى} أي منا ومنه, أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل, وأما هو فينال الرياسة العظيمة. ** قَالُواْ يَمُوسَىَ إِمّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمّآ أَن نّكُونَ أَوّلَ مَنْ أَلْقَىَ * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيّهُمْ يُخَيّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنّهَا تَسْعَىَ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مّوسَىَ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنّكَ أَنتَ الأعْلَىَ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوَاْ إِنّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتَىَ * فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سُجّداً قَالُوَاْ آمَنّا بِرَبّ هَارُونَ وَمُوسَىَ يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام, أنهم قالوا لموسى {إما أن تلقي} أي أنت أولاً {وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا} أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر, وليظهر للناس جلية أمرهم {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وفي الاَية الأخرى أنهم لما ألقوا {قالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وقال تعالى: {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم} وقال ههنا: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى} وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد, بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها, وإنما كان حيلة, وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً, فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملاَن حيات يركب بعضها بعضاً. وقوله: {فأوجس في نفسه خيفة موسى} أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه, فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألقِ ما في يمينك يعني عصاك, فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس, فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلا تلقفته وابتلعته, والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة, فقامت المعجزة واتضح البرهان, ووقع الحق وبطل السحر, ولهذا قال تعال: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ {ولا يفلح الساحر حيث أتى} قال: لا يؤمن به حيث وجد» وقد روى أصله الترمذي موقوفاً ومرفوعاً. فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه, ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل, وأنه حق لا مرية فيه, ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون, فعند ذلك وقعوا سجداً لله, وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون, ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة, وفي آخر النهار شهداء بررة. وقال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفاً, وقال القاسم بن أبي بزة: كانوا سبعين ألفاً, وقال السدي: بضعة وثلاثين ألفاً, وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة: كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفاً, وقال محمد بن إسحاق: كانوا خمسة عشر ألفاً, وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن علي بن حمزة, حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت السحرة سبعين رجلاً, أصبحوا سحرة, وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح بمكة, حدثنا ابن المبارك قال: قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجداً, رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها, قال: وذكر عن سعيد بن سلام, حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان عن سالم الأفطس عن سيعد بن جبير قوله: {فألقي السحرة سجداً} قال: رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم, وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة. ** قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ * قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هَـَذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ * إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل, حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والاَية العظيمة, ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم, وغلب كل الغلب, شرع في المكابرة والبهت, وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة, فتهددهم وتوعدهم وقال: {آمنتم له} أي صدقتموه {قبل أن آذن لكم} أي ما أمرتكم بذلك وأفتنتم علي في ذلك, وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى, واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه, كما قال تعالى في الاية الأخرى: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون}, ثم أخذ يتهددهم فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل} أي لأجعلنكم مثلة, ولأقتلنكم ولأشهرنكم, قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقوله {ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى} أي أنتم تقولون: إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى, فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه, فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم, هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل و{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين, {والذي فطرنا} يحتمل أن يكون قسماً, ويحتمل أن يكون معطوفاً على البينات, يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدي خلقنا من الطين, فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت, {فاقض ما أنت قاض} أي فافعل ما شئت, وما وصلت إليه يدك, {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال, ونحن قد رغبنا في دار القرار {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} أي ما كان منا من الاَثام خصوصاً ما أكرهتنا عليه من الحسر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما أكرهتنا عليه من السحر} قال: أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل, فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء, وقال: علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض, قال ابن عباس: فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا: {آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر} وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقوله: {والله خير وأبقى} أي خير لنا منك {وأبقى} أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا, وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله. وقال محمد بن كعب القرظي {والله خير} أي لنا منك إن أطيع {وأبقى} أي منك عذاباً غن عصي, وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضاً. والظاهر أن فرعون ـ لعنه الله ـ صمم على ذلك, وفعله بهم رحمة لهم من الله, ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف: أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء. ** إِنّهُ مَن يَأْتِ رَبّهُ مُجْرِماً فَإِنّ لَهُ جَهَنّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىَ * وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحَاتِ فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الدّرَجَاتُ الْعُلَىَ * جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكّىَ الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون, يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي, ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد, فقالوا: {إنه من يأت ربه مجرماً} أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم {فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} كقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور} وقال: {ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى} وقال تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا إسماعيل, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أهل النار الذين هم أهلها, فإنهم لا يموتمون فيها ولا يحيون, ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر, فبثوا على أنهار الجنة, فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم, فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية, وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل, كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبي, حدثنا حيان, سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فأتى على هذه الاَية {إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون, وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون, فتجعل الضبائر, فيؤتى بهم نهراً يقال له الحياة أو الحيوان, فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل». وقوله تعالى: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات} أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله {فأولئك لهم الدرجات العلى} أي الجنة ذات الدرجات العاليات, والغرف الاَمنات, والمساكن الطيبات. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, أنبأنا همام, حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, والفردوس أعلاها درجة, ومنها تخرج الأنهار الأربعة, والعرش فوقها, فإذا سألتهم الله فاسألوه الفردوس» ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي, أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: كان يقال: الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة, بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فيهن الياقوت والحلي, في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد, وفي الصحيحين: «إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم ـ قالوا يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء قال ـ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن: وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما. وقوله: {جنات عدن} أي إقامة, وهي بدل من الدرجات العلى {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها} أي ماكثين أبداً {وذلك جزاء من تزكى} أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك, وعبد الله وحده لا شريك له. واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من خير وطلب. ** وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىَ * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىَ يقول تعالى مخبراً أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل, ويذهب بهم من قبضة فرعون, وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة, وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب, فغضب فرعون غضباً شديداً, وأرسل في المدائن حاشرين, أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه, يقول: {إن هؤلاء لشرذمة قليلون, وإنهم لنا لغائظون}, ثم لما جمع جنده واستوسق له جيشه, ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين, أي عند طلوع الشمس {فلما تراءى الجمعان} أي نظر كل من الفريقين إلى الاَخر {قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين} ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم, وفرعون وراءهم, فعند ذلك أوحى الله إليه {أن اضرب لهم طريقاً في البحر يبساً} فضرب البحر بعصاه, وقال: انفلق علي بإذن الله, فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم, أي الجبل العظيم, فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يبساً كوجه الأرض, فلهذا قال: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً} أي من فرعون {ولا تخشى} يعني من البحر أن يغرق قومك, ثم قال تعالى: {فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم} أي البحر {ما غشيهم} أي الذي هو معروف ومشهور, وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور, كما قال تعالى: {والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى} وقال الشاعر: أنا أبو النجم وشعري شعري أي الذي يعرف وهو مشهور. وكما تقدم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد, كذلك يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود. ** يَبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مّنْ عَدُوّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطّورِ الأيْمَنَ وَنَزّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوَىَ * كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىَ * وَإِنّي لَغَفّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمّ اهْتَدَىَ يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام, حيث أنجاهم من عدوهم فرعون, وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة, لم ينج منهم أحد, كما قال: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا شعبة, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, وجد اليهود تصوم عاشوراء, فسألهم فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون, فقال: «نحن أولى بموسى فصوموه» رواه مسلم أيضاً في صحيحه. ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن, وهو الذي كلمه الله تعالى عليه, وسأل فيه الرؤية, وأعطاه التوراة هنالك, وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريباً, وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها, فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء, والسلوى طائر يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد, لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم, ولهذا قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم, ولا تطغوا في رزقي فتأخذوه من غير حاجة, وتخالفوا ما أمرتكم به {فيحل عليكم غضبي} أي أغضب عليكم {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي فقد شقي. وقال شفي بن مانع: إن في جهنم قصراً يرمى الكافر من أعلاه, فيهوي في جهنم أربعين خريفاً قبل أن يبلغ الصلصال, وذلك قوله {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} وراه ابن أبي حاتم. وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً} أي كل من تاب إلي, تبت عليه من أي ذنب كان, حتى أنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل. وقوله تعالى: {تاب} أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق. وقوله: {وآمن} أي بقلبه. {وعمل صالحاً} أي بجوارحه. وقوله: {ثم اهتدى} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي ثم لم يشكك. وقال سعيد بن جبير {ثم اهتدى} أي استقام على السنة والجماعة وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف وقال قتادة {ثم اهتدى} أي لزم الإسلام حتى يموت وقال سفيان الثوري {ثم اهتدى} أي علم أن لهذا ثواباً, وثم ههنا لترتيب الخبر على الخبر, كقوله: {ثم كان من الذين آمنواوعملواالصالحات}. . ** وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَمُوسَىَ * قَالَ هُمْ أُوْلآءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ * قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ * فَرَجَعَ مُوسَىَ إِلَىَ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتّمْ أَن يَحِلّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مّوْعِدِي * قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَـَكِنّا حُمّلْنَآ أَوْزَاراً مّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السّامِرِيّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَـَذَآ إِلَـَهُكُمْ وَإِلَـَهُ مُوسَىَ فَنَسِيَ * أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} وواعده ربه ثلاثين ليلة, ثم أتبعها عشراً, فتمت أربعين ليلة, أي يصومها ليلاً ونهاراً, وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك, فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور, واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون, ولهذا قال تعالى: {وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري} أي قادمون ينزلون قريباً من الطور {وعجلت إليك رب لترضى} أي لتزداد عنى رضا {قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري} أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري. وفي الكتب الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضاً, وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين} أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري. وقوله: {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً} أي بعدما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم, هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم, وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم, وفيها شرف لهم, وهم قوم قد عبدوا غير الله, ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة عقولهم وأذهانهم, ولهذا قال: رجع إليهم غضبان أسفاً, والأسف شدة الغضب. وقال مجاهد: غضبان أسفاً أي جزعاً, وقال قتادة والسدي: أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده {قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً} أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والاَخرة وحسن العاقبة, كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من أيادي الله {أفطال عليكم العهد} أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما بالعهد من قدم, {أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم} أم ههنا بمعنى بل, وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول إلى الثاني, كأنه يقول: بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي, قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم {ما أخلفنا موعدك بملكنا} أي عن قدرتنا واختيارنا, ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد, يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر, فقذفناها أي ألقيناها عنا. وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون عليه السلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار, وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس, إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك الحفيرة, ويجعل حجراً واحداً, حتى إذا رجع موسى عليه السلام, رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول, وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته, فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له, فقال السامري عند ذلك: أسأل الله أن يكون عجلاً, فكان عجلاً له خوار أي صوت استدراجاً, وإمهالاً ومحنة واختباراً, ولهذا قال: {فكذلك ألقى السامري, فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبادة بن النجتري, حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل, فقال له: ما تصنع ؟ فقال: أصنع ما يضر ولا ينفع, فقال هارون: اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه, ومضى هارون. وقال السامري: اللهم إني أسألك ان يخور فخار, فكان إذا خار سجدوا له, وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال: أعمل ما ينفع ولا يضر. وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا: أي الضّلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه: {هذا إلهكم وإله موسى فنسي} أي نسيه ههنا وذهب يتطلبه, كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس, وبه قال مجاهد, وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {فنسي}, أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم, وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال: {هذا إلهكم وإله موسى} قال: فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط يعني مثله, يقول الله: {فنسي} أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري. قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه: {أفلا يرون أن لايرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً} أي العجل, أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه, {ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً}, أي في دنياهم ولا في أخراهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره. فيخرج من فمه فيسمع له صوت, وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت, وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل, فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير, كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب, يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق, قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين, وهم يسألون عن دم البعوضة. ** وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَقَوْمِ إِنّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنّ رَبّكُمُ الرّحْمَـَنُ فَاتّبِعُونِي وَأَطِيعُوَاْ أَمْرِي * قَالُواْ لَن نّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىَ يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم, إنما هذا فتنة لكم وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً, ذو العرش المجيد الفعال لما يريد {فاتبعوني وأطيعوا أمري} أي فيما آمركم به, واتركوا ما أنهاكم عنه, {قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه, وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه. ** قَالَ يَهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلّوَاْ * أَلاّ تَتّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَابْنَأُمّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرّقْتَ بَيْنَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه, فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم, فامتلأ عند ذلك غضباً وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية, وأخذ برأس أخيه يجره إليه, وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك, وذكرنا هناك حديث «ليس الخبر كالمعاينة» وشرع يلوم أخاه هارون, فقال: {ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن} أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع {أفعصيت أمري} أي فيما كنت قدمت إليك, وهو قوله: {اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} {قال يا ابن أم} ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه, لأن ذكر الأم ههنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف, ولهذا قال: {يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} الاَية, هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم, قال: {إني خشيت} أن أتبعك فأخبرك بهذا, فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم {ولم ترقب قولي} أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم, قال ابن عباس: وكان هارون هائباً مطيعاً له. ** قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَسَامِرِيّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنّ لَكَ مَوْعِداً لّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَىَ إِلَـَهِكَ الّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لّنُحَرّقَنّهُ ثُمّ لَنَنسِفَنّهُ فِي الْيَمّ نَسْفاً * إِنّمَآ إِلَـَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً يقول موسى عليه السلام للسامري: ما حملك على ما صنعت ؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت ؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان السامري رجلاً من اهل باجرما, وكان من قوم يعبدون البقر, وكان حب عبادة البقر في نفسه, وكان قد أظهر الاسلام مع بني إسرائيل, وكان اسمه موسى بن ظفر, وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان, وقال قتادة: كان من قرية سامرا {قال بصرت بما لم يبصروا به} أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون {فقبضت قبضة من أثر الرسول} أي من أثر فرسه, وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث, أخبرني عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال: إن جبريل عليه السلام لما نزل فصعد بموسى عليه السلام إلى السماء, بصر به السامري من بين الناس, فقبض قبضة من أثر الفرس, قال: وحمل جبريل موسى عليهما السلام خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح, وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح, فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال: نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه, غريب. وقال مجاهد: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} قال: من تحت حافر فرس جبريل, قال: والقبضة ملء الكف, والقبضة بأطراف الأصابع, قال مجاهد: نبذ السامري, أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل, فانسبك عجلاً جسداً له خوار حفيف الريح فيه فهو خوراه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى, أخبرنا علي بن المديني, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا عمارة, حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول, فألقي في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان, فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة, فلما ذهب موسى للميقات, وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون, فقال لهم السامري: إنما أصابكم من أجل هذا الحلي, فاجمعوه فجمعوه, فأوقدوا عليه فذاب, فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت كن فيكون, فقذف القبضة وقال كن فكان عجلاً جسداً له خوار, فقال: {هذا إلهكم وإله موسى} ولهذا قال {فنبذتها} أي ألقيتها مع من ألقى {وكذلك سولت لي نفسي} أي حسنته وأعجبها, إذا ذاك {قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس, أي لا تماس الناس ولا يمسونك {وإن لك موعداً} أي يوم القيامة {لن تخلفه} أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة {أن تقول لا مساس} قال: عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس. وقوله: {وإن لك موعداً لن تخلفه} قال الحسن وقتادة وأبو نهيك: لن تغيب عنه. وقوله: {وانظر إلى إلهك} أي معبودك {الذي ظلت عليه عاكفاً} أي أقمت على عبادته يعني العجل {لنحرقنه} قال الضحاك عن ابن عباس والسدي: سحله بالمبارد وألقاه على النار. وقال قتادة: استحال العجل من الذهب لحماً ودماً, فحرقه بالنار, ثم القى رماده في البحر, ولهذا قال: {ثم لننسفنه في اليم نسفاً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء, أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل, ثم صوره عجلاً, قال: فعمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد, فبرده بها وهو على شط نهر, فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب, فقالوا لموسى: ما توبتنا ؟ قال: يقتل بعضكم بعضاً, وهكذا قال السدي, وقد تقدم في تفسير سورة البقرة, ثم في حديث الفتون بسط ذلك. وقوله تعالى: {إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً} يقول لهم موسى عليه السلام: ليس هذا إلهكم, إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو, ولا تنبغي العبادة إلا له, فإن كل شيء فقير إليه عبد له. وقوله: {وسع كل شيء علماً} نصب على التمييز, أي هو عالم بكل شيء, {أحاط بكل شيء علماً}, و {أحصى كل شيء عدداً}, فلا {يعزب عنه مثقال ذرة}, {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها, ولا حبة في ظلمات الأرض, ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}, {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها, كل في كتاب مبين}, والاَيات في هذا كثيرة جداً. ** كَذَلِكَ نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لّدُنّا ذِكْراً * مّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع, كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص, هذا وقد آتيناك من لدنا, اي من عندنا ذكراً, وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه, تنزيل من حكيم حميد, الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتاباً مثله, ولا أكمل منه, ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن, وحكم الفصل بين الناس منه. ولهذا قال تعالى: {من أعرض عنه} أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً, وابتغى الهدى من غيره, فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم, ولهذا قال: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً} أي إثماً كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم, كما قال: {لأنذركم به ومن بلغ} فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع, فمن اتبعه هدي ومن خالفه وأعرض عنه, ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة, ولهذا قال: {من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه} أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك {وساء لهم يوم القيامة حملاً} أي بئس الحمل حملهم. ** يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً * نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور, فقال: «قرن ينفخ فيه». وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم, الدائرة منه بقدر السموات والأرض, ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وجاء في الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته, وانتظر أن يؤذن له» فقالوا: يا رسول الله كيف نقول ؟ قال «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا». وقوله: {ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً} قيل: معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال {يتخافتون بينهم} قال ابن عباس: يتسارون بينهم, أي يقول بعضهم لبعض: إن لبثتم إلا عشراً أي في الدار الدنيا, لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها, قال الله تعالى: {نحن أعلم بما يقولون} أي في حال تناجيهم بينهم {إذ يقول أمثلهم طريقة} أي العاقل الكامل فيهم {إن لبثتم إلا يوماً} أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد, لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها, كأنها يوم واحد, ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة, وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة, ولهذا قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ـ إلى قوله ـ ولكنكم كنتم لا تعملون} وقال تعالى: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} الاَية, وقال تعالى: {كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلمون} أي إنما كان لبثكم فيها قليلاً, لو كنتم تعلمون لاَثرتم الباقي على الفاني, ولكن تصرفتم فاسأتم التصرف, قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي. ** وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلآ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتّبِعُونَ الدّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرّحْمَـَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاّ هَمْساً يقول تعالى: {ويسألونك عن الجبال} أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول ؟ {فقل ينسفها ربي نسفاً} أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً {فيذرها} أي الأرض {قاعاً صفصفاً} أي بساطاً واحداً, والقاع هو المستوي من الأرض, والصفصف تأكيد لمعنى ذلك, وقيل الذي لا نبات فيه, والأول أولى وإن كان الاَخر مراداً أيضاً باللازم, ولهذا قال: {لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} أي لا ترى في الأرض يومئذ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً, كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه, ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} وقال: {مهطعين إلى الداع} وقال محمد بن كعب القرظي: يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة, ويطوي السماء, وتتناثر النجوم, وتذهب الشمس والقمر, وينادي مناد, فيتبع الناس الصوت يؤمونه, فذلك قوله: {يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له} وقال قتادة: لا عوج له, لا يميلون عنه. وقال أبو صالح: لا عوج له أي لا عوج عنه. وقوله: {وخشعت الأصوات للرحمن} قال ابن عباس: سكنت, وكذا قال السدي {فلا تسمع إلا همساً} قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: يعني وطء الأقدام, وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فلا تسمع إلا همساً} الصوت الخفي, وهو رواية عن عكرمة والضحاك. وقال سعيد بن جبير {فلا تسمع إلا همساً} الحديث وسره ووطء الأقدام, فقد جمع سعيد كلا القولين, وهو محتمل, أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر, وهو مشيهم في سكون وخضوع, وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال, فقد قال تعالى: {يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد}. ** يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمَـَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً يقول تعالى: {يومئذ} أي يوم القيامة {لا تنفع الشفاعة} أي عنده {إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاَ} كقوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}, وقوله: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}, وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون}. وقال: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}, وقال: {يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً}. وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال «آتي تحت العرش, وأخر لله ساجداً, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الاَن, فيدعني ما شاء أن يدعني, ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, واشفع تشفع ـ فيحد لي حداً, فأدخلهم الجنة ثم أعود» فذكر أربع مرات, صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وفي الحديث أيضاً «يقول تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان, فيخرجون خلقاً كثيراً, ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان, أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة, من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان» الحديث. وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} أي يحيط علماً بالخلائق كلهم {ولا يحيطون به علماً} كقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}. وقوله: {وعنت الوجوه للحي القيوم} قال ابن عباس وغير واحد: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت, القيوم الذي لا ينام, وهوقيم على كل شيء يدبره ويحفظه, فهو الكامل في نفسه, الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به. وقوله: {وقد خاب من حمل ظلماً} أي يوم القيامة, فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء, وفي الحديث «يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم» وفي الصحيح «إياكم والظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة, والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك, فإن الله تعالى يقول: إن الشرك لظلم عظيم». وقوله: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} لما ذكر الظالمين ووعيدهم, ثنى بالمتقين وحكمهم, وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون, أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم, قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد, فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره, والهضم النقص. ** وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلّهُمْ يَتّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً * فَتَعَالَىَ اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَىَ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رّبّ زِدْنِي عِلْماً يقول تعالى: ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعاً لا محالة, أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي, {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون} أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش {أو يحدث لهم ذكراً} وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات {فتعالى الله الملك الحق} أي تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق, ووعيده حق ورسله حق, والجنة حق والنار حق وكل شيء منه حق, وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثة الرسل, والإعذار إلى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة. وقوله: {ولا تعجل يالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}, كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان يعالج من الوحي شدة, فكان مما يحرك به لسانه, فأنزل الله هذه الاَية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي, كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن, فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه, فقال: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} أي أن نجمعه في صدرك, ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه} وقال في هذه الاَية {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي بل أنصت, فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده {وقل رب زدني علماً} أي زدني منك علماً, قال ابن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عز وجل, ولهذا جاء في الحديث «إن الله تابع الوحي على رسوله, حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن ثابت, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللهم انفعني بما علمتني, وعلمني ما ينفعني, وزدني علماً, والحمد الله على كل حال». وأخرجه الترمذي عن أبي كريب, عن عبد الله بن نميربه. وقال: غريب من هذا الوجه, ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس, عن أبي عاصم, عن موسى بن عبيدة به, وزاد في آخره «وأعوذ بالله من حال أهل النار». ** وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَىَ * فَقُلْنَا يَآدَمُ إِنّ هَـَذَا عَدُوّ لّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الْجَنّةِ فَتَشْقَىَ * إِنّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىَ * وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشّيْطَانُ قَالَ يَآدَمُ هَلْ أَدُلّكَ عَلَىَ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاّ يَبْلَىَ * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنّةِ وَعَصَىَ ءَادَمُ رَبّهُ فَغَوَىَ * ثُمّ اجْتَبَاهُ رَبّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىَ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي, وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه. وقال مجاهد والحسن: ترك. وقوله: {وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} يذكر تعالى تشريف آدم, وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً, وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر والكهف, وسيأتي في آخر سورة {ص} يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفاً وتكريماً, ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديماً, ولهذا قال تعالى: {فسجدوا إلا إبليس أبى} أي امتنع واستكبر {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك} يعني حواء عليهما السلام {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك, فإنك ههنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى} إنما قرن بين الجوع والعري, لأن الجوع ذل الباطن, والعري ذل الظاهر, {وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى} وهذان أيضاً متقابلان, فالظمأ حر الباطن وهو العطش, والضحى حر الظاهر. وقوله: {فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} قد تقدم أنه دلاهما بغرور {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة, فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد, يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه, وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد, فقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن أبي الضحاك, سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها, وهي شجرة الخلد» ورواه الإمام أحمد. وقوله: {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما} قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب, حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة, عن الحسن, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس, كأنه نخلة سحوق, فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه, فأول ما بدا منه عورته, فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة, فأخذت شعره شجرة فنازعها, فناداه الرحمن: يا آدم مني تفر, فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا, ولكن استحياء, أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال: نعم» فذلك قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب, فلم يسمعه منه, وفي رفعه نظر أيضاً. وقوله: {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قال مجاهد: يرقعان كهيئة الثوب, وكذا قال قتادة والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن عون, حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} قال: ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله: {وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا أيوب بن النجار عن يحي بن أبي كثير, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حاج موسى آدم, فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى, أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه, أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فحج آدم موسى», وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب, عن يزيد بن هرمز قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى عند ربهما, فحج آدم موسى, قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده, ونفخ فيك من روحه, وأسجد لك ملائكته, وأسكنك في جنته, ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك, قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه, وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء, وقربك نجياً, فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً, قال آدم: فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم, قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فحج آدم موسى», قال الحارث: وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ** قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مّنّي هُدًى فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَىَ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىَ * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَىَ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَىَ يقول تعالى لاَدم وحواء وإبليس: اهبطوا منها جميعاً, أي من الجنة كلكم, وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة {بعضكم لبعض عدو} قال: آدم وذريته, وإبليس وذريته. وقوله: {فإما يأتينكم مني هدى} قال أبو العالية: الأنبياء والرسل والبيان {فمن ابتع هداي فلا يضل ولا يشقى} قال ابن عباس: لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الاَخرة {ومن أعرض عن ذكري} أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فإن له معيشة ضنكاً} أي ضنكا في الدنيا, فلا طمأنينة له ولا انشرح لصدره, بل صدره ضيق حرج لضلاله, وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء, فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك, فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فإن له معيشة ضنكا} قال: الشقاء. وقال العوفي عن ابن عباس: {فإن له معيشة ضنكاً} قال: كلما أعطيته عبداً من عبادي قل أو كثر, لا يتقيني فيه, فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة, وقال أيضاً: إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين, فكانت معيشتهم ضنكاً, وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفاً لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب, فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به, اشتدت عليه معيشته, فذلك الضنك. وقال الضحاك: هو العمل السيء والرزق الخبيث, وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار. وقال سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله: {معيشة ضنكا} قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه, وقال أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, أنبأنا الوليد, أنبأنا عبد الله بن لهيعة, عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل {فإن له معيشة ضنكا} قال: ضمة القبر له, والموقوف أصح. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا أسد بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن في قبره في روضة خضراء, ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً, وينور له قبره كالقمر ليلة البدر, أتدرون فيم أنزلت هذه الاَية {فإن له معيشة ضنكا} أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «عذاب الكافر في قبره, والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية, لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون» رفعه منكر جداً. وقال البزار: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي: حدثنا محمد بن عمرو, حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن حجيرة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {فإن له معيشة ضنكا} قال «المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة». وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا أبو الوليد, حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم {فإن له معيشة ضنكا} قال: «عذاب القبر» إسناد جيد. وقوله: {ونحشره يوم القيامة أعمى} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: لا حجة له, وقال عكرمة: عمي عليه كل شيء إلا جهنم, ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً, كما قال تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم} الاَية, ولهذا يقول: {رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً} أي في الدنيا {قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك, تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها, كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك {فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا} فإن الجزاء من جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه, فليس داخلاً في هذاالوعيد الخاص, وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد, حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم», ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن عبادة بن الصامت, عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء. ** وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبّهِ وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَشَدّ وَأَبْقَىَ يقول تعالى: وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والاَخرة {لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الاَخرة أشق وما لهم من الله من واق} ولهذا قال: {ولعذاب الاَخرة أشد وأبقى} أي أشد ألماً من عذاب الدنيا وأدوم عليهم, فهم مخلدون فيه, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين: «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة». ** أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لاُوْلِي النّهَىَ * وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رّبّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مّسَمّى * فَاصْبِرْ عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الْلّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النّهَارِ لَعَلّكَ تَرْضَىَ يقول تعالى: {أفلم يهد} لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم, فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر, كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها {إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة, كما قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال في سورة الم السجدة: {أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} الاَية, ثم قال تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى} أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لايعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة, لجاءهم العذاب بغتة, ولهذا قال لنبيه مسلياً له: {فاصبر علىَ ما يقولون} أي من تكذيبهم لك {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس} يعني صلاة الفجر {وقبل غروبها} يعني صلاة العصر, كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر, فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر, لا تضامون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الاَية. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» رواه مسلم من حديث عبدالملك بن عمير به, وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة, ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه, وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين». وقوله: {ومن آناء الليل فسبح} أي من ساعاته فتهجد به, وحمله بعضهم على المغرب والعشاء, {وأطراف النهار} في مقابلة آناء الليل {لعلك ترضى} كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وفي الصحيح «يقول الله تعالى ياأهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك, فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك, فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك, فيقولون: وأي شىء أفضل من ذلك ؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً» وفي الحديث الاَخر «يا أهل الجنة, إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه: فيقولون: وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة, فيكشف الحجاب فينظرون إليه, فو الله ما أعطاهم خيراً من النظر إليه, وهي الزيادة») ** وَلاَ تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إِلَىَ مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَىَ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم, فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة, لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور. وقال مجاهد: {أزواجاً منهم}, يعني الأغنياء, فقد آتاك خيراً مما آتاهم, كما قال في الاَية الأخرى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك} الاَية, وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في الاَخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف, كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ولهذا قال: {ورزق ربك خير وأبقى} وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن, فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير, وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة, فابتدرت عينا عمر بالبكاء, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مايبكيك يا عمر ؟» فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه, وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال: «أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها, إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله, ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد. قال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن أبي سعيدأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا» قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال «بركات الأرض». وقال قتادة والسدي: زهرة الحياة الدنيا, يعني زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة: {لنفتنهم فيه} لنبتليهم. وقوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة, واصبر أنت على فعلها, كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ, وكان له ساعة من الليل يصلي فيها, فربما لم يقم, فنقول: لا يقوم الليلة كما كان يقوم, وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله, وقال «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها». وقوله: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب, كما قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} وقال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ـ إلى قوله ـ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} ولهذا قال: {لا نسألك رزقاً نحن نرزقك}. وقال الثوري: {لا نسألك رزقاً}, أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفاً, فإذا رجع إلى أهله, فدخل الدار قرأ {ولا تمدن عينيك ـ إلى قوله ـ نحن نرزقك} ثم يقول: الصلاة. الصلاة رحمكم الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني, حدثنا سيار, حدثنا جعفر عن ثابت قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله: يا أهلاه صلوا, صلوا. قال ثابت: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة, وقد روى الترمذي وابن ماجه من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تفعل, ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه, ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك», وروي أيضاً من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان, عن أبيه عن زيد بن ثابت, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره, وجعل فقره بين عينيه, ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له, ومن كانت الاَخرة نيته, جمع له أمره وجعل غناه في قلبه, وأتته الدنيا وهي راغمة» وقوله: {والعاقبة للتقوى} أي وحسن العاقبة في الدنيا والاَخرة, وهي الجنة لمن اتقى الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع, وأنا أتينا برطب ابن طاب, فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة, وأن ديننا قد طاب». ** وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مّن رّبّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِي الصّحُفِ الاُولَىَ * وَلَوْ أَنّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نّذِلّ وَنَخْزَىَ * قُلْ كُلّ مّتَرَبّصٌ فَتَرَبّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصّرَاطِ السّوِيّ وَمَنِ اهْتَدَىَ يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم: {لولا} أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه, أي بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله تعالى: {أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} يعني القرآن الذي أنزله عليه الله, وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب, وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها, فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها, وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة العنكبوت: {وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الاَيات عند الله وإنما أنا نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الاَيات ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» وإنما ذكر ههنا أعظم الاَيات التي أعطيها عليه السلام, وهو القرآن, وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر, كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه. ثم قال تعالى: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم, لكانوا قالوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال: {فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} كما قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ـ إلى قوله ـ بما كانوا يصدفون} وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} الاَية, وقال: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} الاَيتين, ثم قال تعالى: {قل} أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده {كل متربص} أي منا ومنكم {فتربصوا} أي فانتظروا {فستعلمون من أصحاب الصراط السوي} أي الطريق المستقيم {ومن اهتدى} إلى الحق وسبيل الرشاد, وهذا كقوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً} وقال: {سيعلمون غداً من الكذاب الأشر}. آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد. سورة الانبياء وهي مكية قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا غندر, حدثنا شعبة عن أبي اسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف, ومريم, وطه, والأنبياء, هن من العتاق الأول وهن من تلادي. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** اقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرّواْ النّجْوَى الّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـَذَآ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوَاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأوّلُونَ * مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها, وأن الناس في غفلة عنها, أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال النسائي: حدثنا أحمد بن نصر, حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم {في غفلة معرضون} قال: «في الدنيا». وقال تعالى: {اتى أمر الله فلا تستعجلوه} وقال {اقتربت الساعة وانشق القمر, وإن يروا آية يعرضوا} الاَية, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانىء أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول: الناس في غفلاتهمورحا المنية تطحن فقيل له: من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} وروى في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الاَمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب, فأكرم عامر مثواه, وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وادياً في العرب, وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك, فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك, نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون}. ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار, فقال {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي جديد إنزاله {إلا استمعوه وهم يلعبون} كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عمابأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه, وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب, رواه البخاري بنحوه. وقوله: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} أي قائلين فيما بينهم خفية {هل هذا إلا بشر مثلكم} يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم, فكيف اختص بالوحي دونهم, ولهذا قال: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر, فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب {قال ربي يعلم القول في السماء والأرض} أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية, وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والاَخرين, الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السموات والأرض. وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم, وفي هذا تهديد لهم ووعيد. وقوله: {بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه} هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن, وحيرتهم فيه وضلالهم عنه, فتارة يجعلونه سحراً, وتارة يجعلونه شعراً, وتارة يجعلونه أضغاث أحلام, وتارة يجعلونه مفترى, كما قال {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} وقوله {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون} الاَية, ولهذا قال تعالى: {ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون} أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا, فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالاَيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا, بل {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} هذا كله وقد شاهدوا من الاَيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال ابن أبي حاتم رحمه الله: ذكر عن زيد بن الحباب, حدثنا ابن لهيعة: حدثنا الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي, حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرىء بعضُنا بعضاً القرآن, فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية, فوضع واتكأ, وكان صبيحاً فصيحاً جدلاً, فقال: يا أبا بكر, قل محمد يأتينا بآية كما جاء الأولون, جاء موسى بالألواح, وجاء دواد بالزبور, وجاء صالح بالناقة, وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة, فبكى أبو بكر رضي الله عنه, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل» فقلنا: يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق, فقال: «إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك, وفضيلته التي فضلت بها, فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود, وأمرني أن أنذر الجن, وآتاني كتابه وأنا أمي, وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر, وذكر اسمي في الأذان, وأمدني بالملائكة, وآتاني النصر, وجعل الرعب أمامي, وآتاني الكوثر, وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم القيامة وروداً, ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم, وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس, وأدخل في شفاعتي سبعين ألفاً من أمتي الجنة بغير حساب, وآتاني السلطان والملك, وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم, فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش, وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلنا» وهذا الحديث غريب جداً. ** وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ * ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم} أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة, كما قال في الاَية الأخرى {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} وقال تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم, لأنهم أنكروا ذلك فقالوا {أبشر يهدوننا} ولهذا قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتملا تعملون} أي اسألواأهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف: هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة ؟ وإنما كانوا بشراً, وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلاً منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم. وقوله: {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام كما قال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} أي قد كانوا بشراً من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس, ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً, كما توهمه المشركون في قولهم {ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} الاَية. وقوله: {وما كانوا خالدين} أي في الدنيا, بل كانوا يعيشون ثم يموتون {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل, تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه, وقوله: {ثم صدقناهم الوعد} أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك, ولهذا قال {فأنجيناهم ومن نشاء} أي أتباعهم من المؤمنين {وأهلكنا المسرفين} أي المكذبين بما جاءت به الرسل. ** لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمّآ أَحَسّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ * لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} قال ابن عباس: شرفكم. وقال مجاهد: حديثكم. وقال الحسن: دينكم, {أفلا تعقلون} أي هذه النعمة, وتتلقونها بالقبول, كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون}. وقوله {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} هذه صيغة تكثير, كما قال: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} وقال تعالى: {وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها} الاَية. وقوله {وأنشأنا بعدها قوماً آخرين} أي أمة أخرى بعدهم {فلما أحسوا بأسنا} أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم {إذا هم منها يركضون} أي يفرون هاربين {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم} هذا تهكم بهم نزراً, أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب, وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم, {لعلكم تسألون} أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم, {قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين} اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك, {فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين} أي ما زالت تلك المقالة, وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى حصدناهم حصداً, وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً. ** وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَآ أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّآ إِن كُنّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ * وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق, أي بالعدل والقسط, {ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا, ويجزي الذي أحسنوا بالحسنى}, وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً كما قال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لا تخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {لو أردنا أن نتخذ لهواً لا تخذناه من لدنا} يعني من عندنا, يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً. وقال الحسن وقتادة وغيرهما {لو أردنا أن نتخذ لهواً} اللهو المرأة بلسان أهل اليمن. وقال إبراهيم النخعي {لا تخذناه} من الحور العين. وقال عكرمة والسدي: والمراد باللهو ههنا الولد, وهذا والذي قبله متلازمان, وهو كقوله تعالى: {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لا صطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. وقوله: {إن كنا فاعلين} قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم: أي ما كنا فاعلين. وقال مجاهد كل شيء في القرآن {إن} فهو إنكار. وقوله: {بل نقذف بالحق على الباطل} أي نبين الحق فيدحض الباطل, ولهذا قال: {فيدمغه فإذا هو زاهق} أي ذاهب مضمحل {ولكم الويل} أي أيها القائلون لله ولد {مما تصفون} أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً, فقال: {وله من في السموات والأرض ومن عنده} يعني الملائكة {لا يستكبرون عن عبادته} أي لا يستنكفون عنها, كما قال: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون * ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً}. وقوله: {ولايستحسرون} أي لا يتعبون ولا يملون {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً, مطيعون قصداً وعملاً, قادرون عليه, كما قال تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي, أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم «هل تسمعون ما أسمع ؟» قالوا: ما نسمع من شيء, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأسمع أطيط السماء, وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» غريب, ولم يخرجوه, ثم رواه ـ أعني ابن أبي حاتم ـ من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلاً. وقال أبو إسحاق عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام, فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال: من هذا الغلام ؟ فقالوا من بني عبد المطلب, قال فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس ؟) ** أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: {أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون} أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض, أي لا يقدرون على شيء من ذلك, فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض, فقال: {لو كان فيهما آلهة} أي في السموات والأرض {لفسدتا} كقوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} وقال ههنا: {فسبحان الله رب العرش عما يصفون} أي عما يقولون أن له ولداً أو شريكاً سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً. وقوله {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه, ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعمله وحكمته وعدله ولطفه, {وهم يسألون} أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} وهذا كقوله تعالى: {وهو يجير ولا يجار عليه}. ** أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَـَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِيَ إِلَيْهِ أَنّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ يقول تعالى: {أم اتخذوا من دونه آلهة قل} يا محمد {هاتوا برهانكم} أي دليلكم على ما تقولون {هذا ذكر من معي} يعني القرآن {وذكر من قبلي} يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون, فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله, ولكن أنتم أيها المشركون لا تعملون الحق فأنتم معرضون عنه, ولهذا قال: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله أنا فاعبدون} كما قال: {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} وقال {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له, والفطرة شاهدة بذلك أيضاً, والمشركون لا برهان لهم, وحجتهم داحضة عند ربهم, وعليهم غضب, ولهم عذاب شديد. ** وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَـَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَـَهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ يقول تعالى رداً على من زعم أن له تعالى وتقدس ولداً من الملائكة, كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله فقال: {سبحانه بل عباد مكرمون} أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية, وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به, بل يبادرون إلى فعله, وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم}. وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} كقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} في آيات كثيرة في معنى ذلك {وهم من خشيته} أي من خوفه ورهبته {مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه} أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله {فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} أي كل من قال ذلك, وهذا شرط, والشرط لا يلزم وقوعه, كقوله {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}, وقوله {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}. ** أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السّمَآءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات, فقال: {أو لم ير الذين كفروا} أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره, ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير, فكيف يليق أن يعبد معه غيره, أو يشرك به ما سواه, ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر, ففتق هذه من هذه, فجعل السموات سبعاً, والأرض سبعاً, وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء, فأمطرت السماء وأنبتت الأرض, ولهذا قال {وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء. ففي كل شيء له آيةتدل على أنه واحد قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال: أرايتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل. قبل النهار. وقال ابن ابي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن حمزة, حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد, عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما. قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله, ثم تعال فأخبرني بما قال لك, قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس: نعم كانت السموات رتقاً لا تمطر, وكانت الأرض رتقاً لا تنبت, فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر, وفتق هذه بالنبات, فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره, فقال ابن عمر: الاَن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً, صدق هكذا كانت, قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن, فالاَن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً. وقال عطية العوفي: كانت هذه رتقاً لا تمطر فأمطرت, وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت. وقال إسماعيل بن أبي خالد: سألت أبا صالح الحنفي عن قوله: {أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما} قال: كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات, وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين, وهكذا قال مجاهد, وزاد: ولم تكن السماء والأرض متماستين. وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين, فلما رفع السماء وأبرز منهاالأرض, كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء. وقوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} أي أصل كل الأحياء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا ابي, حدثنا ابو الجماهر, حدثنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه قال: يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي, فأخبرنا عن كل شيء قال: «كل شيء خلق من ماء». وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني, فأنبئني عن كل شيء, قال: «كل شيء خلق من ماء» قال: قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال: «أفش السلام, وأطعم الطعام, وصل الأحارم, وقم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة بسلام» ورواه أيضاً عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام, تفرد به أحمد, وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم, والترمذي يصحح له, وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً, والله أعلم. وقوله: «وجعلنا في الأرض رواسي» أي جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس, أي تضطرب وتتحرك, فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع. فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الاَيات الباهرات والحكم والدلالات, ولهذا قال: {أن تميد بهم} أي لئلا تميد بهم. وقوله: {وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً} أي ثغراً في الجبال يسلكون فيها طريقاً من قطر إلى قطر ومن إقليم إلى إقليم, كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد, فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من ههنا إلى ههنا, ولهذا قال: {لعلهم يهتدون}. وقوله: {وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً} أي على الأرض وهي كالقبة عليها, كما قال: {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} وقال: {والسماء وما بناها} {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج} والبناء هو نصب القبة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس» أي خمسة دعائم, وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب {محفوظاً} أي عالياً محروساً أن ينال. وقال مجاهد: مرفوعاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال رجل: يا رسول الله ما هذه السماء ؟ قال: «موج مكفوف عنكم» إسناده غريب. وقوله: {وهم عن آياتها معرضون} كقوله: {وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر, وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكامله في يوم وليلة, فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة, وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة, فلم ير ذلك الرجل شيئاً مما كان يحصل لغيره, فشكى ذلك إلى أمه فقالت له: يا بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه ؟ فقال: لا والله ما أعلمه, قالت: فلعلك هممت ؟ قال: لا ولا هممت, قالت: فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر ؟ فقال: نعم كثيراً, قالت: فمن ههنا أتيت, ثم قال منبهاً على بعض آياته: {وهو الذي خلق الليل والنهار} أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه, يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الاَخر {والشمس والقمر} هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير خاص, وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر {وكل في فلك يسبحون} أي يدورون. قال ابن عباس: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة قال مجاهد: فلا يدور المغزل إلا بالفلكة, ولا الفلكة إلا بالمغزل, كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن, كما قال تعالى: {فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم}. ** وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ يقول تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك} أي يا محمد {الخلد} أي في الدنيا بل {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} وقد استدل بهذه الاَية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات وليس بحي إلى الاَن, لأنه بشر سواء كان ولياً أو نبياً أو رسولاً. وقد قال تعالى: {وماجعلنا لبشر من قبلك الخلد}. وقوله: {أفإن مت} أي يا محمد {فهم الخالدون} أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل إلى الفناء, ولهذا قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} وقد روي عن الشافعي رحمه الله أن أنشد واستشهد بهذين البيتين: تمنى رجال أن أموت وإن أمتفتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضىتهيأ لأخرى مثلها فكأن قد وقوله: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى, فننظر من يشكر ومن يكفر, ومن يصبر ومن يقنط, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {ونبلوكم} يقول نبتليكم {بالشر والخير فتنة} بالشدة والرخاء, والصحة والسقم, والغنى والفقر, والحلال والحرام, والطاعة والمعصية, والهدى والضلال. وقوله: {وإلينا ترجعون} أي فنجازيكم بأعمالكم. ** وَإِذَا رَآكَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَـَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرّحْمَـَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ يقول تعالى لنبيه صلوات اللهوسلمه عليه {وإذا رآك الذين كفروا} يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه {إن يتخذونك إلا هزواً} أي يستهزئون بك وينتقصونك, يقولون: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم, قال تعالى: {وهم بذكر الرحمن هم كافرون} أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله, كما قال في الاَية الأخرى {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولاً * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً}. وقوله: {خلق الإنسان من عجل} كما قال في الاَية الأخرى: {وكان الإنسان عجولاً} أي في الأمور. قال مجاهد: خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق, فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه, ولم يبلغ أسفله, قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أحمد بن سنان. حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة, فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها, وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ـ وقبض أصابعه يقللها ـ فسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه» قال أبو سلمة: فقال عبد الله بن سلام: قد عرفت تلك الساعة, هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة, وهي التي خلق الله فيها آدم, قال الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون} والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامة عليه, وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك,فقال الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل} لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته, يؤجل ثم يعجل, وينظر ثم لا يؤخر, ولهذا قال: {سأريكم آياتي} أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني {فلا تستعجلون}. ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً واستعباداً, فقال {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} قال الله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به. ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} وقال في هذه الاَية: {حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} وقال: {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم {ولا هم ينصرون} أي لا ناصر لهم, كما قال: {وما لهم من الله من واق}. وقوله: {بل تأتيهم بغتة} أي {تأتيهم النار بغتة} أي فجأة, {فتبهتهم} أي تذعرهم, فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون, {فلا يستطعون ردها} أي ليس لهم حيلة في ذلك, {ولا هم ينظرون} أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة. ** وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ مِنَ الرّحْمَـَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مّعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنّا يُصْحَبُونَ يقول تعالى مسلياً لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه, كما قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله * ولقد جاءك من نبأ المرسلين} ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه بالليل والنهار, وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام, فقال: {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} أي بدل الرحمن يعني غيره, كما قال الشاعر: جارية لم تلبس المرققاولم تذق من البقول الفستقا أي لم تذق بدل البقول الفستق. وقوله تعالى: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون} أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم, بل يعرضون عن آياته وآلائه, ثم قال {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ, أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا, ولا كما زعموا, ولهذا قال: {لا يستطعون نصر أنفسهم} أن هذه الاَلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم. وقوله: {ولا هم منا يصحبون} قال العوفي عن ابن عباس: ولا هم منا يصحبون أي يجارون. وقال قتادة: لا يصبحون من الله بخير. وقال غيره: ولا هم منا يصحبون يمنعون. ** بَلْ مَتّعْنَا هَـَؤُلآءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِن مّسّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ لَيَقُولُنّ يَويْلَنَآ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىَ بِنَا حَاسِبِينَ يقول تعالى مخبراً عن المشركين: إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه, فاعتقدوا أنهم على شيء, ثم قال واعظاً لهم {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} اختلف المفسرون في معناه, وقد أسلفنا في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الاَيات لعلهم يرجعون} وقال الحسن البصري: يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر, والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين, ولهذا قال: {أفهم الغالبون} يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون. وقوله: {قل إنما أنذركم بالوحي} أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال, ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي, ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه, ولهذا قال: {ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون} وقوله: {ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين} أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة, الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد, وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. وقوله: {فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} كما قال تعالى: {ولا يظلم ربك أحداً} وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وقال لقمان {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلمتان خفيفتان على اللسان, ثقيلتان في الميزان, حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده, سبحان الله العظيم». وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً, كل سجل مد البصر, ثم يقول: أتنكر من هذا شئياً ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال: لا يارب. قال: أفلك عذر أو حسنة ؟ قال: فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب, فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم, فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيقول أحضروه, فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول: إنك لا تظلم, قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة, قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة, قال: ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث الليث بن سعد, وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الموازين يوم القيامة, فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة, ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان, قال: فيبعث به إلى النار, قال: فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز وجل يقول: لا تعجلوا, فإنه قد بقي له, فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان» وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو نوح مراراً, أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه, فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني, وأضربهم وأشتمهم, فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم, فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم, كان كفافاً لا لك ولا عليك, وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم, كان فضلاً لك, وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم, اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك, فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ماله لا يقرأ كتاب الله {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} فقال الرجل: يا رسول الله ما أجد شيئاً خيرٌ من فراق هؤلاء ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لّلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَـَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما, وبين كتابيهما, ولهذا قال: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} قال مجاهد: يعني الكتاب. وقال أبو صالح:)التوراة. وقال قتادة: التوراة حلالها وحرامها, وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد يعني النصر: وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل, والهدى والضلال, والغي والرشاد, والحلال والحرام, وعلى ما يحصل نوراً في القلوب وهداية وخوفاً وإنابة وخشية, ولهذا قال: {الفرقان وضياء وذكراً للمتقين} أي تذكيراً لهم وعظة, ثم وصفهم فقال: {الذين يخشون ربهم بالغيب} كقوله: {من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب}. وقوله: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجركبير} {وهم من الساعة مشفقون} أي خائفون وجلون, ثم قال تعالى: {وهذا ذكر مبارك أنزلناه} يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد {أفأنتم له منكرون} أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور ؟. ** وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـَذِهِ التّمَاثِيلُ الّتِيَ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قَالُوَاْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ * قَالَ بَل رّبّكُمْ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الّذِي فطَرَهُنّ وَأَنَاْ عَلَىَ ذَلِكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل, أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه, كما قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع, وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها, وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل, فما وافق منها الحق, مما بأيدينا عن المعصوم, قبلناه لموافقته الصحيح, وما خالف شيئاً من ذلك رددناه, وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفاً, وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من السلف في روايته, وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في الدين, ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة, والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان, ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم, فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها, كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل, أي من قبل ذلك. وقوله: {وكنا به عالمين} أي وكان أهلا لذلك, ثم قال: {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم هلا عاكفون} هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل, فقال: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد الصباح, حدثنا أبو معاوية الضرير, حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال: مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج, فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون, لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها {قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال, ولهذا قال: {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} أي الكلام مع آبائكم الذي احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم, فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم, فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم {قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} يقولون: هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أم محقاً فيه, فإنا لم نسمع به قبلك {قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن} أي ربكم الذي لا إله غيره, وهو الذي خلق السموات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن, وهو الخالق لجميع الأشياء {وأنا على ذلكم من الشاهدين} أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه. ** وَتَاللّهِ لأكِيدَنّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلّواْ مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لّهُمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَآ إِنّهُ لَمِنَ الظّالِمِينَ * قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـَذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم, أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين, أي إلى عيدهم, وكان لهم عيد يخرجون إليه, قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا, فخرج معهم, فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض, وقال: إني سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه, فيقول: إني سقيم, فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال: {تالله لأكيدن أصنامكم} فسمعه أولئك. وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه, فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال: إني سقيم, وقد كان بالأمس, قال: {تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} فسمعه ناس منهم. وقوله: {فجعلهم جذاذاً} أي حطاماً كسرها كلها, إلا كبيراً لهم يعني إلا الصنم الكبير عندهم, كما قال: {فراغ عليهم ضرباً باليمين}. وقوله {لعلهم إليه يرجعون} ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه, وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين} أي في صنيعه هذا, {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم: سمعنا فتىً أي شاباً, يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب, وتلا هذه الاَية {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم}. وقوله {قالوا فأتوا به على أعين الناس} أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم, وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضراً, ولا تملك لها نصراً, فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟ {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ قال بل فعله كبيرهم هذا} يعني الذي تركه لم يكسره {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون, وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد. وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله: {بل فعله كبيرهم هذا}, وقوله: {إني سقيم} ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة, إذ نزل منزلاً فأتى الجبار رجل فقال: إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس, فأرسل إليه فجاء, فقال: ما هذه المرأة منك ؟ قال: أختي. قال: فاذهب فأرسل بها إلي, فانطلق إلى سارة فقال: إن هذا الجبار قد سألني عنك, فاخبرته أنك أختي, فلا تكذبيني عنده, فإنك أختي في كتاب الله, وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك, فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي, فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذاً شديداً, فقال: ادعي الله لي ولا أضرك, فدعت له, فأرسل فأهوى إليها, فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد, ففعل ذلك الثالثة, فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين, فقال: ادعي الله فلا أضرك, فدعت له فأرسل, ثم دعا أدنى حجابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان, ولكنك أتيتني بشيطان, أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت, فلما أحس إبراهيم بمجيئها, انفتل من صلاته, وقال: مهيم؟ قالت: كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر». قال محمد بن سيرين: فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال: تلك أمكم يا بني ماء السماء. ** فَرَجَعُوَاْ إِلَىَ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوَاْ إِنّكُمْ أَنتُمُ الظّالِمُونَ * ثُمّ نُكِسُواْ عَلَىَ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـَؤُلآءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرّكُمْ * أُفّ لّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال {فرجعوا إلى أنفسهم} أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لاَلهتهم, فقالوا: {إنكم أنتم الظالمون} أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها, {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}. قال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء, فقالوا {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}. وقال السدي {ثم نكسوا على رؤوسهم} أي في الفتنة. وقال ابن زيد: أي في الرأي, وقول قتادة أظهر في المعنى, لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزاً, ولهذا قالوا له {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون, وأنت تعلم انها لا تنطق, فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم} أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر, فلم تعبدونها من دون الله ؟ {أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون} أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر. فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها, ولهذا قال تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} الاَية. ** قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم, فقالوا: {حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين}, فجمعوا حطباً كثيراً جداً, قال السدي: حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم, ثم جعلوه في جوبَة من الأرض وأضرموها ناراً, فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها, وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال شعيب الجبائي, اسمه هيزن: فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة, فلما ألقوه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبي الله ونعم الوكيل, قالها إبراهيم حين ألقي في النار, وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيماناً, وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وروى الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو هشام, حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر, عن عاصم, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار, قال: اللهم إنك في السماء واحد, وأنا في الأرض واحد أعبدك» ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت, سبحانك لك الحمد, ولك الملك لا شريك لك, وقال شعيب الجبائي: كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة, فالله أعلم, وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال: ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا, وأما من الله فبلى. وقال سعيد بن جبير ـ ويروى عن ابن عباس أيضاً ـ قال: لما ألقي إبراهيم, جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال: فكان أمر الله أسرع من أمره, قال الله {يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} قال: لم يبق نار في الأرض إلا طفئت. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أحد يومئذ بنار, ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه. وقال الثوري عن الأعمش, عن شيخ, عن علي بن أبي طالب {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} قال: لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله عز وجل قال: وسلاماً لاَذى إبراهيم بردها, وقال جويبر عن الضحاك: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم, قالوا: صنعوا له حظيرة من حطب جزل, وأشعلوا فيه النار من كل جانب, فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله, قال: ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق, فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي: كان معه فيها ملك الظل. وقال علي بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا مهران, حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار, فقال: كان فيها إما خمسين وإما أربعين, قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها. وقال أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار: وجده يرشح جبينه, قال عند ذلك: نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال قتادة: لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار, إلا الوزغ, وقال الزهري: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله, وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثني عمي, حدثنا جرير بن حازم أن نافعاً حدثه قال: حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة, فرأيت في بيتها رمحاً, فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت: نقتل به هذه الأوزاغ, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفيء النار غير الوزغ, فإنه كان ينفخ على إبراهيم» فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله. وقوله: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين} أي المغلوبين الأسفلين, لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً, فكادهم الله ونجاه من النار, فغلبوا هنالك, وقال عطية العوفي: لما ألقي إبراهيم في النار, جاء ملكهم لينظر إليه, فطارت شرارة فوقعت على إبهامه, فأحرقته مثل الصوفة. ** وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَة وَإِيتَآءَ الزّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ * وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتِي كَانَت تّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنّهُ مِنَ الصّالِحِينَ يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجراً إلى بلاد الشام, إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب في قوله: {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} قال: الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة, وكذا قال أبو العالية أيضاً وقال قتادة: كان بأرض العراق, فأنجاه الله إلى الشام, وكان يقال للشام عماد دار الهجرة, وما نقص من الأراضي زيد في الشام, وما نقص من الشام زيد في فلسطين, وكان يقال: هي أرض المحشر والمنشر, وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام, وبها يهلك المسيح الدجال. وقال كعب الأحبار في قوله: {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} إلى حران. وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام, فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم, فتزوجها على أن لا يغيرها, رواه ابن جرير, وهو غريب, والمشهور أنها ابنة عمه, وأنه خرج بها مهاجراً من بلاده. وقال العوفي عن ابن عباس: إلى مكة, ألا تسمع إلى قوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً}. وقوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} قال عطاء ومجاهد وعطية وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة: النافلة ولد الولد, يعني أن يعقوب ولد إسحاق, كما قال: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: سأل واحداً, فقال {رب هب لي من الصالحين} فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة, {وكلاً جعلنا صالحين} أي الجميع أهل خير وصلاح, {وجعلناهم أئمة} أي يقتدى بهم, {يهدون بأمرنا} أي يدعون إلى الله بإذنه, ولهذا قال: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} من باب عطف الخاص على العام, {وكانوا لنا عابدين} أي فاعلين لما يأمرون الناس به, ثم عطف بذكر لوط, وهو لوط بن هاران بن آزر. كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه, كما قال تعالى: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي} فآتاه الله حكماً وعلماً, وأوحى إليه وجعله نبياً وبعثه إلى سدوم وأعمالها, فخالفوه وكذبوه, فأهلكهم الله ودمر عليهم, كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز, ولهذا قال: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين}. ** وَنُوحاً إِذْ نَادَىَ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} ولهذا قال ههنا: {إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله} أي الذين آمنوا به, كما قال: {وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل}. وقوله: {من الكرب العظيم} أي من الشدة والتكذيب والأذى, فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل, وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل على خلافه, وقوله: {ونصرناه من القوم} أي ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم {الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين} أي أهلكهم الله بعامة, ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد, كما دعا عليهم نبيهم. ** وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ وَالطّيْرَ وَكُنّا فَاعِلِينَ * وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنّا بِكُلّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنّا لَهُمْ حَافِظِينَ قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود: كان ذلك الحرث كرماً قد تدلت عناقيده, وكذا قال شريح. وقال ابن عباس: النفش الرعي. وقال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلا بالليل, زاد قتادة: والهمل بالنهار. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم, قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم} قال: كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته, قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم, فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله: قال: وما ذاك ؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان, وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه, ودفعت الغنم إلى صاحبها, فذلك قوله: {ففهمناها سليمان} وكذا روى العوفي عن ابن عباس. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد: حدثني خليفة عن ابن عباس قال: قضى داود بالغنم لاصحاب الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب, فقال لهم سليمان: كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه, فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا, فأخبر بذلك داود, فدعاه فقال: كيف تقضي بينهم ؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث, فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها, ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم, فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه, أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال: الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم, إنما كان كرماً نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته, فأتوا داود فأعطاهم رقابها, فقال سليمان: لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم, ثم يعطى أهل الغنم غنمهم, وأهل الكرم كرمهم, وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد. وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي زياد, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا إسماعيل عن عامر قال: جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما: إن شياه هذا قطعت غزلاً لي, فقال شريح: نهاراً أم ليلاً ؟ فإن كان نهاراً فقد برىء صاحب الشياه, وإن كان ليلاً فقد ضمن, ثم قرأ {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} الاَية, وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث الليث بن سعد عن الزهري, عن حرام بن محيصة, أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحائط حفظها بالنهار, وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها, وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام, وبالله التوفيق. وقوله: {ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى, فقال: ما يبكيك ؟ قال: يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار, ورجل مال به الهوى فهو في النار, ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم, قال الله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود, ثم قال: ـ يعني الحسن ـ: إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً: لا يشتروا به ثمناً قليلاً, ولا يتبعوا فيه الهوى, ولا يخشوا فيه أحداً, ثم تلا {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} وقال: {فلا تخشوا الناس واخشوني} وقال {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} قلت: أما الأنبياء عليهم السلام, فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل, وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف, وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب, فله أجران, وإذا اجتهد فأخطأ, فله أجر» فهذا الحديث يرد نصاً ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار, والله أعلم. وفي السنن: القضاة ثلاثة: قاض في الجنة, وقاضيان في النار, رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة, ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار, ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار, وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا علي بن حفص, أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما, إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحا كمتا إلى داود, فقضى به للكبرى, فخرجتا فدعاهما سليمان فقال: هاتوا السكين أشقه بينكما: فقالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها لا تشقه, فقضى به للصغرى» وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما, وبوب عليه النسائي في كتاب القضاء: (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق). وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح, عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد, عن ابن عباس, فذكر قصة مطولة, ملخصها: أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل, راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم, فامتنعت على كل منهم, فاتفقوا فيما بينهم عليها, فشهدوا عليها عند دواد عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها قد عودته ذلك منها, فأمر برجمها, فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله, فانتصب حاكماً وتزيا أربعة منهم بزي أولئك, وآخر بزي المرأة, وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً, فقال سليمان فرقوا بينهم, فسأل أولهم ما كان لون الكلب ؟ فقال أسود, فعزله واستدعى الاَخر فسأله عن لونه, فقال: أحمر, وقال الاَخر: أغبش, وقال الاَخر: أبيض, فأمر عند ذلك بقتلهم, فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب, فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم. وقوله: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير} الاَية, وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور, وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه, وترد عليه الجبال تأويباً, ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جداً, فوقف واستمع لقراءته, وقال: «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود» قال: يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيراً. وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه, ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام: «لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود». وقوله: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} يعني صنعة الدروع. قال قتادة: إنما كانت الدروع قبله صفائح: وهو أول من سردها حلقاً, كما قال تعالى: {وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد} أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة, ولهذا قال: {لتحصنكم من بأسكم} يعني في القتال {فهل أنتم شاكرون} أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود, فعلمه ذلك من أجلكم. وقوله: {ولسليمان الريح عاصفة} أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة {تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} يعني أرض الشام {وكنا بكل شيء عالمين} وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله, فتدخل تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به, وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض, فينزل وتوضع آلاته وحشمه, قال الله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } وقال تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر}. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ستمائة ألف كرسي, فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس, ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن, ثم يأمر الطير فتظلهم, ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن عبيد بن عمير: كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل, ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها, ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه, ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون السماء, وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يميناً ولا شمالاً, تعظيماً لله عز وجل, وشكراً لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عز وجل, حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه. وقوله: {ومن الشياطين من يغوصون له} أي في الماء يستخرجون اللاَلىء والجواهر وغير ذلك, {ويعملون عملاً دون ذلك} أي غير ذلك, كما قال تعالى: {والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد}. وقوله: {وكنا لهم حافظين} أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء, بل كل في قبضته وتحت قهره, لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه, بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء, ولهذا قال: {وآخرين مقرنين في الأصفاد}. ** وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام, ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده, وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية, فابتلى في ذلك كله وذهب عن آخره, ثم ابتلي في جسده, يقال: بالجذام في سائر بدنه, ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه, يذكر بهما الله عز وجل, حتى عافه الجليس, وافرد في ناحية من البلد, ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره, ويقال: إنها احتاجت, فصارت تخدم الناس من أجله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل» وفي الحديث الاَخر «يبتلى الرجل على قدر دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة: لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال والولد, ولم يبق شيء له أحسن الذكر, ثم قال: أحمدك رب الأرباب, الذي أحسنت إليّ, أعطيتني المال والولد فلم يبق من قلبي شعبة إلا قد دخله ذلك, فأخذت ذلك كله مني, وفرغت قلبي, فليس يحول بيني وبينك شيء, ولو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكراً. قال: وقال أيوب عليه السلام: يا رب إنك أعطيتني المال والولد, فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته, وأنت تعلم ذلك, وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها, وأقول لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم. وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة, ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه, وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين, وفيها غرابة تركناها لحال الطول, وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء, فقال الحسن وقتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهراً, ملقى على كناسة بني إسرائيل, تختلف الدواب في جسده, ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه: مكث في البلاء ثلاث سنين, لا يزيد ولا ينقص وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام, فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه, فقالت له امرأته لما طال وجعه: يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك, فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحاً, فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة, فجزعت من ذلك, فخرجت فكانت تعمل للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه, وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين, كانا صديقين له وأخوين, فأتاهما فقال: أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا, فأتياه وزوراه, واحملا معكما من خمر أرضكما, فإنه إن شرب منه برىء, فأتياه فلما نظرا إليه بكيا, فقال: من أنتما ؟)فقالا: نحن فلان وفلان, فرحب بهما وقال: مرحباً بمن لا يجفوني عند البلاء, فقالا: يا أيوب لعلك كنت تسر شيئاً وتظهر غيره, فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال: هو يعلم, ما أسررت شيئاً أظهرت غيره, ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له: يا أيوب اشرب من خمرنا, فإنك إن شربت منه برأت. قال: فغضب, وقال: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام, فقاما من عنده, وخرجت امرأته تعمل للناس, فخبزت لأهل بيت لهم صبي, فجعلت لهم قرصاً, وكان ابنهم نائماً, فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها, فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا, فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر, قال: فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله, فانطلقي به إليه, فأقبلت حتى بلغت درجة القوم, فنطحتها شاة لهم, فقالت: تعس أيوب الخطاء, فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئاً غيره, فقالت: رحمه الله, يعني أيوب, فدفعت إليه القرص ورجعت, ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب, فقال لها: إن زوجك قد طال سقمه, فإن أرادأن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان, فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك, فقالت ذلك لأيوب, فقال: قد أتاك الخبيث, لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة, فخرجت تسعى عليه, فحظر عنها الرزق, فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها, فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرناً فباعته من صبية من بنات الأشراف, فأعطوها طعاماً طيباً كثيراً, فأتت به إلى أيوب, فلما رآه أنكره وقال: من أين لك هذا ؟ قالت: عملت لأناس فأطعموني, فأكل منه, فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد, فحلقت أيضاً قرنا فباعته من تلك الجارية, فأعطوها أيضاً من ذلك الطعام, فأتت به أيوب فقال: والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو, فوضعت خمارها, فلما رأى رأسها محلوقاً جزع جزعاً شديداً, فعند ذلك دعا الله عز وجل, فقال: {نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط, قال: وكانت امرأة أيوب تقول: ادع الله فيشفيك, فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل, فقال بعضهم لبعض: ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه, فعند ذلك قال: {نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين}. وحدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب عليه السلام أخوان, فجاءا يوماً فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه, فقاما من بعيد, فقال أحدهما للاَخر: لو كان الله علم من أيوب خيراً ما ابتلاه بهذا, فجزع أيوب من قولهما جزعاً لم يجزع من شيء قط, فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط, وأنا أعلم مكان عار, فصدقني, فصدق من السماء وهما يسمعان, ثم قال: اللهم بعزتك, ثم خر ساجداً, فقال: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبداً حتى تكشف عني, فما رفع رأسه حتى كشف عنه. وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعاً بنحو هذا, فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة, فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له, كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين, فقال له صاحبه: وما ذاك ؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به, فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له, فقال أيوب عليه السلام: ما أدري ما تقول, غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله, فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق, قال: وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ, فلما كان ذات يوم أبطأت عليه, فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» رفع هذا الحديث غريب جداً. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة, فتنحى أيوب فجلس في ناحية, وجاءت امرأته فلم تعرفه, فقالت: يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب, فجعلت تكلمه ساعة. فقال: ويحك أنا أيوب. قالت: أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي, وبه قال ابن عبّاس, ورد عليه ماله وولده عياناً ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك, ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قرباناً, واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم. وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عمرو بن مرزوق, حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب, فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه, قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع ؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك» أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر. وقوله: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} قد تقدم عن ابن عباس أنه قال: ردوا عليه بأعيانهم, وكذا رواه العوفي عن ابن عباس أيضاً, وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد, وبه قال الحسن وقتادة, وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة, فإن كان أخذ ذلك من سياق الاَية فقد أبعد النجعة, وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم, فهو مما لا يصدق ولا يكذب, وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى: قال: ويقال اسمها ليا بنت مِنَشّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, قال: ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية, وقال مجاهد: قيل له: يا أيوب إن أهلك لك في الجنة, فإن شئت أتيناك بهم, وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ؟ قال: لا بل اتركهم لي في الجنة, فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا. وقال حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال: أوتى أجرهم في الاَخرة وأعطي مثلهم في الدنيا. قال: فحدثت به مطرفاً, فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم, وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف, والله أعلم. قوله: {رحمة من عندنا} أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به {وذكرى للعابدين} أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا, وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء, وله الحكمة البالغة في ذلك. ** وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلّ مّنَ الصّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنّهُمْ مّنَ الصّالِحِينَ وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وقد تقدم ذكره في سورة مريم, وكذا إدريس عليه السلام, وأما ذو الكفل, فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون: إنما كان رجلاً صالحاً, وكان ملكاً عادلاً, وحكماً مقسطاً, وتوقف ابن جرير في ذلك, فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله: {وذا الكفل} قال: رجل صالح غير نبي, تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل, ففعل ذلك, فسمي ذا الكفل, وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضاً. وروى ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عفان, حدثنا وهيب, حدثنا داود عن مجاهد قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل, فجمع الناس فقال: من يتقبل مني بثلاث أستخلفه: يصوم النهار, ويقوم الليل, ولا يغضب ؟ قال: فقام رجل تزدريه الأعين فقال: أنا, فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب ؟ قال: نعم, قال: فرده ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الاَخر, فسكت الناس, وقام ذلك الرجل فقال: أنا, فاستخلفه. قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان فأعياهم ذلك, فقال: دعوني وإياه, فأتاه في صورة شيخ كبير فقير, فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة, فدق الباب, فقال: من هذا ؟ قال: شيخ كبير مظلوم, قال: فقام ففتح الباب, فجعل يقص عليه, فقال: إن بيني وبين قومي خصومة, وإنهم ظلموني, وفعلوا بي وفعلوا بي, وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة, فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك, فانطلق وراح, فكان في مجلسه, فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره, فقام يتبعه, فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه, فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه, أتاه فدق الباب فقال: من هذا ؟ قال: الشيخ الكبير المظلوم, ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني, قال: إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا: نحن نعطيك حقك, وإذا قمت جحدوني, قال: فانطلق, فإذا رحت فأتني, قال: ففاتته القائلة, فراح فجعل ينتظره ولا يراه, وشق عليه النعاس, فقال لبعض أهله: لا تدع أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام, فإني قد شق عليّ النوم, فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك, وراءك, قال: إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري, فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحداً يقربه, فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها, فإذا هو في البيت, وإذا هو يدق الباب من داخل, قال: واستيقظ الرجل, فقال: يا فلان ألم آمرك ؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت, قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه, فقال: أعدوَ الله ؟ قال: نعم, أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك, فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يونس, حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس: كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب ؟ قال: فقال رجل: أنا, فسمي ذا الكفل, قال: فكان ليله جميعاً يصلي, ثم يصبح صائماً فيقضي بين الناس, قال: وله ساعة يقيلها, قال: فكان كذلك, فأتاه الشيطان عند نومته, فقال له أصحابه: ما لك ؟ قال: إنسان مسكين له على رجل حق, وقد غلبني عليه, قالوا: كما أنت حتى يستيقظ, قال: وهو فوق نائم, قال: فجعل يصيح عمداً حتى يوقظه, قال: فسمع, فقال: مالك ؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق, قال: فاذهب فقل له يعطيك, قال: قد أبى, قال: اذهب أنت إليه, قال: فذهب ثم جاء من الغد فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأساً. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقك, فذهب ثم جاء من الغد حين قال, قال: فقال له أصحابه: اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه ينام, قال: فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنياً, قال: فسمع أيضاً فقال: مالك ؟ قال: ذهبت إليه فضربني, قال: امش حتى أجيء معك, قال: فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الجماهر, أخبرنا سعيد بن بشير, حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان ـ يعني في بني إسرائيل ـ رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة, فتكفل له ذو الكفل من بعده, فكان يصلي كل يوم مائة صلاة, فسمي ذا الكفل, وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعاً, والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد حديثاً غريباً فقال: حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات, ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال: «كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله, فأتته امرأة فأعطاها ستين ديناراً على أن يطأها, فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت, فقال: ما يبكيك أكرهتك ؟ قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط, وإنما حملني عليه الحاجة, قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك, ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً, فمات من ليلته, فأصبح مكتوباً على بابه: غفر الله للكفل» هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة, والله أعلم, وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, وإسناده غريب, وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل, ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر والله أعلم. ** وَذَا النّونِ إِذ ذّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىَ فِي الظّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَـَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجّيْنَاهُ مِنَ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات وفي سورة {ن},و ذلك أن يونس بن متى عليه السلام, بعثه الله إلى أهل قرية نينوى, وهي قرية من أرض الموصل, فدعاهم إلى الله تعالى, فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم, فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم, ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث, فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب, خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم, وفرقوا بين الأمهات وأولادها, ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه, ورغت الإبل وفصلانها, وخارت البقر وأولادها, وثغت الغنم وسخالها, فرفع الله عنهم العذاب, قال الله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها, إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}. وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم, وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه, فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا, ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً, قال الله تعالى: {فساهم فكان من المدحضين} أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه, ثم ألقى نفسه في البحر, وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة, فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً, فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً. وقوله: {وذا النون} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: {إذ ذهب مغاضباً} قال الضحاك لقومه: {فظن أن لن نقدر عليه} أي نضيق عليه في بطن الحوت, يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم, واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها * سيجعل الله بعد عسر يسرا} وقال عطية العوفي: {فظن أن لن نقدر عليه}, أي نقضي عليه, كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير, فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد, وقال الشاعر: فلا عائد ذاك الزمان الذي مضىتباركت ما تقدر يكن فلك الأمر ومنه قوله تعالى: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} أي قدر. {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل, وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر, قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر, فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره, فعند ذلك وهنالك قال: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وقال عوف الأعرابي: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات, ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه, ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري: مكث في بطن الحوت أربعين يوماً. رواهما ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت, أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً, فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه: ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب البحر, قال: وسبح وهو في بطن الحوت, فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة, قال: ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر, قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح ؟ قال: نعم, قال: فشفعوا له عند ذلك, فأمر الحوت فقذفه في الساحل, كما قال الله تعالى: {وهو سقيم} رواه ابن جرير, ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه, ثم قال: لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثنا عمي, حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي قال: سمعت أنس بن مالك, ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت, سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش, فقالت الملائكة: يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة, فقال: أما تعرفون ذاك ؟ قالوا: لا يا رب ومن هو ؟ قال: عبدي يونس, قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة, قالوا: يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال: بلى, فأمر الحوت فطرحه في العراء. وقوله: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم} أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات {وكذلك ننجي المؤمنين} أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء, فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر, حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني, حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد, حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد, فسلمت عليه, فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء, مرتين قال: لا وما ذاك ؟ قلت لا, إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام, قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه, فقال: ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام ؟ قال: ما فعلت, قال سعد: قلت بلى حتى حلف وحلفت, قال: ثم إن عثمان ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه, إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة, قال سعد: فأنا أنبئك بها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة, ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته, فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض, فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذا, أبو إسحاق ؟» قال: قلت نعم يا رسول الله, قال: «فمه» قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة, ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك, قال: «نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب, قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا بدعاء يونس استجيب له» قال أبو سعيد: يريد به {وكذلك ننجي المؤمنين}. وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا يحيى بن صالح, حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن, حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى» قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: «هي ليونس بن متى خاصة, ولجماعة المؤمنين عامة, إذا دعوا بها, ألم تسمع قول الله عز وجل {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} فهو شرط من الله لمن دعاه به». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن كثير بن معبد قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى ؟ قال: ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً ـ إلى قوله ـ وكذلك ننجي المؤمنين} ابن أخي, هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب, وإذا سئل به أعطى. ** وَزَكَرِيّآ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىَ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً, وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضاً, وههنا أخصر منها {إذ نادى ربه} أي خفية عن قومه {رب لا تذرني فرداً} أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس {وأنت خير الوارثين} دعاء وثناء مناسب للمسألة, قال الله تعالى: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} أي امرأته, قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: كانت عاقراً لا تلد فولدت. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: كان في لسانها طول, فأصلحها الله وفي رواية: كان في خلقها شيء فأصلحها الله, وهكذا قال محمد بن كعب والسدي, والأظهر من السياق الأول. وقوله: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} أي في عمل القربات وفعل الطاعات {ويدعوننا رغباً ورهبا} قال الثوري: رغباً فيما عندنا ورهبا مما عندنا {وكانوا لنا خاشعين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله, وقال مجاهد: مؤمنين حقاً. وقال أبو العالية: خائفين. وقال أبو سنان: الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً. وعن مجاهد أيضاً: خاشعين أي متواضعين. وقال الحسن وقتادة والضحاك: خاشعين أي متذللين لله عز وجل, وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه. ثم قال: أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله, وتثنوا عليه بما هو له أهل, وتخلطوا الرغبة بالرهبة, وتجمعوا الإلحاف بالمسألة, فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين}. ** وَالّتِيَ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام, فيذكر أولاً قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم, لأن تلك مربوطة بهذه, فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن, ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها, ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر, هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم, وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله: {والتي أحصنت فرجها} يعني مريم عليها السلام, كما قال في سورة التحريم: {ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا}. وقوله {وجعلناها وابنها آية للعالمين} أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير, وأنه يخلق ما يشاء, وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, وهذا كقوله: {ولنجعله آية للناس} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن شعيب يعني ابن بشر, عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {للعالمين} قال: العالمين الجن والإنس. ** إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} يقول: دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الاَية يبين لهم ما يتقون وما يأتون, ثم قال: {إن هذه أمتكم أمة واحدة} أي سنتكم سنة واحدة, فقوله إن هذه إن واسمها, وأمتكم خبر إن, أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال, ولهذا قال: {وأنا ربكم فاعبدون} كما قال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ـ إلى قوله ـ وأنا ربكم فاتقون} وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله, كما قال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}. وقوله: {وتقطعوا أمرهم بينهم} أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب, ولهذا قال: {كل إلينا راجعون} أي يوم القيامة, فيجازي كل بحسب عمله, إن خيراً فخير وإن شراً فشر, ولهذا قال: {فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} أي قلبه مصدق وعمل صالحاً {فلا كفران لسعيه} كقوله: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً} أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: {وإنا له كاتبون} أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء. ** وَحَرَامٌ عَلَىَ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * حَتّىَ إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مّن كُلّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذِينَ كَفَرُواْ يَوَيْلَنَا قَدْ كُنّا فِي غَفْلَةٍ مّنْ هَـَذَا بَلْ كُنّا ظَالِمِينَ يقول تعالى: {وحرام على قرية} قال ابن عباس: وجب, يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة, هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس: أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون, والقول الأول أظهر, والله أعلم. وقوله: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج} قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام, بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد يافث, أي أبي الترك, والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين, وقال: {هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض} الاَية, وقال في هذه الاَية الكريمة {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} أي يسرعون في المشي إلى الفساد, والحدب هو المرتفع من الأرض, قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم, وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك {ولا ينبئك مثل خبير} هذا إخبار عالم ما كان وما يكون, الذي يعلم غيب السموات والأرض لا إله إلا هو. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن مثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن عبيد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون, فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج, وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية. (فالحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تفتح يأجرج ومأجوج, فيخرجون على الناس, كما قال الله عز وجل: {وهم من كل حدب ينسلون} فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم, ويضمون إليهم مواشيهم, ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً, حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول: قد كان ههنا ماء مرة, حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة, قال قائلهم: هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء, قال: ثم يهز أحدهم حربته, ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة, فبينما هم على ذلك بعث الله عز وجل دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه, فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس, فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ؟ قال: فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض, فينادي: يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم, فيخرجون من مدائنهم وحصونهم, ويسرحون مواشيهم, فما يكون لهم رعي إلا لحومهم, فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط», ورواه ابن ماجه من حديث يونس بن بكير, عن ابن إسحاق به. (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر, حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه, أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة, فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل, فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم, وإن يخرج ولست فيكم فكل امرىء حجيج نفسه, والله خليفتي على كل مسلم, وإنه شاب جعد قطط عينه طافية, وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وشمالاً يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا: يا رسول الله ما لبثه في الأرض ؟ ـ قال: أربعون يوماً, يوم كسنة, ويوم كشهر, يوم كجمعة, وسائر أيامه كأيامكم» قلنا: يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة, أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال: «لااقدروا له قدره» قلنا: يا رسول الله فما إسراعه في الأرض ؟ قال كالغيث اشتد به الريح, قال: فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له, فيأمر السماء فتمطر, والأرض فتنبت, وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى, أمده خواصر, وأسبغه ضروعاً, ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله, فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء, ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ قال ـ ويأمر برجل فيقتل, فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض, ثم يدعوه فيقبل إليه, فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح عيسى ابن مريم, فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً يديه على أجنحة ملكين, فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم, فحوّز عبادي إلىالطور, فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج, كما قال تعالى: {وهم من كل حدب ينسلون} فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة, فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم, فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل, فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البخت, فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله», قال ابن جابر: فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال: فتطرحهم بالمهبل, قال ابن جابر: فقلت يا أبا يزيد, وأين المهبل ؟ قال: مطلع الشمس. قال: «ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً, فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة, ويقال للأرض: أنبتي ثمرك ودري بركتك, قال: فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها, ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس, واللقحة من البقر تكفي الفخذ, والشاة من الغنم تكفي أهل البيت, قال: فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحاً طيبة, فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو قال: كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة», انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري, ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي: حسن صحيح. (الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة, عن خالته قالت: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب, فقال: «إنكم تقولون لا عدو لكم, وإنكم لا تزالون تقاتلون عدواً حتى يأتي يأجوج ومأجوج: عراض الوجوه, صغار العيون, صهب الشعاف, من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة», وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي, عن خالة له, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكره مثله سواء. (الحديث الرابع) قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم, عن العوام, عن جبلة بن سحيم, عن موثد بن عمارة, عن ابن مسعود رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى موسى, فقال: لا علم لي بها, فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله, وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان, فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص, قال: فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافراً, فتعال فاقتله, قال: فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج, وهم من كل حدب ينسلون, فيطئون بلادهم, ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه, ولا يمرون على ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم, وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر, ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً». ورواه ابن ماجه عن محمد بن بشار, عن يزيد بن هارون, عن العوام بن حوشب به نحوه, وزاد: قال العوام: ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون} ورواه ابن جرير ههنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جداً والاَثار عن السلف كذلك. وقد ورى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد, عن حميد بن هلال, عن أبي الصيف قال: قال كعب: إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج, حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء غداً فنخرج فيعيده الله كما كان, فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان, فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم, فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجيء غداً فنخرج إن شاء الله, فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه, فيحفرون حتى يخرجوا, فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها, ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها, ثم تمر الزمرة الثالة فيقولون: قد كان ههنا مرة ماء, فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء, ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء, فيقولون: غلبنا أهل الأرض وأهل السماء, فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام, فيقول: اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم, فاكفناهم بما شئت, فيسلط الله عليهم دوداً يقال له النغف, فيفرس رقابهم, ويبعث الله عليهم طيراً تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر, ويبعث الله عيناً يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها, حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن, وقيل: وما السكن يا كعب ؟ قال: أهل البيت, قال: فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده, قال فيبعث عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق, بعث الله ريحاً يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن, ثم يبقى عجاج الناس, فيتسافدون كما تتسافد البهائم, فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع, قال كعب: فمن قال بعد قولي هذا شيئاً أو بعد علمي هذا شيئاً فهو المتكلف, وهذا من أحسن سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار. وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق, وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود, حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» انفرد بإخراجه البخاري وقوله: {واقترب الوعد الحق} يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل, أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت, قال الكافرون: هذا يوم عسر, ولهذا قال تعالى: {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام {يا ويلنا} أي يقولون يا ويلنا {قد كنا في غفلة من هذا} أي في الدنيا {بل كنا ظالمين} يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك. ** إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـَؤُلآءِ آلِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ * إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنّا الْحُسْنَىَ أُوْلَـَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَـَذَا يَوْمُكُمُ الّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ يقول تعالى مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} قال ابن عباس: أي وقودها يعني كقوله: {وقودها الناس والحجارة} وقال ابن عباس أيضاً: حصب جهنم يعني شجر جهنم, وفي رواية قال: {حصب جهنم} يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها, وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما, وقال الضحاك: حصب جهنم أي ما يرمى به فيها, وكذا قال غيره, والجميع قريب. وقوله: {أنتم لها واردون} أي داخلون {لو كان هؤلاء آلهة ما ورودها} يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها {وكل فيها خالدون} أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون {لهم فيها زفير} كما قال تعالى: {لهم فيها زفير وشهيق} والزفير خروج أنفاسهم, والشهيق ولوج أنفاسهم {وهم فيها لا يسمعون}. قال ابن أبي حاتم, حدثنا أبي, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا ابن فضيل, حدثنا عبد الرحمن يعني المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار, فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره, ثم تلا عبد الله {لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون} ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن خبّاب عن ابن مسعود, فذكره. وقوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال عكرمة: الرحمة. وقال غيره السعادة {أولئك عنها مبعدون} لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله, عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله, وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا, كما قال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وقال: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم, ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب, فقال: {أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها} أي حريقها في الأجساد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن الحريري عن أبي عثمان {لا يسمعون حسيسها} قال: حيات على الصراط تلسعهم, فإذا لسعتهم قال حس حس. وقوله: {وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} فسلمهم من المحذور والمرهوب, وحصل لهم المطلوب والمحبوب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي سريج, حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: وسمر مع علي ذات ليلة, فقرأ {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم, أو قال: سعد منهم, قال: أقيمت الصلاة, فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول: {لا يسمعون حسيسها}. وقال شعبة عن أبي بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال: سمعت علياً يقول في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: عثمان وأصحابه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً, ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد, وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق, ويبقى الكفار فيها جثياً, فهذا مطابق لما ذكرناه, وقال آخرون: بل نزلت استثناء من المعبودين, وخرج منهم عزير والمسيح, كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} ثم استثنى فقال: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} فيقال: هم الملائكة وعيسى, ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل, وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة, حدثنا أبو زهير, حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى} قال: كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى بن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة. وقال الضحاك: عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر, وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وغير واحد, وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً غريباً جداً, فقال: حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني, حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك, حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إن الذين سبقت لهم مناالحسنى أولئك عنها مبعدون} قال: عيسى وعزير والملائكة, وذكر بعضهم قصة ابن الزبعري ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي بن سهل, حدثنا محمد بن حسن الأنماطي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة, حدثنا يزيد بن أبي حكيم, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء عبد الله بن الزبعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الاَية {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} فقال ابن الزبعري: قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصّدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون} ثم نزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا قبيصة بن عقبة, حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال المشركون: فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت {لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} الاَلهة التي يعبدون {وكل فيها خالدون} وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال: فنزلت {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون} وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد, فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم, وفي المسجد غير واحد من رجال قريش, فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه, وتلا عليه وعليهم {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ـ إلى قوله ـ هم فيها لا يسمعون} ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس معهم, فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعري: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفاً ولا قعد, وقد زعم محمد أناوما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم, فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته, فسلوا محمداً كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده, فنحن نعبد الملائكة, واليهود تعبد عزيراً, والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم, فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده, إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» وأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} أي عيسى وعزير ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله, فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله, ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون ـ إلى قوله ـ ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله, وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته {ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون * وقالو أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترنّ بها} أي ما وضعت على يديه من الاَيات من إحياء الموتى وابراء الأسقام, فكفى به دليلاً على علم الساعة, يقول: {فلا تمترنّ بها واتبعون هذا صراط مستقيم} وهذا الذي قاله ابن الزبعري خطأ كبير, لأن الاَية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لاتعقل, ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها, ولهذا قال: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} فكيف يورد على هذا المسيح وعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده, وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن {ما} لما لا يعقل عند العرب, وقد أسلم عبد الله بن الزبعري بعد ذلك, وكان من الشعرءا المشهورين, وقد كان يهاجي المسلمين أولاً ثم قال معتذراً: يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغيومن مال ميله مثبور وقوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} قيل: المراد بذلك الموت, رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة عن عطاء وقيل: المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور, قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني, واختاره ابن جرير في تفسيره, وقيل: حين يؤمر بالعبد إلى النار, قاله الحسن البصري, وقيل: حين تطبق النار على أهلها, قاله سعيد بن جبير وابن جريج, وقيل: حين يذبح الموت بين الجنة والنار, قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه, وقوله {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم {هذا يومكم الذي كنتم توعدون} أي فأملوا ما يسركم. ** يَوْمَ نَطْوِي السّمَآءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ يقول تعالى: هذا كائن يوم القيامة {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} كما قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} وقد قال البخاري: حدثنا مقدم بن محمد, حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه» انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي, حدثنا محمد بن سلمة عن أبي واصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: يطوي الله السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يديه بمنزلة خردلة, وقوله: {كطي السجل للكتب} قيل: المراد بالسجل الكتاب, وقيل المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة, قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا يحيى بن يمان, حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله تعالى: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} قال: السجل ملك, فإذا صعد بالاستغفار قال: أكتبها نوراً, وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به, قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك, وقال السدي في هذه الاَية السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل, فطواه ورفعه إلى يوم القيامة, وقيل: المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} قال: السجل هو الرجل, قال نوح: وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وهكذا رواه أبو داود والنسائي, كلاهما عن قتيبة بن سعد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي, كما تقدم, ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل, وهو قوله: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب} قال: كما يطوى السجل الكتاب كذلك تطوى السماء, ثم قال: وهو غير محفوظ. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه: أنبأنا أبو بكر البرقاني, أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي, أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد, حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وهذا منكر جداً من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلاً, وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضاً, وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله, وختم له بصالح عمله, وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً على حدته ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث, ورده أتم رد, وقال: لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل, وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل, وصدق رحمه الله في ذلك, وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث, وأما من ذكره في أسماء الصحابة, فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره, والله أعلم, والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة, قاله علي بن أبي طلحة, والعوفي عنه, ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة, فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب, أي على الكتاب بمعنى المكتوب, كقوله: {فلما أسلما وتله للجبين} أي على الجبين, وله نظائر في اللغة, والله أعلم. وقوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين} يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم. وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل, وهو القادر على ذلك, ولهذا قال: {إنا كنا فاعلين}. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وابن جعفر المعني قالا حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظةٍ: فقال: «إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراةً غرلاً, كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا, إنا كنا فاعلين» وذكر تمام الحديث, أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة, ذكره البخاري عند هذه الاَية في كتابه, وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك, وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده} قال: يهلك كل شيء كما كان أول مرة. ** وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصّالِحُونَ * إِنّ فِي هَـَذَا لَبَلاَغاً لّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والاَخرة ووراثة الأرض في الدنيا والاَخرة, كقوله تعالى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} وقال: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لامحالة, ولهذا قال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر}. قال الأعمش: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر} فقال الزبور: التوراة والإنجيل, والقرآن وقال مجاهد: الزبور الكتاب, وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور الذي أنزل على داود, والذكر التوراة. وعن ابن عباس: الذكر القرآن, وقال سعيد بن جبير: الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد: الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله, واختار ذلك ابن جرير رحمه الله, وكذا قال زيد بن أسلم: هو الكتاب الأول, وقال الثوري: هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء, والذكر أمّ الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس,: أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض, ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} قال: أرض الجنة, وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري, وقال أبو الدرداء نحن الصالحون. وقال السدي: هم المؤمنون, وقوله: {إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين} أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغاً: لمنفعة وكفايةً لقوم عابدين, وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه, وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان, وشهوات أنفسهم. وقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} يخبر تعالى أن اللهجعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والاَخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار} وقال تعالى في صفة القرآن: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لايؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد} وقال مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يارسول الله ادع على المشركين. قال «إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة» انفرد بإخراجه مسلم. وفي الحديث الاَخر «إنما أنا رحمة مهداة» رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. قال إبراهيم الحربي. وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة. وكذا قال البخاري وقدسئل عن هذا الحديث, فقال: كان عند حفص بن غياث مرسلاً. قال الحافظ ابن عساكر: وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً, ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرىء وأبي أحمد الحاكم, كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي, حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة» ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد, عن رجل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين». قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان, حدثنا أحمد بن صالح قال: وجدت كتاباً بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف, عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب, عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يا معشر قريش إن محمداً نزل يثرب وأرسل طلائعه, وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً, فاحذورا أن تمروا طريقه أو تقاربوه, فإنه كالأسد الضاري, إنه حنق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم, والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحداً من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين, وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج, فهو عدو استعان بعدو, فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم والله ما رأيت أحداً أصدق لساناً, ولا أصدق موعداً من أخيكم الذي طردتم, وإذ فعلتم الذي فعلتم, فكونوا أكف الناس عنه, قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة, وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمداً من بين ظهرانيهم, فيكون وحيداً مطروداً, وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم, وقال: سأمنح جانباً مني غليظاًعلى ما كان من قرب وبعد رجال الخزرجية أهل ذلإذا ما كان هزل بعد جد. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «والذي نفسي بيده, لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون, إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه, لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب» وقال أحمد بن صالح: أرجو أن يكون الحديث صحيحاً. وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال: كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء حذيفة إلى سلمان, فقال سلمان: يا حذيفة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: «أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة, فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون, إنما بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة». ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة, فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير: حدثنا إسحاق بن شاهين, حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن بالله واليوم الاَخر كتب له الرحمة في الدنيا والاَخرة, ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه, والله أعلم, وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وماأرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من تبعه كان له رحمة في الدينا والاَخرة, ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف. ** قُلْ إِنّمَآ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَىَ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ * إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ * قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ وَرَبّنَا الرّحْمَـَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىَ مَا تَصِفُونَ يقول تعالى آمراً رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين {إنما يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون}أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له {فإن تولوا} أي تركوا ما دعوتهم إليه {فقل آذنتكم على سواء} أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما أنتم برآء مني, كقوله: {فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون} وقال: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء} أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء, وهكذا ههنا {فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء} أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك. وقوله: {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} أي هو واقع لا محالة, ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} اي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون, يعلم الظواهر والضمائر, ويعلم السر وأخفى, ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم, وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله: {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين} أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى, وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم {قال رب احكم بالحق} أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة: كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك, وعن مالك عن زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قال: {رب احكم بالحق}. وقوله: {وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون} أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك, والله المستعان عليكم في ذلك. آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام ولله الحمد والمنة. سورة الحج بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلّ مُرْضِعَةٍ عَمّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ وَلَـَكِنّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها, وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة: هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة, أو ذلك عبارةعن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها} وقال تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة, فيومئذ وقعت الواقعة} الاَية, وقال تعالى: {إذا رجت الأرض رجاً, وبست الجبال بساً} الاَية, فقال قائلون: هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا يحيى, حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: قبل الساعة, ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره, قال: وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} قال: هذا في الدنيا قبل يوم القيامة. وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد, عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي, عن رجل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل, فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قال أبو هريرة: يا رسول الله وما الصور ؟ قال: قرن. قال: فكيف هو ؟ قال: «قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع, والثانية نفخة الصعق, والثالثة نفخة القيام لرب العالمين, يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول: انفخ نفخة الفزع, فيفزع أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله, ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر, وهي التي يقول الله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق} فيستر الجبال فتكون سراباً, وترج الأرض بأهلها رجاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم ترجف الراجفة, تتبعها الرادفة, قلوب يومئذ واجفة} فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها, وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها, فتذهل المراضع وتضع الحوامل, ويشيب الولدان, وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع, ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً, وهي التي يقول الله تعالى: {يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فماله من هاد} فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر, ورأوا أمراً عظيماً, فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل, ثم خسف شمسها وقمرها, وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة: فمن استثنى الله حين يقول {ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} قال «أولئك الشهداء, وإنما يصل الفزع إلى الأحياء, أولئك أحياء عند ربهم يرزقون, وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم, وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه, وهو الذي يقول الله: {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}» وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولاً جداً, والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها, كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك, والله أعلم, وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور, واختار ذلك ابن جرير, واحتجوا بأحاديث: (الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن هشام, حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره, وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الاَيتين صوته. {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم, يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي, وعرفوا أنه عند قول يقوله, فلما دنوا حوله قال: «أتدرون أي يوم ذاك, ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل, فيقول: يا آدم ابعث بعثك إلى النار, فيقول: يا رب وما بعث النار ؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» قال: فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة, فلما رأى ذلك قال: «أبشروا واعملوا, فو الذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج, ومن هلك من بني آدم وبني إبليس» قال: فسري عنهم, ثم قال: «اعملوا وأبشروا, فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة» وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان, عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه, وقال الترمذي: حسن صحيح. (طريق آخر) لهذا الحديث. قال الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان بن عيينة, حدثنا ابن جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت: {يا أيها الناس اتقوا ربكم ـ إلى قوله ـ ولكن عذاب الله شديد} قال: نزلت عليه هذه الاَية وهو في سفر, فقال: «أتدرون أي يوم ذلك ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال ـ ذلك يوم يقول الله لاَدم: ابعث بعث النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة» فأنشأ المسلمون يبكون, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا, فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية, قال: فيؤخذ العدد من الجاهلية, فإن تمت, وإلا كملت من المنافقين, وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ: «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ: «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبروا ثم قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا, وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضاً: هذا حديث حسن صحيح. وقد سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين فذكره, وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان, والله أعلم. (الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن الطباع, حدثنا أبو سفيان المعمري, عن معمر عن قتادة عن أنس قال: نزلت {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} وذكر, يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال: ومن هلك من كثرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر. (الحديث الثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سلمان حدثنا عباد يعني ابن العوام, حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية فذكر نحوه, وقال فيه «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة» ففرحوا, وزاد أيضاً «وإنما أنتم جزء من ألف جزء». (الحديث الرابع) قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا عمر بن حفص, حدثنا أبي, حدثنا الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم, فيقول: لبيك ربنا وسعديك, فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار, قال: يا رب وما بعث النار ؟ قال: من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعون, فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد {وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. قال النبي صلى الله عليه وسلم «من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد, أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض, أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود, وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ شطر أهل الجنة» فبكرنا, وقد وراه البخاري أيضاً في غير هذا الموضع, ومسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به. (الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعني, كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً من ذريتك إلى النار, فيقول آدم: يا رب من هم ؟ فيقال له: من كل مائة تسعة وتسعون» فقال رجل من القوم: من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال: «هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير» انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد. (الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة, حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً» قالت عائشة: يا رسول لله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض, قال «يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك» أخرجاه في الصحيحين. (الحديث السابع) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله, هل يذكر الحبيب حبيبه, يوم القيامة ؟ قال: «يا عائشة أما عند ثلاث فلا, أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا, وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا, وحين يخرج عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بثلاثة, وكلت بمن ادعى مع الله إلهاً آخر, ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب, ووكلت بكل جبار عنيد ـ قال ـ فينطوي عليهم. ويرميهم في غمرات جهنم, ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف, عليه كلاليب وحسك يأخذن من شاء الله, والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب, والملائكة يقولون: رب سلم, سلم. فناج مسلم, ومخدوش مسلم, مكور في النار على وجهه». والأحاديث في أهوال يوم القيامة والاَثار كثيرة جداً لها موضع آخر, ولهذا قال تعالى: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم} أي أمر عظيم, وخطب جليل, وطارق مفظع, وحادث هائل, وكائن عجيب, والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع, كما قال تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} ثم قال تعال: {يوم ترونها} هذا من باب ضمير الشأن, ولهذا قال مفسراً له: {تذهل كل مرضعة عما أرضعت} أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها, والتي هي أشفق الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له, ولهذا قال: {كل مرضعة} ولم يقل مرضع, وقال: {عما أرضعت} أي عن رضيعها قبل فطامه. وقوله: {وتضع كل ذات حمل حملها} أي قبل تمامه لشدة الهول {وترى الناس سكارى} وقرىء {سكرى} أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم, وغابت أذهانهم, فمن رآهم حسب أنهم سكارى {وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}. ** وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّبِعُ كُلّ شَيْطَانٍ مّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاّهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى, معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن, وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين, ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والاَراء, ولهذا قال في شأنهم وأشباههم {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} أي علم صحيح {ويتبع كل شيطان مريد, كتب عليه} قال مجاهد: يعني الشيطان, يعني كتب عليه كتابة قدرية {أنه من تولاه} أي اتبعه وقلده {فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} أي يضله في الدنيا, ويقوده في الاَخرة إلى عذاب السعير, وهو الحار المؤلم المقلق المزعج, وقد قال السدي عن أبي مالك: نزلت هذه الاَية في النضر بن الحارث, وكذلك قال ابن جريج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن مسلم البصري, حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة, حدثنا العمر, حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو, أو من فضة هو, أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من يا قوت ؟ قال: فجاءت صاعقة فأخذته. ** يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَىَ وَأَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لاّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد, ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه للخلق فقال: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب} أي في شك {من البعث} وهو المعاد, وقيام الأرواح والأجساد, يوم القيامة {فإنا خلقناكم من تراب} أي أصل برئه لكم من تراب, وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام {ثم من نطفة} أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين {ثم من علقة ثم من مضغة} وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها, ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله, فتمكث كذلك أربعين يوماً, ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط, ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء, فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط, وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط, ولهذا قال تعالى: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} أي كما تشاهدونها {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها, كما قال مجاهد في قوله تعالى: {مخلقة وغير مخلقة} قال: هو السقط مخلوق وغير مخلوق, فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة, أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن وقبح, وذكر وأنثى, وكتب رزقها وأجلها, وشقي أو سعيد. كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات, بكتب رزقه وعمله وأجله, وشقي أو سعيد, ثم ينفخ فيه الروح». وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا استقرت في الرحم, أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً, وإن قيل: مخلقة قال: أي رب ذكر أو أنثى, شقي أو سيعد, ما الأجل وما الأثر, وبأي أرض يموت ؟ قال: فيقال للنطفة: من ربك ؟ فتقول: الله, فيقال من رازقك ؟ فتقول الله, فيقال له: اذهب إلى أم الكتاب, فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة, قال: فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها, حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان, ثم تلا عامر الشعبي {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة, وإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دماً, وإن كانت مخلقة نكست في الخلق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء, حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين, فيقول: أي رب أشقي أم سيعد ؟ فيقول الله ويكتبان, فيقول: أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان, ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله, ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص» ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه. وقوله: {ثم نخرجكم طفلا} أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله, ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئاً, ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار, ولهذا قال: {ثم لتبلغوا أشدكم} أي يتكامل القوي ويتزايد, ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر, {ومنكم من يتوفى} أي في حال شبابه وقواه, {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر, ولهذا قال: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} كما قال تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير}. وقد قال الحافظ أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا خالد الزيات, حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال: «المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته, وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه, فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا, فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص, فإذا بلغ الخمسين, خفف الله حسابه, فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وشفعه في أهل بيته, وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه, فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير, فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه». هذا حديث غريب جداً, وفيه نكارة شديدة, ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفاً ومرفوعاً, فقال: حدثنا أبو النضر, حدثنا الفرج, حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري, عن عمرو بن حعفر عن أنس قال: «إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة, أمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون, والبرص, والجذام, فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه, وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها, وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء, وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله» ثم قال: حدثنا هاشم, حدثنا الفرج, حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب, عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا أنس بن عياض, حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري, عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون, والبرص, والجذام» وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء, رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي, عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء: الجنون, والجذام, والبرص, فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب, فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب, فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء, فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته, فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته». وقوله: {وترى الأرض هامدة} هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة, وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة: غبراء متهشمة. وقال السدي: ميتة, {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} أي فإذا أنزل الله عليها المطر, اهتزت اي تحركت بالنبات, وحييت بعد موتها, وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى, ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها, ولهذا قال تعالى: {وأنبتت من كل زوج بهيج} أي حسن المنظر طيب الريح. وقوله: {ذلك بأن الله هو الحق} أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء {وأنه يحيي الموتى} أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع {إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير} {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {وأن الساعة آتية لا ريب فيها} أي كائنة لا شك فيها ولا مرية, {وأن الله يبعث من في القبور} أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم, كما قال تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ؟ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم, الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} والاَيات في هذه كثيرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز, حدثنا حماد بن سلمة قال: أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة, وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به ؟» قلنا: بلى, قال: «فا الله أعظم» قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى, وما آية ذلك في خلقه ؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك محلاً ؟» قال: بلى. قال ثم مررت به يهتز خضراً ؟» قال: بلى. قال «فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه». ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به. ثم رواه الإمام أحمد أيضاً: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا ابن المبارك, أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ قال «أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة, ثم مررت بها مخصبة ؟» قال: نعم. قال «كذلك النشور» والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبيس بن مرحوم, حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال: من علم أن الله هو الحق المبين, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور, دخل الجنة. ** ومِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدّمَتْ يَدَاكَ وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلعَبِيدِ لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع فقال: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} أي بلا عقل صحيح, ولا نقل صحيح صريح, بل بمجرد الرأي والهوى. وقوله: {ثاني عطفه} قال ابن عباس وغيره: مستكبر عن الحق إذا دعي إليه, وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم {ثاني عطفه} أي لاوي عنقه وهي رقبته, يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق, ويثني رقبته استكباراً, كقوله تعالى: {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه} الاَية, وقال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} وقال تعالى: {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون} وقال لقمان لابنه {ولا تصعر خدك للناس} أي تمليه عنهم استكباراً عليهم, وقال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً} الاَية. وقوله: {ليضل عن سبيل الله} قال بعضهم: هذه لام العاقبة, لأنه قدلا يقصد ذلك, ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنىء لنجعله ممن يضل عن سبيل الله. ثم قال تعالى: {له في الدنيا خزي} وهو الإهانة والذل, كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الاَخرة, لأنها أكبر همه ومبلغ علمه {ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك} أي يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً {وأن الله ليس بظلام للعبيد} كقوله تعالى: {خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن الصباح, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا هشام عن الحسن قال: بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة. ** وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلَىَ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىَ وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالاَُخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضّلاَلُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرّهُ أَقْرَبُ مِن نّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىَ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ قال مجاهد وقتادة وغيرهما: {على حرف} على شك, وقال غيرهم: على طرف, ومنه حرف الجبل أي طرفه, أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن الحارث, حدثنا يحيى بن ابي بكير, حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ومن الناس من يعبد الله على حرف} قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال: هذا دين صالح, وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون, فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن, قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط, قالوا: ما في ديننا هذا خير, فأنزل الله على نبيه {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به} الاَية. وقال العوفي عن ابن عباس: كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة, فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً رضي به, واطمأن إليه, وقال: ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيراً, {وإن أصابته فتنة} والفتنة البلاء, أي وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة, أتاه الشيطان فقال: والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شراً, وذلك الفتنة, وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الاَية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة, وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه, فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر. وقال مجاهد في قوله: {انقلب على وجهه} أي ارتد كافراً. وقوله: {خسر الدنيا والاَخرة} أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء, وأما الاَخرة فقد كفر بالله العظيم, فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة, ولهذا قال تعالى: {ذلك هو الخسران المبين} أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله: {يدعو من دون الله ما لا يضره وما لاينفعه} أي من الأصنام والأنداد, يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره {ذلك هو الضلال البعيد}. وقوله: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه} أي ضرره في الدنيا قبل الاَخرة أقرب من نفعه فيها, وأما في الاَخرة فضرره محقق متيقن. وقوله: {لبئس المولى ولبئس العشير} قال مجاهد: يعني الوثن, يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى, يعني ولياً وناصراً, {وبئس العشير} وهو المخالط والمعاشر, واختار ابن جرير أن المراد لبئس ابن العم والصاحب {من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} وقول مجاهد إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام, والله أعلم. ** إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم, فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات, وتركوا المنكرات, فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات, ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال: {إن الله يفعل ما يريد}. ** مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ قال ابن عباس: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والاَخرة, فليمدد بسبب أي بحبل {إلى السماء} أي سماء بيته {ثم ليقطع} يقول ثم ليختنق به, وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو الجوزاء وقتادة وغيرهم, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {فليمدد بسبب إلى السماء} أي ليتوصل إلى بلوغ السماء, فإن النصر إنما يأتي محمداً من السماء {ثم ليقطع} ذلك عنه إن قدر على ذلك, وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم, فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه, فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه, فإن الله ناصره لا محالة, قال الله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} الاَية, ولهذا قال: {فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيط} قال السدي: يعني من شأن محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء الخراساني: فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط. وقوله: {وكذلك أنزلناه} أي القرآن {آيات بينات} أي واضحات في لفظها ومعناها, حجة من الله على الناس, {وأن الله يهدي من يريد} أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء, وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب. ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَالنّصَارَىَ وَالْمَجُوسَ وَالّذِينَ أَشْرَكُوَاْ إِنّ اللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين, وقد قدمنا في سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم, والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره, فإنه تعالى:){يفصل بينهم يوم القيامة} ويحكم بينهم بالعدل, فيدخل من آمن به الجنة, ومن كفر به النار, فإنه تعالى شهيد على أفعالهم, حفيظ لأقوالهم, عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له, فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً, وسجود كل شيء مما يختص به, كما قال تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله وهم داخرون} وقال ههنا: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض} أي من الملائكة في أقطار السموات, والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وقوله: {والشمس والقمر والنجوم} إنما ذكر هذه على التنصيص, لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة {لاتسجدوا للشمس ولاللقمر واسجدوالله الذي خلقهن} الاَية, وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش, ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت» وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه في حديث الكسوف «إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله, وإنما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته, ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له». وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب, ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه, وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين والشمائل, وعن ابن عباس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت, فسجدت الشجرة لسجودي, فسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً, وضع عني بها وزراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود, قال ابن عباس: فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سجدة ثم سجد, فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة, رواه الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه. وقوله: {والدواب} أي الحيوانات كلها, وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر, فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها. وقوله: {وكثير من الناس} أي يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك {وكثير حق عليه العذاب} أي ممن امتنع وأبى واستكبر {ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن شيبان الرملي, حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: قيل لعلي: إن ههنا رجلاً يتكلم في المشيئة, فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت ؟ قال: بل كما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء ؟ قال: بل حيث يشاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي, يقول: يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرىء قالا: حدثنا ابن لهيعة, قال: حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال «نعم فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما» ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به. وقال الترمذي: ليس بقوي, وفي هذا نظر, فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع, وأكثر ما نقموا عليه تدليسه. وقد قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح, أنبأنا ابن وهب, أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين» ثم قال أبو داود: وقد أسند هذا, يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي: حدثني ابن أبي داود, حدثنا يزيد بن عبد الله, حدثنا الوليد, حدثنا أبو عمرو, حدثنا حفص بن عنان, حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية, وقال: إن هذه فضلت بسجدتين. وروى أبو داود وابن ماجه من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن, منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان, فهذه شواهد يشد بعضها بعضاً. ** هَـَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبّهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارِ يُصَبّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ثبت في الصحيحين من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر: أنه كان يقسم قسماً أن هذه الاَية {هذان خصمان اختصموا في ربهم} نزلت في حمزة وصاحبيه, وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر, لفظ البخاري عند تفسيرها, ثم قال البخاري: حدثنا حجاج بن المنهال, حدثنا المعتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة, قال قيس: وفيهم نزلت: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم, فنحن أولى بالله منكم, وقال المسلمون: كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء, فنحن أولى بالله منكم, فأفلج الله الإسلام على من ناوأه, وأنزل {هذان خصمان اختصموا في ربهم} وكذا روى العوفي عن ابن عباس: وقال شعبة عن قتادة في قوله: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الاَية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث, وقال في رواية هو وعطاء في هذه الاَية: هم المؤمنون والكافرون. وقال عكرمة: {هذان خصمان اختصموا في ربهم} قال: هي الجنة والنار, قالت النار: اجعلني للعقوبة, وقالت الجنة: اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء: إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها, وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها, فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل, والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل, وهذا اختيار ابن جرير, وهو حسن, ولهذا قال {فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار} أي فصلت لهم مقطعات من النار, قال سعيد بن جبير: من نحاس, وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي {يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود} أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة. وقال سعيد بن جبير: هو النحاس المذاب, أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء, قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم, وكذلك تذوب جلودهم, وقال ابن عباس وسعيد: تساقط. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني, حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه, فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه, وهو الصهر, ثم يعاد كما كان» ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال: حسن صحيح, وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن أبي الحواري. قال: سمعت عبد الله بن السري قال: يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته, فإذا أدناه من وجهه تكرهه, قال: فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه, ثم يفرغ الإناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه, فذلك قوله: {يصهر به ما في بطونهم والجلود}. وقوله: {ولهم مقامع من حديد} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض, فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض» وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت, ثم عاد كما كان, ولو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقال ابن عباس في قوله: {ولهم مقامع من حديد} قال: يضربون بها, فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور. وقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها, ثم قرأ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} وقال زيد بن أسلم في هذه الاَية {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} قال: بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون, وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج, إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة, ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها. وقوله: {وذوقوا عذاب الحريق} كقوله: {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً. ** إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوَاْ إِلَى الطّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوَاْ إِلَىَ صِرَاطِ الْحَمِيدِ لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذاً بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار, ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخله الجنة, فقال: {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار} أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها, يصرفونها حيث شاؤوا وأين أرادوا {يحلون فيها} من الحلية {من أساور من ذهب ولؤلؤاً} أي في أيديهم, كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». وقال كعب الأحبار: إن في الجنة ملكاً لو شئت أن أسميه لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها ـ أي سوار منها ـ لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر. وقوله: {ولباسهم فيها حرير} في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم, لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه, كما قال: {عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكوراً} وفي الصحيح «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا, فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الاَخرة» قال عبد الله بن الزبير: من لم يلبس الحرير في الاَخرة لم يدخل الجنة, قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير}. وقوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} كقوله تعالى: {وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام} وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} وقوله: {لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاما} فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب, وقوله: {ويلقون فيها تحية وسلاماً} لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم: {ذوقوا عذاب الحريق}. وقوله: {وهدوا إلى صراط الحميد} أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح «إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النّفس» وقد قال بعض المفسرين في قوله: {وهدوا إلى الطيب من القول} أي القرآن وقيل: لا إله إلا الله وقيل: الأذكار المشروعة {وهدوا إلى صراط الحميد} أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم. ** إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم أولياؤه {وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} الاَية, وفي هذه الاَية دليل على أنها مدنية, كما قال في سورة البقرة: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} وقال ههنا: {إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام} أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام, أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر, وهذا التركيب في هذه الاَية كقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله. وقوله: {الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام, وقد جعله الله شرعاً سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه {سواء العاكف فيه والباد} ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها, كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {سواء العاكف فيه والباد} قال: ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وقال مجاهد: {سواء العاكف فيه والباد} أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل, وكذا قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: سواء فيه أهله وغير أهله, وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف, وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً, فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر, واحتج بحديث الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال: قلت يا رسول الله أتنزل غداً في دارك بمكة ؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع ؟» ثم قال: «لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين, وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية داراً بمكة, فجعلها سجناً, بأربعة آلاف درهم, وبه قال طاوس وعمرو بن دينار, وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر, وهو مذهب طائفة من السلف, ونص عليه مجاهد وعطاء, واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين, عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعي رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها, وقال أيضاً عن ابن جريج: كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم, وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها, فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو, فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك, فقال: أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجراً, فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري, قال: فلك ذلك إذاً. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء, قال: وأخبرنا معمر عمن سمع عطاء يقول: {سواء العاكف فيه والباد} قال: ينزلون حيث شاؤوا, وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفاً «من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً» وتوسط الإمام أحمد فقال: تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة, والله أعلم. وقوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} قال بعض المفسرين من أهل العربية: الباء ههنا زائدة, كقوله: {تنبت بالدهن} أي تنبت الدهن, وكذا قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد} تقديره إلحاداً, وكما قال الأعشى. ضمنت برزق عيالنا أرماحنابين المراجل والصريح الأجرد وقال الاَخر: بواد يمان ينبت الشث صدرهوأسفله بالمرخ والشبهان والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم, ولهذا عداه بالباء فقال: {ومن يرد فيه بإلحاد} أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار: وقوله: {بظلم} أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول, كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو التعمد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: بظلم بشرك, وقال مجاهد: أن يعبد فيه غير الله, وكذا قال قتادة وغير واحد. وقال العوفي عن ابن عباس: بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل, فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك, فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم, وقال مجاهد: بظلم يعمل فيه عملاً سيئا, وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه, كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره, حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين, لأذاقه الله من العذاب الأليم, قال شعبة: هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد: هو قد رفعه, ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به, قلت: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري, ووقفه أشبه من رفعه, ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود, وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي, عن مرة, عن ابن مسعود موقوفاً, والله أعلم. وقال الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال: ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه, ولو أن رجلاً بعدن أبين همّ أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم, وكذا قال الضحاك بن مزاحم, وقال سفيان الثوري عن منصور, عن مجاهد: إلحاد فيه لا والله وبلى والله, وروي عن مجاهد, عن عبد الله بن عمرو مثله, وقال سعيد بن جبير: شتم الخادم ظلم فما فوقه, وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء, عن ميمون بن مهران, عن ابن عباس في قوله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: تجارة الأمير فيه. وعن ابن عمر: بيع الطعام بمكة إلحاد. وقال حبيب بن أبي ثابت: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: المحتكر بمكة, وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري, أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى, عن عمه عمارة بن ثوبان, حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام بمكة إلحاد» وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا عطاء بن دينار, حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله الله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} قال: نزلت في عبد الله بن أنيس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين: أحدهما مهاجر, والاَخر من الأنصار, فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري, ثم ارتد عن الإسلام, وهرب إلى مكة, فنزلت فيه {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد, يعني بميل عن الإسلام, وهذه الاَثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد, ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها, ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيراً أبابيل, {ترميهم بحجارة من سجيل, فجعلهم كعصف مأكول}, أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء, ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم» الحديث. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كناسة, حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال: يا ابن الزبير إياك والإلحاد في حرم الله, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيلحد فيه رجل من قريش, لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت» فانظر لا تكن هو, وقال أيضاً في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص: حدثنا هاشم, حدثنا إسحاق بن سعيد, حدثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال: يا ابن الزبير, إياك والإلحاد في الحرم, فاني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحلها ويحل به رجل من قريش, لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها» قال: فانظر لا تكن هو, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين. ** وَإِذْ بَوّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرّكّعِ السّجُودِ * وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له, فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت, أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه, واستدل به كثير ممن قال: إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق, وأنه لم يبن قبله, كما ثبت في الصحيحين عن أبي ذر, قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال «المسجد الحرام». قلت: ثم أي ؟ قال: «بيت المقدس». قلت: كم بينهما ؟ قال: «أربعون سنة». وقد قال الله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} الاَيتين, وقال تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والاَثار بما أغنى عن إعادته ههنا, وقال تعالى ههنا {أن لا تشرك بي شيئاً} أي ابنه على اسمي وحدي {وطهر بيتي} قال قتادة ومجاهد: من الشرك {للطائفين والقائمين والركع السجود} أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له, فالطائف به معروف, وهو أخص العبادات عند البيت, فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها {والقائمين} أي في الصلاة, ولهذا قال: {والركع السجود} فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت, فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال, إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر, والله أعلم. وقوله: {وأذن في الناس بالحج} أي ناد في الناس بالحج, داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه, فذكر أنه قال: يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال: ناد وعلينا البلاغ, فقام على مقامه, وقيل على الحجر, وقيل على الصفا, وقيل على أبي قبيس, وقال: يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه, فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض, وأسمع من في الأرحام والأصلاب, وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر, ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة, لبيك اللهم لبيك, وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف, والله أعلم, أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة. وقوله: {يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر} الاَية, قد يستدل بهذه الاَية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً, لأنه قدمهم في الذكر, فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم, وقال وكيع عن أبي العميس, عن أ بي حلحلة, عن محمد بن كعب, عن ابن عباس قال: ما أساء علي شيء إلا أخي وددت أني كنت حججت ماشياً, لأن الله يقول: {يأتوك رجالاً} والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل, اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام. وقوله: {يأتين من كل فج} يعني طريق, كما قال: {وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً} وقوله: {عميق} أي بعيد, قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد, وهذه الاَية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم حيث قال في دعائه: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف, فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار. ** لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِيَ أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ * ثُمّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطّوّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ قال ابن عباس: {ليشهدوا منافع لهم} قال: منافع الدنيا والاَخرة, أما منافع الاَخرة فرضوان الله تعالى, وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن, والذبائح والتجارات, وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والاَخرة كقوله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم}. وقوله: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}, قال شعبة وهشيم عن أبي بشر, عن سعيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر, وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به. وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي, وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل. وقال البخاري: حدثنا محمد بن عرعرة, حدثنا شعبة عن سليمان, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه» قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء», رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بنحوه. وقال الترمذي: حديث حسن, غريب, صحيح, وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر, قلت: وقد تقصيت هذه الطرق, وأفردت لها جزءاً على حدته, فمن ذلك ما قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد, عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه. وقال البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وقد روى أحمد عن جابر مرفوعاً أن هذا هو العشر الذي أقسم به في قوله: {والفجر وليال عشر}. وقال بعض السلف: أنه المراد بقوله: {وأتممناها بعشر} وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر, وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة, فقال: أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والاَتية, ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر, وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة, فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة, كما نطق به الحديث, وفضله كثير على عشر رمضان الأخير, لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيره, ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل ذلك أفضل لا شتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر, وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل, وليالي ذاك أفضل, وبهذا يجتمع شمل الأدلة, والله أعلم. (قول ثان) في الأيام المعلومات. قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده, ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي, وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. (قول ثالث) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن المديني, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا ابن عجلان, حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام, فالأيام المعلومات: يوم النحر, ويومان بعده, والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر, هذا إسناد صحيح إليه, وقاله السدي, وهو مذهب الإمام مالك بن أنس, ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني ذكر الله عند ذبحها. (قول رابع) أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده, وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب: حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. وقوله: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام {ثمانية أزواج} الاَية, وقوله: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} استدل بهذه الاَية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي, وهو قول غريب, والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب, كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ, فأكل من لحمها وحسا من مرقها. قال عبد الله بن وهب: قال لي مالك: أحب أن يأكل من أضحيته, لأن الله يقول: {فكلوا منها} قال ابن وهب: وسألت الليث, فقال لي مثل ذلك, وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم {فكلوا منها} قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين, فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل, وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك. قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله: {فكلوا منها} قال: هي كقوله: {فإذا حللتم فاصطادوا} {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره, واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بالنصف بقوله في هذه الاَية: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} فجزأها نصفين: نصف للمضحي ونصف للفقراء, والقول الاَخر أنها تجزأ ثلاثة أجزاء: ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به, لقوله تعالى في الاَية الأخرى: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله: {البائس الفقير} قال عكرمة: هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس والفقير المتعفف, وقال مجاهد: هو الذي لا يبسط يده, وقال قتادة: هو الزمن, وقال مقاتل بن حيان: هو الضرير. وقوله: {ثم ليقضوا تفثهم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وهو وضع الإحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك, وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه, وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي. وقال عكرمة عن ابن عباس {ثم ليقضوا تفثهم} قال: التفث المناسك. وقوله: {وليوفوا نذورهم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني نحر ما نذر من أمر البدن. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد {وليوفوا نذورهم} نذر الحجوالهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد {وليوفوا نذورهم} قال: الذبائح. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وليوفوا نذورهم} كل نذر إلى أجل وقال عكرمة {وليوفوا نذورهم} قال: حجهم. وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم: حدثنا أبي. حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان في قوله: {وليوفوا نذورهم} قال: نذور الحج, فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به, وروي عن مالك نحو هذا. وقوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} قال مجاهد: يعني الطواف الواجب يوم النحر, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس: أتقرأ سورة الحج يقول الله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق, قلت: وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة, فرماها بسبع حصيات, ثم نحر هديه وحلق رأسه, ثم أفاض فطاف بالبيت, وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وقوله: {بالبيت العتيق} فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر, لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم, ون كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة, ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة, ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر العدني, حدثنا سفيان عن هشام بن حجر عن رجل عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الاَية {وليطوفوا بالبيت العتيق} طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه, وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله: {وليطوفوا بالبيت العتيق} قال: لأنه أول بيت وضع للناس, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وعن عكرمة أنه قال: إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح, وقال خصيف: إنما سمي بالبيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط. وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد: أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه, وكذا قال قتادة. وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد: لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك, وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال: إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة, وقال الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد, حدثنا عبد الله بن صالح, أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به, وقال: إن كان صحيحاً, وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, ثم رواه من وجه آخر عن الزهري مرسلاً. ** ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ حُرُمَاتِ اللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ وَأُحِلّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزّورِ * حُنَفَآءَ للّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ يقول تعالى: هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل {ومن يعظم حرمات الله} أي ومن يجتنب معاصيه, ومحارمه ويكون ارتكابها عظيماً في نفسه {فهو خير له عند ربه} أي فله على ذلك خير كثير, وثواب جزيل, فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل, كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات, قال ابن جريج: قال مجاهد في قوله: {ذلك ومن يعظم حرمات الله} قال: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها, وكذا قال ابن زيد. وقوله: {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم} أي أحللنا لكم جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله: {إلا ما يتلى عليكم} أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الاَية, قال ذلك ابن جرير, وحكاه عن قتادة. وقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}من ههنا لبيان الجنس , أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان, وقرن الشرك بالله بقول الزور, كقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟» قلنا: بلى يا رسول لله قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئاً فجلس فقال ـ ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. وقال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري, أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً, فقال: «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله» ثلاثاً, ثم قرأ {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به, ثم قال: غريب إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد, وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح, فلما انصرف قام قائماً فقال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل» ثم تلا هذه الاَية {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بالله, ثم قرأ هذه الاَية. وقوله: {حنفاء لله} أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق, ولهذا قال: {غير مشركين به} ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى, فقال: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء} أي سقط منها {فتخطفه الطير} أي تقطعه الطيور في الهواء {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} أي بعيد مهلك لمن هوى فيه, ولهذا جاء في حديث البراء: إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء, فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحاً من هناك, ثم قرأ هذه الاَية, وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلاً آخر في سورة الأنعام. وهو قوله: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى} الاَية. ** ذَلِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللّهِ فَإِنّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ مَحِلّهَآ إِلَىَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ يقول تعالى هذا {ومن يعظم شعائر الله} أي أوامره {فإنها من تقوى القلوب} ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن, كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس: تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد عن ابن عباس {ذلك ومن يعظم شعائر الله} قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة, وكان المسلمون يسمنون, رواه البخاري, وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين» رواه أحمد وابن ماجه, قالوا: والعفراء هي البيضاء بياضاً ليس بناصع, فالبيضاء أفضل من غيرها, وغيرها يجزىء أيضاً لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين, وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل, يأكل في سواد, وينظر في سواد, ويمشي في سواد, رواه أهل السنن وصححه الترمذي ـ أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن. وفي سنن ابن ماجه عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين, وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين. قيل: هما الخصيان, وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما, والله أعلم. وعن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء, رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي ولهم عنه, قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن, وقال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر, وقال بعض أهل اللغة: إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء, فأما العضب فهو كسر الأسفل, وعضب الأذن قطع بعضها. وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره. وقال أحمد: لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك: إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزىء وإلا أجزأ, والله أعلم. وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها, والمدابرة من مؤخر أذنها, والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولاً, قاله الشافعي, وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقاً مدوراً, والله أعلم. وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع لاتجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها, والمريضة البين مرضها, والعرجاء البين ظَلعَها, والكسيرة التي لاتنقى» رواه أحمد وأهل السنن, وصححه الترمذي, وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى, فلهذا لا تجزيء التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة, كما هو ظاهر الحديث, واختلف قول الشافعي في المريضة مرضاً يسيراً على قولين, وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء, فالمصفرة قيل الهزيلة, وقيل المستأصلة الأذن, والمستأصلة مكسورة القرن, والبخقاء هي العوراء, والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها, والكسراء العرجاء, فهذه العيوب كلها مانعة من الإجزاء, فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافاً لأبي حنيفة, وقد روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشاً أضحي به, فعدا الذئب فأخذ الألية, فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ضح به» ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن, أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة, كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال: أهدى عمر نجيباً فأعطي بها ثلثمائة دينار, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلثمائة دينار, أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً ؟ قال: لا «انحرها إياها» وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله. وقال محمد بن أبي موسى: الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله. وقال ابن عمر: أعظم الشعائر البيت. وقوله: «لكم فيها منافع» أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى. قال مقسم عن ابن عباس في قوله: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} قال: ما لم تسم بدناً. وقال مجاهد في قوله: {لكم فيها منافع إلى أجل مسمى} قال: الركوب واللبن والولد, فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله, وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال آخرون: بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك, كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال «اركبها» قال: إنها بدنة. قال «اركبها ويحك» في الثانية أو الثالثة. وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن عن علي أنه رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها, فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها. وقوله: {ثم محلها إلى البيت العتيق} أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق, وهو الكعبة, كما قال تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} وقال: {والهدي معكوفاً أن يبلغ محله} وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريباً, ولله الحمد. وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس يقول: كل من طاف بالبيت فقد حل, قال الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. ** وَلِكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىَ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشّرِ الْمُخْبِتِينَ * الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَىَ مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصّلاَةِ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس {ولكل أمة جعلنا منسكاً} قال: عيداً. وقال عكرمة: ذبحاً. وقال زيد بن أسلم في قوله: {ولكل أمة جعلنا منسكاً} إنها مكة, لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها. وقوله: {ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين, فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله المجاشعي عن أبي داود ـ وهو نفيع بن الحارث ـ عن زيد بن أرقم قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا منها ؟ قال: «بكل شعرة حسنة قال فالصوف ؟ قال «بكل شعرة من الصوف حسنة» وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه من حديث سلام بن مسكين به. وقوله: {فإلهكم إله واحد فله أسلموا} أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً, فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} ولهذا قال: {فله أسلموا} أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته {وبشر المخبتين} قال مجاهد: المطمئنين. وقال الضحاك وقتادة: المتواضعين. وقال السدي: الوجلين. وقال عمرو بن أوس: المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال الثوري {وبشر المخبتين} قال: المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له, وأحسن بما يفسر بما بعده وهو قوله: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} أي خافت منه قلوبهم {والصابرين على ما أصابهم} أي من المصائب. قال الحسن البصري: والله لنصبرن أو لنهلكن {والمقيمي الصلاة} قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضاً وقرأ ابن السميفع {والمقيمن الصلاة} بالنصب وعن الحسن البصري {والمقيمي الصلاة} وإنما حذفت النون ههنا تخفيفاً, ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف, فنصبت, أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه {ومما رزقناهم ينفقون} أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وفقرائهم ومحاويجهم, ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله, وهذه بخلاف صفات المنافقين, فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة. ** وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا صَوَآفّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ كَذَلِكَ سَخّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول تعالى ممتناً على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره, وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام, بل هي أفضل ما يهدى إليه, كما قال تعالى: {لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} الاَية, قال ابن جريج, قال عطاء في قوله: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله} قال البقرة والبعير, وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري, وقال مجاهد: وإنما البدن من الإبل {قلت} أما إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه, واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين, أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث, ثم جمهور العلماء على أنه تجزىء البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة, كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة, والبقرة عن سبعة. وقال إسحاق بن راهويه وغيره: بل تجزىء البقرة والبعير عن عشرة, وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما, فالله أعلم. وقوله: {لكم فيها خير} أي ثواب في الدار الاَخرة, وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم. وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض, فطيبوا بها نفساً» رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه, وقال سفيان الثوري: كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن, فقيل له: تستدين وتسوق البدن ؟ فقال: إني سمعت الله يقول لكم: {لكم فيها خير}. وعن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه الدارقطني في سننه. وقال مجاهد: {لكم فيها خير} قال: أجر ومنافع, وقال إبراهيم النخعي: يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها. وقوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى, فلما انصرف أتى بكبش فذبحه, فقال: «باسم الله والله أكبر, اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال: ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد, فقال حين وجههما: «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين, إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له, وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين, اللهم منك ولك عن محمد وأمته» ثم سمى الله وكبّر وذبح. وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس, أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه, فذبحه بنفسه بالمدية, ثم يقول: «اللهم هذا عن أمتي جميعها: من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالاَخر فيذبحه بنفسه, ثم يقول «هذا عن محمد وآل محمد» فيطعمهما جميعاً للمساكين ويأكل هو وأهله منهما, رواه أحمد وابن ماجه. وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله: {فاذكروا اسم الله عليها صواف} قال: قياماً على ثلاث قوائم, معقولة يدها اليسرى, يقول: باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله, اللهم منك ولك, وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد: إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث, وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه. وقال الضحاك: تعقل رجل واحدة فتكون على ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياماً مقيدة, سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم, وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها, رواه أبو داود. وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك: قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر. وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه: فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثاً وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: في حرف ابن مسعود {صوافن} أي معقلة قياماً. وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال: معقولة, ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها, وقال طاوس والحسن وغيرهما {فاذكروا اسم الله عليها صوافي} يعني خالصة لله عز وجل, وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد: صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم. وقوله: {فإذا وجبت جنوبها} قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: يعني سقطت إلى الأرض, وهو رواية عن ابن عباس, وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس: فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: فإذ وجبت جنوبها, يعني ماتت, وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد, فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع «لا تعجلوا النفوس أن تزهق» وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن قرافصة الحنفي, عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك, ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة, وليحد أحدكم شفرته, وليرح ذبيحته» وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وقوله: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} قال بعض السلف: قوله: {فكلوا منها} أمر إباحة. وقال مالك: يستحب ذلك, وقال غيره: يجب, وهو وجه لبعض الشافعية. واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر, فقال العوفي عن ابن عباس: القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته, والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل, وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: القانع المتعفف, والمعتر السائل, وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه. وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان ومالك بن أنس: القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك, والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك, وهذا لفظ الحسن. وقال سعيد بن جبير: القانع هو السائل, قال: أما سمعت قول الشماخ: لمال المرء يصلحه فيغنىمفاقره أعف من القنوع قال: يغنى من السؤال, وبه قال ابن زيد. وقال بن أسلم: القانع المسكين الذي يطوف, والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور, وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضاً. وعن مجاهد أيضاً: القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك, والمعتر الذي يعتريك من الناس, وعنه: أن القانع هو الطامع, والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير, وعن عكرمة نحوه, وعنه: القانع أهل مكة, واختار ابن جرير أن القانع هو السائل, لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال, والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم. وقد احتج بهذه الاَية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء: فثلث لصاحبها يأكله, وثلث يهديه لأصحابه, وثلث يتصدق به على الفقراء, لأنه تعالى قال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث, فكلوا وادخروا ما بدا لكم». وفي رواية «فكلوا وادخروا وتصدقوا». وفي رواية «فكلوا وأطعموا وتصدقوا». والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف, لقوله في الاَية المتقدمة: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} ولقوله في الحديث: فكلوا وادخروا وتصدقوا» فإن أكل الكل, فقيل: لا يضمن شيئاً, وبه قال ابن سريج من الشافعية. وقال بعضهم: يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل يضمن نصفها وقيل ثلثها. وقيل أدنى جزء منها, وهو المشهور من مذهب الشافعي. وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي «فكلوا وتصدقوا, واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها» ومن العلماء من رخص في بيعها, ومنهم من قال: يقاسم الفقراء ثمنها, والله أعلم. (مسألة) عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي, ثم نرجع فننحر, فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا, ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس هو من النسك في شيء» أخرجاه, فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين, زاد أحمد: وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم: وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام. وقال أبو حنيفة: أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام, والله أعلم. ثم قيل: لا يشرع بالذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل: يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم, وأما اهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده, وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم النحر ويوم بعده للجميع, وقيل: ويومان بعده, وبه قال الإمام أحمد. وقيل: يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده, وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيام التشريق كلها ذبح» رواه أحمد وابن حبان. وقيل: إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة, وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن, وهو قول غريب. وقوله: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} يقول تعالى من أجل هذا {سخرناها لكم} أي ذللناها لكم, وجعلناها منقادة لكم خاضعة, إن شئتم ركبتم, وإن شئتم حلبتم, وإن شئتم ذبحتم, كما قال تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما علمت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون ـ إلى قوله ـ أفلا يشكرون} وقال في هذه الاَية الكريمة: {كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون}. ** لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـَكِن يَنَالُهُ التّقْوَىَ مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ الْمُحْسِنِينَ يقول تعالى: إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها, فإنه الخالق الرزاق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها, فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لاَلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم, ونضحوا عليها من دمائها, فقال تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال: كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق أن ننضح, فأنزل الله {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} أي يتقبل ذلك ويجزي عليه, كما جاء في الصحيح «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم, ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». وجاء في الحديث «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل, وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض» كما تقدم في الحديث, رواه ابن ماجه والترمذي, وحسنه عن عائشة مرفوعاً, فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا, والله أعلم. وقال وكيع عن يحيى بن مسلم أبي الضحاك: سألت عامراً الشعبي عن جلود الأضاحي, فقال: {لن ينال الله لحومُها ولا دماؤها} إن شئت فبع, وإن شئت فأمسك, وإن شئت فتصدق. وقوله: {كذلك سخرها لكم} أي من أجل ذلك سخر لكم البدن {لتكبروا الله على ما هداكم} أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله: {وبشر المحسنين} أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل. (مسألة) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصاباً, وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضاً, واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات, عن أبي هريرة مرفوعاً: «من وجد سعة فلم يضح, فلا يقربن مصلانا» على أن فيه غرابة, واستنكره أحمد بن حنبل, وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي, رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد: لا تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث: «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته, فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو سريحة: كنت جاراً لأبي بكر وعمر, فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما, وقال بعض الناس: الأضحية سنة كفاية, إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت, سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات: «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة, هل تدرون ما العتيرة ؟ هي التي تدعونها الرجبية» وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته, فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس, فصار كما ترى, رواه الترمذي وصححه وابن ماجه, وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله, رواه البخاري. وأما مقدار سن الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تذبحوا إلا مسنة, إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» ومن ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزىء, وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزىء من كل جنس, وهما غريبان. والذي عليه الجمهور إنما يجزىء الثني من الإبل والبقر والمعز, أو الجذع من الضأن, فأما الثني من الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة, ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة, وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة, ومن المعز ما له سنتان, وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة, وقيل عشرة أشهر, وقيل ثمانية, وقيل ستة أشهر, وهو أقل ما قيل في سنه, وما دونه فهو حمل, والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم. والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدغين والله أعلم. ** إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم, كما قال تعالى: {أليس الله بكاف عبده} وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره, قد جعل الله لكل شيء قدراً} وقوله: {إن الله لا يحب كل خوان كفور} أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا, وهو الخيانة في العهود والمواثيق لا يفي بما قال, والكفر الجحد للنعم, فلا يعترف بها. ** أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىَ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاّ أَن يَقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ قال العوفي عن ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة. وقال مجاهد والضحاك, وغير واحد من السلف كابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم: هذه أول آية نزلت في الجهاد, واستدل بهذه الاَية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن داود الواسطي, حدثنا إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن. قال ابن عباس: فأنزل الله عز وجل {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فعرفت أنه سيكون قتال. وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به, وزاد: قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف, زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال الترمذي: حديث حسن, وقدرواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس. وقوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال, ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته, كما قال: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لا نتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض, والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم} وقال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين, ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} وقال: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعلمون} وقال: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وقال: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} والاَيات في هذا كثيرة. ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وإن الله على نصرهم لقدير} وقد فعل, وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به, لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر بقتال الباقين لشق عليهم, ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا نيفاً وثمانين, قالوا: يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي, يعنون أهل منى, ليالي منى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر بهذا» فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله, وشردوا أصحابه شذر مذر, فذهب منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة, فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه, وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلاً يلجئون إليه, شرع الله جهاد الأعداء, فكانت هذه الاَية أول ما نزل في ذلك, فقال تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق} قال العوفي عن ابن عباس: أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق, يعني محمداً وأصحابه {إلا أن يقولوا ربنا الله} أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة, ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له, وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر, وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب, كما قال تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيزالحميد} ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون: اللهم لولا أنت ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا عليناإذا أرادوا فتنة أبينا فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول معهم آخر كل قافية, فإذا قالوا: * إذا أرادوا فتنة أبينا * يقول: أبينا يمد بها صوته, ثم قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم, ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب, لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف {لهدمت صوامع} وهي المعابد الصغار للرهبان, قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة: هي معابد الصابئين, وفي رواية عنه: صوامع المجوس, وقال مقاتل بن حيان: هي البيوت التي على الطرق {وبيع} وهي أوسع منها, وأكثر عابدين فيها, وهي للنصارى أيضاً, قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود, وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود, ومجاهد إنما قال: هي الكنائس, والله أعلم. وقوله: {وصلوات} قال العوفي عن ابن عباس: الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود, وهم يسمونها صلوات. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى. وقال أبو العالية وغيره: الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: الصوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق, وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله: {يذكر فيها اسم الله كثيراً} فقد قيل: الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك: الجميع يذكر فيها اسم الله كثيراً. وقال ابن جرير: الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود, وهي كنائسهم, ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً, لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء: هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عماراً وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح. وقوله: {ولينصرن الله من ينصره} كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم}. وقوله: {إن الله لقوي عزيز} وصف نفسه بالقوة والعزة, فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً, وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب, بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه, ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور, قال الله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} وقال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز}. ** الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الربيع الزهراني, حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال عثمان بن عفان: فينا نزلت {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا: ربنا الله ثم مكنا في الأرض, فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة, وأمرنا بالمعروف, ونهينا عن المنكر, ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: {الذين إن مكناهم في الأرض} الاَية, ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده, ولكنها على الوالي والمولى عليه, ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم, وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم, وأن يأخذ لبعضكم من بعض, وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع, وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها, ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي: هذه الاَية كقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} وقوله: {ولله عاقبة الأمور} كقوله تعالى: {والعاقبة للمتقين}. وقال زيد بن أسلم {ولله عاقبة الأمور} وعند الله ثواب ما صنعوا. ** وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَىَ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مّعَطّلَةٍ وَقَصْرٍ مّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَـَكِن تَعْمَىَ الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه: {وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح ـ إلى أن قال ـ وكذب موسى} أي مع ما جاء به من الاَيات البينات والدلائل الواضحات {فأمليت للكافرين} أي أنظرتهم وأخرتهم, {ثم أخذتهم فكيف كان نكير} أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه: أنا ربكم الأعلى, وبين إهلاك الله له أربعون سنة. وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} ثم قال تعالى: {فكأين من قرية أهلكناها} أي كم من قرية أهلكتها {وهي ظالمة} أي مكذبة لرسلها {فهي خاوية على عروشها} قال الضحاك: سقوفها, أي قد خربت وتعطلت حواضرها {وبئر معطلة} أي لا يستقى منها, ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها والإزدحام عليها {وقصر مشيد} قال عكرمة يعني المبيض بالجص, وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون: هو المنيف المرتفع. وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين, وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة بينها, فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم كما قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}. وقوله: {أفلم يسيروا في الأرض} أي بأبدانهم وبفكرهم أيضاً, وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا هارون بن عبد الله, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا, ثم سح في الأرض, ثم اطلب الاَثار والعبر, حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا: قال بعض الحكماء: أحي قلبك بالمواعظ, ونوره بالتفكر, وموته بالزهد, وقوّه باليقين, وذلله بالموت, وقرره بالفناء, وبصره فجائع الدنيا, وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام, واعرض عليه أخبار الماضين, وذكره ما أصاب من كان قبله, وسيره في ديارهم وآثارهم, وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا, أي فانظروا ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال {فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها} أي فيعتبرون بها {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} أي ليس العمى عمى البصر, وإنما العمى عمى البصرة, وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر, وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى, وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي الشنتريني, وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة: يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقدنادى به الناعيان الشيب والكبر إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترىفي رأسك الواعيان السمع والبصر ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجللم يهده الهاديان العين والأثر لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الـأعلى ولا النيّران الشمس والقمر ليرحلن عن الدنيا وإن كرهافراقها الثاويان البدو والحضر ) ** وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللّهُ وَعْدَهُ وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ * وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيّ الْمَصِيرُ يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {ويستعجلونك بالعذاب} أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الاَخر, كما قال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}. وقوله: {ولن يخلف الله وعده} أي الذي قد وعد من إقامة الساعة والإنتقام من أعدائه, والإكرام لأوليائه. قال الأصمعي: كنت عند أبي عمرو بن العلاء, فجاءه عمرو بن عبيد فقال: يا أبا عمرو, هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال: لا, فذكر آية وعيد, فقال له: أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً, وعن الإيعاد كرماً, أما سمعت قول الشاعر: ليرهب ابن العم والجار سطوتيولا أنثني عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدتهلمخلف إيعادي ومنجز موعدي وقوله: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} أي هو تعالى لا يعجل, فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه, لعلمه بأنه على الانتقام قادر, وأنه لا يفوته شيء وإن أجل وأنظر وأملى, ولهذا قال بعد هذا: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير} قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام» ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به, وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفاً فقال: حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم, قلت: وما مقدار نصف يوم ؟ قال أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت, بلى, قال: {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}. وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه: حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم» قيل لسعد: وما نصف يوم ؟ قال: خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك, عن عكرمة عن ابن عباس {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} قال: من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن ابن المهدي, وبه قال مجاهد وعكرمة, ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية, وقال مجاهد: هذه الاَية كقوله: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عارم محمد بن الفضل, حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين, عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال: إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون} وجعل أجل الدنيا ستة أيام, وجعل الساعة في اليوم السابع {وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون}. فقد مضت الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ففي أية لحظة ولدت كان تماماً. ** قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ سَعَوْاْ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به {قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} أي إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم, بين يدي عذاب شديد, وليس إلي من حسابكم من شيء, أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب, وإن شاء أخره عنكم, وإن شاء تاب على من يتوب إليه, وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة, وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار {لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} {وإنما أنا لكم نذير مبين * فالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم {لهم مغفرة ورزق كريم} أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم, ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي: إذا سمعت الله تعالى يقول: {ورزق كريم} فهو الجنة. وقوله: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين} قال مجاهد: يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم, وكذا قال عبد الله بن الزبير: مثبطين. وقال ابن عباس: معاجزين مراغمين {أولئك أصحاب الجحيم} وهي النار الحارة الموجعة, الشديد عذابها ونكالها, أجارنا الله منها. قال الله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون}. ** وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ وَلاَ نَبِيّ إِلاّ إِذَا تَمَنّىَ أَلْقَى الشّيْطَانُ فِيَ أُمْنِيّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ ثُمّ يُحْكِمُ اللّهُ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ فِتْنَةً لّلّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنّ اللّهَ لَهَادِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق, وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا, ولكنها من طرق كلها مرسلة, ولم أرها مسندة من وجه صحيح, والله أعلم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة النجم, فلما بلغ هذا الموضع {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى} قال: فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى, قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم, فسجد وسجدوا, فأنزل الله عز وجل هذه الاَية {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم}. رواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه, وهو مرسل, وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث, أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى {أفرأيتم اللات والعزى} وذكر بقيته, ثم قال البزار: لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد, تفرد بوصله أمية بن خالد, وهو ثقة مشهور, وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس, ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي مرسلاً, وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلاً أيضاً. وقال قتادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس, فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجى, وإنها لمع الغرانيق العلى, فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها: فذلت بها ألسنتكم, فأنزل الله {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} الاَية, فدحر الله الشيطان, ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي, حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي, حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه, ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم, فكان يتمنى هداهم, فلما أنزل الله سورة النجم قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى} ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت, فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى, وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته, فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم, وتباشروا بها, وقالوا: إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه, فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد, وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك, غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلاً كبيراً فرفع على كفه تراباً فسجد عليه, فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين, ولم يكن المسلمون سمعوا الاَية الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين, فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة, فسجدوا لتعظيم آلهتهم, ففشت تلك الكلمة في الناس, وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه, وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه, وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة, فأقبلوا سراعاً, وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية, وقال الله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} فلما بين الله قضاءه, وبرأه من سجع الشيطان, انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين, واشتدوا عليهم, وهذا أيضاً مرسل. وفي تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه, وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة, فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه, قال: وقد روينا عن أبي إسحاق هذه القصة {قلت} وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا, وكلها مرسلات ومنقطعات, والله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك, ثم سأل ههنا سؤالاً: كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليس كذلك في نفس الأمر, بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم, والله أعلم. وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء لهذا, وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها. وقوله: {إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه, أي لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء. قال البخاري: قال ابن عباس {في أمنيته} إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه, فيبطل الله ما يلقي الشيطان {ثم يحكم الله آياته}. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} يقول: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد {إذا تمنى} يعني إذا قال, ويقال أمنيته قراءته {إلا أماني} يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا: معنى قوله: {تمنى} أي تلا وقرأ كتاب الله {وألقى الشيطان في أمنيته} أي في تلاوته, قال الشاعر في عثمان حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلةوآخرها لاقى حمام المقادر وقال الضحاك: {إذا أتمنى} إذا تلا. قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام. وقوله {فينسخ الله ما يلقي الشيطان} حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك: نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان, وأحكم الله آياته. وقوله: {والله عليم} أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية {حكيم} أي في تقديره وخلقه وأمره, له الحكمة التامة والحجة البالغة, ولهذا قال: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض} أي شك وشرك وكفر ونفاق, كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله, وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج: {الذين في قلوبهم مرض} هم المنافقون, {والقاسية قلوبهم} هم المشركون. وقال مقاتل بن حيان: هم اليهود {وإن الظالمين لفي شقاق بعيد} أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد, أي من الحق والصواب, {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به} أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه, وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. وقوله: {فيؤمنوا به} أي يصدقوه وينقادوا له, {فتخبت له قلوبهم} أي تخضع وتذل له قلوبهم, {وإنّ الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم} أي في الدنيا والاَخرة, أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه, وفي الاَخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات, ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات. ** وَلاَ يَزَالُ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىَ تَأْتِيَهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ النّعِيمِ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ يقول تعالى مخبراً عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية, أي في شك من هذا القرآن, قال ابن جريج واختاره ابن جرير. وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه, أي مما ألقى الشيطان {حتى تأتيهم الساعة بغتة} قال مجاهد: فجأة, وقال قتادة {بغتة} بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم, فلا تغتروا بالله إنه لايغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقوله: {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} قال مجاهد: قال أبي بن كعب: هو يوم بدر, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما: هو يوم القيامة, لا ليل له, وكذا قال الضحاك والحسن البصري, وهذا القول هو الصحيح, وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد, ولهذا قال: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم} كقوله: {مالك يوم الدين}. وقوله: {الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيرا} {فالذين آمنوا وعملوا الصاحات} أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا, وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم {في جنات النعيم} أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به, وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم {فأولئك لهم عذاب مهين} أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق, كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين. ** وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ لَعَفُوّ غَفُورٌ يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده, وترك الأوطان والأهلين والخلان, وفارق بلاده في الله ورسوله, ونصرة لدين الله ثم قتلوا, أي في الجهاد, أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم, فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل, كما قال تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}. وقوله: {ليرزقنهم الله رزقاً حسناً} أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم {وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلاً يرضونه} أي الجنة كما قال تعالى: {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم} فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم, كما قال ههنا: {ليرزقنّهم الله رزقاً حسناً} ثم قال {ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم} أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك {حليم} أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب, ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم, وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فقد تضمنت هذه الاية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا المسيب بن واضح, حدثنا ابن المبارك عن عبد الرحمن بن شريح عن ابن الحارث ـ يعني عبد الكريم ـ عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال حدثنا شرحبيل بن السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم, فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر, وأجرى عليه الرزق, وأمن من الفتانين, واقرؤوا إن شئتم {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم}». وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا زيد بن بشر, أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان: كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فمر بجنازتين إحداهما قتيل, والأخرى متوفى, فمال الناس على القتيل, فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا ؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل الله, فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ؟ اسمعوا كتاب الله {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا} حتى بلغ آخر الاَية, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان, أنبأنا ابن المبارك, أنبأنا ابن لهيعة, حدثنا سلامان بن عامر الشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق, والاَخر توفي, فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول: {والذين هاجروا في سبيل اللهثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً} الاَيتين.فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه, ورزقت رزقاً حسناً, والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت. ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب, أخبرني عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال: كان فضالة برودس أميراً على الأرباع, فخرج بجنازتي رجلين, أحدهما قتيل والاَخر متوفى, فذكر نحو ما تقدم. وقوله: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به} الاَية, ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم, فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام, فأبى المشركون إلا قتالهم, وبغوا عليهم, فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم {إن الله لعفو غفور}. ** ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي اللّيْلِ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ يقول تعالى منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء, كما قال: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب} ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا, فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء, وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف. وقوله: {وأن الله سميع بصير} أي سميع بأقوال عباده. بصير بهم, لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم, ولما بين أنه المتصرف في الوجود, الحاكم الذي لامعقب لحكمه قال: {ذلك بأن الله هو الحق} أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له, لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وكل شيء فقير إليه, ذليل لديه {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} أي من الأصنام والأنداد والأوثان, وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل, لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً. وقوله: {وأن الله هو العلي الكبير} كما قال {وهو العلي العظيم} وقال: {الكبير المتعال} فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته, لا إله إلا هو, ولا رب سواه, لأنه العظيم الذي لا أعظم منه, العلي الذي لا أعلى منه, الكبير الذي لا أكبر منه, تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مّا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ * وَهُوَ الّذِيَ أَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ إِنّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وهذا أيضاً من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه, فإنه يرسل الرياح فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي هامدة يابسة سوادء ممحلة, {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}. وقوله: {فتصبح الأرض مخضرة} الفاء ههنا للتعقيب, وتعقيب كل شيء بحسبه, كما قال تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} الاَية, وقدثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوماً, ومع هذا هو معقب بالفاء, وهكذا ههنا قال {فتصبح الأرض مخضرة} أي خضراء بعد يباسها ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب المطر خضراء, فالله أعلم. وقوله: {إن الله لطيف خبير} أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر, ولا يخفى عليه خافية, فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به, كما قال لقمان: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} وقال: {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض} وقال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقال: {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته: وقولا له من ينبت الحب في الثرى ؟فيصبح منه البقل يهتز رابياً ويخرج منه حبه في رؤوسهففي ذاك آيات لمن كان واعياً وقوله: {له ما في السموات وما في الأرض} أي ملكه جميع الأشياء, وهو غني عما سواه وكل شيء فقير إليه عبد لديه, وقوله: {ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض} أي من حيوان وجماد وزروع وثمار, كما قال: {وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه} أي من إحسانه وفضله وامتنانه {والفلك تجري في البحر بأمره} أي بتسخيره وتسييره, أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر, ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء, كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها, ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه, ولهذا قال: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم} أي مع ظلمهم, كما قال في الاَية الأخرى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}. وقوله: {وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور} كقوله: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}. وقوله: {قل الله يحييكم ثم يمييتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}. وقوله: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} ومعنى الكلام: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف {وهو الذي أحياكم} أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً يذكر, فأوجدكم {ثم يميتكم ثم يحييكم} أي يوم القيامة {إن الإنسان لكفور} أي جحود. ** لّكُلّ أُمّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ إِنّكَ لَعَلَىَ هُدًى مّسْتَقِيمٍ * وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً, قال ابن جرير: يعني لكل أمة نبي منسكاً, قال: وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر, قال: ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها, فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً, فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي هؤلاء المشركين, وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكاً جعلاً قدرياً كما قال: {ولكل وجهة هو موليها} ولهذا قال ههنا: {هم ناسكوه} أي فاعلوه, فالضمير ههنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق, أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته, فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق, ولهذا قال: {وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم} أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود, وهذا كقوله: {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك}. وقوله: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون}. كقوله: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}. وقوله: {الله أعلم بما تعملون} تهديد شديد ووعيد أكيد, كقوله: {هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم} ولهذا قال: {الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} وهذه كقوله تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب}.الاَية. ** أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِنّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه, وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض, فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء, و لا أصغر من ذلك ولا أكبر, وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها, وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ, كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة, وكان عرشه على الماء» وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول ما خلق الله القلم, قال له: اكتب, قال و ماأكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن, فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وقال ابن أبي حاتم: حدثناأبو زرعة, حدثنا ابن بكير, حدثني عطاء بن دينار, حدثني سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام, وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى: اكتب, فقال القلم: وما أكتب ؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم الساعة, فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة, فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها, وقدرها وكتبها أيضاً, فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي يفعلونه, فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره, وهذا يعصي باختياره, وكتب ذلك عنده وأحاط بكل شيء علماً, وهو سهل عليه يسير لديه, ولهذا قال تعالى: {إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}. ** وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذَلِكُمُ النّارُ وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً, يعني حجة وبرهاناً, كقوله: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} ولهذا قال ههنا: {ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم} أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه, وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة, وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم, ولهذا توعدهم تعالى بقوله: {وما للظالمين من نصير} أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال, ثم قال: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله, وأنه لا إله إلا هو, وأن رسله الكرام حق وصدق {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن, ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء {قل} أي يا محمد لهؤلاء {أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا} أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا, وعذاب الاَخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله: {وبئس المصير} أي وبئس النار مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً {إنها ساءت مستقراً ومقاماً}. ** يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها {يا أيها الناس ضرب مثل} أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به {فاستمعوا له} أي أنصتوا وتفهموا {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له} أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة مرفوعاً قال: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة». وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, قليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة», ثم قال تعالى أيضاً: {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد, بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب, ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك, هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها, ولهذا قال: {ضعف الطالب والمطلوب} قال ابن عباس: الطالب الصنم, والمطلوب الذباب, واختاره ابن جرير, وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره: الطالب العابد, والمطلوب الصنم, ثم قال: {ما قدروا الله حق قدره} أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها {إن الله لقوي عزيز} أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدىء ويعيد} {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. وقوله: {عزيز} أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه, وهو الواحد القهار. ** اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته {إن الله سميع بصير} أي سميع لأقوال عباده, بصير بهم, عليم بمن يستحق ذلك منهم, كما قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}, وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور} أي يعلم ما يفعل رسله فيما أرسلهم به, فلا يخفى عليه شيء من أمورهم, كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ـ إلى قوله ـ وأحصى كل شيء عدداً} فهو سبحانه رقيب عليهم, شهيد على ما يقال لهم, حافظ لهم, ناصر لجنابهم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} الاَية. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج: هل هي مشروع السجود فيها, أم لا ؟ على قولين, وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم «فضلت سورة الحج بسجدتين, فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما». وقوله: {وجاهدوا في الله حق جهاده} أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم, كما قال تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}. وقوله: {هو اجتباكم} أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم, وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً, فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً, وفي السفر تقصر إلى اثنتين, وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة, كما ورد به الحديث, وتصلى رجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها, وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها, والقيام فيها يسقط لعذر المرض, فيصليها المريض جالساً, فإن لم يستطع فعلى جنبه, إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات, ولهذا قال عليه السلام: «بعثت بالحنيفية السمحة» وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا», والأحاديث في هذا كثيرة, ولهذا قال ابن عباس في قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} يعني من ضيق. وقوله: {ملة أبيكم إبراهيم} قال ابن جرير: نصب على تقدير {ما جعل عليكم في الدين من حرج} أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم, قال: ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. {قلت} وهذا المعنى في هذه الاَية كقوله: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً} الاَية, وقوله: {هو سماكم المسلمين من قبل} وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله: {هو سماكم المسلمين من قبل} قال: الله عز وجل, وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {هو سماكم المسلمين من قبل} يعني إبراهيم, وذلك قوله: {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} قال ابن جرير: وهذا لا وجه له, لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين, وقد قال الله تعالى: {هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا} قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر, {وفي هذا} يعني القرآن, وكذا قال غيره. (قلت) وهذا هو الصواب, لأنه تعالى قال: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج} ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه, بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل, ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان, فقال: {هو سماكم المسلمين من قبل} أي من قبل هذا القرآن {وفي هذا} روى النسائي عند تفسير هذه الاَية: أنبأنا هشام بن عمار, حدثنا محمد بن شعيب, أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي سلام أنه أخبره, قال: أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم» قال رجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن صام وصلى ؟ قال «نعم وإن صام وصلى» فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله, وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} من سورة البقرة, ولهذا قال {ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً عدولا خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم, لتكونوا يوم القيامة {شهداء على الناس} لأن جيمع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها, فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم, والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك, وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته. وقوله {فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم, ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج, كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة. وقوله {واعتصموا بالله} أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به {هو مولاكم} أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم {فنعم المولى ونعم النصير} يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد يقول الله تعالى: ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق, وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي, فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم, والله اعلم. آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة. سورة المؤمنون بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ اللّغْوِ مّعْرِضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَىَ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرني يونس بن سليم قال: أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري ؟ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل, فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال «اللهم زدنا ولا تنقصنا, وأكرمنا ولا تهنا, وأعطنا ولا تحرمنا, وآثرنا ولا تؤثر علينا, وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ: {قد أفلح المؤمنون} حتى ختم العشر, ورواه الترمذي في تفسيره, والنسائي في الصلاة من حديث عبد الرزاق به, وقال الترمذي: منكر لا نعرف أحداً رواه غير يونس بن سليم, ويونس لا نعرفه. وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن, فقرأت {قد أفلح المؤمنون ـ حتى انتهت إلى ـ والذين هم على صلواتهم يحافظون} قالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم: لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} قال كعب الأحبار: لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو العالية: فأنزل الله ذلك في كتابه. وقد روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً, فقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا المغيرة بن سلمة, حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وغرسها وقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فدخلتها الملائكة, فقالت: طوبى لك منزل الملوك, ثم قال: وحدثنا بشر بن آدم, وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري, حدثنا عدي بن الفضل, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة, وملاطها المسك ـ قال البزار: ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك. فقال لها: تكلمي, فقالت: {قد أفلح المؤمنون} فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك» ثم قال البزار: لا نعلم أحداً رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن علي, حدثنا هشام بن خالد, حدثنا بقية عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم قال لها: تكلمي, فقالت {قد أفلح المؤمنون}» بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث, حدثنا حماد بن عيسى العبسي, عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه «لما خلق الله جنة عدن بيده, ودلى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها, ثم نظر إليها فقال: {قد أفلح المؤمنون} قال: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل». وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزار, حدثنا محمد بن زياد الكلبي, حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خلق الله جنة عدن بيده: لبنة من درة بيضاء ولبنة من يا قوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء, ملاطها المسك, وحصباؤها اللؤلؤ, وحشيشها الزعفران, ثم قال لها انطقي, قالت: {قد أفلح المؤمنون} فقال الله: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح, وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف {الذين هم في صلاتهم خاشعون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {خاشعون} خائفون ساكنون, وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب, وكذا قال إبراهيم النخعي. وقال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم, فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح, وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم, إلى السماء في الصلاة, فلما نزلت هذه الاَية: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم. قال محمد بن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه, فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضاً مرسلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الاَية, والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لما واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها, وحينئذ تكون راحة له وقرة عين, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حبب إليّ الطيب والنساء, وجعلت قرة عيني في الصلاة». وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: يا بلال «أرحنا بالصلاة» وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار, فحضرت الصلاة, فقال: يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح, فرآنا أنكرنا عليه ذلك, فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة». وقوله: {والذين هم عن اللغو معرضون} أي عن الباطل, وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم, والمعاصي كما قاله آخرون, وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال, كما قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله: {والذين هم للزكاة فاعلون} الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال, مع أن هذه الاَية مكية, وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة, والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة, وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة, كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وآتوا حقه يوم حصاده} وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس, كقوله: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} وكقوله {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} على أحد القولين في تفسيرهما, وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال, فإنه من جملة زكاة النفوس, والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا, والله أعلم. وقوله {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط, لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج, ولهذا قال: {فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك} أي غير الأزواج والإماء {فأولئك هم العادون} أي المعتدون. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا سعيد عن قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أو ما ملكت أيمانهم} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها, قال: فضرب العبد وجز رأسه, وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم, هذا أثر غريب منقطع, ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا أليق, وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها, والله أعلم. وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الاَية الكريمة {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين, وقد قال الله تعالى: {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد, عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين, ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله عليه الناكح يده, والفاعل والمفعول به, ومدمن الخمر, والضارب والديه حتى يستغيثا, والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه, والناكح حليلة جاره» هذا حديث غريب, وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته, والله أعلم. وقوله: {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها, وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان». وقوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} أي يواظبون عليها في مواقيتها, كما قال ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟ قال)«الصلاة على وقتها». قلت: ثم أي ؟ قال «بر الوالدين». قلت: ثم أي ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». أخرجاه في الصحيحين. وفي مستدرك الحاكم قال: «الصلاة في أول وقتها». وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: {والذين هم على صلواتهم يحافظون} يعني في مواقيت الصلاة, وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة. وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها, وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس, فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, وفوقه عرش الرحمن». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة, ومنزل في النار, فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله, فذلك قوله: {أولئك هم الوارثون}» وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد {أولئك هم الوارثون} قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار, فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار, وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك, فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له, فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة, وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له, أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضاً, وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال, فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى», وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً, فيقال: هذا فكاكك من النار» فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات, أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: فحلف له, قلت: وهذه الاَية كقوله تعالى: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} وكقوله: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير, الجنة بالرومية هي الفردوس, وقال بعض السلف: لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب, فا لله أعلم. ** وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمّ إِنّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيّتُونَ * ثُمّ إِنّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين, وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإمسنون. وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس {من سلالة من طين} قال: من صفوة الماء. وقال مجاهد: من سلالة أي من مني آدم. وقال ابن جرير: إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه وقال قتادة: استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق, فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب, وهو الصلصال من الحمإالمسنون, وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب وبين ذلك» وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به نحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح {ثم جعلناه نطفة} هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الاَية الأخرى: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} أي ضعيف, كما قال: {ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين} يعني الرحم معد لذلك مهيأ له {إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون} أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة, ولهذا قال ههنا: {ثم خلقنا النطقة علقة} أي ثم صيرنا النطفة, وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره, وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة, فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة, قال عكرمة: وهي دم {فخلقنا العلقة مضغة} وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فخلقنا المضغة عظاماً} يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها. وقرأ آخرون {فخلقنا المضغة عظماً} قال ابن عباس: وهو عظم الصلب, وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» {فكسونا العظام لحماً} أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه{ثم أنشأناه خلقاً آخر} أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا جعفر بن مسافر, حدثنا يحيى بن حسان, حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم, حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث, فذلك قوله: {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني نفخنا فيه الروح, وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح, قال ابن عباس {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني فنفخنا فيه الروح, وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد, واختاره ابن جرير. وقال العوفي عن ابن عباس {ثم أنشأناه خلقاً آخر} يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً, ثم احتلم ثم صار شاباً, ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك, ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال, والله أعلم. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله ـ هو ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة, ثم يكون علقة مثل ذلك, ثم يكون مضغة مثل ذلك, ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: رزقه, وأجله, وعمله, وهل هو شقي أو سعيد, فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها» أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال: قال عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر, فتمكث أربعين يوماً, ثم تعود في الرحم فتكون علقة. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين بن الحسن, حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه, فقالت قريش: يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي, فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي, قال: فجاءه حتى جلس, فقال: يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال «يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة, فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب, وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم» فقال: هكذا كان يقول من قبلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة, فيقول: يا رب ماذا ؟ أشقي أم سعيد, أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله, فيكتبان, ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه, ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص» وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه, ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري بنحوه, والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن عبدة, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وكل بالرحم ملكاً, فيقول: أي رب نطفة, أي رب علقة, أي رب مضغة, فإذا أراد الله خلقها قال: أي رب, ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟ قال: فذلك يكتب في بطن أمه» أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به. وقوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق, قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا علي بن زيد عن أنس قال: قال عمر, يعني ابن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي ووافقني في أربع: نزلت هذه الاَية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} الاَية, قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين, فنزلت {فتبارك الله أحسن الخالقين}. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس, حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي, عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ـ إلى قوله ـ خلقاً آخر} فقال معاذ {فتبارك الله أحسن الخالقين} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له معاذ: مم تضحك يا رسول الله ؟ فقال: «بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين» وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جداً, وفي خبره هذا نكارة شديدة, وذلك أن هذه السورة مكية, وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة, وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضاً, فالله أعلم. وقوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} يعني النشأة الاَخرة {ثم الله ينشىء النشأة الاَخرة} يعني يوم المعاد. وقيام الأرواح إلى الأجساد, فيحاسب الخلائق, ويوفى كل عامل عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ** وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ لما ذكر تعالى خلق الإنسان, عطف بذكر خلق السموات السبع, وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وهكذا في أول{ألم} السجدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السموات والأرض, ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين, وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد. وقوله: {سبع طرائق} قال مجاهد: يعني السموات السبع, وهذه كقوله تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً} {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً} وهكذا قال ههنا {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين} أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها, وما ينزل من السماء وما يعرج فيها, وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير, وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً, ولا جبل إلا يعلم ما في وعره, ولا بحر إلا يعلم ما في قعره, يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}. ** وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنّا عَلَىَ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاَكِلِيِنَ * وَإِنّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نّسْقِيكُمْ مّمّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر, أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران, ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار, بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به, حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها, يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز, يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها, فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر فيسقي أرض مصر ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه, لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور. وقوله: {فأسكناه في الأرض} أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض, وجعلنا في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى. وقوله: {وإنا على ذهاب به لقادرون} أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا, ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا, ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا, ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذباً فراتاً زلالاً, فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض, فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع والثمار, وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم, وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون, فله الحمد والمنة. وقوله: {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب} يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق {ذات بهجة} أي ذات منظر حسن. وقوله: {من نخيل وأعناب} أي فيها نخيل وأعناب, وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره, وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره. وقوله: {لكم فيها فواكه كثيرة} أي من جميع الثمار, كما قال: {ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات}. وقوله: {ومنها تأكلون} كأنه معطوف على شيء مقدر تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون. وقوله: {وشجرة تخرج من طور سيناء} يعني الزيتونة, والطور هو الجبل. وقال بعضهم: إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر, فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً, والله أعلم, وطور سيناء هو طور سينين, وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام, وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. وقوله: {تنبت بالدهن} قال بعضهم: الباء زائدة, وتقديره تنبت الدهن كما في قول العرب: ألقى فلان بيده, أي يده, وأما على قول من يضمن الفعل, فتقديره تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن, ولهذا قال: {وصبغ} أي أدم, قاله قتادة, {للاَكلين} أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ, كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن عبد الله بن عيسى عن عطاء الشامي, عن أبي أسيد واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا الزيت وادهنوا به, فإنه من شجرة مباركة». وقال عبد بن حميد في مسنده وتفسيره: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة», ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه عن عبد الرزاق. قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه, وكان يضطرب فيه, فربما ذكر فيه عمر, وربما لم يذكره. قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا سفيان بن عيينة حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نميلة عن أبيه عن جده قال: ضفت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء فأطعمني من رأس بعير بارد, وأطعمنا زيتاً, وقال: هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون} يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع, وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم, ويأكلون من حملانها ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها, ويركبون ظهورها, ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم, كما قال تعالى: {وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم} وقال تعالى: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون}. ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ * فَقَالَ الْمَلاُ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لأنزَلَ مَلاَئِكَةً مّا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ بِهِ جِنّةٌ فَتَرَبّصُواْ بِهِ حَتّىَ حِينٍ يخبر تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد, وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله {فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلاتتقون} أي ألا تخافون من الله في إشراككم به ؟ فقال الملأ وهم السادة والأكابر منهم {ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم} يعنون يترفع عليكم, ويتعاظم بدعوى النبوة, وهو بشر مثلكم, فكيف أوحي إليه دونكم {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} أي لو أراد أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده ولم يكن بشراً ما سمعنا بهذا, أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين, يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية. وقوله: {إن هو إلا رجل به جنة} أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم واختصه من بينكم بالوحي {فتربصوا به حتى حين} أي انتظروا به ريب المنون, واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه. ** قَالَ رَبّ انصُرْنِي بِمَا كَذّبُونِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التّنّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَقُل رّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ وَإِن كُنّا لَمُبْتَلِينَ يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه, كما قال تعالى مخبراً عنه في الاَية الأخرى: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} وقال ههنا: {رب انصرني بما كذبون} فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها, وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين, أي ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك, وأن يحمل فيهاأهله {إلا من سبق عليه القول منهم} أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك, وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته, والله أعلم. وقوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم, وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون, فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان, وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك ههنا. وقوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين} كما قال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره, ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون} وقد امتثل نوح عليه السلام هذا, كما قال تعالى: {وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها} فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه, وقال تعالى: {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين}. وقوله: {إن في ذلك لاَيات} أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لاَيات أي لحججاً ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاؤوا به عن الله تعالى, وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء. وقوله: {وإن كنا لمبتلين} أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين. ** ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتّقُونَ * وَقَالَ الْمَلاُ مِن قَوْمِهِ الّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِلِقَآءِ الاَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيـاةِ الدّنْيَا مَا هَـَذَا إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنّكُمْ إِذاً لّخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنّكُمْ إِذَا مِتّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنّكُمْ مّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاّ رَجُلٌ افتَرَىَ عَلَىَ اللّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبّ انْصُرْنِي بِمَا كَذّبُونِ * قَالَ عَمّا قَلِيلٍ لّيُصْبِحُنّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ بِالْحَقّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظّالِمِينَ يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين, قيل: المراد بهم عاد, فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم, وقيل: المراد بهؤلاء ثمود لقوله: {فأخذتهم الصيحة بالحق} وأنه تعالى أرسل فيهم رسولاً منهم, فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له, فكذبوه وخالفوه وأبوا عن اتباعه لكونه بشراً مثلهم, واستنكفوا عن اتباع رسول بشري, وكذبوا بلقاء الله في القيامة وأنكروا المعاد الجثماني وقالوا: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون} أي بعيد بعيد ذلك {إن هو إلا رجل افترى على الله كذباً} أي فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد {وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون} أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم, فأجاب دعاءه {قال عما قليل ليصبحن نادمين} أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به {فأخذتهم الصيحة بالحق} أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم, والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم}. وقوله: {فجعلناهم غثاء} أي صرعى هلكى كغثاء السيل, وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه, {فبعداً للقوم الظالمين} كقوله: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله, فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم. ** ثُمّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلّ مَا جَآءَ أُمّةً رّسُولُهَا كَذّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} أي أمماً وخلائق {ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ, وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة, وقرناً بعد قرن, وجيلاً بعد جيل, وخلفاً بعد سلف, {ثم أرسلنا رسلنا تترى} قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضاً, وهذا كقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت, فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة}. وقوله: {كلما جاء أمة رسولها كذبوه} يعني جمهورهم وأكثرهم, كقوله تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}. وقوله: {فأتبعنا بعضهم بعضاً} أي أهلكناهم كقوله: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح}. وقوله: {وجعلناهم أحاديث} أي أخباراً وأحاديث للناس كقوله: {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق}. ** ثُمّ أَرْسَلْنَا مُوسَىَ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ * إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ الْكِتَابَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالاَيات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات, وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما لكونهما بشرين, كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر, تشابهت قلوبهم فأهلك الله فرعون وملأه, وأغرقهم في يوم واحد أجمعين, وأنزل على موسى الكتاب وهو التوراة, فيها أحكامه وأوامره ونواهيه, وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر, وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين, كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون}. ** وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىَ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس, أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء, فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر, وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. وقوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال الضحاك عن ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض, وهو أحسن ما يكون فيه النبات, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة. قال ابن عباس: وقوله: {ذات قرار} يقول ذات خصب {ومعين} يعني ماء ظاهراً, وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة. وقال مجاهد: ربوة مستوية, وقال سعيد بن جبير {ذات قرار ومعين} استوى الماء فيها. وقال مجاهد وقتادة {ومعين} الماء الجاري. ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة: من أي أرض هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر, والماء حين يسيل يكون الربى عليها القرى, ولولا الربى غرقت القرى, وروي عن وهب بن منبه نحو هذا, وهو بعيد جداً. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: هي دمشق, قال: وروي عن عبد الله بن سلام والحسن وزيد بن أسلم وخالد بن معدان نحو ذلك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس {ذات قرار ومعين} قال: أنهار دمشق. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد {وآويناهما إلى ربوة} قال: عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها. وقال عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقول في قول الله تعالى: {إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: هي الرملة من فلسطين. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي, حدثنا رواد بن الجراح, حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة, حدثنا الشيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي عن مرة البهذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: «إنك تموت بالربوة, فمات بالرملة», وهذا حديث غريب جداً وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} قال: المعين الماء الجاري, وهوالنهر الذي قال الله تعالى: {قد جعل ربك تحتك سرياً} وكذا قال الضحاك وقتادة {إلى ربوة ذات قرار ومعين} وهو بيت المقدس, فهذا ـ والله أعلم ـ هو الأظهر, لأنه المذكور في الاَية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضاً, وهذا أولى ما يفسر به, ثم الأحاديث الصحيحة ثم الاَثار. ** يَأَيّهَا الرّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاتّقُونِ * فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال, فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح, فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام, وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالةً ونصحاً, فجزاهم الله عن العباد خيراً. قال الحسن البصري في قوله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} قال: أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم, ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك {كلوا من الطيبات} يعني الحلال. وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل: كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه, وفي الصحيح «وما من نبي إلا رعى الغنم» قالوا: وأنت يا رسول الله ؟ قال: «نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة». وفي الصحيح «إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده». وفي الصحيحين «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود, وأحب القيام إلى الله قيام داود, كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع, حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال: بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم, وذلك في أول النهار وشدة الحر, فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة ؟ فقالت: اشتريتها من مالي, فشرب منه, فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن, مرثية لك من طول النهار, وشدة الحر, فرددت إلي الرسول فيه, فقال لها: «بذلك أمرت الرسل: أن لا تأكل إلا طيباً, ولا تعمل إلا صالحاً». وقد ثبت في صحيح مسلم)وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له, من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين, فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر, ومطعمه حرام, ومشربه حرام, وملبسه حرام, وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب فأنى يستحاب لذلك» وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن مرزوق. وقوله: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ولهذا قال {وأنا ربكم فاتقون} وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء, وأن قوله {أمة واحدة} منصوب على الحال. وقوله: {فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً} أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء {كل حزب بما لديهم فرحون} أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون, ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً: {فذرهم في غمرتهم} أي في غيهم وضلالهم {حتى حين} أي إلى حين حينهم وهلاكهم, كما قال تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويداً} وقال تعالى: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}. وقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم {نحن أكثر أمولاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم, بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء, ولهذا قال: {بل لا يشعرون} كما قال تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} الاَية. وقال تعالى: {إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً} وقال تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم} الاَية, وقال: {ذرني ومن خلقت وحيداً ـ إلى قوله ـ عنيداً} وقال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة. قال قتادة في قوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} قال: مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم, يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم, ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد, حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني, حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم, وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الدين إلا لمن أحب, فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه, والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه, ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قالوا: وما بوائقه يا رسول الله ؟ قال: «غشمه وظلمه, ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه, ولا يتصدق به فيقبل منه, ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار, إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن, إن الخبيث لا يمحو الخبيث». ** إِنّ الّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مّشْفِقُونَ * وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنّهُمْ إِلَىَ رَبّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَـَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ يقول تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم, كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة, وإن الكافر جمع إساءة وأمناً {والذين هم بآيات ربهم يؤمنون} أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية, كقوله تعالى إخباراً عن مريم عليها السلام: {وصدقت بكلمات ربها وكتبه} أي أيقنت أن ما كان, إنما هو عن قدر الله وقضائه, وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه, وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه, وإن كان خيراً فهو حق, كما قال الله: {والذين هم بربهم لا يشركون} أي لا يعبدون معه غيره, بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً, وأنه لا نظير له ولا كفء له. وقوله: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء, وهذا من باب الإشفاق والاحتياط, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا مالك بن مغول, حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال: «لا يا بنت الصديق, ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه, وقال «لا يا ابنة الصديق, ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم {أولئك يسارعون في الخيرات} وقال الترمذي: وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا, وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الاَية. وقد قرأ آخرون هذه الاَية {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون, وروي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا صخر بن جويرية, حدثنا إسماعيل المكي, حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها, فقالت: مرحباً بأبي عاصم, ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا ؟ فقال: أخشى أن أملك, فقالت: ما كنت لتفعل ؟ قال: جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عز وجل: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قال: أية آية ؟ قال: {والذين يؤتون ما آتوا} {والذين يأتون ما أتوا} فقالت: أيتهما أحب إليك ؟ فقلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعاً, أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي ؟ فقلت: {والذين يأتون ما أتوا} فقالت: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها, وكذلك أنزلت, ولكن الهجاء حرف, فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف, والمعنى على القراءة الأولى, وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر, لأنه قال: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} فجعلهم من السابقين, ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين, والله أعلم. ** وَلاَ نُكَلّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مّنْ هَـَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتّىَ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ * لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنّكُمْ مّنّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها, أي إلا ما تطيق حمله والقيام به, وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء, ولهذا قال: {ولدينا كتاب ينطق بالحق} يعني كتاب الأعمال, {وهم لا يظلمون} أي لا يبخسون من الخير شيئاً, وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين, ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش: {بل قلوبهم في غمرة} أي في غفلة وضلالة {من هذا}, أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس {ولهم أعمال} أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك {هم لها عاملون} قال: لا بد أن يعملوها, كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد. وقال آخرون {ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون} أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة, لتحق عليهم كلمة العذاب, وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وهو ظاهر قوي حسن, وقد قدمنا في حديث ابن مسعود: «فو الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع, فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها». وقوله: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون} يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم {إذا هم يجأرون} أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيماً} الاَية, وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص}. وقوله {لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون} أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب, ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون} أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم {ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير}. وقوله: {مستكبرين به سامراً تهجرون} في تفسيره قولان. (أحدهما) أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكباراً عليه, واحتقاراً له ولأهله, فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه الحرم أي مكة, ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام. (والثاني) أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: إنه سحر, إنه شعر, إنه كهانة, إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. (والثالث) أنه محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة, ويضربون له الأمثال الباطلة, من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون, فكل ذلك باطل, بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء. وقيل المراد بقوله: {مستكبرين به} أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به, كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان, أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الاَية {مستكبرين به سامراً تهجرون} فقال: مستكبرين بالبيت, يقولون: نحن أهله سامراً قال: كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه, وقد أطنب ابن أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله. ** أَفَلَمْ يَدّبّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأوّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * وَإِنّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَإِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ لّلَجّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول تعالى منكراً على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير, فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وقال قتادة {أفلم يدبروا القول} إذ والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكراً على الكافرين من قريش: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون} أي أفهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه, ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته, وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته, وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا, ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله: {أم يقولون به جنة} يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول, وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الاَبدين ولهذا قال: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فقال الرجل: إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «وإن كنت كارها». وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, وكبر عليه, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث, فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه, فدعاك إلى طريق واسع سهل, أكنت تتبعه ؟» قال: نعم. قال «فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه, وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال له «أسلم» فتصعده ذلك, فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك, وإذا ائتمنته أدى إليك, أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك ؟» قال: بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم «كذاكم أنتم عند ربكم». وقوله: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} قال مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل, والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى, وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها, كما أخبر عنهم في قولهم: {لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} ثم قال: {أهم يقسمون رحمة ربك} وقال تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق} الاَية. وقال تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيراً} ففي هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم, وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه, تعالى وتقدس, فلا إله غيره ولا رب سواه, ولهذا قال: {بل أتيناهم بذكرهم} أي القرآن {فهم عن ذكرهم معرضون}. وقوله: {أم تسألهم خرجاً} قال الحسن: أجراً. وقال قتادة: جعلاً {فخراج ربك خير} أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى, بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه, كما قال: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} وقال: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} وقال: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} وقال: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً}. وقوله: {وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان, فقعد أحدهما عند رجليه, والاَخر عند رأسه, فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته, فقال: إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة, فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به, فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة, فقال: أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضاً رواء تتبعوني ؟ فقالوا: نعم, قال: فانطلق بهم وأوردهم ر ياضاً معشبة وحياضاً رواء, فأكلوا وشربوا وسمنوا, فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني ؟ قالوا: بلى, قال: فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني, قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه, وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا زهير, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري, حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار, وتغلبونني تقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب, فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض, فتردون علي معاً وأشتاتاً أعرفكم بسيماكم وأسمائكم, كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله, فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال, فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي, فيقال: يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك, إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم, فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً لها حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت, ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد, فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت» وقال علي بن المديني: هذا حديث حسن الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول, لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضاً أشعث بن إسحاق, وقال فيه يحيى بن معين: صالح, ووثقه النسائي وابن حبان. وقوله: {وإن الذين لا يؤمنون بالاَخرة عن الصراط لناكبون} أي لعادلون جائرون منحرفون, تقول العرب: نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها. وقوله: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون} يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولا ستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم, كما قال تعالى {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} وقال: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ـ إلى قوله ـ بمبعوثين} فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون, قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه {لو} فهو مما لا يكون أبداً. ** وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ * حَتّىَ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الّذِيَ أَنْشَأَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأوّلُونَ * قَالُوَاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَـَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ يقول تعالى: {ولقد أخذناهم بالعذاب} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد {فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة, بل استمروا على غيهم وضلالهم {فما استكانوا}, أي ما خشعوا {وما يتضرعون} أي ما دعوا, كما قال تعالى: {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم} الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن حمزة المروزي, حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبي عن يزيد ـ يعني النحوي ـ عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم, فقد أكلنا العلهز ـ يعني الوبر والدم ـ فأنزل الله {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا} الاَية, وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به, وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا, فقال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان, حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء: ألا أنشدك بيتاً من شعر يا أبا عبد الله ؟ فقال وهب: نحن في طرف من عذاب الله, والله يقول: {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} قال: وصام وهب ثلاثاً متواصلة, فقيل له: ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال: أحدث لنا فأحدثنا, يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة. وقوله: {حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون} أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة, فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة, وانقطعت آمالهم ورجاؤهم, ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة, وهي العقول والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الاَيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء. وقوله: {قليلاً ما تشكرون} أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم, كقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم, ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والاَخرين لميقات يوم معلوم, فلا يترك منهم صغيراً ولا كبيراً, ولا ذكراً ولا أنثى, ولا جليلاً ولا حقيراً, إلا أعاده كما بدأه, ولهذا قال: {وهو الذي يحيي ويميت} أي يحيي الرمم ويميت الأمم, {وله اختلاف الليل والنهار} أي وعن أمره تسخير الليل والنهار, كل منهما يطلب الاَخر طلباً حثيثاً, يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما, كقوله: {لاالشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} الاَية. وقوله: {أفلا تعقلون} أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء, وعز كل شيء وخضع له كل شيء, ثم قال مخبراً عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين {بل قالوا مثل ما قال الأولون * قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى {لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل, إن هذا إلا أساطير الأولين} يعنون الإعادة محال, إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخباراً عنهم {أئذا كنا عظاماً نخرة * قالوا تلك إذاً كرة خاسرة * فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} وقال تعالى: {أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} الاَيات. ** قُل لّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ * قُلْ مَن رّبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلّهِ قُلْ فَأَنّىَ تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقّ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو, ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له, ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له بالربوبية, وأنه لا شريك له فيها, ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئاًولايملكون شيئاً ولا يستبدون بشيء, بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} فقال: {قل لمن الأرض ومن فيها ؟} أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات وسائر صنوف المخلوقات {إن كنتم تعلمون ؟ سيقولون لله} أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له, فإذا كان ذلك {قل أفلا تذكرون} أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره {قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم} ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات, ومن هو رب العرش العظيم, يعني الذي هو سقف المخلوقات, كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سمواته هكذا» وأشار بيده مثل القبة, وفي الحديث الاَخر «ما السموات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ولهذا قال بعض السلف: إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة, وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة, وقال الضحاك عن ابن عباس: إنما سمي عرشاً لارتفاعه. وقال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض. وقال مجاهد: ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العلاء بن سالم, حدثنا وكيع, حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدّهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر قدره أحد, وفي رواية: إلا الله عز وجل, وقال بعض السلف: العرش من يا قوتة حمراء, ولهذا قال ههنا: {ورب العرش العظيم} أي الكبير. وقال في آخر السورة {رب العرش الكريم} أي الحسن البهي, فقد جمع العرش بين العظمة في الإتساع والعلو والحسن الباهر, ولهذا قال من قال إنه من يا قوتة حمراء. وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار, نور العرش من نور وجهه. وقوله: {سيقولون لله قل أفلا تتقون} أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم, أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والإعتبار: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا عبيد الله بن جعفر, أخبرني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل معها ابن لها يرعى غنماً, فقال لها ابنها: يا أمه من خلقك ؟ قالت: الله. قال فمن خلق أبي. قالت: الله. قال: فمن خلقني ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق السموات ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الأرض ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل ؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت: الله. قال: فإني أسمع لله شأناً ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يحدثنا هذا الحديث, قال عبد الله بن دينار: كان ابن عمر كثيراً ما يحدثنا بهذا الحديث, قلت: في إسناده عبد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني, وقد تكلموا فيه, فالله أعلم. {قل من بيده ملكوت كل شيء} أي بيده الملك {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} أي متصرف فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا والذي نفسي بيده» وكان إذا اجتهد في اليمين قال «لا ومقلب القلوب» فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف {وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون} كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يحفر في جواره, وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه, ولهذا قال الله: {وهو يجير ولا يجار عليه} أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه, الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه, الذي لا يمانع ولا يخالف, وما شاء كان ومالم يشأ لم يكن, وقال الله: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله, فالخلق كلهم يسألون عن أعمالهم, كما قال تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}. وقوله: {سيقولون لله} أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له {قل فأنى تسحرون} أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك, ثم قال تعالى: {بل أتيناهم بالحق} وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله, وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك {وإنهم لكاذبون} أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك, كما قال في آخر السورة {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون} فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال, وإنما يفعلون ذلك اتباعاً لاَبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال, كما قال الله عنهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}. ** مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لّذَهَبَ كُلّ إِلَـَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ فَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة, فقال تعال: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض} أي لو قدر تعدد الاَلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان ينتظم الوجود, والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض في غاية الكمال {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} ثم لكان كل منهم يطلب قهر الاَخر وخلافه, فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى, وعبروا عنه بدليل التمانع, وهو أنه لو فرض صانعان فصاعداً فأراد واحد تحريك جسم والاَخر أراد سكونه, فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين, والواجب لا يكون عاجزاً ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد, وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد, فيكون محالاً فأما إن حصل مراد أحدهما دون الاَخر, كان الغالب هو الواجب والاَخر المغلوب ممكناً, لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهوراً, ولهذا قال تعالى: {ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون} أي عما يقول)الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علواً كبيراً {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه {فتعالى عما يشركون} اي تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل عما يقول الظالمون والجاحدون. ** قُل رّبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ * رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَإِنّا عَلَىَ أَن نّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّياطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ يقول تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم {رب إما تريني ما يوعدون} أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك, فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّني إليك غير مفتون». وقوله تعالى: {وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون} اي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن. ثم قال تعالى مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه, ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة, فقال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} وهذا كما قال في الاَية الأخرى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا} الاَية, اي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة {إلا الذين صبروا} اي على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} أي في الدنيا والاَخرة. وقوله تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل ولا ينقادون بالمعروف, وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه». وقوله تعالى: {وأعوذ بك رب أن يحضرون} أي في شيء من أمري, ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور, ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهرم, وأعوذ بك الهدم ومن الغرق, وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت» وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد, أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عد جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع: «باسم الله, أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده, ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق. وقال الترمذي: حسن غريب. ** حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى, وقيلهم عند ذلك وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته, ولهذا قال: {رب ارجعون لعلي أعمل صاحلاً فيما تركت كلا} كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ـ إلى قوله ـ والله خبير بما تعملون} وقال تعالى {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ـ إلى قوله ـ مالكم من زوال} وقال تعالى: {يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} وقال تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاًإنا موقنون} وقال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ـ إلى قوله ـ وإنهم لكاذبون} وقال تعالى: {وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل} وقال تعالى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} والاَية بعدها. وقال تعالى: {وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على الجبار, وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم. وقوله ههنا: {كلا إنها كلمة هو قائلها} كلا حرف ردع وزجر, أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لابد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم, ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله كلا, أي لأنها كلمة, أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه وقول لا عمل معه, ولو رد لما عمل صالحاً ولكان يكذب في مقالته هذه, كما قال تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} قال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة, ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات, ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل, فرحم الله امرءاً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار. وقال محمد بن كعب القرظي {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت} قال: فيقول الجبار: {كلا إنها كلمة هو قائلها} وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة: إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً, يقول الله تعالى: كلا كذبت. وقال قتادة في قوله تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت} قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله, فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله, فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها, ولا قوة إلا بالله, وعن محمد بن كعب القرظي نحوه. وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن يوسف, حدثنا فضيل ـ يعني ابن عياض ـ عن ليث عن طلحة بن مصرف, عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: إذا وضع ـ يعني الكافر ـ في قبره فيرى مقعده من النار, قال: فيقول: رب ارجعون أتوب وأعمل صالحاً, قال: فيقال قد عمرت ما كنت معمراً, قال: فيضيق عليه قبره ويلتئم, فهو كالمنهوش ينام ويفزع, تهوي إليه هوام الأرض وحياتها وعقاربها. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمر بن علي, حدثني سلمة بن تمام, حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم, حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه, فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}. وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى: {ومن ورائهم} يعني أمامهم. وقال مجاهد: البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والاَخرة. وقال محمد بن كعب: البرزخ ما بين الدنيا والاَخرة, ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الاَخرة يجازون بأعمالهم. وقال أبو صخر: البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الاَخرة, فهم مقيمون إلى يوم يبعثون, وفي قوله تعالى: {ومن ورائهم برزخ} تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ, كما قال تعالى: {من ورائهم جهنم} وقال تعالى: {ومن ورائه عذاب غليظ}. وقوله تعالى: {إلى يوم يبعثون} أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث, كما جاء في الحديث «فلا يزال معذباً فيها» أي في الأرض. ** فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَـَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور, وقام الناس من القبور {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرني والد لولده ولا يلوي عليه, قال الله تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم} أي لايسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره, وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة, قال الله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} الاَية, وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والاَخرين, ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجىء فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيراً, ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ـ هو ابن مخرمة ـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فاطمة بضعة مني, يغيظني ما يغيظها, وينشطني ما ينشطها, وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري» وهذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فاطمة بضعة مني, يريبني ما يريبها, ويؤذيني ما آذاها». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر, حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: «ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه ؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والاَخرة, وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم» قال رجل: يا رسول الله أنا فلان بن فلان, فأقول لهم: أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى» وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي, والحافظ الضياء في المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفاً إعظاماً وإكراماً رضي الله عنه, فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي القاسم البغوي: حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع, حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً «سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا كان معي في الجنة فأعطاني ذلك» ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو. وقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة, قاله ابن عباس, {فأولئك هم المفلحون} أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة, وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا بما طلبوا, ونجوا من شر ما منه هربوا {ومن خفت موازينه} أي ثقلت سيئاته على حسناته {فأولئك الذين خسروا أنفسهم} أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث, حدثنا داود بن المحبر, حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال: إن لله ملكاً موكلاً بالميزان, فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان, فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً, وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً, إسناده ضيعف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك, ولهذا قال تعالى: {في جهنم خالدون} أي ما كثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون {تلفح وجوههم النار} كما قال تعالى: {وتغشى وجوههم النار} وقال تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها, ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب» وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز, حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان, حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان, حدثنا سعيد بن سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {تلفح وجوههم النار} قال: تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم. وقوله تعالى: {وهم فيها كالحون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني عابسون. وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود {وهم فيها كالحون} قال: ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه. وقال الإمام أحمد أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه الله, أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{وهم فيها كالحون} ـ قال ـ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه, وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به, وقال: حسن غريب. ** أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىَ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ * قَالُواْ رَبّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنّا قَوْماً ضَآلّينَ * رَبّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَالِمُونَ هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك, فقال تعالى: {ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} أي قد أرسلت إليكم الرسل, وأنزلت عليكم الكتب, وأزلت شبهكم, ولم يبق لكم حجة, كما قال تعالى: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ـ إلى قوله ـ فسحقاً لأصحاب السعير} ولهذا قالوا: {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين} أي قد قامت علينا الحجة, ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها, فضللنا عنها ولم نرزقها. ثم قالوا: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} أي ارددنا إلى الدنيا, فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة, كما قال: {فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ـ إلى قوله ـ فالحكم لله العلي الكبير} أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون. ** قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ * إِنّهُ كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ * فَاتّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتّىَ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوَاْ أَنّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار. يقول {اخسئوا فيها} أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء, {ولا تكلمون} أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال العوفي عن ابن عباس {اخسئوا فيها ولا تكلمون} قال: هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان المروزي, حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً, ثم يرد عليهم إنكم ماكثون, قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك, ثم يدعون ربهم فيقولون {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} قال: فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم {اخسئوا فيها ولا تكلمون} قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة, وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم, قال: فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل, حدثنا أبو الزعراء قال: قال عبد الله بن مسعود: إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحداً يعني من جهنم, غير وجوههم وألوانهم, فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول: يا رب, فيقول الله: من عرف أحداً فليخرجه, فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحداً, فيناديه الرجل: يا فلان أنا فلان, فيقول ما أعرفك, قال: فعند ذلك يقولون {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} فعند ذلك يقول الله تعالى: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد. ثم قال تعالى مذكراً لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه, فقال تعالى: {إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمن * فاتخذتموهم سخرياً} أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي {حتى أنسوكم ذكري} أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي {وكنتم منهم تضحكون} أي من صنيعهم وعبادتهم, كما قال تعالى: {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون} أي يلمزونهم استهزاء: ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين, فقال تعالى: {إني جزيتهم اليوم بما صبروا} أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم {أنهم هم الفائزون} بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار. ** قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدّينَ * قَالَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً لّوْ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللّهُ الْمَلِكُ الْحَقّ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ يقول تعالى منبهاً لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده, ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} أي كم كانت إقامتكم في الدنيا {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين} أي الحاسبين {قال إن لبثتم إلا قليلاً} أي مدة يسيرة على كل تقدير {لو أنكم كنتم تعلمون} اي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة, فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن يونس, حدثنا الوليد, حدثنا صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, قال: يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم ـ قال ـ لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين, ثم قال: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم, فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم, ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين». وقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً} أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا, وقيل: للعبث, أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب, وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل {وأنكم إلينا لا ترجعون} أي لا تعودون في الدار الاَخرة, كما قال تعالى: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} يعني هملاً. وقوله: {فتعالى الله الملك الحق} أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً, فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك {لا إله إلا هو رب العرش الكريم} فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات, ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل, كما قال تعالى: {وأنبتنا فيها من كل زوج كريم}. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ من أهل العراق, أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه, ثم قال: أما بعد, أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً, ولن تتركوا سدى, وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم, فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته, وحرم جنة عرضها السموات والأرض, ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غداً إلا من حذر هذا اليوم وخافه, وباع نافداً بباق وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان, ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين, وسيكون من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل, قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع غير ممهد ولا موسد, قد فارق الأحباب وباشر التراب, ووجه الحساب, مرتهن بعمله, غني عما ترك, فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم, ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن نصير الخولاني, حدثنا ابن وهب, أخبرني ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن حسن بن عبد الله أن رجلاً مصاباً مربه عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الاَية {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق} حتى ختم السورة فبرأ, فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بماذا قرأت في أذنه ؟» فأخبره, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلاً موقناً قرأها على جبل لزال» وروى أبو نعيم من طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} قال: فقرأناها فغنمنا وسلمنا. وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي, حدثنا أبو المسيب سالم بن سلام, حدثنا بكر بن حُبيش عن نهشل بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة باسم الله الملك الحق, وما قدروا الله حق قدره, والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة, والسموات مطويات بيمينه, سبحانه وتعالى عما يشركون, باسم الله مجراها ومرساها, إن ربي لغفور رحيم». ** وَمَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُل رّبّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ يقول تعالى متوعداً من أشرك به غيره وعبد معه سواه, ومخبراً أن من أشرك بالله لا برهان له, أي لا دليل له على قوله, فقال تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به} وهذه جملة معترضة, وجواب الشرط في قوله: {فإنما حسابه عند ربه} أي الله يحاسبه على ذلك, ثم أخبر {إنه لا يفلح الكافرون} أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «ما تعبد ؟» قال: أعبد الله وكذا وكذا حتى عد أصناماً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك ؟» قال: الله عز وجل. قال «فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها ؟». قال: الله عز وجل, قال: «فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه, أم حسبت أن تغلب عليه ؟» قال: أردت شكره بعبارة هؤلاء معه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعلمون ولا يعلمون» فقال الرجل بعد ما أسلم: لقيت رجلاً خصمني, هذا مرسل من هذا الوجه, وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسنداً عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. وقوله تعالى: {وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء, فالغفر إذا أطلق ومعناه محو الذنب وستره عن الناس, والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال. آخر تفسير سورة المؤمنون. سورة النور بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ لّعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ * الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى: هذه {سورة أنزلناها} فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها {وفرضناها}. قال مجاهد وقتادة: أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود. وقال البخاري: ومن قرأ فرضناها, يقول فرضناها عليكم وعلى من بعدكم {وأنزلنا فيها آيات بينات} أي مفسرات واضحات {لعلكم تذكرون}, ثم قال تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} هذه الاَية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد, وللعلماء فيه تفصيل ونزاع, فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكراً وهو الذي لم يتزوج, أو محصناً وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل, فأما إذا كان بكراً لم يتزوج, فإن حده مائة جلدة كما في الاَية, ويزاد على ذلك أن يغرب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله, فإن عنده أن التغريب إلى رأي الإمام: إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب, وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال أحدهما: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً ـ يعني أجيراً ـ على هذا, فزنى بامرأته, فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة, فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام, وأن على امرأة هذا الرجم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى, الوليدة والغنم رد عليك, وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام, واغد يا أنيس ـ لرجل من أسلم ـ إلى امرأة هذا, فإن اعترفت فارجمها «فغدا عليها فاعترفت فرجمها», ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكراً لم يتزوج, فأما إذا كان محصناً وهو الذي قد وطى في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم. كما قال الإمام مالك حدثني محمد بن شهاب, أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد, أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق, وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم, فقرأناها ووعيناها, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله, فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء, إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف. أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولاً, وهذه قطعة منه فيها مقصودنا ههنا. وروى الإمام أحمد عن هشيم عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: حدثني عبد الرحمن بن عوف أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول: ألا وإن أناساً يقولون مابال الرجم ؟ في كتاب الله الجلد, وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به وأخرجه النسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله به, وقد روى الإمام أحمد أيضاً عن هشيم عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر الرجم, فقال: لا تُخدعن عنه فإنه حد من حدود الله تعالى, ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده, ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف وشهد عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمناه بعده, ألا إنه سيكون من بعدكم قومٌ يكذبون بالرجم, وبالدجال وبالشفاعة, وبعذاب القبر, وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. وروى أحمد أيضاً عن يحيى القطان عن يحيى الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم» الحديث رواه الترمذي من حديث سعيد عن عمر, وقال صحيح. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري, حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا ابن عون عن محمد هو ابن سيرين, قال: نبئت عن كثير بن الصلت قال: كنا عند مروان وفينا زيد, فقال زيد بن ثابت: كنا نقرأ: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة», قال مروان: ألا كتبتها في المصحف ؟ قال: ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب, فقال: أنا أشفيكم من ذلك, قال: قلنا فكيف ؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فذكر كذا وكذا وذكر الرجم, فقال: يا رسول الله اكتب لي آية الرجم, قال «لا أستطيع الاَن» هذا أو نحو ذلك. وقد رواه النسائي من حديث محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت عن زيد بن ثابت به, وهذه طرق كلها متعددة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به, والله أعلم. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير, ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً والغامدية, وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم جلدهم قبل الرجم, وإنما وردت الأحاديث الصحاح المتعددة الطرق والألفاظ بالإقتصار على رجمهم وليس فيها ذكر الجلد, ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء, وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله, وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للاَية, والرجم للسنة. كما رُويَ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه لما أتى بسراحة, وكانت قد زنت وهي محصنة, فجلدها يوم الخميس, ورجمها يوم الجمعة, فقال: جلدتها بكتاب الله, ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة ومسلم من حديث قتادة عن الحسن عن حطّان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً, البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام, والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». وقوله تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} أي في حكم الله, أي لا ترحموهما وترأفوا بهما في شرع الله, وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية على إقامة الحد, وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك. قال مجاهد {ولا تأخدكم بهما رأفة في دين الله} قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل, وكذا روي عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح. وقد جاءفي الحديث «تعافوا الحدود فيما بينكم, فما بلغني من حد فقدوجب», وفي الحديث الاَخر «لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً». وقيل المراد {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم, وليس المراد الضرب المبرح. قال عامر الشعبي {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} قال: رحمة في شدة الضرب. وقال عطاء: ضرب ليس بالمبرح. وقال سعيد بن أبي عروبة عن حماد بن أبي سليمان: يجلد القاذف وعليه ثيابه والزاني تخلع ثيابه, ثم تلا {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} فقلت هذا في الحكم ؟ قال: هذا في الحكم, والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي, حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمرو عن ابن أبي مليكة, عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها, قال نافع: أراه قال وظهرها, قال قلت {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} قال: يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها, ولا أن أجعل جلدها في رأسها, وقد أوجعت حين ضربتها. وقوله تعالى: {إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاَخر} أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى, وشددوا عليه الضرب ولكن ليس مبرحاً ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك, وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها: فقال «ولك في ذلك أجر». وقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس, فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما, فإن في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إذا كان الناس حضوراً. قال الحسن البصري في قوله {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} يعني علانية: ثم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}الطائفة الرجل فما فوقه. وقال مجاهد: الطائفة رجل إلى ألف, وكذا قال عكرمة, ولهذا قال أحمد: إن الطائفة تصدق على واحد, وقال عطاء بن أبي رباح: اثنان, وبه قال إسحاق بن راهويه, وكذا قال سعيد بن جبير {طائفة من المؤمنين} قال: يعني رجلين فصاعداً, وقال الزهري: ثلاثة نفر فصاعداً. وقال عبد الرزاق: حدثني ابن وهب عن الإمام مالك في قوله {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قال: الطائفة أربعة نفر فصاعداً, لأنه لا يكفي شهادة في الزنا دون أربعة شهداء فصاعداً, وبه قال الشافعي. وقال ربيعة: خمسة. وقال الحسن البصري: عشرة وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين, أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن عثمان, حدثنا بقية قال: سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} قال: ليس ذلك للفضيحة, إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة. ** الزّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة, أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية, أو مشركة لا ترى حرمة ذلك, وكذلك {الزانية لا ينكحها إلا زان} أي عاص بزناه {أو مشرك} لا يعتقد تحريمه, قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} قال: ليس هذا بالنكاح, إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك, وهذا إسناد صحيح عنه, وقد روي عنه من غير وجه أيضاً. وقد روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والضحاك ومكحول ومقاتل بن حيان وغير واحد نحو ذلك. وقوله تعالى: {وحرم ذلك على المؤمنين} أي تعاطيه والتزوج بالبغايا, أو تزويج العفائف بالرجال الفجار, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا قيس عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وحرم ذلك على المؤمنين} قال: حرم الله الزنا على المؤمنين. وقال قتادة ومقاتل بن حيان: حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا, وتقدم ذلك فقال {وحرم ذلك على المؤمنين} وهذه الاَية كقوله تعالى: {محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان}. وقوله {محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان} الاَية, ومن ههنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب, فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا, وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: {وحرم ذلك على المؤمنين}. وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر بن سليمان قال أبي حدثنا الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من المؤمنين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه قال فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها قال: فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهاإلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين}. وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن عدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله عز وجل: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهاإلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين}. وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد, حدثنا روح بن عبادة عن عبيد الله بن الأخنس, أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه, عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد, وكان رجلاً يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة, قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق, وكانت صديقة له, وإنه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله, قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة, قال: فجاءت عناق, فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط, فلما انتهت إلي عرفتني, فقالت: مرثد ؟ فقلت: مرثد, فقالت: مرحباً وأهلاً, هلم فبت عندنا الليلة, قال: فقلت: يا عناق حرم الله الزنا, فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم, قال: فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة فانتهيت إلى غار أو كهف, فدخلت فيه فجاؤوا حتى قاموا على رأسي, فبالوا: فظل بولهم على رأسي, فأعماهم الله عني, قال: ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته, وكان رجلاً ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر, ففككت عنه أحبله, فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً أنكح عناقاً ـ مرتين ؟ ـ فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئاً حتى نزلت {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهاإلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا مرثد: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك فلا تنكحها}. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مسدد أبو الحسن حدثنا عبد الوارث عن حبيب المعلم, حدثني عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وهكذا أخرجه أبو داود في سننه عن مسدد وأبي معمر عن عبد الله بن عمر كلاهما عن عبد الوارث به.وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب, حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أخيه عمر بن محمد, عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال: أشهد لسمعت سالماً يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه, والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال, والديوث, وثلاث لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه, ومدمن الخمر, والمنان بما أعطى» ورواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس, عن يزيد بن زريع, عن عمر بن محمد العمري, عن عبد الله بن يسار به. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا يعقوب, حدثنا الوليد بن كثير عن قطن بن وهب عن عويمر بن الأجدع, عمن حدثه عن سالم بن عبد الله بن عمر, قال: حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر, والعاق لوالديه, والديوث الذي يقر في أهله الخبث». وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثني شعبة, حدثني رجل من آل سهل بن حنيف عن محمد بن عمار, عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة ديوث» يستشهد به لما قبله من الأحاديث. وقال ابن ماجه: حدثنا هشام بن عمار, حدثنا سلام بن سوار, حدثنا كثير بن سليم عن الضحاك بن مزاحم, سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر, فليتزوج الحرائر» في إسناده ضعف. وقال الإمام أبو النصر إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح في اللغة: الديوث القنزع, وهو الذي لا غيرة له, فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب النكاح من سننه: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية عن يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة وغيره, عن هارون بن رئاب, عن عبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الكريم عن عبد الله بن عبيد عمير, عن ابن عباس. عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس وهارون لم يرفعه, قالا: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي امرأة هي من أحب الناس إلي, وهي لا تمنع يد لامس ؟ قال «طلقها» قال: لا صبر لي عنها. قال «استمتع بها» ثم قال النسائي: هذا الحديث غير ثابت وعبد الكريم ليس بالقوي وهارون أثبت منه وقد أرسل الحديث وهو ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. قلت: وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث, وقد خالفه هارون بن رئاب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم, فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي, لكن قد رواه النسائي في كتاب الطلاق, عن إسحاق بن راهويه, عن النضر بن شميل, عن حماد بن سلمة, عن هارون بن رئاب عن عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس مسنداً, فذكره بهذا الإسناد, فرجاله على شرط مسلم إلا أن النسائي بعد روايته له قال: هذا خطأ والصواب مرسل, ورواه غير النضر على الصواب. وقد رواه النسائي أيضاً وأبو داود عن الحسين بن حريث, أخبرنا الفضل بن موسى, أخبرنا الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا الإسناد جيد. وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف له كما تقدم عن النسائي, ومنكر كما قال الإمام أحمد: هو حديث منكر, وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلاً, وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم فقال وقيل: سخية تعطي, ورد هذا بأن لو كان المراد لقال: لا ترّد يد ملتمس, وقيل المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها, فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثاً, وقد تقدم الوعيد على ذلك, ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد, أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقها, فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها لأن محبته لها محققة ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الاَجل, والله سبحانه وتعالى أعلم. قالوا فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج, كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن ابن أبي ذئب قال: سمعت شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت ابن عباس وسأله رجل فقال: إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي, فرزقني الله عز وجل من ذلك توبة, فأردت أن أتزوجها, فقال أناس: إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا, انكحها فما كان من إثم فعلي, وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الاَية منسوخة, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب قال: ذكر عنده {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك} قال: كان يقال نسختها التي بعدها {وأنكحوا الأيامى منكم} قال: كان يقال الأيامى من المسلمين, وهكذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ له عن سعيد بن المسيب, ونص على ذلك أيضاً الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. ** وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ هذه الاَية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة, هي الحرة البالغة العفيفة, فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفه أيضاً, وليس في هذا نزاع بين العلماء, فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد, ولهذا قال تعالى: {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون} فأوجب على القاذف, إذا لم يقم البينة على صحة ما قال, ثلاثة أحكام: (أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة. (الثاني) أنه ترد شهادته أبداً. (الثالث) أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس. ثم قال تعالى: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} الاَية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء. هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب, أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ أما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف, فذهب الإمام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته, وارتفع عنه حكم الفسق, ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين, وجماعة من السلف أيضاً. وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط, فيرتفع الفسق بالتوبة, ويبقى مردود الشهادة أبداً, وممن ذهب إليه من السلف القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان, فحينئذ تقبل شهادته, والله أعلم. ** وَالّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنّ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ هذه الاَية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته, وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به, فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين أي فيما رماها به من الزنا {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} فإذا قال ذلك, بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء, وحرمت عليه أبداً, ويعطيهامهرها ويتوجب عليها حد الزنا,ولا يدرأ عنهاالعذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, أي فيما رماها به {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} ولهذا قال {ويدرأ عنها العذاب} يعني الحد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فخصها بالغضب, كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور, وهي تعلم صدقه فيما رماها به, ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها, والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه. ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق, فقال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته} أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم {وأن الله تواب} أي على عباده, وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة {حكيم} فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه, وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الاَية وذكر سبب نزولها وفيمن نزلت فيه من الصحابة. فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه: أهكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟» فقالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور, والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً, وما طلق امرأة له قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من الله, ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء, فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته ـ قال: فما لبثوا إلا يسيراً ـ حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم, فجاء من أرضه عشاء, فوجد عند أهله رجلاً, فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح, فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً, فرأيت بعيني وسمعت بأذني, فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه, واجتمعت عليه الأنصار وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الاَن, يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس, فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً. وقال هلال يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به, والله يعلم إني لصادق. فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي, وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه, يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي, فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادةأحدهم أربع شهادات بالله} الاَية, فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً» فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرسلوا إليها» فأرسلوا إليها فجاءت, فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما, فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الاَخرة أشد من عذاب الدنيا, فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها, فقالت: كذب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاعنوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, فلما كانت الخامسة قيل له: يا هلال اتق الله, فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة, وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب, فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها, فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, وقيل لها عند الخامسة: اتقي الله, فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة, وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف, ثم قالت: والله لا أفضح قومي, فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين, ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما, وقضى أن لا يدعى ولدها لأب, ولا يرمى ولدها, ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد, وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أن يفترقا من غير طلاق ولا متوفى عنها, وقال «إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين, فهو لهلال, وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين, فهو الذي رميت به» فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر, وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب. ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصراً. ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة, فمنها ما قال البخاري: حدثني محمد بن بشار, حدثنا ابن أبي عدي عن هشام بن حسان, حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «البينة أوحد في ظهرك» فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد, فنزل جبريل وأنزل عليه {والذين يرمون أزواجهم ـ فقرأ حتى بلغ ـ إن كان من الصادقين} فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم, فأرسل إليهما, فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب, فهل منكما تائب ؟» ثم قامت فشهدت, فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة, قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع, ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أبصروها فان جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين, فهو لشريك ابن سحماء» فجاءت به كذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم«لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي و لها شأن» انفرد به البخاري من هذا الوجه, وقد رواه من غير وجه عن ابن عباس و غيره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحد بن منصور الزيادي, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا صالح و هو ابن عمر, حدثنا عاصم يعني ابن كليب عن أبيه, حدثني ابن عباس قال: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى امرأته برجل, فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم يزل يردده حتى أنزل الله تعالى {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء} فقرأ حتى فرغ من الاَيتين, فأرسل إليهما فدعاهما فقال: «إن الله تعالى قد أنزل فيكما» فدعا الرجل فقرأ عليه, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه, فقال له «كل شيء أهون عليه من لعنة الله» ثم أرسله فقال «لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» ثم دعاها فقرأ عليها, فشهدت أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين, ثم أمر فأمسك على فيها فوعظها وقال: «ويحك كل شيء أهون من غضب الله» ثم أرسلها فقالت: غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما والله لأقضين بينكما قضاء فصلا» قال: فولدت فما رأيت مولوداً بالمدينة أكثر غاشيةً منه, فقال «إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا, وإن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا» فجاءت به يشبه الذي قذفت به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين أيفرق بينهما في إمارة ابن الزبير, فما دريت ما أقول, فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلت: يا أبا عبد الرحمن, المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال: سبحان الله إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان, فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فسكت فلم يجبه, فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: الذي سألتك عنه قد ابتليت به, فأنزل الله تعالى هذه الاَيات في سورة النور {والذين يرمون أزواجهم} حتى بلغ {أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين} فبدأ بالرجل فوعظه وذكره, وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة فقال: والذي بعثك بالحق ما كذبتك, ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذكرها, وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الاَخرة. فقالت المرأة: والذي بعثك بالحق إنه لكاذب, قال: فبدأ بالرجل, فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم ثنى بالمرأة, فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين, والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين, ثم فرق بينهما, رواه النسائي في التفسير من حديث عبد الملك بن أبي سليمان به, وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد, حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد, فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه, وإن تكلم جلدتموه, وإن سكت سكت على غيظ, والله لئن أصبحت صالحاً لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: فسأله, فقال: يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً فقتل قتلتموه, وإن تكلم جلدتموه, وإن سكت سكت على غيظ, اللهم احكم, قال: فأنزلت آية اللعان, فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به. انفرد بإخراجه مسلم, فرواه من طرق عن سليمان بن مهران الأعمش به. وقال الإمام أحمدأيضاً: حدثنا أبو كامل, حدثنا إبراهيم بن سعد, حدثنا ابن شهاب عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال له: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد رجلاً مع امرأته فقتله أيقتل به, أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل, قال: فلقيه عويمر فقال: ما صنعت ؟ قال: ما صنعت إنك لم تأتني بخير, سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل, فقال عويمر: والله لاَتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما قال: فدعا بهما فلاعن بينهما. قال عويمر: لئن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. قال: ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين, عظيم الأليتين, فلا أراه إلا قد صدق, وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة, فلا أراه إلا كاذباً» فجاءت به على النعت المكروه. أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عن الزهري به. ورواه البخاري أيضاً من طرق عن الزهري به,فقال: حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع, حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سعد أن رجلاً اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلاً رأى مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه, أم كيف يفعل؟ فأنزل الله تعالى فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قد قضى فيك و في امرأتك» قال: فتلاعنا, وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففارقها فكانت سنة أن يفرق بين المتلاعنين, وكانت حاملاً فأنكر حملها, وكان ابنها يدعى اليها ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها. وقال الحافظ أبوبكر البزار: حدثنا إسحاق بن الضيف, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن زيد بن بتيع عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر «لو رأيت مع أم رومان رجلاً ما كنت فاعلاً به ؟» قال: كنت والله فاعلاً به شراً, قال «فأنت يا عمر ؟» قال: كنت والله فاعلاً, كنت أقول: لعن الله الأعجز فإنه خبيث. قال: فنزلت {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} ثم قال: لا نعلم أحداً أسنده إلا النضر بن شميل عن يونس بن إسحاق, ثم رواه من حديث الثوري عن ابن أبي إسحاق عن زيد بن بتيع مرسلاً, فالله أعلم. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي, حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لأول لعان كان في الإسلام أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته, فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أربعة شهود, وإلا فحد في ظهرك» فقال: يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق, ولينزلن الله عليك ما يبرىء به ظهري من الجلد, فأنزل الله آية اللعان {والذين يرمون أزواجهم} إلى آخر الاَية, قال: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال «اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا» فشهد بذلك أربع شهادات, ثم قال له في الخامسة «ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا» ففعل, ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا» فشهدت بذلك أربع شهادات, ثم قال لها في الخامسة وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا» قال: فلما كانت الرابعة أو الخامسة, سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف, ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم, فمضت على القول, ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما, وقال «انظروا فإن جاءت به جعداً حمش الساقين, فهو لشريك بن سحماء, وإن جاءت به أبيض سبطا قصير العينين, فهو لهلال بن أمية» فجاءت به جعداً حمش الساقين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن». ** إِنّ الّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ لِكُلّ امْرِىءٍ مّنْهُمْ مّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ هذه العشر آيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه, فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة, فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين, فإنه كان يجمعه ويستوشيه, حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به, وجوزه آخرون منهم, وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن, وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنامعمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا, فبرأها الله تعالى, وكلهم قد حدثني بطائفة من حديثها, وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت لها اقتصاصا, وقد وعيت عن كل واحدٍ منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضاً, ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه, فأيتهن خرج سهمها, خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه, قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها, فخرج فيها سهمي, وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب, فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه, مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة وقفل ودنونا من المدينة, آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش, فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري, فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع, فرجعت فالتمست عقدي, فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب, وهم يحسبون أني فيه, قالت: وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلنّ ولم يغشهن اللحم, إنما يأكلن العلقة من الطعام, فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه, وكنت جارية حديثة السن, فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش, فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب, فتيممت منزلي الذي كنت فيه, وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي, فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت, وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش, فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم, فأتاني فعرفني حين رآني, وقد كان يراني قبل الحجاب, فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني, فخمرت وجهي بجلبابي, والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته, فوطىء على يدها فركبتها, فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة, فهلك من هلك في شأني, وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول, فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك, ولا أشعر بشيء من ذلك, وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي, إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول «كيف تيكم ؟» فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت, وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل, وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا, فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف, وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق, وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب, فأقبلت أنا وابنة أبي رهم)أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا, فعثرت أم مسطح في مرطها, فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: بئسما قلت تسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت: أي هنتاه ألم تسمعي ما قال ؟ قلت: وماذا قال ؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك, فازددت مرضاً إلى مرضي, فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم, ثم قال «كيف تيكم ؟» فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما, فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس به ؟ فقالت: أي بنية هوني عليك, فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت: فقلت سبحان الله أوقد تحدث الناس بها, فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم, ثم أصبحت أبكي, قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي ويستشيرهما في فراق أهله, قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود, فقال أسامة: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير, وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر. قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال «أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟» فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من جارية حديثة السن, تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه, فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول, قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر «يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي, فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً, ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً, وما كان يدخل على أهلي إلا معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه, وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا بأمرك, قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً, ولكن احتملته الحمية فقال لسعد بن معاذ: لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله, فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة: كذبت(!) لعمر الله لنقتلنه, فإنك منافق تجادل عن المنافقين, فتثاور الحيان: الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ على المنبر, فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم, وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي, قال: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار, فأذنت لها فجلست تبكي معي, فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس, قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل, وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني شيء, قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس, ثم قال «أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا, فإن كنت بريئة فسيبرئك الله, وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه, فإن العبد إذا اعترف بذنبٍ ثم تاب, تاب الله عليه» قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته, قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة, فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أحفظ كثيراً من القرآن, والله لقد عرفت, أنكم قد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به, ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك, ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني, وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي, قالت: وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي, ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى, ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى, ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه, فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي أنزل عليه, قالت: فلما سُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك, فكان أول كلمة تكلم بها أن قال «أبشري يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك» قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه, فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل هو الذي أنزل براءتي, وأنزل الله عز وجل {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} العشر آيات كلها, فأنزل الله هذه الاَيات في براءتي قالت: فقال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة, فأنزل الله تعالى {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربي ـ إلى قوله ـ ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي, فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه, وقال: والله لا أنزعها منه أبداً. قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري, فقال «يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟» فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري, والله ما علمت إلا خيراً, قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها, فهلكت فيمن هلك. قال ابن شهاب: فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط, أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الزهري, وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري, كذلك قال: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها, وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عن عمرة, عن عائشة بنحو ما تقدم, والله أعلم. ثم قال البخاري وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت به, قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيّ خطيباً, فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله. ثم قال: أما بعد أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي, وايم الله ما علمت على أهلي إلا خيراً, وما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر, ولا غبت في سفر إلا غاب معي, فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أئذن لنا أن نضرب أعناقهم, فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل, فقال: كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم, حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شر في المسجد وما علمت, فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح, فعثرت فقالت: تعس مسطح, فقلت لها: أي أم تسبين ابنك ؟. فسكتت, ثم عثرت الثانية فقالت: تعس مسطح فقلت لها أي أم تسبين ابنك ؟ ثم عثرت الثالثة فقالت: تعس مسطح فانتهرتها, فقالت: والله ما أسبه إلا فيك, فقلت: في أي شأني ؟ قالت: فبقرت لي الحديث, فقلت: وقد كان هذا ؟ قالت: نعم والله, فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلاً ولا كثيراً, ووعكت وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إلى بيت أبي, فأرسل معي الغلام, فدخلت الدار فوجدت أم رومان في السفل, وأبا بكر فوق البيت يقرأ, فقالت أم رومان: ماجاء بك بنية, فأخبرتها وذكرت لها الحديث, وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني, فقالت: يابنية خففي عليك الشأن فإنه والله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا حسدنها, وقيل فيها, فقلت: وقد علم به أبي ؟ قالت: نعم. قلت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. قالت: نعم ورسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستعبرت وبكيت, فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ, فنزل فقال لأمي: ما شأنها ؟ قالت: بلغها الذي ذكر من شأنها, ففاضت عيناه رضي الله عنه وقال: أقسمت عليك ـ أي بنية ـ إلا رجعت إلى بيتك, فرجعت, ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي فقالت: لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها, وانتهرها بعض أصحابه فقال: اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به. فقالت: سبحان الله, والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ عن تبر الذهب الأحمر, وبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له, فقال: سبحان الله, والله ما كشفت كنف أنثى قط. قالت عائشة رضي الله عنها: فقتل شهيداً في سبيل اللهو قالت: وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر, ثم دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وعن شمالي فحمد الله تعالى وأثنى عليه, ثم قال: «أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءاً أو ظلمت فتوبي إلى الله, فإن الله يقبل التوبة عن عباده» قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت: ألا تستحيي من هذه المرأة أن تذكر شيئاً ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت إلى أبي فقلت له: أجبه قال: فماذا أقول ؟ فالتفت إلى أمي فقلت: أجيبيه قالت: ماذا أقول ؟ فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله, ثم قلت: أما بعد فوالله إن قلت لكم إني لم أفعل والله عز وجل يشهد أني لصادقة ما ذاك بنافعي عندكم, لقد تكلمتم به وأشربته قلوبكم, وإن قلت لكم إني قد فعلت, والله يعلم أني لم أفعل, لتقولن قد باءت به على نفسها, وإنني والله ما أجد لي ولكم مثلاً, والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إلا أبا يوسف حين قال {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته, فسكتنا فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ويقول «أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك» قالت: وكنت أشد ما كنت غضباً فقال لي أبواي: قومي إليه, فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما, ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه. وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً, وأما أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك, وكان الذي يتكلم به مسطح وحسان بن ثابت وأما المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول, وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه, وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة, قالت: وحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً, فأنزل الله تعالى {ولا يأتل أولو الفضل منكم} يعني أبا بكر {والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين} يعني مسطحاً إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} فقال أبو بكر: بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا, وعاد له بما كان يصنع. هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقاً بصيغة الجزم عن أبي أسامة حماد بن أسامة أحد الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره عن سفيان بن وكيع عن أبي أسامة به مطولاً مثله أو نحوه. ورواه ابن حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ببعضه. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري من السماء جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك, فقلت: نحمد الله لا نحمدك. وقال الإمام أحمد: حدثني ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أيضاً عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن, فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم, وأخرجه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي: هذا حديث حسن, ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش, فهذه طرق متعددة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها. وقد روي من حديث أمها أم رومان رضي الله عنها, فقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, أخبرنا حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان, قالت بينا أنا عند عائشة إذ دخلت علينا امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بابنها وفعل, فقالت عائشة: ولم ؟ قالت: إنه كان فيمن حدث الحديث, قالت: وأي الحديث ؟ قالت: كذا وكذا, قالت: وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: نعم, قالت: وبلغ أبا بكر ؟ قالت: نعم, فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها, فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض, فقمت فدثرتها, قالت: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال «فما شأن هذه ؟» فقلت: يا رسول الله أخذتها حمى بنافض, قال «فلعله في حديث تحدث به» قالت: فاستوت له عائشة قاعدة, فقالت: والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني, ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني, فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عذرها, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر, فدخل فقال: يا عائشة «إن الله تعالى قد أنزل عذرك» فقالت: بحمد الله لا بحمدك, فقال لها أبو بكر: تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: نعم. قالت: فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر فحلف أن لا يصله, فأنزل الله {ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة} إلى آخر الاَية, فقال أبو بكر: بلى فوصله. تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين. وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به: وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان, وهذا صريح في سماع مسروق منها, وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي, وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطيب: وقد كان مسروق يرسله فيقول: سئلت أم رومان ويسوقه فلعل بعضهم كتب سئلت بألف اعتقد الرواي أنها سألت فظنه متصلاً, قال الخطيب: وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته كذا قال, والله أعلم. فقوله تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك} أي بالكذب والبهت والافتراء {عصبة} أي جماعة منكم {لاتحسبوه شراً لكم} أي يا آل أبي بكر {بل هو خير لكم} أي في الدنيا والاَخرة لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الاَخرة وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم {الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} الاَية, ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت, قال لها: أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك, وأنزل براءتك من السماء. وقال ابن جرير في تفسيره: حدثني محمد بن عثمان الواسطي, حدثنا جعفر بن عون عن المعلي بن عرفان عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة, فقالت لها زينب: يا عائشة ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل, قالت: قلت كلمة المؤمنين. وقوله تعالى: {لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم} أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب {والذي تولى كبره منهم} قيل ابتدأ به, وقيل الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه {له عذاب عظيم} أي على ذلك, ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول قبحه الله تعالى ولعنه, وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث, وقال ذلك مجاهد وغير واحد, وقيل المراد به حسان بن ثابت, وهو قول غريب, ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك, لما كان لإيراده كبير فائدة, فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر, وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره, وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «هاجهم وجبريل معك». وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة رضي الله عنها, فدخل حسان بن ثابت, فأمرت فألقي له وسادة, فلما خرج قلت لعائشة: ما تصنعين بهذا ؟ يعني يدخل عليك, وفي رواية قيل لها: أتأذنين لهذا يدخل عليك, وقد قال الله {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} قالت: وأي عذاب أشد من العمى, وكان قد ذهب بصره, لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ثم قالت إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به, فقال: حصان رزان ما تزن بريبةوتصبح غرثى من لحوم الغوافل فقالت: أما أنت فلست كذلك, وفي رواية, لكنك لست كذلك, وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن قزعة, حدثنا سلمة بن علقمة, حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت: ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان, ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: هجوت محمداً فأجبت عنهوعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضيلعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفء ؟فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيهوبحري لا تكدره الدلاء فقيل: يا أم المؤمنين أليس هذا لغواً ؟ قالت: لا إنما اللغو ما قيل عند النساء, قيل: أليس الله يقول {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} قالت: أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره, وكنع بالسيف ؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان بن المعطل السلمي حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك, فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله. ** لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـَذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ * لّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشّهَدَآءِ فَأُوْلَـَئِكَ عِندَ اللّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيء, وما ذكر من شأن الإفك فقال تعالى: {لولا} يعني هلا {إذ سمعتموه} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم, فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى. وقد قيل: إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما, كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار: إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها ؟ قال: نعم وذلك الكذب, أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله, قال: فعائشة والله خير منك, قال: فلما نزل القرآن ذكر عز وجل من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم} وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا, ثم قال تعالى: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون} الاَية, أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني ابن أبي حبيب عن داود بن الحصين عن أبي سفيان عن الافلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال: بلى وذلك الكذب أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك ؟ قالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك, فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله عز وجل {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين} يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال, ويقال إنما قالها أبيّ بن كعب. وقوله تعالى: {ظن المؤمنون} إلخ أي هلا ظنوا الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به. هذا ما يتعلق بالباطن, وقوله {وقالوا} أي بألسنتهم {هذا إفك مبين} أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها, فإن الذي وقع لم يكن ريبة, وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة, والجيش بكماله يشاهدون ذلك, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد, بل كان يكون هذا لو قدر خفية مستوراً, فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت, والقول الزور, والرعونة الفاحشة الفاجرة, والصفقة الخاسرة, قال الله تعالى: {لولا} أي هلا {جاءوا عليه} أي على ما قالوه {بأربعة شهداء} يشهدون على صحة ما جاءوا به {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} أي في حكم الله كاذبون فاجرون. ** وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ لَمَسّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مّا لّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً وَهُوَ عِندَ اللّهِ عَظِيمٌ يقول تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والاَخرة} أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الاَخرة {لمسكم فيماأفضتم فيه} من قضية الإفك {عذاب عظيم} وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه, كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينت بنت جحش, فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي ابن سلول وأضرابه, فليس أولئك مرادين في هذه الاَية, لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه, وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين يكون مطلقاً مشروطاً بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه. ثم قال تعالى: {إذ تلقونه بألسنتكم} قال مجاهد وسعيد بن جبير: أي يرويه بعضكم عن بعض, يقول هذا سمعته من فلان, وقال فلان كذا, وذكر بعضهم كذا, وقرأ آخرون {إذ تلقونه بألسنتكم} وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها كانت تقرؤها كذلك, وتقول: هو من ولق اللسان يعني الكذب الذي يستمر صاحبه عليه, تقول العرب: ولق فلان في السير إذا استمر فيه, والقراءة الأولى أشهر وعليها الجمهور, ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو أسامة عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أنها كانت تقرأ {إذ تلقونه} وتقول: إنما هو ولق القول ـ والولق الكذب ـ. قال ابن أبي مليكة: هي أعلم به من غيرها. وقوله تعالى: {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم} أي تقولون ما لا تعلمون, ثم قال تعالى: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً سهلاً ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هيناً, فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ؟ فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل ! فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا, وهو سبحانه وتعالى لا يقدّر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك حاشا وكلا, ولما لم يكن ذلك, فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والاَخرة ؟ ولهذا قال تعالى: {وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم} وفي الصحيحين «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ, يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض». وفي رواية «لا يلقي لها بالاً». ** وَلَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مّا يَكُونُ لَنَآ أَن نّتَكَلّمَ بِهَـَذَا سُبْحَانَكَ هَـَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مّؤْمِنِينَ * وَيُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هذا تأديب آخر بعد الأول الاَمر بظن الخير, أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم خيراً, وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك, ثم إن علق بنفسه شيء من ذلك وسوسة أو خيالاً, فلا ينبغي أن يتكلم به, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل» أخرجاه في الصحيحين. وقال الله تعالى: {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سبحانك هذا بهتان عظيم} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة خليله. ثم قال تعالى: {يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً} أي ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً أي فيما يستقبل, فلهذا قال {إن كنتم مؤمنين} أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه, وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم, فأما من كان متصفاً بالكفر فذاك حكم آخر, ثم قال تعالى: {ويبين الله لكم الاَيات} أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية {والله عليم حكيم} أي عليم بما يصلح عباده, حكيم في شرعه وقدره. ** إِنّ الّذِينَ يُحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيء, فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه, فقد قال تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح {لهم عذاب أليم في الدنيا} أي بالحد, وفي الاَخرة بالعذاب الأليم {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي فردوا الأمور إليه ترشدوا. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير, حدثنا ميمون بن موسى المرئي, حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم, ولا تطلبوا عوراتهم, فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته, حتى يفضحه في بيته». ** وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنّ اللّهَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ وَمَن يَتّبِعْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يقول الله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم} أي لولا هذا لكان أمر آخر, ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم, فتاب على من تاب إليه من هذه القضية, وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم, ثم قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به {ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر} هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {خطوات الشيطان} عمله. وقال عكرمة: نزغاته. وقال قتادة: كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مجلز: النذور في المعاصي من خطوات الشيطان. وقال مسروق: سأل رجل ابن مسعود فقال: إني حرمت أن آكل طعاماً وسماه, فقال: هذا من نزغات الشيطان, كفّر عن يمينك وكل وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده: هذا من نزغات الشيطان, وأفتاه أن يذبح كبشاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا حسان بن عبد الله المصري, حدثنا السري بن يحيى عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت علي امرأتي فقالت هي يوماً يهودية ويوماً نصرانية, وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك, فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نزغات الشيطان, وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة, وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك. ثم قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً} أي لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ويزكي النفوس من شركها, وفجورها ودنسها, وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه, لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيراً {ولكن الله يزكي من يشاء} أي من خلقه, ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي. وقوله {والله سميع} أي سميع لأقوال عباده {عليم} بمن يستحق منهم الهدى والضلال. ** وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسّعَةِ أَن يُؤْتُوَاْ أُوْلِي الْقُرْبَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُوَاْ أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ يقول تعالى: {ولا يأتل} من الألية وهي الحلف, أي لا يحلف {أولو الفضل منكم} أي الطّوْل والصدقة والإحسان {والسعة} أي الجدة {أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله} أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام, ولهذا قال تعالى: {وليعفوا وليصفحوا} أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ؟ وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم, وهذه الاَية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال, كما تقدم في الحديث, فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة, وطابت النفوس المؤمنة واستقرت, وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك, وأقيم الحد على من أقيم عليه ـ شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنة, يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة, فإنه كان ابن خالة الصديق, وكان مسكيناً لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه, وكان من المهاجرين في سبيل الله, وقد ولق ولقةً تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها, وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف, له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب, فلما نزلت هذه الاَية إلى قوله {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} الاَية, فإن الجزاء من جنس العمل, فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك, وكماتصفح نصفح عنك, فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنا نحب ـ يا ربنا ـ أن تغفر لنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة, وقال: والله لا أنزعها منه أبداً, في مقابلة ما كان, قال والله لا أنفعه بنافعة أبداً. فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته. ** إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ وَيَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ الْمُبِينُ هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ـ خرج مخرج الغالب ـ المؤمنات فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة, ولا سيما التي كانت سبب النزول, وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما, وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الاَية, فإنه كافر لأنه معاند للقرآن, وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي, والله أعلم. وقوله تعالى: {لعنوا في الدنيا والاَخرة} الاَية, كقوله {إن الذين يؤذون الله ورسوله} الاَية. وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها, فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الاَية {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} قال: نزلت في عائشة خاصة, وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان, وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي, حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قالت عائشة: رميت بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك, قالت: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي إذ أوحي إليه, قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات, وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي, ثم استوى جالساً يمسح وجهه, وقال «يا عائشة أبشري» قالت: فقلت بحمد الله لا بحمدك, فقرأ {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ـ حتى قرأ ـ أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} هكذا أورده وليس فيه أن الحكم خاص بها, وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها, وإن كان الحكم يعمها كغيرها, ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله, والله أعلم. وقالالضحاك وأبو الجوزاء وسلمة بن نبيط: المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء. وقال العوفي عن ابن عباس في الاَية {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الاَية, يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رماهن أهل النفاق, فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, ثم نزل بعد ذلك {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ـ إلى قوله ـ فإن الله غفور رحيم} فأنزل الله الجلد والتوبة, فالتوبة تقبل والشهادة ترد. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا هشيم, أخبرنا العوام بن حوشب عن شيخ من بني أسد عن ابن عباس قال: فسر سورة النور, فلما أتى على هذه الاَية {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الاَية, قال: في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم, وهي مبهمة وليست لهم توبة, ثم قرأ {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ـ إلى قوله ـ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا} الاَية, قال: فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة, قال: فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور. فقوله وهي مبهمة أي عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنته في الدنيا والاَخرة, وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا في عائشة ومن صنع مثل هذا أيضاً اليوم في المسلمات فله ما قال الله تعالى ولكن عائشة كانت أماً في ذلك. وقد اختار ابن جرير عمومها وهوالصحيح, ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي وهب, حدثني عمي, حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «اجتنبوا السبع ا لموبقات» قيل: وما هن يا رسول الله ؟ قال «الشرك بالله, والسحر, وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق, وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال به. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عمر بن أبي خالد الحذاء الطاني المحرمي, حدثني أبي وحدثنا أبو شعيب الحراني, حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب, حدثني موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة». وقوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو بن أبي قيس, عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا: تعالوا حتى نجحد فيجحدون, فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم و أرجلهم ولا يكتمون الله حديثاً. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فيجحد ويخاصم, فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك, فيقول كذبوا, فيقال أهلك وعشيرتك, فيقول كذبوا, فيقال احلفوا فيحلفون, ثم يصمتهم الله فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم, ثم يدخلهم النار». وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأسدي, حدثنا سفيان بن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيمي عن الشعبي عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال: «أتدرون مم أضحك ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم, قال «من مجادلة العبد لربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز عليّ إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام عليك شهوداً, فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي جميعاً عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبيه, عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به, ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله أعلم, هكذا قال, وقال قتادة: ابن آدم, والله إن عليك لشهوداً غير متهمة في بدنك, فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك, فإنه لا يخفى عليه خافية, الظلمة عنده ضوء, والسر عنده علانية, فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق} قال ابن عباس {دينهم} أي حسابهم وكل ما في القرآن دينهم أي حسابهم, وكذا قال غير واحد, ثم إن قراءة الجمهور بنصب الحق على أنه صفة لدينهم, وقرأ مجاهد بالرفع على أنه نعت الجلالة, وقرأها بعض السلف في مصحف أبيّ بن كعب: يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق, وقوله {ويعلمون أن الله هو الحق المبين} أي وعده ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه. ** الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلْطّيّبَاتِ أُوْلَـَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال, والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول للطيبين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من القول ـ قال ـ ونزلت في عائشة وأهل الإفك, وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت, والضحاك, واختاره ابن جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس, والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس, فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به, وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم, ولهذا قال تعالى: {أولئك مبرءون مما يقولون} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال. والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء, والطيبات من النساء للطيبين من الرجال, والطيبون من الرجال للطيبات من النساء, وهذا أيضاً يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم, أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر, ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً, ولهذا قال تعالى: {أولئك مبرءون مما يقولون} أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان {لهم مغفرة} أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب, {ورزق كريم} أي عند الله في جنات النعيم, وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن مسلم, حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن الحكم بإسناده إلى يحيى بن الجزار قال: جاء أسير بن جابر إلى عبد الله, فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم اليوم بكلام أعجبني, فقال عبد الله: إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل عنده يتلها فيضمها إليه وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه ثم قرأ عبد الله {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات} الاَية, ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعاً «مثل هذا الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشرّ ما سمع كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال اجزرني شاة, فقال: اذهب فخذ بأذن أيها شئت, فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم» وفي الحديث الاَخر «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها». ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّىَ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَىَ أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ * فَإِن لّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتّىَ يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىَ لَكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ هذه آداب شرعية, أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك في الاستئذان أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا, أي يستأذنوا قبل الدخول, ويسلموا بعده, وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات, فإن أذن له وإلا انصرف, كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثاً فلم يؤذن له انصرف, ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له, فطلبوه فوجدوه قد ذهب, فلما جاء بعد ذلك قال: ما رجعك ؟ قال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي, وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف» فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضرباً, فذهب إلى ملإٍ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال: ألهاني عنه الصفق بالأسواق. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا عمر عن ثابت عن أنس أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال «السلام عليك ورحمة الله» فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله, ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثاً, ورد عليه سعد ثلاثاً ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي, ما سلمت تسليمة إلا وهي بأذني, ولقد رددت عليك ولم أسمعك, وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة, ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل نبي الله, فلما فرغ قال «أكل طعامكم الأبرار, وصلت عليكم الملائكة, وأفطر عندكم الصائمون». وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً, قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: دعه يكثر علينا من السلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, واتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام. قال فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل, ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس, فاشتمل بها ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة». قال: ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام, فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حماراً قد وطىء عليه بقطيفة, فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اركب» فأبيت, فقال «إما أن تركب وإما أن تنصرف» قال: فانصرفت, وقد روي هذا من وجوه أخر, فهو حديث جيد قوي, والله أعلم. ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه, ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لما رواه أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية, حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بُشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه, ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر, ويقول «السلام عليكم, السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور, تفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضاً: حدثنا عثمان بن أبي شيبة, حدثنا جرير ـ (ح) ـ حينئذ, قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا حفص عن الأعمش عن طلحة عن هزيل قال: جاء رجل, قال عثمان: سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب قال عثمان: مستقبل الباب, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «هكذا عنك ـ أو هكذا ـ فإنما الاستئذان من النظر» وقد رواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم, رواه أبو داود من حديثه, وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه, ما كان عليك من جناح» وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب, فقال «من ذا ؟» فقلت: أنا, قال «أنا أنا» كأنه كرهه, وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها, وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا, فلا يحصل بها المقصود من الإستئذان الذي هو الإستئناس المأمور به في الاَية, وقال العوفي عن ابن عباس: الإستئناس الإستئذان, وكذا قال غير واحد, وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الاَية {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا} قال: إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا, وهكذا رواه هشيم عن أبي بشر ـ وهو جعفر بن إياس ـ عن سعيد عن ابن عباس بمثله, وزاد: كان ابن عباس يقرأ {حتى تستأذنوا وتسلموا} وكان يقرأ على قراءة أبيّ بن كعب رضي الله عنه, وهذا غريب جداً عن ابن عباس, وقال هشيم: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال: في مصحف ابن مسعود حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا, وهذا أيضاً رواية عن ابن عباس وهو اختيار ابن جرير. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا ابن جريج, أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وجدابة وصغابيس, والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي, قال: فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم أسلم ولم أستأذن, فقال صلى الله عليه وسلم «ارجع فقل السلام عليكم أأدخل ؟» وذلك بعدما أسلم صفوان, ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به. وقال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال: أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته, فقال: أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام عليكم أأدخل ؟» فسمعه الرجل, فقال: السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم, فدخل. وقال هشيم: أخبرنا منصور عن ابن سيرين, وأخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أألج أو أنلج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة «قومي إلى هذا فعلميه, فإنه لا يحسن يستأذن, فقولي له: يقول السلام عليكم أأدخل ؟» فسمعها الرجل فقالها فقال «ادخل». وقال الترمذي: حدثنا الفضل بن الصباح, حدثنا سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «السلام قبل الكلام» ثم قال الترمذي: عنبسة ضعيف الحديث ذاهب, ومحمد بن زاذان منكر الحديث. وقال هشيم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء, فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل ؟ قالت: ادخل بسلام, فأعاد فأعادت وهو يراوح بين قدميه, قال: قولي ادخل. قالت: ادخل فدخل. ولابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم الأحول, حدثني خالد بن إياس, حدثتني جدتي أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة, فقلت: ندخل ؟ فقالت: لا قلن لصاحبتكن تستأذن, فقالت: السلام عليكم أندخل قالت: ادخلوا, ثم قالت: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} الاَية. وقال هشيم: أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم, قال أشعث عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد, وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال, قال فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً} الاَية. وقال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ثلاث آيات جحدهن الناس. قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} قال: ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتاً, قال والأذن كله قد جحده الناس قال: قلت: أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال: نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى, فقال: تحب أن تراها عريانة ؟ قلت: لا, قال: فاستأذن قال: فراجعته أيضاً. فقال: أتحب أن تطيع الله ؟ قلت نعم, قال: فاستأذن. قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم, قال: وكان يشدد في ذلك, وقال ابن جريج عن الزهري. سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول: عليكم الإذن على أمهاتكم وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته قال: لا وهذا محمول على عدم الوجوب, وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به, لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا محمد بن حازم عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب ـ امرأة عبد الله بن مسعود ـ عن زينب رضي الله عنها, قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه, إسناده صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي, حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي هبيرة. قال: كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس وتكلم ورفع صوته, وقال مجاهد: حتى تستأنسوا, قال: تنحنحوا أو تنخموا. وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه, ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً ـ وفي رواية ـ ليلاً يتخونهم, وفي الحديث الاَخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً, فأناخ بظاهرها, وقال «انتظروا حتى ندخل عشاء ـ يعني آخر النهار ـ حتى تمشط الشعثة وتستحد المغيبة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن واصل بن السائب, حدثني أبو ثورة بن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله هذا السلام, فما الإستئناس ؟ قال «يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت» هذا حديث غريب. وقال قتادة في قوله {حتى تستأنسوا} هو الاستئذان ثلاثاً, فمن لم يؤذن له منهم فليرجع, أما الأولى فليسمع الحي, وأما الثانية فليأخذوا حذرهم, وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا, ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم, فإن للناس حاجات ولهم أشغال, والله أولى بالعذر. وقال مقاتل بن حيان في قوله {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه ويقول: حييت صباحاً وحييت مساء, وكان ذلك تحية القوم بينهم, وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: قد دخلت, ونحو ذلك, فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله فغير الله ذلك كله في ستر وعفة, وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن, فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} الاَية, وهذا الذي قاله مقاتل: حسن, ولهذا قال تعالى: {ذلكم خير لكم} يعني الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت {لعلكم تذكرون}. وقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم} وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه, فإن شاء أذن, وإن شاء لم يأذن, {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده {فارجعوا هو أزكى لكم} أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر {والله بما تعملون عليم} وقال قتادة: قال بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الاَية, فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع, فأرجع وأنا مغتبط {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم} وقال سعيد بن جبير {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا} الاَية أي لا تقفوا على أبواب الناس. وقوله تعالى: {ليس عليكم جناج أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة} الاَية, هذه الاَية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن, كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى. قال ابن جريج: قال ابن عباس {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم} ثم نسخ واستثنى, فقال تعالى: {ليس عليكم جناج أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم} وكذا روي عن عكرمة والحسن البصري, وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك, واختار ذلك ابن جرير وحكاه عن جماعة, والأول أظهر, والله أعلم. وقال مالك عن زيد بن أسلم: هي بيوت الشعر. ** قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىَ لَهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم, فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه, وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم, فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد, فليصرف بصره عنه سريعاً, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير, عن جده جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة, فأمرني أن أصرف بصري. وكذا رواه الإمام أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد به. ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضاً. وقال الترمذي حسن صحيح, وفي رواية لبعضهم فقال«أطرق بصرك» يعني أنظر إلى الأرض, والصرف أعم, فإنه قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى, والله أعلم. وقال أبو داود: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري, حدثنا شريك عن أبي ربيعة الإيادي, عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي «يا علي لاتتبع النظرة النظرة, فإن لك الأولى وليس لك الاَخرة» ورواه الترمذي من حديث شريك وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وفي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إياكم والجلوس على الطرقات» قالوا: يارسول الله لابد لنا من مجالسنا نتحدث فيها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه» قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ فقال«غض البصر, وكف الأذى, ورد السلام, والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر». وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا طالوت بن عباد, حدثنا فضل بن جبير, سمعت أبا أمامة, يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اكفلوا لي ستاً أكفل لكم بالجنة: إذا حدث أحدكم فلا يكذب, وإذا اؤتمن فلا يخن, وإذا وعد فلا يخلف, وغضوا أبصاركم, وكفوا أيدكم, واحفظوا فروجكم» وفي صحيح البخاري« من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه, أكفل له الجنة» وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: كل ما عصي الله به فهو كبيرة, وقد ذكر الطرفين فقال {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب, كما قال بعض السلف: النظر سهم سم إلى القلب, ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك, فقال تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا, كما قال تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون} الاَية, وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن «احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك» {ذلك أزكى لهم} أي أطهر لقلوبهم وأنقىَ لدينهم, كما قيل من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته, ويروى في قلبه. وروى الإمام أحمد: حدثنا عتاب, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة (أول مرة) ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها» وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم, ولكن في إسنادها ضعف إلا أنها في الترغيب, ومثله يتسامح فيه. وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً «لتغضن أبصاركم, ولتحفظن فروجكم, ولتقيمن وجوهكم, أو لتكسفن وجوهكم». وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرى, حدثنا يحيى بن أبي بكير, حدثنا هريم بن سفيان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه». وقوله تعالى: {إن الله خبير بما يصنعون} كما قال تعالى: {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}. وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة, فزنا العينين النظر, وزنا اللسان النطق, وزنا الأذنين الاستماع, وزنا اليدين البطش, وزنا الرجلين الخطى, والنفس تمنىَ وتشتهي, والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» رواه البخاري تعليقاً, ومسلم مسنداً من وجه آخر بنحو ما تقدم, وقد قال كثير من السلف: إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره إلى الأمرد, وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك, وحرمه طائفة من أهل العلم لما فيه من الافتتان, وشدد آخرون في ذلك كثيراً جداً. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو سعيد المدني, حدثنا عمر بن سهل المازني, حدثني عمر بن محمد بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله, وعيناً سهرت في سبيل الله, وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز وجل». ** وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنّ أَوْ آبَآئِهِنّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ أَبْنَآئِهِنّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنّ أَوْ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِيَ إِخْوَانِهِنّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنّ أَوْ نِسَآئِهِنّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ أَوِ التّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىَ عَوْرَاتِ النّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ وَتُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ جَمِيعاً أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الاَية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا ـ والله أعلم ـ أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة, فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء: ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} الاَية, فقوله تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن, ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً. واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدث أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة قالت فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احتجبا منه» فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أو عمياوان أنتما ؟ أوألستما تبصرانه» ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت. وقوله {ويحفظن فروجهن} قال سعيد بن جبير: عن الفواحش. وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن. وقال مقاتل: عن الزنا, وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الاَية {ويحفظن فروجهن} أن لا يراها أحد, وقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود: كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب. فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لايمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} قال: وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك, وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها, كما قال أبو إسحاق السبقي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله {ولا يبدين زينتهن} الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال: الزينة زينتان: فزينة لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار, وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدين منها إلا الخواتم. وقال مالك عن الزهري {إلاما ظهر منها} الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ماظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور, ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا يعقوب بن كعب الانطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أي يرى منها إلا هذا» وأشار إلى وجهه وكفيه, لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل¹ خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها, والله أعلم. وقوله تعالى: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها, فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} وقال في هذه الاَية الكريمة {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع. قال سعيد بن جبير {وليضربن} وليشددن {بخمرهن على جيوبهن} يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء وقال البخاري حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضاً حدثنا أبو نعيم, حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الاَية {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن, فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله مارأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً بكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه, فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبه به. وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها, ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به, وقوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} أي أزواجهن {أو آبائهن أو آباء بعولتهن أوأبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن} كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير اقتصاء وتبهرج. وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الاَية {ولا يبدبن زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال, فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره. وقوله {أو نسائهن} يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن. وذلك وإن كان محذوراً في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه, وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم «لاتباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال: كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن با الله واليوم الاَخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله {أو نسائهن} قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن, وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة, وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس {أو نسائهن} قال هن المسلمات لا تبديه ليهودية و لانصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم. وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال لاتضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول: {أو نسائهن} فليست من نسائهن, وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة, فأما مارواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال: قال ابن عطاء عن أبيه قال: لما قدم أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات, فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان, ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد, والله أعلم. وقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين, فيجوز لها أن تظهر زينتها لها, وإن كانت مشركة لأنها أمتها, وإليه ذهب سعيد بن المسيب, وقال الأكثرون: بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء, واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى, حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت, عن أنس: أن النبيصلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها, قال: وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها, وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها, فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى, قال «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك». وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية: أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة, وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة, فربته ثم أعتقته, ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام صفين, وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري, عن نبهان, عن أم سلمة, ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا كان إحداكن مكاتب, وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه» ورواه أبو داود عن مسدد, عن سفيان به. وقوله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء, وهم مع ذلك في عقولهم وله وحَوْب, ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن, قال ابن عباس: هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد: هو الأبله, وقال عكرمة: هو المخنث الذي لا يقوم ذكره, وكذلك قال غير واحد من السلف, وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة, عن عائشة, أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة يقول: إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه, فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة ليستطعم. وروى الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه, عن زينب بنت أبي سلمة, عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها (أخوها) مخنث, وعندها عبد الله بن أبي أمية, والمخنث يقول: يا عبد الله, إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان, قال: فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة «لا يدخلن هذا عليك» أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري, عن عروة بن الزبير, عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث, وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة, فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع, وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم هذا» فحجبوه, ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة. وقوله تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن, فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك: فلا بأس بدخوله على النساء, فأما إن كان مراهقاً, أو قريباً منه, بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء, فلا يمكن من الدخول على النساء, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «إياكم والدخول على النساء» قيل: يا رسول الله, أفرأيت الحمو ؟ قال «الحمو الموت». وقوله تعالى {ولا يضربن بأرجلهن} الاَية, كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته, ضربت برجلها الأرض, فيعلم الرجال طنينه, فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك, وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {ولا يضربن بأرجلهن} إلى آخره ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها, فقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي, عن غنيم بن قيس, عن أبي موسى رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» يعني زانية, قال وفي الباب عن أبي هريرة: وهذا حسن صحيح, رواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به. وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله, عن عبيد مولى أبي رهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار, فقال: يا أمة الجبار جئت من المسجد ؟ قالت: نعم. قال لها: وله تطيبت ؟ قالت: نعم, قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة». ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة, عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضاً من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد, عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها», ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج. قال أبو داود: حدثنا التغلبي, حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس, عن أبيه, عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد, وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضنّ الطريق, عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة, فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه, والله تعالى هو المستعان. ** وَأَنْكِحُواْ الأيَامَىَ مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ اشتملت هذه الاَيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام «يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء», أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود, وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تزوجوا الولود تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة». وفي رواية: «حتى بالسقط», الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم. وقوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمود بن خالد الأزرق, حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} رواه ابن جرير, وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الاَن, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, وللهالحمد والمنة. وقوله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الحديث, وهذه الاَية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات ـ إلى قوله ـ وأن تصبروا خير لكم} أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً {والله غفور رحيم} قال عكرمة في قوله {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً} قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله. وقوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح: إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري, وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر. وقال البخاري: وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر: لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي, وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام «لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه». وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذاسأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاَية. وقوله تعالى: {إن علمتم فيهم خيراً} قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل, عن يحى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} قال «إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس», وقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد. وقال آخرون: بل المراد من قوله {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان, واختاره ابن جرير, وقال إبراهيم النخعي في قوله {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة, وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ثلاثة حق على الله عونهم» فذكر منهم المكاتب يريد الأداء, والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية, فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال عكرمة: فكان أول نجم أدي في الإسلام. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي, وقال محمد بن سيرين في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى, أخبرنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج, أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ربع الكتابة» وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله. وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} الاَية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الاَية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول, فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم. ذكر الاَثار الواردة في ذلك قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق البزار رحمه الله في مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} الاَية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاَية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الاَية {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ـ إلى قوله ـ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا علي بن سعيد, حدثنا الأعمش, حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ـ إلى قوله ـ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع, فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار. وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك: لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}. وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبدالله بن أُبي, يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الاسلام نزلت {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاى إن أردن تحصناًـ إلى قوله ـ و من يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبيّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً}. وقال السدي: أنزلت هذه الاَية الكريمة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان: بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاَية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبيّ وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} يعني الزنا. وقوله تعالى: {إن أردن تحصناً} هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: {لتبتغوا عرض الحياة الدنيا} أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية «مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث» وقوله تعالى: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة. وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاَية {فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله, حدثني ابن لهيعة, حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود{فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للاَخرين وموعظة} أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم {للمتقين} أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله. ** اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىَ نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الله نور السموات والأرض} يقول هادي أهل السموات والأرض. قال ابن جريج: قال مجاهد وابن عباس في قوله {الله نور السموات والأرض} يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي, حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال: إن الله يقول نوري هداي واختار هذا القول ابن جرير. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره} قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال {الله نور السموات والأرض} فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به, قال: فكان أبيّ بن كعب يقرؤها {مثل نور من آمن به} فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره, وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك {مثل نور من آمن بالله} وقرأ بعضهم {الله نور السموات والأرض} وعن الضحاك {الله نوّر السموات والأرض}. وقال السدي في قوله {الله نور السموات والأرض} فبنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك, لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله» وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم لك الحمد, أنت قيّم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد ومن فيهن» الحديث, وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه. وقوله تعالى: {مثل نوره} في هذا الضمير قولان (أحدهما) أنه عائد إلى الله عز وجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس {كمشكاة} (والثاني) أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة, فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف, فقوله {كمشكاة} قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده {فيها مصباح} وهو الزبالة التي تضيء. وقال العوفي عن ابن عباس قوله {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل (ذلك) لنوره فقال {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة} والمشكاة كوة في البيت, قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نوراً ثم سماها أنواعاً شتى, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال: المشكاة الكوة التي لا منفذ لها, وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل, والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال {فيها مصباح} وهو النور الذي في الذُبالة, قال أبيّ بن كعب: المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره, وقال السدي: هو السراج {المصباح في زجاجة} أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية, وقال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن {الزجاجة كأنها كوكب دري} قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من درّ, وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع, وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال, والعرب تسمي مالا يعرف من الكواكب دراري, قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء, وقال قتادة: مضيء مبين ضخم {يوقد من شجرة مباركة} أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة {زيتونة} بدل أو عطف بيان {لا شرقية ولا غربية} أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تقرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد, أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها. وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها, فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت. وعن سعيد بن جبير في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء} قال هو أجود الزيت, قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس, فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قول الله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال, إن قال صدق, وإن حكم عدل, وإن ابتلي صبر, وإن أعطي شكر, فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات, قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقاً ولا غرباً, وقال عطية العوفي {لا شرقية ولا غربية} قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها, وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن الدشتكي, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} ليست شرقية ليس فيها غرب, ولا غربية ليس فيها شرق, ولكنها شرقية غربية, وقال محمد بن كعب القرظي {لا شرقية ولا غربية} قال هي القبلية, وقال زيد بن أسلم {لا شرقية ولا غربية} قال الشام, وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية, ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره, وقال الضحاك {توقد من شجرة مباركة} قال رجل صالح {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: لا يهودي ولا نصراني, وأولى هذه الأقوال القول الأول, وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم, ولهذا قال تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت. وقوله تعالى: {نور على نور} قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله, وقال مجاهد والسدي: يعني نور النار ونور الزيت, وقال أبيّ بن كعب {نور على نور} فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور, وعمله نور, ومدخله نور, ومخرجه نور, ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي, كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء. وقال السدي في قوله تعالى {نور على نور} قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمانحين اجتمعا, فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه. وقوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري, حدثنا الأوزاعي, حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ, فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل». (طريق أخرى عنه) قال البزار: حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نوراً من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه وحروفه. وقوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الاَية بقوله {ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة, عن أبي البحتري, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر, وقلب أغلف مربوط على غلافه, وقلب منكوس, وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره, وأما القلب الأغلف فقلب الكافر, وأما القلب المنكوس فقلب المنافق, عرف ثم أنكر, وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق, ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب,ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح, فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» إسناده جيد ولم يخرجوه. ** فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل, ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاَية الكريمة {في بيوت أذن الله أن ترفع} قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها, وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين. وقال قتادة: هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها و عمارتها ورفعها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول: مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءاً على حدة, و لله الحمد والمنة, ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفاً من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان, فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنها قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» أخرجاه في الصحيحين. وروى ابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة» وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله, والأحاديث في هذاكثيرة جداً, وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي, ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه, وقال البخاري: قال عمر: ابن للناس ما يكنهم, وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس, وروى ابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم» وفي إسناده ضعف. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد». رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلاً أنشد في المسجد فقال من دعاإلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» رواه مسلم, وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد, فقولوا لا أربح الله تجارتك, وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردّ الله عليك» رواه الترمذي وقال حسن غريب, وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال: خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقاً ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقاً, وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابهاالمطاهر وجمروها في الجمع» ورواه ابن ماجه أيضاً وفي إسنادهما ضعف, أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه, وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه, وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل, فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه, ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحداً, كما ثبت ذلك في الصحيح, وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث, وأما أنه لا يضرب فيه حد أو يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع, وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد «إن المساجد لم تبن لهذا, إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها» ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله. وفي الحديث الثاني «جنبوا مساجدكم صبيانكم» وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم, وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة, وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً «ومجانينكم» يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك «وبيعكم وشراءكم» كما تقدم «وخصوماتكم» يعني التحاكم والحكم فيه, ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والالفاظ التي لا تناسبه, ولهذا قال بعده «ورفع أصواتكم». وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما ؟ أو من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال النسائي: حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضاً صحيح. وقوله «وإقامة حدودكم وسل سيوفكم» تقدما. وقوله «واتخذوا على أبوابها المطاهر» يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك. وقوله «وجمروها في الجمع» يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ, وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبيد الله, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم, وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً» وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه,اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدار قطني مرفوعاً «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفي السنن «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم, وسلطانه القديم, من الشيطان الرجيم» (قال: أقطُ قال نعم) قال فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم. وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك فضلك» ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم. وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» ورواه ابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» ورواه الترمذي وابن ماجه, وقال الترمذي هذا حديث حسن, وإسناده ليس بمتصل لأن فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالى {في بيوت أذن الله أن ترفع}. وقوله {ويذكر فيها اسمه} أي اسم الله كقوله {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} وقوله {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين} وقوله {وأن المساجد لله} الاَية. وقوله تعالى: {ويذكر فيها اسمه} قال ابن عباس يعني فيها يتلى كتابه, وقوله تعالى: {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} أي في البكرات والعشيات. والاَصال جمع أصيل وهو آخر النهار. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بالغدوّ صلاة الغداة ويعني بالاَصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده. وكذا قال الحسن والضحاك {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} يعني الصلاة, ومن قرأ من القراء {يسبح له فيها بالغدو والاَصال} بفتح الباء من {يسبح} على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف على قوله {والاَصال} وقفا تاما وابتدأ بقوله {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وكأنه مفسر للفاعل المحذوف كما قال الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه قال: من يبكيه ؟ قال هذا يبكيه, وكأنه قيل من يسبح له فيها ؟ قال رجال. وأما على قراءة من قرأ {يسبح} بكسر الباء فجعله فعلاً وفاعله {رجال} فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى: {رجال} فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عماراً للمساجد التي هي بيوت الله في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} الاَية, وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها, وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها». وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, حدثنا رشدين, حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وقال أحمد أيضاً: حدثنا هارون, أخبرني عبد الله بن وهب, حدثنا داود بن قيس عن عبد الله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي, وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك, وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك, وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك, وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي» قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى, لم يخرجوه. هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب, كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» رواه البخاري ومسلم, ولأحمد وأبي داود «وبيوتهن خير لهن». وفي رواية «وليخرجن وهن تفلات» أي لا ريح لهن. وقد ثبت في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً». وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس, وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بين إسرائيل. وقوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} الاَية. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} الاَية, يقول تعالى لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم, والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم, لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق, ولهذا قال تعالى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم, قال هشيم عن شيبان قال: حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة, فقال عبد الله بن مسعود: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} الاَية, وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة, فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر: فيهم نزلت {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عبد الله بن بكير الصنعاني, حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم, حدثنا عبد الله بن بجير, حدثنا أبو عبد ربّه قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه, أربح كل يوم ثلثمائة دينار, أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد, أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال, ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} وقال عمرو بن دينار الأعور: كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم, فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد, فتلا سالم هذه الاَية {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} ثم قال, هم هؤلاء, وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك: لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الورّاق: كانوا يبيعون ويشترون, ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} يقول عن الصلاة المكتوبة, وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس. وقال السدي: عن الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله, وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها. وقوله تعالى: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, أي من شدّة الفزع وعظمة الأهوال, كقوله {وأنذرهم يوم الاَزفة} الاَية. وقوله {إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار} وقال تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً * وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً}. وقوله تعالى ههنا: {ليجزيهم الله أحسن ما عملوا} أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم. وقوله {ويزيدهم من فضله} أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم, كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} الاَية, وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} الاَية, وقال {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً} الاَية, وقال {والله يضاعف لمن يشاء} وقال ههنا {والله يرزق من يشاء بغير حساب}. وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً, فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً, فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً, ثم تلا قوله {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق, عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأوّلين والاَخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم, ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله, فيقومون وهم قليل, ثم يحاسب سائر الخلائق» وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي وائل, عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا. ** وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَآءً حَتّىَ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لّجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين: نارياً ومائياً, وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين: مائياً ونارياً, وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما أغنى عن إعادته, ولله الحمد والمنة. فأما الأول من هذين المثلين, فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات, وليسوا في نفس الأمر على شيء, فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام, والقيعة: جمع قاع كجار وجيرة, والقاع أيضاً واحد القيعان, كما يقال جار وجيران, وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب, وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار, وأما الاَل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بين السماء والأرض, فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه, فلما انتهى إليه {لم يجده شيئاً} فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً, فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله, لم يجد له شيئاً بالكلية قد قبل إما لعدم الإخلاص أو لعدم سلوك الشرع, كما قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} وقال ههنا {ووجد الله عنده فوفاه حسابه, والله سريع الحساب} وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد. وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون ؟ فيقولون: يا رب عطشنا فاسقنا, فيقال: ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سرابٌ يحطم بعضها بعضاً, فينطلقون فيتهافتون فيها, وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب, فأما أصحاب الجهل البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي} قال قتادة {لجي} هو العميق {يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها} أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام, فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط, المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده, ولا يدري أين يذهب, بل كما يقال في المثل للجاهل أين تذهب ؟ قال معهم, قيل: فإلى أين يذهبون ؟ قال لا أدري. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما {يغشاه موج} الاَية, يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر, وهي كقوله {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم} الاَية, وكقوله {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} الاَية, وقال أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {ظلمات بعضها فوق بعض} فهو يتقلب في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة, وعمله ظلمة, ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة, ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار, وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضاً. وقوله تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل, حائل, بائر, كافر, كقوله {من يضلل الله فلا هادي له} وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين {يهدي الله لنوره من يشاء} فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً, وعن أيمانناً نوراً, وعن شمائلنا نوراً, وأن يعظم لنا نوراً. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطّيْرُ صَآفّاتٍ كُلّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَللّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَىَ اللّهِ الْمَصِيرُ يخبر تعالى أنه يسبح له من في السموات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد, كما قال تعالى: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} الاَية, وقوله تعالى: {والطير صافات} أي في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه, وهو يعلم ما هي فاعلة, ولهذا قال تعالى: {كل قد علم صلاته وتسبيحه} أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل. ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء, ولهذا قال تعالى: {والله عليم بما يفعلون} ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض, فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه {وإلى الله المصير} أي يوم القيامة, فيحكم فيه بما يشاء {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا} الاَية, فهو الخالق المالك, ألا له الحكم في الدنيا والأخرى, وله الحمد في الأولى والأخرة. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ * يُقَلّبُ اللّهُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لاُوْلِي الأبْصَارِ يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة, وهو الإزجاء {ثم يؤلف بينه} أي يجمعه بعد تفرقه {ثم يجعله ركاماً} أي متراكماً, أي يركب بعضه بعضاً {فترى الودق} أي المطر {يخرج من خلاله} أي من خلله, وكذا قرأها ابن عباس والضحاك. قال عبيد بن عمير الليثي: يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً, ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب, ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه, ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. روواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله. وقوله {وينزل من السماء من جبال فيها من برد} قال بعض النحاة {من} الأولى لابتداء الغاية, والثانية للتبعيض, والثالثة لبيان الجنس, وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من المفسرين إلى أن قوله {من جبال فيها من برد} معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب, فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضاً, لكنها بدل من الأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء} يحتمل أن يكون المراد بقوله {فيصيب به} أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد, فيكون قوله {فيصيب به من يشاء} رحمة لهم {ويصرفه عمن يشاء} أي يؤخر عنهم الغيث, ويحتمل أن يكون المراد بقوله {فيصيب به} أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم, ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم. وقوله {يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار} أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. وقوله تعالى: {يقلب الله الليل والنهار} أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا, ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيراً ويقصر الذي كان طويلاً, والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} أي لدليلاً على عظمته تعالى, كما قال تعالى {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لاَيات لأولي الألباب} وما بعدها من الاَيات الكريمات. ** وَاللّهُ خَلَقَ كُلّ دَآبّةٍ مّن مّآءٍ فَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مّن يَمْشِي عَلَىَ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد, {فمنهم من يمشي على بطنه} كالحية وما شاكلها, {ومنهم من يمشي على رجلين} كالإنسان والطير {ومنهم من يمشي على أربع} كالأنعام وسائر الحيوانات, ولهذا قال {يخلق الله ما يشاء} أي بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ولهذا قال {إن الله على كل شيء قدير}. ** لّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحُكْم والحِكَم والأمثال البينة المحكمة كثيراً جداً, وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى, ولهذا قال {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. ** وَيِقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالرّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمّ يَتَوَلّىَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَـَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لّهُمُ الْحَقّ يَأْتُوَاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوَاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ * إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللّهَ وَيَتّقْهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون, يقولون قولاً بألسنتهم {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك} أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون, ولهذا قال تعالى: {وما أولئك بالمؤمنين}. وقوله تعال: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم} الاَية, أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدىَ فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه, وهذه كقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ـ إلى قوله ـ رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً}. وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعاً «من دعي إلى سلطان فلم يجب, فهو ظالم لا حق له». وقوله تعالى: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاؤوا سامعين مطيعين, وهو معنى قوله {مذعنين} وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق, وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثم فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق, بل لأنه موافق لهواه, ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره, ولهذا قال تعالى: {أفي قلوبهم مرض} الاَية, يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أو قد عرض لها شك في الدين, أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم, وأيا ما كان فهو كفر محض, والله عليم بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات. وقوله تعالى: {بل أولئك هم الظالمون} أي بل هم الظالمون الفاجرون, والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا مبارك, حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق, أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق, وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال: انطلق إلى فلان, فأنزل الله هذه الاَية فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان بينه وبين أخيه شيء فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب, فهو ظالم لا حق له» وهذا حديث غريب, وهو مرسل. ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله, فقال {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} أي سمعاً وطاعة.ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح, وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب, فقال تعالى: {وأولئك هم المفلحون} وقال قتادة في هذه الاَية {أن يقولوا سمعنا وأطعنا} ذكر لنا أن عبادة بن الصامت, وكان عقبياً بدرياً أحد نقباء الأنصار, أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك ؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك, وعليك أن تقيم لسانك بالعدل, وأن لا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحاً, فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله, فاتبع كتاب الله. وقال قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله, ولا خير إلا في جماعة, والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة, قال: وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين, رواه ابن أبي حاتم, والأحاديث والاَثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله كثير جداً أكثر من أن تحصر في هذا المكان. وقوله {ومن يطع الله ورسوله} أي فيما أمراه به, وترك ما نهياه عنه, ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل. وقوله {فأولئك هم الفائزون} يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والاَخرة. ** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ قُل لاّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مّعْرُوفَةٌ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يقول تعالى مخبراً عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم: لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن, قال الله تعالى: {قل لا تقسموا} أي لا تحلفوا. وقوله {طاعة معروفة} قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة, أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه, وكلما حلفتم كذبتم, كما قال تعالى: {يحلفون لكم لترضوا عنهم} الاَية. وقال تعالى: {اتخذوا أيمانهم جنة} الاَية, فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه, كما قال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً, وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم, ولئن قوتلوا لا ينصرونهم, ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون}. وقيل المعنى في قوله {طاعة معروفة} أي ليكن أمركم طاعة معروفة, أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام, كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف, فكونوا أنتم مثلهم {إن الله خبير بما تعملون} أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي, فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن راج على المخلوق, فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى, لا يروج عليه شي من التدليس, بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها. ثم قال تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله. وقوله تعالى: {فإن تولوا} أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به {فإنما عليه ما حمل} أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة {وعليكم ما حملتم} أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه {وإن تطيعوه تهتدوا} وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم {صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض} الاَية. وقوله تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ} كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}. وقوله {فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر}. قال وهب بن منبه: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل, فإني سأطلق لسانك بوحي, فقام فقال: يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي, فإن الله يريد أن يقضي شأناً ويدبر أمراً هو منفذه, إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة, والاَجام في الغيطان, والأنهار في الصحارى, والنعمة في الفقراء, والملك في الرعاة, ويريد أن يبعث أمياً من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه بشيراً ونذيراً, لا يقول الخنى, أفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, وأسدده لكل أمر جميل, وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته, والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه, أهدي به بعد الضلالة, وأعلم به من الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة, وقلوب مختلفة, وأهواء مشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيماً من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس, يأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به رسلي, رواه ابن أبي حاتم. ** وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الّذِي ارْتَضَىَ لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض, أي أئمة الناس والولاة عليهم, وبهم تصلح البلاد, وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم, وقد فعله تبارك وتعالى, وله الحمد والمنة, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها, وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام, وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس, وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه. ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة, قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق, فلمّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه وسلم, وأَطّدَ جزيرة العرب ومهدها, وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله عنه, ففتحوا طرفاً منها, وقتلوا خلقاً من أهلها. وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام, وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر, ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة. ومنّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق, فقام بالأمر بعده قياماً تاماً, لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله. وتمّ في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته, وقصر قيصر, وانتزع يده عن بلاد الشام, وانحدر إلى القسطنطينية, وأنفق أموالهما في سبيل الله, كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله, عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها, ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص, وبلاد القيروان, وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط, ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين, وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية, وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز, وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً, وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان, وجبى الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه, وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن, ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها, ويبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله, وصدق الله ورسوله فنسأل الله الإيمان به وبرسوله, والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا. قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً» ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني, فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال «كلهم من قريش». ورواه البخاري من حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به, وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك, وذكر معه أحاديث أخر, وفي هذا الحديث دلالة على أنه لابد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر, فإن كثيراً من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء, فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون, وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة, ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين, بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً, وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر, ثم عمر, ثم عثمان, ثم علي رضي الله عنه, ثم كانت بعدهم فترة, ثم وجد منهم من شاء الله, ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى. ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنيته كنيته, يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الخلافة بعدي ثلاثون سنة, ثم تكون ملكاً عضوضاً» وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً} الاَية, قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً, وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة, فقدموها فأمرهم الله بالقتال, فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح, فغبروا بذلك ما شاء الله, ثم إن رجلاً من الصحابة قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «لن تصبروا إلا يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة» وأنزل الله هذه الاَية, فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب, فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم, فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه, فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم, وقال بعض السلف: خلافة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله, ثم تلا هذه الاَية. وقال البراء بن عازب: نزلت هذه الاَية ونحن في خوف شديد, وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل متسضعفون في الأرض ـ إلى قوله ـ لعلكم تشكرون}. وقوله تعالى: {كما استخلف الذين من قبلهم} كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} الاَية, وقال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض} الاَيتين. وقوله {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} الاَية, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه «أتعرف الحيرة ؟» قال: لم أعرفها, ولكن قد سمعت بها. قال «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز, قال «نعم كسرى بن هرمز, وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد». قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد, ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز, والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض, فمن عمل منهم عمل الاَخرة للدنيا لم يكن له في الاَخرة نصيب». وقوله تعالى: {يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل, قال «يا معاذ». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, قال: ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك, ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال «هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قلت: الله ورسوله أعلم.. قال «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً». قال: ثم سار ساعة, ثم قال «يا معاذ بن جبل». قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال «فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟» قال: قلت الله ورسوله أعلم. قال «فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم», أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة. وقوله تعالى: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه, وكفى بذلك ذنباً عظيماً, فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله, كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب, وأيدهم تأييداً عظيماً, وحكموا في سائر العباد والبلاد, ولما قصر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم, ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة ـ وفي رواية حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ـ وفي رواية ـ حتى يقاتلوا الدجال ـ وفي رواية ـ حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون» وكل هذه الروايات صحيحة, ولا تعارض بينها. ) ** وَأَقِيمُواْ الصّـلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * لاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصلاة, وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وإيتاء الزكاة, وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم, وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم, وتاركين ما عنه زجرهم, لعل الله يرحمهم بذلك, ولا شك أن من فعل هذا, أن الله سيرحمه, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {أولئك سيرحمهم الله}. وقوله تعالى: {لا تحسبن} أي لا تظن يا محمد أن {الذين كفروا} أي خالفوك وكذبوك {معجزين في الأرض} أي لا يعجزون الله, بل الله قادر عليهم وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب, ولهذا قال تعالى: {ومأواهم} أي في الدار الاَخرة {النار ولبئس المصير} أي بئس المآل مآل الكافرين, وبئس القرار وبئس المهاد. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ مّن قَبْلِ صَـلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مّنَ الظّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنّ طَوّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىَ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لّهُنّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ هذه الاَيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض, وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض, فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال (الأول) من قبل صلاة الغداة, لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم {وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة} اي في وقت القيلولة, لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله {ومن بعد صلاة العشاء} لأنه وقت النوم, فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال, ولهذا قال {ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال, فلا جناح عليكم في تمكينكم من ذلك إياهم ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال.لأنه قد أذن لهم في الهجوم, ولأنهم طوافون عليكم اي في الخدمة وغير ذلك. ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم, ولهذا روى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة «إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات». ولما كانت هذه الاَية محكمة ولم تنسخ بشيء وكان عمل الناس بها قليلاً جداً, أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس. كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة, حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخر الاَية, والاَية التي في سورة النساء {وإذا حضر القسمة أولو القربى} الاَية, والاَية في الحجرات {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وروى أيضاً من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف, عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخر الاَية. وروى أبو داود: حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه: أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن, وإني لاَمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود: وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به, وقال الثوري عن موسى بن أبي عائشة: سألت الشعبي {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} ؟ قال: لم تنسخ. قلت: فإن الناس لا يعملون بها. فقال: الله المستعان. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان, حدثنا ابن وهب, أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو, عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن, فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر. كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم, ولا حجال في بيوتهم, فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله, فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله. ثم جاء الله بعد بالستور, فبسط الله عليهم الرزق, فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال, فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس, ورواه أبو داود عن القعنبي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به. وقال السدي: كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة, فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن, وقال مقاتل بن حيان: بلغنا ـ والله أعلم ـ أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فجعل الناس يدخلون بغير إذن, فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا, إنه ليدخل على المرأة وزوجها ـ وهما في ثوب واحد ـ غلامهما بغير إذن, فأنزل الله في ذلك {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى آخرها, ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله {كذلك يبين الله لكم الاَيات والله عليم حكيم} ثم قال تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم} يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث, إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال, يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته, وإن لم يكن في الأحوال الثلاث. قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: إذا كان الغلام رباعياً, فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه, فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير. وقال في قوله {كما استأذن الذين من قبلهم} يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه. وقوله {والقواعد من النساء} قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والضحاك وقتادة: هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد {اللاتي لا يرجون نكاحاً} أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} أي ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء. قال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد المروزي, حدثني علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي, عن عكرمة عن ابن عباس {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} الاَية, فنسخ واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الاَية, قال ابن مسعود في قوله {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن} قال: الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم. وقال أبو صالح: تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار. وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود {أن يضعن من ثيابهن} وهو الجلباب من فوق الخمار, فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد ان يكون عليها خمار صفيق, وقال سعيد بن جبير في الاَية {غير متبرجات بزينة} يقول: لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبد الله, حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون, حدثنا طلحة بن عاصم عن أم الضياء أنها قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها,فقلت: يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق ؟ فقالت: يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة, أحل الله لكن الزينة غير متبرجات, أي لا يحل لكن ان يروا منكن محرماً. وقال السدي: كان شريك لي يقال له مسلم, وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان, فجاء يوماً إلى السوق وأثر الحناء في يده, فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب رأس مولاته وهي امرأة حذيفة, فأنكرت ذلك, فقال: إن شئت ادخلتك عليها ؟ فقلت: نعم, فأدخلني عليها فإذا هي امرأة جليلة, فقلت لها: إن مسلماً حدثني أنه خضب لك رأسك ؟ فقالت: نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً, وقد قال الله تعالى في ذلك ما سمعت. وقوله {وأن يستعففن خير لهن} أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً خير وأفضل لهن {والله سميع عليم}. ** لّيْسَ عَلَى الأعْمَىَ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىَ أَنفُسِكُمْ تَحِيّةً مّنْ عِندِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي لأجله رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا, فقال عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنها: نزلت في الجهاد, وجعلوا هذه الاَية ههنا كالتي في سورة الفتح, وتلك في الجهاد لا محالة, أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم, وكما قال تعالى في سورة براءة {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه ـ إلى قوله ـ أن لا يجدوا ما ينفقون} وقيل: المراد ههنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات, فربما سبقه غيره إلى ذلك, ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسه, والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره, فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم, فأنزل الله هذه الاَية, رخصة في ذلك, وهذا قول سعيد بن جبير ومقسم. وقال الضحاك: كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً, ولئلا يتفضلوا عليهم, فأنزل الله هذه الاَية. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} الاَية, قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو بيت أخته أو بيت عمته أو بيت خالته, فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم, فنزلت هذه الاَية رخصة لهم. وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه, فتتحفه المرأة بشيء من الطعام, فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم, فقال الله تعالى {ليس على الأعمى حرج} الاَية. وقوله تعالى: {ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم} إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ, وليستأديه به ما بعده في الحكم, وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم, ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه, وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنت ومالك لأبيك». وقوله {أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم ـ إلى قوله ـ أو ما ملكتم مفاتحه} هذا ظاهر, وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض, كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما, وأما قوله {أو ما ملكتم مفاتحه} فقال سعيد بن جبير والسدي: هو خادم الرجل من عبد وقهرمان, فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف. وقال الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم, ويقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه, فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل, إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم, وإنما نحن أمناء, فأنزل الله {أو ما ملكتم مفاتحه}. وقوله {أو صديقكم} أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم, فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك. وقال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه. وقوله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الاَية: وذلك لما أنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل, والطعام هو أفضل من الأموال, فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد, فكف الناس عن ذلك, فأنزل الله {ليس على الأعمى حرج ـ إلى قوله ـ أو صديقكم} وكانوا أيضاً يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره, فرخص الله لهم في ذلك, فقال {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} وقال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية, حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً} فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل. كما رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نأكل ولا نشبع. قال «لعلكم تأكلون متفرقين, اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث الوليد بن مسلم به, وقد روى ابن ماجه أيضاً من حديث عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن أبيه عن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة». وقوله {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري: يعني فليسلم بعضكم على بعض. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير, سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة, قال: ما رأيته إلا يوجبه. قال ابن جريج: وأخبرني زياد عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل أحدكم بيته فليسلم, قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم ؟ قال: لا, ولا آثر وجوبه عن أحد, ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسياً. وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل: السلام على رسول الله, وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد, إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: بسم الله والحمد لله, السلام علينا من ربنا, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, وقال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم, وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, فإنه كان يؤمر بذلك, وحدثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن أنس قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال «يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك, وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك, وإذا دخلت ـ يعني بيتك ـ فسلم على أهلك يكثر خير بيتك, وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس ارحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة». وقوله {تحية من عند الله مباركة طيبة} قال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول: ما أخذت التشهد, إلا من كتاب الله سمعت الله يقول {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} فالتشهد في الصلاة, التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين, ثم يدعو لنفسه ويسلم. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث ابن إسحاق. والذي في صحيح مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا, والله أعلم. وقوله {كذلك يبين الله لكم الاَيات لعلكم تعقلون} لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة, نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الاَيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها, لعلهم يعقلون. ** إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىَ أَمْرٍ جَامِعٍ لّمْ يَذْهَبُواْ حَتّىَ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنّ الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَاْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ وهذا أيضاً أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه, فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول, كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك, أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين, ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء, ولهذا قال {فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله} الاَية. وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا: حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم, فإذا أراد أن يقوم فليسلم, فليست الأولى بأحق من الاَخرة» وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به. وقال الترمذي: حديث حسن. ** لاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الّذِينَ يَتَسَلّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال الضحاك عن ابن عباس: كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم, فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم, قال: فقولوا يا نبي الله, يا رسول الله, وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم, وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} يقول: لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله, ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله يا رسول الله. وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} قال: أمرهم الله أن يشرفوه, هذا قول, وهو الظاهر من السياق, كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} إلى آخر الاَية. وقوله {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي, ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ـ إلى قوله ـ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} الاَية, فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً} أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره, فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا, حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي, والله أعلم. وقوله {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} قال مقاتل بن حيان: هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة, ويعني بالحديث الخطبة, فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد, وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة, وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل, لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته. وقال السدي: كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم, وقال قتادة في قوله {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه. وقال سفيان {قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} قال: من الصف, وقال مجاهد في الاَية {لواذاً} خلافاً. وقوله {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته, فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله, فما وافق ذلك قبل, وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان, كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» أي فليحذر وليخشَ من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً. {أن تصيبهم فتنة} أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة {أو يصيبهم عذاب أليم} أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. كما روى الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه, قال: هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها, وجعل يحجزهن ويغلبنه ويقتحمن فيها ـ قال ـ فذلك مثلي ومثلكم, أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار, فتغلبوني وتقتحمون فيها» أخرجاه من حديث عبد الرزاق. ** أَلآ إِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمُ يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض, وأنه عالم الغيب والشهادة, وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم, فقال {قد يعلم ما أنتم عليه} وقد للتحقيق, كما قال قبلها { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً} وقال تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} الاَية, وقال تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك} الاَية, وقال {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وقال {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الاَية, فكل هذه الاَيات فيها تحقيق الفعل بقد, كقول المؤذن تحقيقاً وثبوتاً: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. فقوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة, كما قال تعالى: {وتوكل على العزيز الرحيم ـ إلى قوله ـ إنه هو السميع العليم} وقوله {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} وقال تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر, وقال تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} وقال تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} الاَية, وقال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} وقال {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} والاَيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً. وقوله {ويوم يرجعون إليه} أي ويوم ترجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة {فينبئهم بما عملوا} أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير, كما قال تعالى: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} وقال {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} ولهذا قال ههنا {ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم} والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام. آخر تفسير سورة النور و لله الحمد والمنة. سورة الفرقان بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم, كما قال تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات} الاَية, وقال ههنا {تبارك} وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة {الذي نزل الفرقان} نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله {والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة, والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً آيات بعد آيات, وأحكاماً بعد أحكام, وسوراً بعد سور, وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه, كما قال في أثناء هذه السورة {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً, ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال, والغي والرشاد والحلال والحرام. وقوله {على عبده} هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته, كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء, فقال {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً} وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه, فقال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}. وقوله {ليكون للعالمين نذيراً} أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} الذي جعله فرقاناً عظيماً إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء, كما قال صلى الله عليه وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي» فذكر منهن أنه «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» كما قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} الاَية, أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت, وهكذا قال ههنا {الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك. ثم أخبر أنه {خلق كل شيء فقدره تقديراً} أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب, وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه, وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره. ** وَاتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شيء, المالك لأزمة الأمور, الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة, بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً, فكيف يملكون لعابديهم ؟ {ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً} أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عز وجل الذي هو يحيي ويميت, وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} كقوله {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} وقوله {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون} فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه, ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وهو الذي لا ولد ولا والد له ولا عديل ولا نديد, ولا وزير ولا نظير, بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ هَـَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً يقول تعالى مخبراً عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن {إن هذا إلا إفك} أي كذب {افتراه} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم {وأعانه عليه قوم آخرون} أي واستعان على جمعه بقوم آخرين, فقال الله تعالى: {فقد جاءوا ظلماً وزوراً} أي فقد افتروا هم قولاً باطلاً, وهم يعلمون أنه باطل, ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها} يعنون كتب الأوائل أي استنسخها {فهي تملى عليه} أي تقرأ عليه {بكرة وأصيلا} أي في أول النهار وآخره, وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه, فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره, وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة, وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة, حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين, لما يعلمون من صدقه وبره, فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها, وحاروا فيما يقذفونه به, فتارة من إفكهم يقولون ساحر, وتارة يقولون شاعر, وتارة يقولون مجنون, وتارة يقولون كذاب, وقال الله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وافتروا {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} الاَية, أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والاَخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج ماضياً ومستقبلاً {الذي يعلم السر} أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض, ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر. وقوله تعالى: {إنه كان غفوراً رحيماً} دعاء لهم إلى التوبة والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه, فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى, كما قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} وقال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة. ** وَقَالُواْ مَا لِهَـَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَىَ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * تَبَارَكَ الّذِيَ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذَلِكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَل لّكَ قُصُوراً * بَلْ كَذّبُواْ بِالسّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذّبَ بِالسّاعَةِ سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً * وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مّقَرّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم, وإنما تعللوا بقولهم {ما لهذا الرسول يأكل الطعام} يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج إليه {ويمشي في الأسواق} أي يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة {لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً} يقولون: هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه, وهذا كما قال فرعون {فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أوجاء معه الملائكة مقترنين} وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم, ولهذا قالوا {أو يلقى إليه كنز} أي علم كنز ينفق منه {أو تكون له جنة يأكل منها} أي تسير معه حيث سار, وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً} قال الله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا} أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر, وكلها أقوال باطلة, كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك, ولهذا قال {فضلوا} عن طريق الهدى {فلا يستطيعون سبيلاً} وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى, فإنه ضال حيثما توجه, لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً. ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه إن شاء لاَتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن, فقال {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} الاَية, قال مجاهد: يعني في الدنيا, قال: وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصراً كبيراً كان أو صغيراً, قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك, ولا نعطي أحداً من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله, فقال «اجمعوها لي في الاَخرة» فأنزل الله عز وجل في ذلك {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} الاَية. وقوله {بل كذبوا بالساعة} أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال {وأعتدنا} أي أرصدنا {لمن كذب بالساعة سعيراً} أي عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم. قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير {السعير} واد من قيح جهنم. وقوله {إذا رأتهم} أي جهنم {من مكان بعيد} يعني في مقام المحشر. قال السدي: من مسيرة مائة عام {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} أي حنقاً عليهم, كما قال تعالى: {إذاألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ} أي يكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا إدريس بن حاتم بن الأحنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير, عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله: «من يقل علي ما لم أقل, أو ادعى إلى غير والديه, أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ـ وفي رواية ـ فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً» قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال «أما سمعتم الله يقول {إذا رأتهم من مكان بعيد} الاَية, ورواه ابن جرير عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي, حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال: خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم, فمروا على حداد, فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار, ونظر الربيع بن خيثم إليها, فتمايل الربيع ليسقط, فمر عبد الله على أتون على شاطىء الفرات, فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه, قرأ هذه الاَية {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} فصعق, يعني الربيع, وحملوه إلى أهل بيته, فرابطه عبد الله إلى الظهر, فلم يفق رضي الله عنه. وحدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير, ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, هكذا رواه ابن أبي حاتم بأسناده مختصراً, وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي, حدثنا عبيد الله بن موسى, أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض, فيقول لها الرحمن: ما لك ؟ قالت: إنه يستجير مني, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول: يا رب ما كان هذا الظن بك, فيقول: فما كان ظنك ؟ فيقول: أن تسعني رحمتك, فيقول: أرسلوا عبدي, وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير, وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف, وهذا إسناد صحيح. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله {سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} قال: إن جهنم لتزفر زفرة لايبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه, حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لاأسألك اليوم إلا نفسي. وقوله {وإذا ألقوا منهامكاناً ضيقاً مقرنين} قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح, أي من ضيقه, وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم, أنه سئل عن قول الله {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين} قال«والذي نفسي بيده, إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط» وقوله {مقرنين} قال أبو صالح: يعني مكتفين {دعوا هنالك ثبوراً} أي بالويل والحسرة والخيبة {لاتدعوا اليوم ثبوراً واحداً} الاَية. روى الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: «أول من يكسى حلة من النار إبليس, فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده, وهو ينادي ياثبوراه, وينادون ياثبورهم حتى يقفوا على النار, فيقول يا ثبوراه ويقولون ياثبورهم, فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً, وادعوا ثبوراً كثيراً» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة. ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به, ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {لاتدعوا اليوم ثبوراً واحداً} الاَية, أي لاتدعوا اليوم ويلاً واحداً, وادعوا ويلاً كثيراً, وقال الضحاك: الثبور الهلاك, والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار, كما قال موسى لفرعون {وإني لأظنك يافرعون مثبورًا} أي هالكاً. وقال عبد الله بن الزبعري: إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور) ** قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنّةُ الْخُلْدِ الّتِي وَعِدَ الْمُتّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَىَ رَبّكَ وَعْداً مّسْئُولاً يقول تعالى: يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم, فتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير, ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً مما هم فيه, أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده, التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيراً على ماأطاعوه في الدنيا, وجعل مآلهم إليها {لهم فيها ما يشاءون} من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر, وغير ذلك مما لاعين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب أحد, وهم في ذلك خالدون أبداً دائماً سرمداً بلاانقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولاً, وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم, ولهذا قال {كان على ربك وعداً مسؤولاً} أي لابد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله {وعداً مسئولاً} أي وعداً واجباً. وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس {كان على ربك وعداً مسئولاً} يقول: سلوا الذي وعدتكم ـ أو قال وعدناكم ـ ننجز وعدهم وتنجزوه, وقال محمد بن كعب القرظي في قوله {كان على ربك وعداً مسئولاً} إن الملائكة تسأل لهم ذلك {ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم} وقال أبو حازم: إذا كان يوم القيامة, قال المؤمنون: ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا, فذلك قوله {وعداً مسئولاً} وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار, ثم التنبيه على حال أهل الجنة, كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور, ثم قال {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لاَكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون}. ** وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلّوا السّبِيلَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نّتّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَـَكِن مّتّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً يقول تعالى مخبراً عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم, فقال {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله} قال مجاهد: هوعيسى والعزير والملائكة {فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} الاَية, أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين: أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني, أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال الله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنا اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال: سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس. لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا علم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} الاَية, ولهذا قال تعالى مخبراً عما يجيب به المعبودون يوم القيامة {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله {نتخذ من دونك من أولياء} أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم, فنحن ما دعوناهم إلى ذلك, بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا, , ونحن برآء منهم ومن عبادتهم, كما قال تعالى: {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك} الاَية, وقرأ آخرون {ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء} أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك, وهي قريبة المعنى من الأولى {ولكن متعتهم وآباءهم} أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر, أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك {وكانوا قوماً بوراً} قال ابن عباس: أي هلكى, وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعري حين أسلم: يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور وقال الله تعالى: {فقد كذبوكم بما تقولون} أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى, كقوله تعالى {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقوله {فما تستطيعون صرفاً ولا نصراً} أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم {ومن يظلم منكم} أي يشرك بالله {نذقه عذاباً كبيراً}. ** وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين: أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به, ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة, وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم, فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة, ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاؤوا به من الله, ونظير هذه الاَية الكريمة قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى} وقوله {وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام} الاَية. وقوله تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} أي اختبرنا بعضكم ببعض, وبلونا بعضكم ببعض, لنعلم من يطيع ممن يعصي, ولهذا قال {أتصبرون وكان ربك بصيراً} أي بمن يستحق أن يوحي إليه, كما قال تعالى: {والله أعلم حيث يجعل رسالته} ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك. وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} قال: يقول الله: لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن عماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلٍ بك» وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً, فاختار أن يكون عبداً رسولاً. ** وَقَالَ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىَ رَبّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىَ يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مّحْجُوراً * وَقَدِمْنَآ إِلَىَ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُوراً * أَصْحَابُ الْجَنّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم, وعنادهم في قولهم {لولا أنزل علينا الملائكة} أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء, كما أخبر الله عنهم في الاَية الأخرى {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا {لولا أنزل علينا الملائكة} فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله, كقولهم {حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا} وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان, ولهذا قالوا: {أو نرى ربنا} ولهذا قال الله تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً} وقد قال تعالى: {ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} الاَية.) وقوله تعالى: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً} أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم, بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم, وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار, والغضب من الجبار, فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه, اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث, اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم, فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه, كما قال الله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} الاَية, وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم} أي بالضرب {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون} ولهذا قال في هذه الاَية الكريمة {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين} وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم, فإنهم يبشرون بالخيرات, وحصول المسرات, قال الله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الاَخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلاً من غفور رحيم}. وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب: أن الملائكة تقول لروح المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه, اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاَخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}. وقال آخرون: بل المراد بقوله {يوم يرون الملائكة لا بشرى} يعني يوم القيامة, قاله مجاهد والضحاك وغيرهما, ولا منافاة بين هذا وما تقدم, فإن الملائكة في هذين اليومين: يوم الممات ويوم المعاد, تتجلى للمؤمنين وللكافرين, فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان, وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران, فلا بشرى يومئذ للمجرمين {ويقولون حجراً محجوراً} أي وتقول الملائكة للكافرين: حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف, إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك, ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام, لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه, وإنما يطاف من ورائه, ومنه يقال للعقل حجر, لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق, والغرض أن الضمير في قوله {ويقولون} عائد على الملائكة, هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا موسى يعني ابن قيس, عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الاَية {ويقولون حجراً محجوراً} قال: حراماً محرماً أن يبشر بما يبشر به المتقون. وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين {يوم يرون الملائكة} أي يتعوذون من الملائكة, وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول {حجراً محجوراً} وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه, ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه, ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله {حجراً محجوراً} أي عوذاً معاذاً فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج, ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال {حجراً محجوراً} عوذاً معاذاً الملائكة تقول ذلك, فا لله أعلم. وقوله تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل} الاَية, هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر, فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء, وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل, فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين, وقد تجمعهما معاً فتكون أبعد من القبول حينئذ, ولهذا قال تعالى: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً} قال مجاهد والثوري {وقدمنا} أي عمدنا, وكذا قال السدي, وبعضهم يقول: أتينا عليه. وقوله تعالى: {فجعلناه هباء منثوراً} قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله {هباء منثوراً} قال: شعاع الشمس إذا دخل الكوة, وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم, وكذا قال الحسن البصري: هو الشعاع في كوة أحدهم, ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {هباء منثوراً} قال: هو الماء المهراق. وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي {هباء منثوراً} قال: الهباء رهج الدواب, وروي مثله عن ابن عباس أيضاً والضحاك, وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال قتادة في قوله {هباء منثوراً} قال: أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح ؟ فهو ذلك الورق. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال: وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح, وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الاَية, وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء, فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا إنها لا شيء بالكلية, وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية, كما قال تعالى {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح} الاَية. وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ـ إلى قوله ـ لا يقدرون على شيء مما كسبوا} وقال تعالى: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً} وتقدم الكلام على تفسير ذلك, ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} أي يوم القيامة {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الاَمنات, فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام {خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً} وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات, والحسرات المتتابعات, وأنواع العذاب والعقوبات {إنها ساءت مستقراً ومقاماً} أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, ولهذا قال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا, وصاروا إلى ما صاروا إليه, بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار, فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء, وأنه لا خير عندهم بالكلية, فقال تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} قال الضحاك عن ابن عباس: إنما هي ضحوة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين, ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين. وقال سعيد بن جبير: يفرغ الله من الحساب نصف النهار, فيقيل أهل الجنة في الجنة, وأهل النار في النار, قال الله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً}. وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار, وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة, فينصرف أهل النار إلى النار, وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة, وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم, وذلك قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء, ثم قرأ {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} وقرأ {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم}. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} قال: قالوا في الغرف من الجنة, وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة, وذلك الحساب اليسير, وهو مثل قوله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً * وينقلب إلى أهله مسروراً}. وقال قتادة {خير مستقراً وأحسن مقيلاً} مأوى ومنزلاً. وقال قتادة: وحدث صفوان بن محرز أنه قال: يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكاً في الدنيا إلى الحمرة والبياض, فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيراً قط فيؤمر به إلى النار, والاَخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول: يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به, فيقول الله: صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة, ثم يتركان ما شاء الله, ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: شر مقيل, فيقال له: عد, ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر, فيقال له: كيف وجدت ؟ فيقول: رب خير مقيل, فيقال له: عد. رواها ابن أبي حاتم كلها. وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب, أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس, وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس, وذلك قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً}. ** وَيَوْمَ تَشَقّقُ السّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ لِلرّحْمَـَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً * وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ عَلَىَ يَدَيْهِ يَقُولُ يَلَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلاً * يَوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لّقَدْ أَضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة, فمنها انشقاق السماء وتفطرها, وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار, ونزول ملائكة السموات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر, ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} الاَية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث, حدثنا مؤمل, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس أنه قرأ هذه الاَية {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً} قال ابن عباس رضي الله: عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق, فتنشق السماء الدنيا, فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلق, فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق, ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق, فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق, ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق, ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف, حتى تنشق السماء السابعة فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق, فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات وبالجن والإنس وجميع الخلق كلهم, وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الجن والإنس, وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا, وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز وجل, ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام, وما بين كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام, وما بن ركبته إلى حجزته(1) مسيرة خمسمائة عام, وما بين حجزته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام, وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام. وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام وجهنم مجنبته, وهكذا رواه ابن حاتم بهذا السياق. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول: إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن, وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض, فيقول أهل الأرض: جاء ربنا ؟ فيقولون: لم يجىء وهو آت, ثم تنشق السماء الثانية, ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة, فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجن والإنس. قال: فتنزل الملائكة الكروبيون, ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة, وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة. قال: وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه, وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه, يقول: سبحان الملك القدوس, وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القباء, والعرش فوق ذلك, ثم وقف, فمداره على علي بن زيد بن جدعان, وفيه ضعف وفي سياقاته غالباً, وفيها نكارة شديدة, وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا, والله أعلم, وقد قال الله تعالى: {فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية} قال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية, أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ورواه ابن جرير عنه. وقال أبو بكر بن عبد الله: إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم, شخصت إليه أبصارهم, ورجفت كلاهم في أجوافهم, وطارت قلوبهم من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم. قال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله عز وجل حين يهبط, وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب, منها النور والظلمة فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب, وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه, ولعله من الزاملتين, والله أعلم. وقوله تعالى: {الملك يومئذ الحق للرحمن} الاَية, كما قال تعالى: {لمن الملك اليوم ؟ لله الواحد القهار}. وفي الصحيح أن الله تعالى يطوي السموات بيمينه, ويأخذ الأرضين بيده الأخرى, ثم يقول: أنا الملك أنا الديان, أين ملوك الأرض ؟ أين الجبارون, أين المتكبرون ؟ وقوله {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} أي شديداً صعباً, لأنه يوم عدل وقضاء فصل, كما قال تعالى: {فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير} فهذا حال الكافرين في هذا اليوم, وأما المؤمنون فكما قال تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} الاَية. وروى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله {يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده, إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» وقوله تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً}, يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه, وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول, فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم, وعض على يديه حسرة وأسفاً, وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء, فإنها عامة في كل ظالم, كما قال تعالى: {يوم تقلب وجوههم في النار} الاَيتين, فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم, ويعض على يديه قائلاً {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً} يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة, وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما, {لقد أضلني عن الذكر} وهو القرآن {بعد إذ جاءني} أي بعد بلوغه إليّ, قال الله تعالى: {وكان الشيطان للإنسان خذولا} أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه, ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه. ** وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هَـَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال «يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً» وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه, كما قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} الاَية, فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك تصديقه من هجرانه, وترك تدبره وتفهمه من هجرانه, وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه, والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره, من هجرانه, فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء, أن يخلصنا مما يسخطه, ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه, والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه, إنه كريم وهاب. وقوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن, كذلك كان في الأمم الماضين, لأن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين, يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم, كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن} الاَيتين, ولهذا قال تعالى ههنا: {وكفى بربك هادياً ونصيراً} أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه, فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والاَخرة, وإنما قال {هادياً ونصيراً} لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به, ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن, فلهذا قال {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الاَية. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً * الّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ إِلَىَ جَهَنّمَ أُوْلَـَئِكَ شَرّ مّكَاناً وَأَضَلّ سَبِيلاً يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم, حيث قالوا {لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة, كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة, كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية, فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث, وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به, كقوله {وقرآنا فرقناه} الاَية, ولهذا قال {لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً}, قال قتادة: بيناه تبيينا. وقال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: وفسرناه تفسيراً {ولا يأتونك بمثل} أي بحجة وشبهة {إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} أي ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق, إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس {ولا يأتونك بمثل} أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول {إلا جئناك بالحق} الاَية, أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم, حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحاً ومساء, وليلاً ونهاراً, سفراً وحضراً, وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال كتابٍ مما قبله من الكتب المتقدمة, فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله, ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى, وقد جمع الله للقرآن الصفتين معاً, ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا, ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجماً بحسب الوقائع والحوادث. وقال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر, ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة, قال الله تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} وقال تعالى: {وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً}. ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة, وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات {الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلاً}. وفي الصحيح عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله, كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً * فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَدَمّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً * وَقَوْمَ نُوحٍ لّمّا كَذّبُواْ الرّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً * وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرّسّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً * وَكُلاّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلاّ تَبّرْنَا تَتْبِيراً * وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الّتِيَ أُمْطِرَتْ مَطَرَ السّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً يقول تعالى متوعداً من كذب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومن خالفه, ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله, فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً, أي نبياً مؤازراً ومؤيداً وناصراً, فكذبهما فرعون وجنوده {فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها} وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاً عليه السلام, ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل, إذ لا فرق بين رسول ورسول, ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون, ولهذا قال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل} ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط, وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل, ويحذرهم نقمه {وما آمن معه إلا قليل} ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يبق منهم أحداً, ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط {وجعلناهم للناس آية} أي عبرة يعتبرون بها, كما قال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار لتذكروا نعمة الله عليكم في إنجائكم من الغرق, وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره. وقوله تعالى: {وعاداً وثمود وأصحاب الرس} قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة, كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة. وأما أصحاب الرس, فقال ابن جريج عن ابن عباس: هم أهل قرية من قرى ثمود. وقال ابن جريج: قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج, وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله {وأصحاب الرس} قال: بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكير, عن عكرمة: الرس بئر رسوا فيها نبيهم, أي دفنوه بها. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود, وذلك أن الله تعالى بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود, ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها, ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم, قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره, ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاماً وشراباً, ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة, ويعينه الله تعالى عليها, فيدلي إليه طعامه وشرابه, ثم يردها كما كانت, قال: فكان ذلك ما شاء الله أن يكون, ثم إنه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع, فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها, فلما أراد أن يحتملها وجد سنة, فاضطجع فنام, فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً, ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الاَخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى, ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار, فجاء إلى القرية فباع حزمته, ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع, ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه, فالتمسه فلم يجده, وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه, قال: فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل, فيقولون له: لا ندري, حتى قبض الله النبي, هب الأسود من نومته بعد ذلك» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة» وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب مرسلاً, وفيه غرابة ونكارة, ولعل فيه إدراجاً, والله أعلم. وقال ابن جرير: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس الذين ذكروا في القرآن, لأن الله أخبر عنهم أنه أهلكهم, وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم اللهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم, والله أعلم. واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج, فا لله أعلم. وقوله تعالى: {وقروناً بين ذلك كثيراً} أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة, ولهذا قال {وكلا ضربنا له الأمثال} أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة, كما قال قتادة: وأزحنا الأعذار عنهم {وكلا تبرنا تتبيراً} أي أهلكنا إهلاكاً, كقوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} والقرن هو الأمة من الناس, كقوله {ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين} وحده بعضهم بمائة وعشرين سنة. وقيل بمائة. وقيل بثمانين, وقيل أربعين, وقيل غير ذلك, والأظهر أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم جيل فهم قرن آخر, كما ثبت في الصحيحين «خير القرون قرني, ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم» الحديث {ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء} يعني قرية قوم لوط, وهي سدوم ومعاملتها التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل, كما قال تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين} وقال {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون} وقال تعالى: {وإنها لبسبيل مقيم} وقال {وإنهما لبإمام مبين} ولهذا قال {أفلم يكونوا يرونها} أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله {بل كانوا لا يرجون نشوراً} يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لأنهم لا يرجون نشوراً, أي معاداً يوم القيامة. ** وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً أَهَـَذَا الّذِي بَعَثَ اللّهُ رَسُولاً * إِن كَادَ لَيُضِلّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلّ سَبِيلاً * أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه كما قال تعالى: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً} الاَية, يعنونه بالعيب والنقص. وقال ههنا {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث الله رسولاً ؟} أي على سبيل التنقيص والازدراء فقبحهم الله, كما قال {ولقد استهزىء برسل من قبلك} الاَية. وقوله تعالى: {إن كاد ليضلنا عن آلهتنا} يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا عليها. قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً {وسوف يعلمون حين يرون العذاب} الاَية. ثم قال تعالى لنبيه منبهاً أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال, فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه, كما قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء} الاَية, ولهذا قال ههنا {أفأنت تكون عليه وكيلاً} قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً, فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. ثم قال تعالى: {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون} الاَية, أي هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة, فإن تلك تعقل ما خلقت له, وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له, وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم. ** أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِبَاساً وَالنّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النّهَارَ نُشُوراً من ههنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة, فقال تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ؟} قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغيرهم: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس {ولو شاء لجعله ساكناً} أي دائماً لا يزول, كما قال تعالى: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً} الاَيات. وقوله تعالى: {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف, فإن الضد لا يعرف إلا بضده, وقال قتادة والسدي: دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله. وقوله تعالى: {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} أي الظل. وقيل الشمس {يسيراً} أي سهلاً, قال ابن عباس: سريعاً. وقال مجاهد: خفياً. وقال السدي: قبضاً خفياً حتى لا يبقى في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة, وقد أظلت الشمس ما فوقه. وقال أيوب بن موسى في الاَية {قبضاً يسيراً} قليلاً قليلا. وقوله {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} أي يلبس الوجود ويغشاه, كما قال تعالى: {والليل إذا يغشى} {والنوم سباتاً} أي قاطعاً للحركة لراحة الأبدان, فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش, فإذا جاء الليل وسكن, سكنت الحركات فاستراحت, فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً {وجعل النهار نشوراً} أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم, كما قال تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله}الاَية.) ** وَهُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً طَهُوراً * لّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذّكّرُواْ فَأَبَىَ أَكْثَرُ النّاسِ إِلاّ كُفُوراً وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم, وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات, أي بمجيء السحاب بعدها, والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير, فمنها ما يثير السحاب, ومنها ما يحمله, ومنها ما يسوقه, ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشراً, ومنها ما يكون قبل ذلك يقم الأرض, ومنها ما يلقح السحاب ليمطر, ولهذا قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} أي آلة يتطهر بها كالسحور والوقود وما جرى مجراهما, فهذا أصح ما يقال في ذلك. وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل, أو إنه مبني للمبالغة والتعدي, فعلى كل منهما إشكالات من حيث اللغة والحكم, ليس هذا موضع بسطها, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي عن أبي جعفر الرازي إلى حميد الطويل عن ثابت البناني قال: دخلت مع أبي العالية في يوم مطير, وطرق البصرة قذرة, فصلى فقلت له, فقال {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} قال: طهره ماء السماء, وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن المسيب في هذه الاَية قال: أنزله الله طهوراً لا ينجسه شيء. وعن أبي سعيد قال: قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة, وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب ؟ فقال «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» رواه الشافعي وأحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي. وروى ابن أبي حاتم بإسناده: حدثنا أبي, حدثنا أبو الأشعث حدثنا معتمر, سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال: كان عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء, فقال خالد بن يزيد: منه من السماء, ومنه يسقيه الغيم من البحر فيغذ به الرعد والبرق, فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات, فأما النبات فمما كان من السماء. وروي عن عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة. وقال غيره: في البر بر وفي البحر در. وقوله تعالى: {لنحيي به بلدة ميتا} أي أرضاً قد طال انتظارها للغيث, فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان, كما قال تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} الاَية, {ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسيّ كثيراً} أي وليشرب منه الحيوان من أنعام, وأناسيّ محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم, كما قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} الاَية, وقال تعالى: {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} الاَية. وقوله تعالى: {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا} أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه, وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى, فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقاً, والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء, وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة. قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: ليس عام بأكثر مطراً من عام, ولكن الله يصرفه كيف يشاء, ثم قرأ هذه الاَية {ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات, أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه, فيقلع عما هو فيه. وقال عمر مولى غقبة: كان جبريل عليه السلام في موضع الجنائز, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب» قال: فقال له جبريل: يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله, فقال: تأتينا صكاك مختمة, اسق بلاد كذا وكذا, كذا وكذا قطرة. رواه ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل. وقوله تعالى: {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} قال عكرمة: يعني الذين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا, وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوماً على أثر سماء أصابتهم من الليل «أتدرون ماذا قال ربكم ؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر, فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي, كافر بالكواكب, وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا, فذاك كافر بي, مؤمن بالكواكب». ** وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً * وَهُوَ الّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَـَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مّحْجُوراً * وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبّكَ قَدِيراً يقول تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} يدعوهم إلى الله عز وجل, ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض, وأمرناك أن تبلغهم القرآن {لأنذركم به ومن بلغ} {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} {لتنذر أم القرى ومن حولها} {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}. وفي الصحيحين «بعثت إلى الأحمر والأسود», وفيهما «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة» ولهذا قال تعالى: {فلا تطع الكافرين وجاهدهم به} يعني القرآن, قاله ابن عباس, {جهاداً كبيراً} كما قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} الاَية. وقوله تعالى: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج} أي خلق الماءين: الحلو والملح, فالحلو كالأنهار والعيون والاَبار, وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات الزلال, قاله ابن جريج, واختاره ابن جرير, وهذا المعنى لا شك فيه, فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات, والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه, فالبحر العذب هو هذا السارح بين الناس, فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهاراً وعيوناً في كل أرض, بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأرضيهم. وقوله تعالى: {وهذا ملح أجاج} أي مالح مر زعاق لا يستساغ, وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب: البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق, وبحر القلزم, وبحر اليمن, وبحر البصرة, وبحر فارس, وبحر الصين والهند, وبحر الروم, وبحر الخزر, وما شاكلها وما شابهها من البحار الساكنة التي لا تجري, ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح, ومنها ما فيه مد وجزر, ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض, فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى, فإذا استهل الهلال من الشهر الاَخر شرعت في المد إلى الليلة الرابعة عشرة, ثم تشرع في النقص, فأجرى الله سبحانه وتعالى ـ وهو ذو القدرة التامة ـ العادة بذلك, فكل هذه البحار الساكنة, خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء, فيفسد الوجود بذلك, ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان, ولما كان ماؤها مالحاً, كان هواؤها صحيحاً وميتتها طيبة, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به ؟ فقال {هو الطهور ماؤه, الحل ميتته} رواه الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد. وقوله تعالى: {وجعل بينهما برزخاً وحجراً} أي بين العذب والمالح {برزخاً} أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض, {وحجراً محجوراً} أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الاَخر, كقوله تعالى: {مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى: {أمن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله ؟ بل أكثرهم لا يعلمون} وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشراً} الاَية, أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى, كما يشاء, {فجعله نسباً وصهراً} فهو في ابتداء أمره ولد نسيب, ثم يتزوج فيصير صهراً, ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات, وكل ذلك من ماء مهين, ولهذا قال تعالى: {وكان ربك قديراً}. ** وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىَ رَبّهِ ظَهِيراً * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ مُبَشّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَن شَآءَ أَن يَتّخِذَ إِلَىَ رَبّهِ سَبِيلاً * وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَيّ الّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىَ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً * الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ الرّحْمَـَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرّحْمَـَنِ قَالُواْ وَمَا الرّحْمَـَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضراً ولا نفعاً, بلا دليل قادهم إلى ذلك, ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الاَراء والتشهي والأهواء, فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم, ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم, ولهذا قال تعالى: {وكان الكافر على ربه ظهيراً} أي عوناً في سبيل الشيطان على حزب الله وحزب الله هم الغالبون, كما قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصراً, وهؤلاء الجهلة للأصنام جند محضرون يقاتلون عنهم, ويذبون عن حوزتهم, ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والاَخرة. قال مجاهد {وكان الكافر على ربه ظهيراً} قال: يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه. وقال سعيد بن جبير: {وكان الكافر على ربه ظهيراً} يقول: عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك وقال زيد بن أسلم {وكان الكافر على ربه ظهيراً} قال: موالياً, ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه {وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين, مبشراً بالجنة لمن أطاع الله ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله {قل ما أسألكم عليه من أجر} أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجرة أطلبها من أموالكم, وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى {لمن شاء منكم أن يستقيم} {إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً} أي طريقاً ومسلكاً ومنهجاً يقتدي فيها بما جئت به. ثم قال تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} أي في أمورك كلها كن متوكلاً على الله الحي الذي لا يموت أبداً, الذي هو {الأول والاَخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم ورب كل شيء ومليكه اجعله ذخرك وملجأك, وهو الذي يتوكل عليه ويفزع إليه, فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال: قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله, عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن حوشب قال: لقي سلمان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة فسجد له, فقال «لا تسجد لي يا سلمان, واسجد للحي الذي لا يموت} وهذا مرسل حسن. وقوله تعالى: {وسبح بحمده} أي اقرن بين حمده وتسبيحه, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» أي أخلص له العبادة والتوكل, كما قال تعالى: {رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً} وقال تعالى: {فاعبده وتوكل عليه} وقال تعالى: {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا}. وقوله تعالى: {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة. وقوله تعالى: {الذي خلق السموات والأرض} الاَية, أي هو الحي الذي لا يموت, وهو خالق كل شيء وربه ومليكه, الذي خلق بقدرته السموات السبع في ارتفاعها واتساعها, والأرضين السبع في سفولها وكثافتها {في ستة أيام ثم استوى على العرش} أي يدبر الأمر, ويقضي الحق, وهو خير الفاصلين. وقوله {ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً} أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به, فاتبعه واقتد به, وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه, سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والاَخرة, الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, فما قاله فهو الحق, وما أخبر به فهو الصدق, وهو الإمام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شيء وجب رد نزاعهم إليه, فما وافق أقواله وأفعاله فهو الحق, وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان, قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء} الاَية, وقال تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً} أي صدقاً في الإخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي, ولهذا قال تعالى: {فاسأل به خبيراً}. قال مجاهد: في قوله {فاسأل به خبيراً} قال: ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك وكذا قال ابن جريج. وقال شمر بن عطية في قوله {فاسأل به خبيراً} هذا القرآن خبير به. ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} أي لا نعرف الرحمن, وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن, كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم, ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم, ولهذا أنزل الله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيّاً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} أي هو الله وهو الرحمن وقال في هذه الاَية {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن} أي لا نعرفه ولا نقر به {أنسجد لما تأمرنا} أي لمجرد قولك {وزادهم نفوراً} فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم, ويفردونه بالإلهية, ويسجدون له, وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها, كما هو مقرر في موضعه, والله سبحانه وتعالى أعلم. ** تَبَارَكَ الّذِي جَعَلَ فِي السّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مّنِيراً * وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً يقول تعالى ممجداً نفسه ومعظماً على جميل ما خلق في السماوات من البروج, وهي الكواكب العظام في قول مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة. وقيل: هي قصور في السماء للحرس, يروى هذا عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش, وهو رواية عن أبي صالح أيضاً, والقول الأول أظهر. اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس, فيجتمع القولان, كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} الاَية, ولهذا قال تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً} وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود, كما قال تعالى: {وجعلنا سراجاً وهاجاً} {وقمراً منيراً} أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس, كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً} وقال مخبراً عن نوح عليه السلام, أنه قال لقومه {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً} ثم قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} أي يخلف كل واحد منهما صاحبه, يتعاقبان لا يفتران, إذا ذهب هذا جاء هذا, وإذا جاء هذا ذهب ذاك, كما قال تعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} الاَية, وقال {يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثاً} الاَية, وقال {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} الاَية. وقوله تعالى: {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده له عز وجل, فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار, ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل, وقد جاء في الحديث الصحيح «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار, ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو حمزه عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى, فقيل له: صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه, فقال: إنه بقي علي من وردي شيء, فأحببت أن أتمه, أو قال أقضيه, وتلا هذه الاَية {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً}. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية: يقول من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار, أو من النهار أدركه بالليل, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن, وقال مجاهد وقتادة: خلفة, أي مختلفين, أي هذا بسواده وهذا بضيائه. ** وَعِبَادُ الرّحْمَـَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىَ الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجّداً وَقِيَاماً * وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا اصْرِفْ عَنّا عَذَابَ جَهَنّمَ إِنّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً هذه صفات عباد الله المؤمنين {الذين يمشون على الأرض هوناً} أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار, كقوله تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً} الاَية, فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح, ولا أشر ولا بطر, وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء, فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب, وكأنما الأرض تطوى له, وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع, حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً, فقال: ما بالك أأنت مريض ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين, فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة, وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون, وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا, وما فاتكم فأتموا». وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن يحيى بن المختار عن الحسن البصري في قوله {وعباد الرحمن} الاَية, قال: إن المؤمنين قوم ذلل, ذلت منهم ـ والله ـ الأسماع والأبصار والجوارح, حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض, وإنهم والله أصحاء, ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالاَخرة, فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, أما والله ما أحزنهم ما أحزن الناس, ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة, ولكن أبكاهم الخوف من النار, إنه من لم يتعز بعزاء الله, تقطع نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله نعمةً إلا في مطعم أو مشرب, فقد قل علمه وحضر عذابه. وقوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله, بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيراً, كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلماً, وكما قال تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} الاَية. وروى الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي خالد الوالبي, عن النعمان بن مقرن المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسب رجل رجلاً عنده, فجعل قال: المسبوب يقول: عليك السلام, الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أما إن ملكاً بينكما يذب عنك, كلما شتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به, وإذا قلت له وعليك السلام, قال: لا بل عليك وأنت أحق به». إسناده حسن, ولم يخرجوه. وقال مجاهد {قالوا سلاماً} يعني قالوا سداداً. وقال سعيد بن جبير: ردوا معروفاً من القول. وقال الحسن البصري: {قالوا سلاماً} حلماء لا يجهلون إن جهل عليهم حلموا, يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون, ثم ذكر أن ليلهم خير ليل, فقال تعالى: {والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً} أي في طاعته وعبادته, كما قال تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} وقوله {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الاَية, وقال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} الاَية, ولهذا قال تعالى: {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً} أي ملازماً دائماً, كما قال الشاعر: إن يعذب يكن غراماً, وإن يعطجزيلاً, فإنه لا يبالي ولهذا قال الحسن في قوله {إن عذابها كان غراماً} كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه, فليس بغرام, وإنما الغرام الملازم ما دامت السموات والأرض, وكذا قال سليمان التيمي. وقال محمد بن كعب {إن عذابها كان غراماً} يعني ما نعموا في الدنيا, إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه, فأغرمهم فأدخلهم النار {إنها ساءت مستقراً ومقاماً} أي بئس المنزل منظراً, وبئس المقيل مقاماً, وقال ابن أبي حاتم عند قوله {إنها ساءت مستقراً ومقاماً} حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: إذا طرح الرجل في النار هوى فيها, فإذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له: مكانك حتى تتحف, قال: فيسقى كأساً من سم الأساود والعقارب, قال: فيميز الجلد على حدة, والشعر على حدة, والعصب على حدة, والعروق على حدة. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا الحسن بن الربيع, حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد, عن عبيد بن عمير قال: إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البخت, وعقارب أمثال البغال الدلم, فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها, فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم, فكشطت لحومهم إلى أقدامهم, فإذا وجدت حر النار رجعت. وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى, حدثنا سلام يعني ابن مسكين, عن أبي ظلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان يا منان, فيقول الله عز وجل لجبريل: اذهب فأتني بعبدي هذا, فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون, فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره, فيقول الله عز وجل, ائتني به, فإنه في مكان كذا وكذا, فيجيء به فيوقفه على ربه عز وجل, فيقول له: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك ؟ فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل, فيقول الله عز وجل, ردوا عبدي, فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني منها أن تردني فيها, فيقول الله عز وجل, دعوا عبدي». وقوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} الاَية, أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم, فيصرفون فوق الحاجة, ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم, بل عدلاً خياراً, وخير الأمور أوسطها, لا هذا ولا هذا, {وكان بين ذلك قواماً} كما قال تعالى {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} الاَية, وقال الإمام أحمد: حدثنا عصام بن خالد, حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني, عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من فقه الرجل رفقه في معيشته». ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي, حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما عال من اقتصد» لم يخرجوه. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن يحيى, حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون, حدثنا سعيد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال ـ يعني العبسي ـ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحسن القصد في الغنى, وأحسن القصد في الفقر, وأحسن القصد في العبادة» ثم قال: لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال الحسن البصري: ليس في النفقة في سبيل الله سرف. وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى, فهو سرف. وقال غيره: السرف النفقة في معصية الله عز وجل. ** وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللّهِ إِلَـَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ يُبَدّلُ اللّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنّهُ يَتُوبُ إِلَى اللّهِ مَتاباً قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر ؟ قال «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: ثم أي ؟ قال «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» قال: ثم أي ؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية, وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به, وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود به, فالله أعلم, ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ الحديث, طريق غريب. قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي, حدثنا عامر بن مدرك, حدثنا السري يعني ابن إسماعيل, حدثنا الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله, خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته, فجلس على نشز من الأرض, وقعدت أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه, واغتنمت خلوته وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أي الذنب أكبر ؟ قال «أن تدعو لله نداً وهو خلقك» قلت: ثم مه ؟ قال «أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك» قلت: ثم مه ؟ قال «أن تزاني حليلة جارك» ثم قرأ {والذين لا يدعون مع الله} الاَية, وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد, حدثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «ألا إنما هي أربع» فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم, «لا تشركوا بالله شيئاً, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق, ولا تزنوا, ولا تسرقوا». وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني رحمه الله, حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان, حدثنا محمد بن سعد الأنصاري, سمعت أبا طيبة الكلاعي, سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «ما تقولون في الزنا ؟» قالوا: حرمه الله ورسوله, فهو حرام إلى يوم القيامة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره». قال «فما تقولون في السرقة ؟» قالوا: حرمها الله ورسوله, فهي حرام, قال «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره». وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر, حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له». وقال ابن جريج: أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا, وزنوا فأكثروا, ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن, لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة, فنزلت {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية, ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} الاَية. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق, وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك, وينهاك أن تزني بحليلة جارك». قال سفيان: وهو قوله {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} الاَية. وقوله تعالى: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: أثاماً: واد في جهنم. وقال عكرمة {يلق أثاماً} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد. وقال قتادة {يلق أثاماً} نكالاً, كنا نحدث أنه واد في جهنم. وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني, إياك والزنا, فإن أوله مخافة وآخره ندامة, وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفاً ومرفوعاً: أن غيا وآثاماً بئران في قعر جهنم, أجارنا الله منهما بمنه وكرمه. وقال السدي {يلق أثاماً} جزاء, وهذا أشبه بظاهر الاَية, وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه, وهو قوله تعالى: {يضاعف له العذاب يوم القيامة} أي يكرر عليه ويغلظ {ويخلد فيه مهاناً} أي حقيراً ذليلاً. وقوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً} أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إلا من تاب} أي في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك, فإن الله يتوب عليه, وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل, ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} الاَية, فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة, فتحمل على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة, ثم قد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الاَية. قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل, كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب, فقبل الله توبته, وغير ذلك من الأحاديث. وقوله تعالى: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً} في معنى قوله {يبدل الله سيئاتهم حسنات} قولان (أحدهما) أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية, قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات, فرغب الله بهم عن ذلك, فحولهم إلى الحسنات, فأبدلهم مكان السيئات الحسنات, وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الاَية: بدلن بعد حرهِ خريفاوبعد طول النفس الوجيفا يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها, وقال عطاء بن أبي رباح: هذا في الدنيا, يكون الرجل على هيئة قبيحة ثم يبدله الله بها خيراً. وقال سعيد بن جبير: أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن, وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين, وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات. وقال الحسن البصري: أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح, وأبدلهم بالشرك إخلاصاً, وأبدلهم بالفجور إحصاناً, وبالكفر إسلاماً, وهذا قول أبي العالية وقتادة وجماعة آخرين. (والقول الثاني) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات, وما ذلك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر, فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار, فيوم القيامة وإن وجده مكتوباً عليه, فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته, كما ثبتت السنة بذلك, وصحت به الاَثار المروية عن السلف رضي الله عنهم, وهذا سياق الحديث. قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً منالنار, وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة, يؤتى برجل فيقول نحوا كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها, قال: فيقال له: عملت يوم كذا, كذا وكذا, وعملت يوم كذا, كذا وكذا, فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً, فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة, فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا» قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه, انفرد بإخراجه مسلم. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثني هاشم بن يزيد, حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثني أبي, حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان: أعطني صحيفتك, فيعطيه إياها, فما وجد في صحيفته من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان وكتبهن حسنات, فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة, ويحمد أربعاً وثلاثين تحميدة, ويسبح ثلاثاً وثلاثين تسبيحة فتلك مائة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة وعارم, قالا: حدثنا ثابت يعني ابن يزيد أبو زيد, حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال: يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها, فإذا سيئاته, فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته, ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود, حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات, قيل: من هم يا أبا هريرة ؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا سيار, حدثنا جعفر, حدثنا أبو حمزة عن أبي الضيف ـ قلت: وكان من أصحاب معاذ بن جبل ـ قال يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم أصحاب اليمين قالت: لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال: لأنهم قد عملوا الحسنات والسيئات, فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرؤوا سيئاتهم حرفاً حرفاً, وقالوا: يا ربنا هذه سيئاتنا, فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات, فعند ذلك قالوا: {هاؤم اقرءوا كتابيه} فهم أكثر أهل الجنة. وقال علي بن الحسين زين العابدين {يبدل الله سيئاتهم حسنات} قال: في الاَخرة, وقال مكحول: يغفرها لهم فيجعلها حسنات, رواهما ابن أبي حاتم, وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي, حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا أبو جابر, أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه, فقال: يا رسول الله, رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه, لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم, فهل له من توبة ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «أأسلمت ؟» فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله, فقال النبي «فإن الله غافر لك ما كنت كذلك, ومبدل سيئاتك حسنات» فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي ؟ فقال «وغدراتك وفجراتك» فولى الرجل يهلل ويكبر. وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة شطب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة, فهل له من توبة ؟ فقال «أسلمت ؟» فقال: نعم, قال: «فافعل الخيرات واترك السيئات, فيجعلها الله لك خيرات كلها» قال: وغدراتي وفجراتي ؟ قال «نعم» فما زال يكبر حتى توارى. ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات, عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعاً. وقال أيضاً: حدثنا أبو زرعة, حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح الشماس عن عبيد بن أبي عبيد, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت: هل لي من توبة ؟ إني زنيت, وولدت وقتلته, فقلت: لا, ولا نعمت العين ولا كرامة, فقامت وهي تدعو بالحسرة, ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح, فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بئسما قلت, أما تقرأ هذه الاَية ؟» {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ـ إلى قوله ـ إلا من تاب} الاَية, فقرأتها عليها, فخرت ساجدة وقالت: الحمد الله الذي جعل لي مخرجاً, هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي رجاله من لا يعرف, والله أعلم. وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه, وعنده: فخرجت تدعو بالحسرة وتقول: يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار ؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم, تطلّبها في جميع دور المدينة فلم يجدها, فلما كان من الليلة المقبلة جاءته, فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرت ساجدة وقالت: الحمد لله الذي جعل لي مخرجاً وتوبة مما عملت, وأعتقت جارية كانت معها وابنتها, وتابت إلى الله عز وجل. ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده, وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً, كبيراً أو صغيراً, فقال تعالى: {ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً} أي فإن الله يقبل توبته, كما قال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} الاَية, وقال تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} الاَية, وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} الاَية, أي لمن تاب إليه. ** وَالّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزّورَ وَإِذَا مَرّواْ بِاللّغْوِ مَرّوا كِراماً * وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً * وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور, قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام, وقيل الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل, وقال محمد بن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس, هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري: شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه, كما جاء في الحديث «من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر, فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر» وقيل المراد بقوله تعالى: {لا يشهدون الزور} أي شهادة الزور, وهي الكذب متعمداً على غيره, كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟» ثلاثاً, قلنا: بلى يا رسول الله. قال «الشرك بالله وعقوق الوالدين» وكان متكئاً, فجلس فقال «ألا وقول الزور, ألا وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه, ولهذا قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} أي لا يحضرون الزور, وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء, ولهذا قال {مروا كراماً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج, حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم, أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو معروضاً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً» وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي, حدثنا حبان, أخبرنا عبد الله, أخبرنا محمد بن مسلم, أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً». ثم تلا إبراهيم بن ميسرة {وإذا مروا باللغو مروا كراماً}. وقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} وهذه أيضاً من صفات المؤمنين {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} بخلاف الكافر, فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله, كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم} فقوله {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه, فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى. قال مجاهد قوله {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة: قوله تعالى {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه, فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا عبد الله بن حمران, حدثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً ولم يسمع ما سجدوا, أيسجد معهم ؟ قال: فتلا هذه الاَية: يعني أنه لا يسجد معهم, لأنه لم يتدبر أمر السجود, ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة بل يكون على بصيرة من أمره ويقين واضح بين. وقوله تعالى: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس: يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والاَخرة. قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً, ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الاَية فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله, لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو ولد ولد أو أخاً أو حميماً مطيعا لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله {هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} قال: يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر, حدثنا عبد الله بن المبارك, أخبرنا صفوان بن عمرو, حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً, فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت, فاستغضب المقداد, فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً, ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه, أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء بغيركم ؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية, ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق بين الوالد وولده, إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان يعلم أنه إن هلك دخل النار, فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار, وأنها التي قال الله تعالى: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} وهذا إسناد صحيح, ولم يخرجوه. وقوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماماً} قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير, فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم, وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع, وذلك أكثر ثواباً, وأحسن مآباً, ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به من بعده, أو صدقة جارية». ** أُوْلَـَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقّوْنَ فِيهَا تَحِيّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَاُ بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة, والأقوال والأفعال الجليلة, قال بعد ذلك كله {أولئك} أي المتصفون بهذه {يجزون} يوم القيامة {الغرفة} وهي الجنة, قال أبو جعفر الباقر وسعيد بن جبير والضحاك والسدي: سميت بذلك لا رتفاعها {بما صبروا} أي على القيام بذلك {ويلقون فيها} أي في الجنة {تحية وسلاماً} أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام, ويلقون التوقير والاحترام, فلهم السلام وعليهم السلام, فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. وقوله تعالى: {خالدين فيها} أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولاً, كما قال تعالى: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض} الاَية. وقوله تعالى: {حسنت مستقراً ومقاماً} أي حسنت منظراً وطابت مقيلاً ومنزلاً, ثم قال تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي} أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه, فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً. قال مجاهد وعمرو بن شعيب {قل ما يعبأ بكم ربي} يقول: ما يفعل بكم ربي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {قل ما يعبأ بكم ربي} الاَية, يقول: لولا إيمانكم. وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين, ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين. وقوله تعالى: {فقد كذبتم} أيها الكافرون {فسوف يكون لزاماً} أي فسوف يكون تكذيبكم لزاماً لكم, يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والاخرة, ويدخل في ذلك يوم بدر, كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الحسن البصري {فسوف يكون لزاماً} أي يوم القيامة, ولا منافاة بينهما. سورة الشعراء (ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة) بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** طسَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلّكَ بَاخِعٌ نّفْسَكَ أَلاّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرّحْمَـَنِ مُحْدَثٍ إِلاّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة. وقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} أي هذه آيات القرآن المبين, أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل, والغي والرشاد. وقوله تعالى: {لعلك باخع} أي مهلك {نفسك} أي مما تحرص وتحزن عليهم {ألا يكونوا مؤمنين} وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار, كما قال تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} كقوله {فعللك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} الاَية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية والضحاك والحسن وغيرهم {لعلك باخع نفسك} أي قاتل نفسك. قال الشاعر: ألا أيهذا الباخع الحزن نفسهلشيء نحته عن يديه المقادر ثم قال تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً, ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري. وقال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميعاً * أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}. وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} الاَية, فنفذ قدره, ومضت حكمته, وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم, وإنزال الكتب عليهم, ثم قال تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين} أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس, كما قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقال تعالى: {يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} وقال تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه} الاَية, ولهذا قال تعالى ههنا: {فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يسهزئون} أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق, فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره وشأنه, الذين اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه, وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان. قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي: الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم {إن في ذلك لاَية} أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء, ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه, وخالفوا أمره, وارتكبوا نهيه. وقوله {وإن ربك لهو العزيز} أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه {الرحيم} أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره, ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره. وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب. ** وَإِذْ نَادَىَ رَبّكَ مُوسَىَ أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتّقُونَ * قَالَ رَبّ إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىَ هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلاّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنّا مَعَكُمْ مّسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولآ إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنّهَا عَلَيّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن, وكلمه وناجاه, وأرسله واصطفاه, وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى: {أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} هذه أعذار سأل الله إزاحتها عنه, كما قال في سورة طه {قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري ـ إلى قوله ـ قد أوتيت سؤلك يا موسى}. وقوله تعالى: {ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} أي بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر {قال كلا} أي قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك كقوله {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً ـ أي برهاناً ـ فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} {فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} كقوله {إنني معكما سمع وأرى} أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي {فائتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين} كقوله في الاَية الأخرى {إنا رسولا ربك} أي كل منا أرسل إليك {أن أرسل معنا بني إسرائيل} أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك, فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون, وهم معك في العذاب المهين, فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية, ونظر إليه بعين الازدراء والغمص, فقال {ألم نربك فينا وليداً} الاية, أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا, وأنعمنا عليه مدة من السنين, ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلاً, وجحدت نعمتنا عليك, ولهذا قال {وأنت من الكافرين} أي الجاحدين. قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير, {قال فعلتها إذاً} أي في تلك الحال {وأنا من الضالين} أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي بالرسالة والنبوة. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم {وأنا من الضالين} أي الجاهلين. قال ابن جريج: وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً وجعلني من المرسلين} الاَية, أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر, فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت, وإن خالفته عطبت, ثم قال موسى {وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل} أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيداً وخدماً تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك, أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم, أي ليس ما ذكرته شيئاً بالنسبة إلى ما فعلت بهم. ** قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ * قَالَ إِنّ رَسُولَكُمُ الّذِيَ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله {وما رب العالمين} وذلك أنه كان يقول لقومه {ما علمت لكم من إله غيري} {فاستخف قومه فأطاعوه} وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا, ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون فلما قال له موسى: إني رسول رب العالمين. قال له فرعون: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري ؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف, حتى قال السدي: هذه الاَية كقوله تعالى: {قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط, فإنه لم يكن مقراً بالصانع حتى يسأل عن الماهية, بل كان جاحداً له بالكلية فيما يظهر, وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه, فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين {قال رب السموات والأرض وما بينهما} أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه, وإلهه لا شريك له, هو الذي خلق الأشياء كلها, العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات, والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار, وما بين ذلك من الهواء والطير, وما يحتوي عليه الجو, الجميع عبيد له خاضعون ذليلون {إن كنتم موقنين} أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة, فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلاً لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله {ألا تستمعون ؟} أي ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري ؟ فقال لهم موسى {ربكم ورب آبائكم الأولين} أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين, الذين كانوا قبل فرعون وزمانه. {قال} أي فرعون لقومه {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} أي ليس له عقل في دعواه أن ثم رباً غيري. {قال} أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة, فأجاب موسى بقوله {رب المشرق والمغرب ومابينهما إن كنتم تعقلون} أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الكواكب, والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب: ثوابتها وسياراتها, مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها, فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقاً, فليعكس الأمر وليجعل المشرق مغرباً والمغرب مشرقاً, كما قال تعالى عن {الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب} الاَية. ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته, عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه, واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام, فقال ما أخبر الله تعالى عنه:) ** قَالَ لَئِنِ اتّخَذْتَ إِلَـَهَاً غَيْرِي لأجْعَلَنّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * فَأَلْقَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنّ هَـَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوَاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلّ سَحّارٍ عَلِيمٍ لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل, عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه, وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال, فقال {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} فعند ذلك قال موسى {أولو جئتك بشيء مبين ؟} أي ببرهان قاطع واضح {قال فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة, ذات قوائم, وفم كبير, وشكل هائل مزعج {ونزع يده} أي من جبيه {فإذا هي بيضاء للناظرين} أي تتلألأ كقطعة من القمر, فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد, فقال للملإ حوله {إن هذا لساحر عليم} أي فاضل بارع في السحر, فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة, ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به, فقال {يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره} الاَية, أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا, فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه, ويغلبكم على دولتكم, فيأخذ البلاد منكم, فأشيروا علي فيه ماذا أصنع به ؟ {قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم} أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه, ويأتون بنظير ما جاء به, فتغلبه أنت, وتكون لك النصرة والتأييد, فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد, وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة. ** فَجُمِعَ السّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أَنتُمْ مّجْتَمِعُونَ * لَعَلّنَا نَتّبِعُ السّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمّا جَآءَ السّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنّ لَنَا لأجْراً إِن كُنّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنّكُمْ إِذاً لّمِنَ الْمُقَرّبِينَ * قَالَ لَهُمْ مّوسَىَ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزّةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَىَ مُوسَىَ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنّا بِرَبّ الْعَالَمِينَ * رَبّ مُوسَىَ وَهَارُونَ ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف, وفي سورة طه, وفي هذه السورة, وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم, فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون, وهذا شأن الكفر والإيمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون} {وقل جاء الحق وزهق الباطل} الاَية, ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر, وكانوا إذ ذاك من أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلاً في ذلك, وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً, قيل: كانوا اثني عشر ألفاً, وقيل خمسة عشر ألفاً, وقيل سبعة عشر ألفاً, وقيل تسعة عشر ألفاً, وقيل بضعة وثلاثين ألفاً, وقيل ثمانين ألفاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم بعدتهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعاً إلى أربعة منهم وهم رؤساؤهم, وهم: سابور, وعاذور, وحطحط, ويصفى, واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم, وقال قائلهم {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى, بل الرعية على دين ملكهم {فلما جاء السحرة} أي إلى مجلس فرعون, وقد ضربوا له وطاقاً, وجمع خدمه وحشمه ووزراءه ورؤساء دولته وجنود مملكته, فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا, أي هذا الذي جمعتنا من أجله, فقالوا {أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين} أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي, فعادوا إلى مقام المناطرة {قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا} وقد اختصر هذا ههنا, فقال لهم موسى {ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئاً هذ بثواب فلان, وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}. وقال في سورة طه {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ـ إلى قوله ـ ولا يفلح الساحر حيث أتى} وقال ههنا {فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون} أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئاً. قال الله تعالى: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ـ إلى قوله ـ رب موسى وهارون} فكان هذا أمراً عظيماً جداً, وبرهاناً قاطعاً للعذر, وحجة دامغة, وذلك أن الذي استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا, غلبوا وخضعوا, وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة, سجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة, فغلب فرعون غلباً لم يشاهد العالم مثله, وكان وقحاً جريئاً, عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل, فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وقال {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} الاَية. ** قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنّآ إِلَىَ رَبّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنّآ أَوّلَ الْمُؤْمِنِينَ تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم, وتوعدهم فما زادهم إلا إيماناً وتسليماً, وذلك إنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر, وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده به, وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه, ولهذا لما قال لهم فرعون {آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟} أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم, ولا تفتاتوا علي في ذلك, فإن أذنت لكم فعلتم, وإن منعتكم امتنعتم فإذني أنا الحاكم المطاع {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها, فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم, فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر ؟ هذا لا يقوله عاقل. ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب فقالوا {لا ضير} أي لاحرج, ولا يضرنا ذلك, ولا نبالي به {إنا إلى ربنا منقلبون} أي المرجع إلى الله عز وجل, وهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً, ولا يخفى عليه ما فعلت بنا, وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء, ولهذا قالوا {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا} أي ما قارفنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر {أن كنا أول المؤمنين} أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان. فقتلهم كلهم. ** وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيَ إِنّكُم مّتّبِعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * إِنّ هَـَؤُلآءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ * وَإِنّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِيَ إِسْرَائِيلَ لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر, وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه, وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون, لم يبق لهم إلا العذاب والنكال, فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر, وأن يمضي بهم حيث يؤمر, ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عز وجل, خرج بهم بعد ما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً, وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر, وذكر مجاهد رحمه الله أنه كسف القمر تلك الليلة, فالله أعلم, وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام, فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه, فاحتمل تابوته معهم, ويقال: إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام, وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك, إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله فقال: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق, عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعاهدنا ؟» فأتاه الأعرابي, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حاجتك ؟» قال: ناقة برحلها وأعنز يحتلبها أهلي, فقال «أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل ؟» فقال له أصحابه: وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله ؟ قال «إن موسى عليه السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق, فقال لبني إسرائيل: ما هذا ؟ فقال له علماء بني إسرائيل: نحن نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقاً من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا, فقال لهم موسى: فأيكم يدري أين قبر يوسف ؟ قالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل, فأرسل إليها فقال لها: دليني على قبر يوسف, فقالت: والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي, فقال لها: وما حكمك ؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة, فكأنه ثقل عليه ذلك, فقيل له: أعطها حكمها ـ قال ـ فانطلقت معهم إلى بحيرة ـ مستنقع ماء ـ فقالت لهم: انضبوا هذا الماء, فلما أنضبوه قالت: احفروا, فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف, فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار» وهذا حديث غريب جداً, والأقرب أنه موقوف, والله أعلم, فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب, غاظ ذلك فرعون, واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار, فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين, أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب, ونادى فيهم {إن هؤلاء} يعني بني إسرائيل {لشرذمة قليلون} أي لطائفة قليلة {وإنهم لنا لغائظون} أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا {وإنا لجميع حاذرون} أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم, وإني أريد أن أستأصل شأفتهم, وأبيد خضراءهم, فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم, قال الله تعالى: {فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم} أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم, وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق, والملك والجاه الوافر في الدنيا {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} الاَية, وقال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} الاَيتين. ** فَأَتْبَعُوهُم مّشْرِقِينَ * فَلَمّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىَ إِنّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاّ إِنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ مُوسَىَ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلّ فِرْقٍ كَالطّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمّ الاَخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَىَ وَمَن مّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في جحفل عظيم وجمع كبير, هو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه, أولي الحل والعقد والدول من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود, فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس, منها مائة ألف على خيل دهم, وقال كعب الأحبار: فيهم ثمانمائة ألف حصان أدهم, وفي ذلك نظر, والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل, والله سبحانه وتعالى أعلم, والذي أخبر به القرآن هو النافع, ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته, إلا أنهم خرجوا بأجمعهم {فأتبعوهم مشرقين} أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس, وهو طلوعها, {فلما تراءى الجمعان} أي رأى كل من الفريقين صاحبه, فعند ذلك {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر, وهو بحر القلزم, فصار أمامهم البحر وقد أدركهم فرعون بجنوده, فلهذا قالوا {إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين} أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون, فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم, وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد, وكان هارون عليه السلام في المقدمة, ومعه يوشع بن نون, ومؤمن آل فرعون, وموسى عليه السلام في الساقة, وقد ذكر غير واحد من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون, وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون, يقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله ههنا أمرك ربك أن تسير ؟ فيقول, نعم, فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل, فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر, فضربه وقال: انفلق بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان بن صالح, حدثنا الوليد, حدثنا محمد بن حمزة بن محمد بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء, والمكون لكل شيء, والكائن بعد كل شيء, اجعل لنا مخرجاً, فأوحى الله إليه {أن اضرب بعصاك البحر}. وقال قتادة: أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فاسمع له وأطع, فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب, ولا يدري من أي جانب يضربه موسى, فلما انتهى إليه موسى, قال له فتاه يوشع بن نون: يا نبي الله أين أمرك ربك عز وجل ؟ قال: أمرني أن أضرب البحر, قال: فاضربه. وقال محمد بن إسحاق, أوحى الله ـ فيما ذكر لي ـ إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له, قال: فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضاً فرقاً من الله تعالى, وانتظاراً لما أمره الله, وأوحى الله إلى موسى {أن اضرب بعصاك البحر} فضربه بها, ففيها سلطان الله الذي أعطاه, فانفلق, ذكر غير واحد أنه جاء فكناه, فقال: انفلق عليّ أبا خالد بحول الله. قال الله تعالى: {فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم} أي كالجبل الكبير, قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال عطاء الخراساني: هو الفج بين الجبلين. وقال ابن عباس صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق, وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض, وقام الماء على حيلة كالحيطان. وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته, فصار يبساً كوجه الأرض, قال الله تعالى: {فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى}. وقال في هذه القصة {وأزلفنا ثم الاَخرين} أي هنالك. قال ابن عباس وعطاء الخراساني وقتادة والسدي {وأزلفنا} أي قربنا من البحر فرعون وجنوده, وأدنيناهم إليه {وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الاَخرين} أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم, فلم يهلك منهم احد, وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا شبابة, حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك, فأمر بشاة فذبحت, وقال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط, فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر, فقال له: انفرق, فقال له البحر: قد استكبرت يا موسى, وهل انفرقت لأحد من ولد آدم, فأنفرق لك ؟ قال, ومع موسى رجل على حصان له, فقال له ذلك الرجل, أين أمرت يا نبي الله ؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه, قال: والله ما كذب ولا كذبت, ثم اقتحم الثانية فسبح ثم خرج, فقال: أين أمرت يا نبي الله ؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه. قال: والله ما كذب ولا كذبت, قال: فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر, فضربه موسى بعصاه, فانفلق, فكان فيه اثنا عشر سبطاً لكل سبط طريق يتراءون, فلما خرج أصحاب موسى, وتتام أصحاب فرعون, التقى البحر عليهم فأغرقهم. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله قال: فلما خرج آخر أصحاب موسى, وتكامل أصحاب فرعون, انطم عليهم البحر, فمارئي سواد أكثر من يومئذ, وغرق فرعون لعنه الله, ثم قال تعالى: {إن في ذلك لاَية} أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين, لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة {وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} تقدم تفسيره. ** وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِيَ إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء, أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل, وعبادة الله وحده لا شريك له, والتبري من الشرك وأهله, فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من قبل, أي من صغره إلى كبره, فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عز وجل {إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون} أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ {قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} أي مقيمين على عبادتها ودعائها {قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئاً من ذلك, وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون, فهم على آثارهم يهرعون, فعند ذلك قال لهم إبراهيم {أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} أي إن كانت هذه الأصنام شيئاً ولها تأثير, فلتخلص إلي بالمساءة, فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها, وهذا كما قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} الاَية, وقال هود عليه السلام {إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم فقال {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله} الاَية. وقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ـ إلى قوله ـ حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون} يعني لا إله إلا الله. ** الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ * وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ يعني لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء {الذي خلقني فهو يهدين} أي هو الخالق الذي قدر قدراً, وهدى الخلائق إليه, فكل يجري على ما قدر له, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {والذي هو يطعمني ويسقين} أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية, فساق المزن, وأنزل الماء وأحيا به الأرض, وأخرج به من كل الثمرات رزقاً للعباد, وأنزل الماء عذباً زلالا يسقيه مما خلق أنعاماً وأناسي كثيراً. وقوله {وإذا مرضت فهو يشفين} أسند المرض إلى نفسه, وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه, ولكن أضافه إلى نفسه أدباً, كما قال تعالى آمراً للمصلي أن يقول {اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخر السورة, فأسند الإنعام والهداية إلى الله تعالى, والغضب حذف فاعله أدباً, وأسند الضلال إلى العبيد, كما قالت الجن {وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} وكذا قال إبراهيم {وإذا مرضت فهو يشفين} أي إذا وقعت في مرض, فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه {والذي يميتني ثم يحيين} أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه, فإنه هو الذي يبدىء ويعيد {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدينا والاَخرة إلا هو, ومن يغفر الذنوب إلا الله, وهو الفعال لما يشاء. ** رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنّةِ النّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأبِيَ إِنّهُ كَانَ مِنَ الضّآلّينَ * وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً. قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب, وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله {وألحقني بالصالحين} أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والاَخرة, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى» قالها ثلاثاً. وفي الحديث في الدعاء «اللهم أحينا مسلمين, وأمتنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين» وقوله {واجعل لي لسان صدق في الاَخرين} أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير, كما قال تعالى: {وتركنا عليه في الاَخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين}. قال مجاهد وقتادة {واجعل لي لسان صدق في الاَخرين} يعني الثناء الحسن. قال مجاهد: كقوله تعالى {وآتيناه في الدنيا حسنة} الاَية, وكقوله {وآتيناه أجره في الدنيا} الاَية, قال ليث بن أبي سليم: كل ملة تحبه وتتولاه, وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى: {واجعلني من ورثة جنة النعيم} أي أنعم عليّ في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي, وفي الاَخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم. وقوله {واغفر لأبي} الاَية, كقوله {ربنا اغفر لي ولوالدي} وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام, كما قال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ـ إلى قوله ـ إن إبراهيم لأواه حليم} وقد قطع تعالى الإلحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى: {قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ـ إلى قوله ـ وما أملك لك من الله من شيء}. وقوله: {ولا تخزني يوم يبعثون} أي أجرني من الخزي يوم القيامة يوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الاَية: قال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة». وفي رواية أخرى: حدثنا إسماعيل, حدثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون, فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين» هكذا رواه عند هذه الاَية. وفي أحاديث الأنبياء بهذا الإسناد بعينه منفرداً به, ولفظه «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة, وعلى وجه آزر قترة وغبرة, فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصيني, فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك, فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين, ثم يقال: يا إبراهيم انظر تحت رجلك, فينظر, فإذا هو بذيخ متلطخ, فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» وقال عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه الكبير. وقوله {ولا تخزني يوم يبعثون} أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله, حدثني أبي, حدثني إبراهيم بن طهمان عن محمد بن عبد الرحمن, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة, وقال له: قد نهيتك عن هذا فعصيتني, قال: لكني اليوم لا أعصيك واحدة, قال: يا رب وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون, فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الأبعد. قال: يا إبراهيم إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال: يا إبراهيم أين أبوك ؟ قال: أنت أخذته مني, قال: انظر أسفل منك, فنظر, فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه, فأخذ بقوائمه فألقي في النار» وهذا إسناد غريب, وفيه نكارة, والذيخ هو الذكر من الضباع, كأنه حول آزر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك, وقد رواه البزار بإسناده من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه غرابة, ورواه أيضاً من حديث قتادة عن جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقوله {يوم لا ينفع مال ولا بنون} أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً {ولا بنون} أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً, ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله وإخلاص الدين له, والتبري من الشرك وأهله, ولهذا قال {إلا من أتى الله بقلب سليم} أي سالم من الدنس والشرك. قال ابن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حق, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من في القبور. وقال ابن عباس {إلا من أتى الله بقلب سليم} حَيِيَ أن يشهد أن لا إله إلا الله. وقال مجاهد والحسن وغيرهما {بقلب سليم} يعني من الشرك. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح, وهو قلب المؤمن, لأن قلب المنافق مريض, قال الله تعالى: {في قلوبهم مرض}. قال أبو عثمان النيسابوري: هو القلب السالم من البدعة, المطمئن إلى السنة. ** وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّهِ إِن كُنّا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ * وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ {أزلفت الجنة} أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها, وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في الدنيا, وعملوا لها في الدنيا {وبرزت الجحيم للغاوين} أي أظهرت وكشف عنها, وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر, وقيل لأهلها تقريعاً وتوبيخاً {أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون} أي ليست الاَلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئاً, ولا تدفع عن أنفسها, فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون. وقوله {فكبكبوا فيها هم والغاوون} قال مجاهد: يعني فَدُهْوِرُوا فيها. وقال غيره: كبوا فيها, والكاف مكررة, كما يقال صرصر, والمراد أنه ألقى بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك {وجنود إبليس أجمعون} أي ألقوا فيها عن آخرهم {قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين} أي يقول الضعفاء للذين استكبروا: إنا كنا لكم تبعاً, فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ؟ ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة {تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين} أي نجعل أمركم مطاعاً كما يطاع أمر رب العالمين, وعبدناكم مع رب العالمين {وما أضلنا إلا المجرمون} أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون {فما لنا من شافعين} قال بعضهم: يعني من الملائكة كما يقولون {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل} وكذا قالوا {فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم} أي قريب. قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع, وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع {فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} وذلك أنهم يتمنون أن يردوا إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون, والله تعالى يعلم أنهم لو ردّهم إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون, وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة (ص) ثم قال تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} ثم قال تعالى: {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين} أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد لاَية, أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله {وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. ** كَذّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام, وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما عبدت الأصنام والأنداد, فبعثه الله ناهياً عن ذلك ومحذراً من وبيل عقابه, فكذبه قومه, فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى: ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل, فلهذا قال تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره {إني لكم رسول أمين} أي إني رسول من الله إليكم, أمين فيما بعثني الله به, أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها {فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر} الاَية, أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم, بل أدّخر ثواب ذلك عند الله {فاتقوا الله وأطيعون} فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه. ** قَالُوَاْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتّبَعَكَ الأرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاّ عَلَىَ رَبّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مّبِينٌ يقولون: لا نؤمن لك, ولا نتبعك ونتساوى في ذلك بهؤلاء الأراذل, الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا, ولهذا {قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون} أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ؟ ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه, لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص, إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي, وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل {إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين} كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه, فأبى عليهم ذلك وقال {وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين} أي إنما بعثت نذيراً, فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه, سواء كان شريفاً أو وضيعاً, أو جليلاً أو حقيراً. ** قَالُواْ لَئِنْ لّمْ تَنْتَهِ يَنُوحُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ * قَالَ رَبّ إِنّ قَوْمِي كَذّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِي وَمَن مّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم, يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد, وقالوا في الاَخر {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} أي لئن لم تنته من دعوتك إيانا إلى دينك, {لتكونن من المرجومين} أي لنرجمنك, فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه, فقال {رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحاً} الاَية, كما قال في الاَية الأخرى {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} إلى آخر الاَية. وقال ههنا {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين} والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين, أي أنجينا نوحاً ومن اتبعه كلهم, وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. ** كَذّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّارِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتّقُواْ الّذِيَ أَمَدّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام, أنه دعا قومه عاداً, وكان قومه يسكنون الأحقاف, وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت, من جهة بلاد اليمن, وكان زمانهم بعد قوم نوح, كما قال في سورة الأعراف {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة} وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد, والطول المديد, والأرزاق الدارة, والأموال والجنات والأنهار, والأبناء والزروع والثمار, وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه, فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً, فدعاهم إلى الله وحده, وحذرهم نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه, فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة, يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً, ولهذا قال {أتبنون بكل ريع آية} أي معلماً بناء مشهوراً {تعبثون} أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة, ولهذا أنكر عليه نبيهم عليهم السلام ذلك, لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة, واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الاَخرة, ولهذا قال {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} قال مجاهد: والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد, وفي رواية عنه: بروج الحمام. وقال قتادة: هي مأخذ الماء. قال قتادة: وقرأ بعض الكوفيين {وتتخذون مصانع كأنكم خالدون}. وفي القراءة المشهورة {وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون} أي لكي تقيموا فيها أبداً وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم, كما زال عمن كان قبلكم. وروى ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا الحكم بن موسى, حدثنا الوليد, حدثنا ابن عجلان, حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر, قام في مسجدهم فنادى: يا أهل دمشق, فاجتمعوا إليه, فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: ألا تستحيون, ألا تستحيون, تجمعون ما لا تأكلون, وتبنون ما لا تسكنون, وتأملون ما لا تدركون, إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون, ويبنون فيوثقون, ويأملون فيطيلون, فأصبح أملهم غروراً, وأصبح جمعهم بوراً, وأصبحت مساكنهم قبوراً, ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً وركاباً, فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين ؟. وقوله {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت {فاتقوا الله وأطيعون} أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم, ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم, فقال {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون, أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} أي إن كذبتم وخالفتم, فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب, فما نفع فيهم. ** قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَـَذَا إِلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * فَكَذّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ يقول تعالى مخبراً عن جواب قوم هود له بعد ما حذرهم وأنذرهم, ورغبهم ورهبهم, وبين لهم الحق)ووضحه {قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين} أي لا نرجع عما نحن عليه {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك, وما نحن لك بمؤمنين} وهكذا الأمر, فإن الله تعالى قال {إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} وقال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الاَية, وقولهم {إن هذا إلا خلق الأولين} قرأ بعضهم {إن هذا إلا خَلْق الأولين} بفتح الخاء وتسكين اللام. قال ابن مسعود والعوفي عن عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد: يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلاأخلاق الأولين, كما قال المشركون من قريش {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً} وقال {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون * فقد جاءوا ظلماً وزوراً * وقالوا أساطير الأولين} وقال {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} وقرأ آخرون {إن هذا إلا خلق الأولين} بضم الخاء واللام, يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الاَباء والأجداد, ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم, نعيش كما عاشوا, ونموت كما ماتوا, ولا بعث ولامعاد, ولهذا قالوا {وما نحن بمعذبين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {إن هذا إلا خلق الأولين} يقول: دين الأولين. وقاله عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختاره ابن جرير. وقوله تعالى: {فكذبوه فأهلكناهم} أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده, فأهلكهم الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية, أي ريحاً شديدة الهبوب, ذات برد شديد جداً, فكان سبب إهلاكهم من جنسهم, فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره, فسلط الله عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة, كما قال تعالى: {ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد} وهم عاد الأولى, كما قال تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى} وهم من نسل إرم بن سام بن نوح {ذات العماد} الذين كانو يسكنون العمد, ومن زعم أن إرم مدينة, فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب, وليس لذلك أصل أصيل, ولهذا قال {التي لم يخلق مثلها في البلاد} أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم, ولو كان المراد بذلك مدينة لقال: التي لم يبن مثلها في البلاد, وقال تعالى: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة ؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون} وقد قدمنا أن الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور, عتت على الخزنة, فأذن الله لها في ذلك, فسلكت فحصبت بلادهم, فحصبت كل شيء لهم, كما قال تعالى: {تدمر كل شيء بأمر ربها} الاَية, وقال تعالى: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية ـ إلى قوله ـ حسوماً ـ أي كاملة ـ فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} أي بقوا أبداناً بلا رؤوس, وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء, ثم تنكسه على أم رأسه, فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه, كأنهم أعجاز نخل منقعر, وقد كانو تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات, وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم, فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئاً {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} ولهذا قال تعالى: {فكذبوه فأهلكناهم} الاَية. ** كَذّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ وهذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام, أنه بعثه إلى قومه ثمود, وكانوا عرباً يسكنون مدينة الحِجْر التي بين وداي القرى وبلاد الشام, ومساكنهم معروفة مشهورة, وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام, فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك, وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام. فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة, فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه, وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجراً منهم, وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عز وجل, ثم ذكرهم آلاء الله علهيم, فقال:) ** أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ * فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوَاْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ يقول لهم واعظاً لهم, ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم, ومذكراً بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة وجعلهم في أمن من المحذورات, وأنبت لهم من الجنات, وفجر لهم من العيون الجاريات, وأخرج لهم من الزروع والثمرات, ولهذا قال {ونخل طلعها هضيم}. قال العوفي عن ابن عباس: أينع وبلغ, فهو هضيم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {ونخل طلعها هضيم} يقول: معشبة. وقال إسماعيل بن أبي خالد عن عمرو بن أبي عمرو ـ وقد أدرك الصحابة ـ عن ابن عباس في قوله {ونخل طلعها هضيم} قال: إذا رطب واسترخى, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وروي عن أبي صالح نحو هذا. وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء {ونخل طلعها هضيم} قال: هو المذنب من الرطب, وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر, وقال ابن جريج: سمعت عبد الكريم, وأبا أمية, سمعت مجاهداً يقول {ونخل طلعها هضيم} قال: حين يطلع تقبض عليه فتهضمه, فهو من الرطب الهضيم, ومن اليابس الهشيم, تقبض عليه فتهشمه. وقال عكرمة وقتادة: الهضيم الرطب اللين. وقال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً, فهو هضيم. وقال مرة: هو الطلع حين يتفرق ويخضر. وقال الحسن البصري: هو الذي لا نوى له, وقال أبو صخر: ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم ؟ فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض, فهو الهضيم. وقوله {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين} قال ابن عباس وغير واحد: يعني حاذقين. وفي رواية عنه: شرهين أشرين, وهو اختيار مجاهد وجماعة, ولا منافاة بينهما, فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشراً وبطراً وعبثاً من غير حاجة إلى سكناها, وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها, كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم, ولهذا قال {فاتقوا الله وأطيعون} أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والاَخرة من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا {ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} يعني رؤساءهم وكبراءهم, الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق. ** قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ * مَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ هَـَذِهِ نَاقَةٌ لّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مّعْلُومٍ * وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ يقول تعالى مخبراً عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل أنهم {قالوا إنما أنت من المسحرين} قال مجاهد وقتادة: يعنون من المسحورين. وروى أبو صالح عن ابن عباس {من المسحرين} يعني من المخلوقين, واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر: فإن تسألينا: فيم نحن ؟ فإنناعصافير من هذا الأنام المسحر يعني الذين لهم سحور, والسحر هو الرئة. والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون: إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك, ثم قالوا {ما أنت إلا بشر مثلنا} يعني فكيف أوحي إليك دوننا ؟ كما قالوا في الاَية الأخرى {أءلقي الذكر عليه من بيننا ؟ بل هو كذاب أشر * سيعلمون غداً من الكذاب الأشر} ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم, وقد اجتمع ملؤهم, وطلبوا منه أن يخرج لهم الاَن من هذه الصخرة ناقة عشراء إلى صخرة عندهم ـ من صفتها كذا وكذا, فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح. العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه, فأعطوه ذلك, فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى, ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم, فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها, فآمن بعضهم وكفر أكثرهم {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} يعني ترد ماءكم يوماً, ويوماً تردونه أنتم {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم} فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء, فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر, ترد الماء وتأكل الورق والمرعى ـ وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً ورياً, فلما طال عليهم الأمد وحضر شقاؤهم, تمالؤوا على قتلها وعقرها {فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب} وهو أن أرضهم زلزلت زلزالاً شديداً, وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها, وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون, وأصبحوا في ديارهم جاثمين {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. ** كَذّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله لوط عليه السلام, وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام, وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام, وكانوا يسكنون سدوم وأعمالها التي أهلكها الله بها, وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة, وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس, بينها وبين بلاد الكرك والشوبك, فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له, وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم, ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله, من إتيان الذكور دون الإناث, ولهذا قال تعالى:) ** أَتَأْتُونَ الذّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبّكُمْ مّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُواْ لَئِن لّمْ تَنتَهِ يَلُوطُ لَتَكُونَنّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ * رَبّ نّجِنِي وَأَهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ * فَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمّ دَمّرْنَا الاَخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش, وغشيانهم الذكور, وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم, ما كان جوابهم له إلا أن قالوا {لئن لم تنته يا لوط} أي عما جئتنا به {لتكونن من المخرجين} أي ننفيك من بين أظهرنا, كما قال تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} فلما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم, تبرأ منهم وقال {إني لعملكم من القالين} أي المبغضين, لا أحبه ولا أرضى به, وإني بريء منكم, ثم دعا الله عليهم فقال {رب نجني وأهلي مما يعملون} قال الله تعالى: {فنجيناه وأهله أجمعين} أي كلهم {إلا عجوزاً في الغابرين} وهي امرأته, وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها, وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود, وكذا في الحجر حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته, وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه, فصبروا لأمر الله واستمروا, وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم, وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود, ولهذا قال تعالى: {ثم دمرنا الاَخرين * وأمطرنا عليهم مطراً ـ إلى قوله ـ وإن ربك لهو العزيز الرحيم}. ** كَذّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتّقُونَ * إِنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَىَ رَبّ الْعَالَمِينَ هؤلاء ـ يعني أصحاب الأيكة ـ هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ههنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة, وهي شجرة, وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها, فلهذا لما قال: كذب أصحاب الاَيكة المرسلين لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب, وإنما قال {إذ قال لهم شعيب} فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه, وإن كان أخاهم نسباً. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة, فظن أن أصحاب الاَيكة غير أهل مدين, فزعم أن شعيباً عليه السلام بعثه الله إلى أمتين, ومنهم من قال: ثلاث أمم. وقد روى إسحاق بن بشر الكاهلي ـ وهو ضعيف ـ حدثني ابن السدي عن أبيه, وزكريا بن عمر عن خصيف عن عكرمة, قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً, مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة, ومرة إلى أصحاب الأيكة, فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة, وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى: {وأصحاب الرس} قوم شعيب. وقوله {وأصحاب الأيكة} قوم شعيب, وقاله إسحاق بن بشر. وقال غير جويبر: أصحاب الأيكة ومدين هما واحد, والله أعلم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة, عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعد, عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان, بعث الله إليهما شعيباً النبي عليه السلام» وهذا غريب, وفي رفعه نظر, والأشبه أن يكون موقوفاً, والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء, ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان, كما في قصة مدين سواء بسواء, فدل ذلك على أنهما أمة واحدة. ** أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلاَ تَبْخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتّقُواْ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلّةَ الأوّلِينَ يأمرهم الله تعالى بإيفاء المكيال والميزان, وينهاهم عن التطفيف فيهما, فقال {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين} أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم, ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصاً, وتأخذوه إذا كان لكم تاماً وافياً, ولكن خذوا كما تعطون, وأعطوا كما تأخذون {وزنوا بالقسطاس المستقيم} والقسطاس هو الميزان, وقيل هو القبان. قال بعضهم: هو معرب من الرومية. قال مجاهد: القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية. وقال قتادة القسطاس العدل. وقوله {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} أي لا تنقصوهم أموالهم {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} يعني قطع الطريق, كما قال في الاَية الأخرى {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون}. وقوله {واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين} يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل, كما قال موسى عليه السلام {ربكم ورب آبائكم الأولين} قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم {والجبلة الأولين} يقول: خلق الأولين وقرأ ابن زيد {ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً}. ** قَالُوَاْ إِنّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نّظُنّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مّؤْمِنِينَ * وَإِنّ رَبّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها, تشابهت قلوبهم حيث قالوا {إنما أنت من المسحرين} يعنون من المسحورين كما تقدم {وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين} أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا {فأسقط علينا كسفاً من السماء} قال الضحاك: جانباً من السماء. وقال قتادة: قطعاً من السماء. وقال السدي: عذاباً من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} إلى أن قالوا {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} وقوله {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} الاَية, وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة {فأسقط علينا كسفاً من السماء} الاَية, {قال ربي أعلم بما تعملون} يقول: الله أعلم بكم, فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به, وهو غير ظالم لكم, وهكذا وقع بهم جزاء كما سألوا جزاء وفاقاً, ولهذا قال تعالى: {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم, فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام, لا يكنهم منه شيء, ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم, فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر, فلما اجتمعوا كلهم تحتها, أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً, ورجفت بهم الأرض, وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم, ولهذا قال تعالى: {إنه كان عذاب يوم عظيم}. وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في ثلاثة مواطن, كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين, وذلك لأنهم قالوا {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} فأرجفوا نبي الله ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة, وفي سورة هود قال {فأخذتهم الصيحة} وذلك لأنهم استهزءوا بنبي الله في قولهم {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء, فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم, فقال {فأخذتهم الصيحة} الاَية, وههنا قالوا {فأسقط علينا كسفاً من السماء} الاَية, على وجه التعنت والعناد, فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم}. قال قتادة: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء, ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة, فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب تحتها برداً وراحة, فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعاً فاستظلوا تحتها فأججت عليهم ناراً, وهكذا روي عن عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: بعث الله إليهم الظلة حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس, فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى, وقال محمد بن كعب القرظي: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا منها, فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد, ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم, فأرسل الله عليهم الظلة, فدخل تحتها رجل فقال: ما رأيت كاليوم ظلاً أطيب ولا أبرد من هذا, هلموا أيها الناس, فدخلوا جميعاً تحت الظلة, فصاح بهم صيحة واحدة, فماتوا جميعاً, ثم تلا محمد بن كعب {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم}. وقال محمد بن جرير: حدثني الحارث, حدثني الحسن, حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد, حدثنا حاتم بن أبي صغيرة, حدثني يزيد الباهلي, سألت ابن عباس عن هذه الاَية {فأخذهم عذاب يوم الظلة} الاَية, قال: بعث الله عليهم رعداً وحراً شديداً, فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية, فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس, فوجدوا لها برداً ولذة, فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً. قال ابن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم {إن في ذلك لاَية وما كان أكثرهم مؤمنين, وإن ربك لهو العزيز الرحيم} أي العزيز في انتقامه من الكافرين, الرحيم بعباده المؤمنين. ** وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأمِينُ * عَلَىَ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مّبِينٍ يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم {وإنه} أي القرآن ذكره في أول السورة في قوله {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث} الاَية {لتنزيل رب العالمين} أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك {نزل به الروح الأمين} وهو جبريل عليه السلام, قاله غير واحد من السلف: ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج, وهذا مما لا نزاع فيه. قال الزهري: وهذه كقوله {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه} وقال مجاهد: من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض {على قلبك لتكون من المنذرين} أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى {على قلبك} يا محمد سالماً من الدنس والزيادة والنقص {لتكون من المنذرين} أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه, وتبشر به المؤمنين المتبعين له. وقوله تعالى: {بلسان عربي مبين} أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك, أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل, ليكون بيناً واضحاً ظاهراً, قاطعاً للعذر, مقيماً للحجة دليلاً إلى المحجة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي, حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن إذ قال لهم «كيف ترون بواسقها ؟» قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال «فكيف ترون قواعدها ؟» قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال «فكيف ترون جريها ؟» قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال «فيكف ترون رحاها استدارت» قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها. قال «فكيف ترون برقها: أوميض أم خَفق أم يشق شقاً ؟» قالوا: بل يشق شقاً. قال «الحياء الحياء إن شاء الله». قال: فقال رجل: يا رسول الله, بأبي وأمي, ما أفصحك, ما رأيت الذي هو أعرب منك. قال: فقال «حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول {بلسان عربي مبين}» وقال سفيان الثوري: لم ينزل وحي إلا بالعربية, ثم ترجم كل نبي لقومه, واللسان يوم القيامة بالسريانية, فمن دخل الجنة تكلم بالعربية, رواه ابن أبي حاتم. ** وَإِنّهُ لَفِي زُبُرِ الأوّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزّلْنَاهُ عَلَىَ بَعْضِ الأعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ يقول تعالى: وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه, كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} والزبر ههنا هي الكتب, وهي جمع زبور, وكذلك الزبور وهو كتاب داود, وقال الله تعالى: {وكل شيء فعلوه في الزبر} أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة, ثم قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها, والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته, كما أخبر بذلك من آمن منهم, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم, قال الله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي} الاَية. ثم قال تعالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن: أنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به, ولهذا قال {ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين} كما أخبر عنهم في الاَية الأخرى {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا} الاَية, وقال تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى} الاَية, وقال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} الاَية. ** كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّىَ يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ * فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِن مّتّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمّ جَآءَهُم مّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أَغْنَىَ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يُمَتّعُونَ * وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَىَ وَمَا كُنّا ظَالِمِينَ يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد, أي أدخلناه في قلوب المجرمين {لا يؤمنون به} أي بالحق {حتى يروا العذاب الأليم} أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم, ولهم اللعنة ولهم سوء الدار {فيأتيهم بغتة} أي عذاب الله بغتة {وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون} أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله, كما قال الله تعالى: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ـ إلى قوله ـ ما لكم من زوال} فكل ظالم وفاجر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً, هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ـ إلى قوله ـ قال قد أجيبت دعوتكما} فأثرت هذه الدعوة في فرعون, فما آمن حتى رأى العذاب الأليم {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ـ إلى قوله ـ وكنت من المفسدين} وقال تعالى: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} الاَيات. وقوله تعالى: {أفبعذابنا يستعجلون} إنكار عليهم وتهديد لهم, فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً: ائتنا بعذاب الله, كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب} الاَيات, ثم قال {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال, ثم جاءهم أمر الله أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} وقال تعالى: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر} وقال تعالى: {وما يغني عنه ماله إذا تردى} ولهذا قال تعالى: {ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون}. وفي الحديث الصحيح «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط ؟ هل رأيت نعيماً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب, ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا, فيصبغ في الجنة صبغة, ثم يقال له: هل رأيت بؤساً قط ؟ فيقول: لا والله يا رب» أي ما كأن شيئاً كان. ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت: كأنك لم تؤثر من الدهر ليلةإذا أنت أدركت الذي أنت تطلب ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم, والإنذار لهم, وبعثة الرسل إليهم, وقيام الحجة عليهم, ولهذا قال تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا ظالمين} كما قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلو عليهم آياتنا ـ إلى قوله ـ وأهلها ظالمون}. ** وَمَا تَنَزّلَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله {وما تنزلت به الشياطين} ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم, أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم, لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد, وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ونور وهدى وبرهان عظيم, فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة, ولهذا قال تعالى: {وما ينبغي لهم}. وقوله تعالى: {وما يستطيعون} أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك, قال الله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله} ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته, لما وصلوا إلى ذلك, لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله, لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً في مدة إنزال القرآن على رسول الله, فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر, وهذا من رحمة الله بعباده, وحفظه لشرعه, وتأييده لكتابه ولرسوله, ولهذا قال تعالى: {إنهم عن السمع لمعزولون} كما قال تعالى مخبراً عن الجن {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الاَن يجد له شهاباً رصداً * ـ إلى قوله ـ أم أراد بهم ربهم رشداً}. ** فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ * الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ * إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له, ومخبراً أن من أشرك به عذبه. ثم قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلمأن ينذر عشيرته الأقربين, أي الأدنين إليه, وأنه لا يخلص أحداً منهم إلا إيمانه بربه عز وجل, وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين, ومن عصاه من خلق الله كائناً من كان فليتبرأ منه, ولهذا قال تعالى: {فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها, كما قال تعالى: {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون}, وقال تعالى: {لتنذر أم القرى ومن حولها} وقال تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم}, وقال تعالى: {لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً}, وقال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ}, كما قال تعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده}. وفي صحيح مسلم «والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني, ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الاَية الكريمة فلنذكرها: (الحديث الأول) قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نمير, عن الأعمش عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عز وجل {وأنذر عشيرتك الأقربين} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا, فصعد عليه ثم نادى «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد المطلب, يا بني فهر, يا بني لؤي, أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟» قالوا: نعم. قال «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم, أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله {تبت يدا أبي لهب وتب} ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به. (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد, يا صفية ابنة عبد المطلب, يا بني عبد المطلب, لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم» انفرد بإخراجه مسلم. (الحديث الثالث) قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً, فعم وخص فقال «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار, يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار, يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار, فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلا أن لكم رحماً سأبلها ببلالها». ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه, ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلاً, ولم يذكر فيه أبا هريرة, والموصول هو الصحيح, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة, وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا محمد يعني ابن إسحاق, عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة, رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله , يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله, فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً, سلاني من مالي ما شئتما» تفرد به من هذا الوجه, وتفرد به أيضاً عن معاوية عن زائدة, عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ورواه أيضاً عن حسن حدثنا ابن لهيعة: عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً, وقال أبو يعلى: حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى بن وردان عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم «يا بني قصي, يا بني هاشم, يا بني عبد مناف, أنا النذير, والموت المغير, والساعة الموعد». (الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو, قالا: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر, فجعل ينادي: «يا بني عبد مناف, إنما أنا نذير, وإنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله يخشى أن يسبقوه, فجعل ينادي ويهتف: يا صباحاه» ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن بن سهل النهدي, عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به. (الحديث الخامس) قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية {وأنذر عشيرتك الأقربين} جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته, فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا, قال: وقال لهم «من يضمن عني ديني ومواعيدي, ويكون معي في الجنة, ويكون خليفتي في أهلي ؟» فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله أنت كنت بحراً من يقوم بهذا, قال: ثم قال الاَخر ـ ثلاثاً ـ قال: فعرض ذلك على أهل بيته, فقال علي: أنا. (طريق أخرى بأبسط من هذا السياق) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو دعا رسول الله ـ بني عبد المطلب وهم رهط, وكلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق, فصنع لهم مداً من طعام فأكلوا حتى شبعوا, وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس, ثم دعا بغمر فشربوا حتى رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب, وقال «يابني عبد المطلب, إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة, فقد رأيتم من هذه الاَية ما رأيتم, فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي» قال: فلم يقم إليه أحد, قال: فقمت إليه وكنت أصغر القوم, قال: فقال «اجلس» ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي «اجلس» حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي. (طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر) قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ, أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا أحمد بن عبد الجبار, حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل, واستكتمني اسمه, عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عرفت أني إن بادأتُ بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت, فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك» قال علي رضي الله عنه فدعاني, فقال: يا علي «إن الله تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين, فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره, فصمت عن ذلك, ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك, فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام, وأعد لنا عس لبن, ثم اجمع لي بني عبد المطلب» ففعلت فاجتمعوا إليه, وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً, فيهم أعمامه: أبو طالب, وحمزة, والعباس, وأبو لهب الكافر الخبيث, فقدمت إليهم تلك الجفنة, فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة فشقها بأسنانه, ثم رمى بها في نواحيها, وقال «كلوا بسم الله» فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم, والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اسقهم يا علي» فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت, ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا عنه, وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اسقهم يا علي» فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً, وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله, فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام, فقال: لهدما سحركم صاحبكم, فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان من الغد, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب, فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ثم جمعتهم له, فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس, فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه, وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به, إني قد جئتكم بخير الدنيا والاَخرة» قال أحمد بن عبد الجبار: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال عن عمرو عن عبد الله بن الحارث. وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق, عن عبد الغفار بن القاسم بن أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث, عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله, وزاد بعد قوله «إني جئتكم بخير الدنيا والاَخرة, وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا ؟» قال: فأحجم القوم عنها جميعاً وقلت ـ وإني لأحدثهم سناً, وأمرصهم عيناً, وأعظمهم بطناً, وأحمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه, فأخذ برقبتي ثم قال «إن هذا أخي, وكذا وكذا, فاسمعوا له وأطيعوا» قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم, وهو متروك كذاب شيعي, اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث, وضعفه الاَئمة رحمهم الله. (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا الحسين عن عيسى بن ميسرة الحارثي, حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث قال: قال علي رضي الله عنه: لما نزلت هذه الاَية {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا» قال: ففعلت, ثم قال «ادع بني هاشم» قال: فدعوتهم وإنهم يومئذٍ أربعون غير رجل, أو أربعون ورجل, قال: وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها, قال: فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذروتها ثم قال «فأكلوا حتى شبعوا, وهي على هيئتها لم يزرؤوا منها إلا اليسير, قال: ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رووا, قال: وفضل فضل, فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم فبدروه الكلام, فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام» فصنعت, قال: فدعاهم فلما أكلوا وشربوا, قال: فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى, فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال لي «اصنع لي رجل شاة بصاع طعام»فصنعت, قال: فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام, فقال «أيكم يقضي عني دَيْني, ويكون خليفتي في أهلي ؟» قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله, قال: وسكت أنا لسن العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس, فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله. قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة, وإني لأعمش العينين, ضخم البطن, خمش الساقين, فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه, ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله, يعني إن قتل في سبيل الله, كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل, فلما أنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} فعند ذلك أمن, وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الاَية {والله يعصمك من الناس} ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيماناً وإيقاناً وتصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه, ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد هذا ـ والله أعلم ـ دعاؤه الناس جهرة على الصفا, وإنذاره لبطون قريش عموماً وخصوصاً, حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الأعلى, أي إنما أنا نذير والله يهدي من يشاء إلى صرط مستقيم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي ـ غير منسوب ـ من طريق عمرو بن سمرة, عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم, وولده إلى جنبه, وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون, فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم, وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «أزهد الناس في الدنيا الأنبياء, وأشدهم عليهم الأقربون» وذلك فيما أنزل الله عز وجل, قال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين ـ إلى قوله ـ فقل إني بريء مما تعملون}. وقوله تعالى: {وتوكل على العزيز الرحيم} أي في جميع أمورك, فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك. وقوله تعالى: {الذي يراك حين تقوم} أي هو معتن بك كما قال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} قال ابن عباس {الذي يراك حين تقوم} يعني إلى الصلاة. وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده. وقال الحسن {الذي يراك حين تقوم} إذا صليت وحدك, وقال الضحاك {الذي يراك حين تقوم} أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة {الذي يراك} قائماً وجالساً وعلى حالاتك. وقوله تعالى: {وتقلبك في الساجدين} قال قتادة {الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين} قال: في الصلاة يراك وحدك, ويراك في الجمع, وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري. وقال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه, ويشهد لهذا ما صح في الحديث «سووا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري» وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي حتى أخرجه نبياً. وقوله تعالى: {إنه هو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده, العليم بحركاتهم وسكناتهم, كما قال تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه} الاَية. ** هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَىَ مَن تَنَزّلُ الشّيَاطِينُ * تَنَزّلُ عَلَىَ كُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشّعَرَآءُ يَتّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق, وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه, أو أنه أتاه به رئي من الجان, فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم, ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله, وأنه تنزيله ووحيه, نزل به ملك كريم أمين عظيم, وأنه ليس من قبل الشياطين, فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة, ولهذا قال الله تعالى: {هل أنبئكم} أي أخبركم {على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم} أي كذوب في قوله وهو الأفاك {أثيم} وهو الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان, وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة, فإن الشياطين أيضاً كذبة فسقة {يلقون السمع} أي يسترقون السمع من السماء, فيسمعون الكلمة من علم الغيب, فيزيدون معها مائة كذبة, ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس, فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء, كما صح بذلك الحديث. كما رواه البخاري من حديث الزهري: أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان, فقال «إنهم ليسوا بشيء» قالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقاً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج, فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة». وروى البخاري أيضاً: حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله, كأنها سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ (قالوا للذي قال): الحق, وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترقو السمع, ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض ـ وصف سفيان بيده, فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاَخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائة كذبة, فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» تفرد به البخاري. وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس, عن رجال من الأنصار قريباً من هذا, وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ {حتى إذا فزع عن قلوبهم} الاَية. وقال البخاري: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الملائكة تحدث في العنان ـ والعنان: الغمام ـ بالأمر في الأرض, فتسمع الشياطين الكلمة, فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة, فيزيدون معها مائة كذبة». ورواه البخاري في موضع آخر في كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي مريم, عن الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن, عن عروة عن عائشة بنحوه. وقوله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن, وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما. وقال عكرمة: كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس, ولهذا فئام من الناس, فأنزل الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون}. وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا ليث عن ابن الهاد عن يُحَنّس مولى مصعب بن الزبير, عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «خذوا الشيطان ـ أو أمسكوا الشيطان ـ لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً». وقوله تعالى: {ألم تر أنهم في كل واد يهيمون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: في كل لغو يخوضون. وقال الضحاك عن ابن عباس: في كل فن من الكلام, وكذا قال مجاهد وغيره. وقال الحسن البصري: قد والله رأينا أوديتهم التي يهيمون فيها مرة في شتمه فلان, ومرة في مدحة فلان. وقال قتادة: الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل. وقوله تعالى: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} قال العوفي عن ابن عباس: كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار, والاَخر من قوم آخرين, وإنهما تهاجيا, فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه, وهم السفهاء, فقال الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون}. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أكثر قولهم يكذبون فيه. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر. فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم, فيتكثرون بما ليس لهم, ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله: فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حداً: هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا, لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين. وقد ذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات, والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة, أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة, وكان يقول الشعر, فقال: ألا هل أتى الحسناء أن حليلهابميسان يسقي في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قريةورقاصة تجذوا على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقنيولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤهتنادمنا بالجوسق المتهدم فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إي والله إنه ليسوؤني ذلك, ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته, وكتب إليه عمر {بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} ـ أما بعد ـ قد بلغني قولك: لعل أمير المؤمنين يسوؤهتنادمنا بالجوسق المتهدم وايم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر, فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط, وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك, ولكن والله لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلت ما قلت, فلم يذكر أنه حده على الشراب, وقد ضمنه شعره, لأنهم يقولون ما لا يفعلون, ولكنه ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به, ولهذا جاء في الحديث «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلىء شعراً» والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر, لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة, كما قال تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} وقال تعالى: {إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين} وهكذا قال ههنا: {وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} إلى أن قال {وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون} إلى أن قال {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ؟ تنزل على كل أفاك أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ؟ وأنهم يقولون ما لا يفعلون}. وقوله {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط, عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري قال: لما نزلت {والشعراء يتبعهم الغاوون} جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون, فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الاَية أنا شعراء, فتلا النبي {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال «أنتم» {وذكروا الله كثيراً} قال «أنتم» {وانتصروا من بعد ما ظلموا} قال «أنتم» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق, وقد روى ابن أبي حاتم أيضاً عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة, عن الوليد بن أبي كثير عن يزيد عن عبد الله, عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة, أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الاَية {والشعراء يتبعهم الغاوون} يبكيان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها عليهما {والشعراء يتبعهم الغاوون} حتى بلغ {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} قال «أنتم». وقال أيضاً حدثنا أبي, حدثنا أبو مسلم, حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: لما نزلت {والشعراء يتبعهم الغاوون} إلى قوله {وأنهم يقولون ما لا يفعلون} قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد علم الله أني منهم, فأنزل الله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} الاَية, وهكذا قال ابن عباس وعكرمة مجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد: أن هذا استثناء مما تقدم. ولا شك أنه استثناء, ولكن هذه السورة مكية, فكيف يكون سبب نزول هذه الاَيات شعراء الأنصار ؟ وفي ذلك نظر, ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها, والله أعلم, ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى يدخل فيه من كان متلبساً من شعراء الجاهلية بذم الإسلام وأهله, ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحاً, وذكر الله كثيراً في مقابلة ما تقدم من الكلام السيء. فإن الحسنات يذهبن السيئات, وامتدح الإسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه, كما قال عبد الله بن الزبعري حين أسلم: يا رسول المليك إن لسانيراتق ما فتقت إذ أنا بور إذ أجاري الشيطان في سنن الغــي ومن مال ميله مثبور وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب, كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمه وأكثرهم له هجواً, فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كان يهجوه, ويتولاه بعد ما كان قد عاداه, وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن, قال «نعم» قال: معاوية تجعله كاتباً بين يديك ؟ قال «نعم» قال وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ؟ قال «نعم» وذكر الثالثة, ولهذا قال تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً} قيل: معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم, وقيل في شعرهم. كلاهما صحيح مكفر لما سبق. وقوله تعالى: {وانتصروا من بعد ما ظلموا} قال ابن عباس: يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين, وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد, وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان اهجهم ـ أو قال ـ هاجهم وجبريل معك». وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل, فقال «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه, والذي نفسي بيده, لكأن ما ترمونهم به نضح النبل». وقوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}, كقوله تعالى: {يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم} الاَية, وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إياكم والظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة», قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} يعني من الشعراء وغيرهم, وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا إياس بن أبي تميمة قال: حضرت الحسن ومر عليه بجنازة نصراني, فقال: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. وقال عبد الله بن أبي رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الاَية بكى, حتى أقول قد اندق قضيب زوره, {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. وقال ابن وهب: أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم, فبينما هم ليلة على نار يشتوون عليها أو يصطلون, إذا بركاب قد أقبلوا فقاموا إليهم, فإذا فضالة بن عبيد فيهم, فأنزلوه فجلس معهم ـ قال ـ وصاحب لنا قائم قال يصلي حتى مر بهذه الاَية {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} قال فضالة بن عبيد: هؤلاء الذين يخربون البيت. وقيل: المراد بهم أهل مكة, وقيل الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن هذه الاَية عامة في كل ظالم. كما قال ابن أبي حاتم: ذكر عن زكريا بن يحيى الواسطي, حدثني الهيثم بن محفوظ أبو سعد النهدي, حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المحبر, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم, هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا, حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب, إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب, فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه, وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}. آخر تفسير سورة الشعراء, والحمد لله رب العالمين. سورة النمل وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** طسَ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُم بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيّنّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَهُمْ سُوَءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ * وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى: {تلك آيات} أي هذه آيات {القرآن وكتاب مبين} أي بين واضح {هدى وبشرى للمؤمنين} أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه, وعمل بما فيه, وأقام الصلاة المكتوبة, وآتى الزكاة المفروضة, وأيقن بالدار الاَخرة, والبعث بعد الموت, والجزاء على الأعمال: خيرها وشرها, والجنة والنار, كما قال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر} الاَية. وقال تعالى: {لتبشربه المتقين وتنذر به قوماً لداً}. ولهذا قال تعالى ههنا: {إن الذين لا يؤمنون بالاَخرة} أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها {زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون} أي حسنا لهم ما هم فيه, ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم, وكان هذا جزاء على ما كذبوا من الدار الاَخرة, كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} الاَية. {أولئك الذين لهم سوء العذاب} أي في الدنيا والاَخرة {وهم في الاَخرة هم الأخسرون} أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر. وقوله تعالى: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} أي {وإنك} يا محمد قال قتادة: {لتلقى} أي لتأخذ {القرآن من لدن حكيم عليم} أي من عند حكيم عليم, أي حكيم في أمره ونهيه, عليم بالأمور: جليلها وحقيرها, فخبره هو الصدق المحض, وحكمه هو العدل التام, كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}. ** إِذْ قَالَ مُوسَىَ لأهْلِهِ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لّعَلّكُمْ تَصْطَلِونَ * فَلَمّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * يَمُوسَىَ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ لاَ تَخَفْ إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ * إَلاّ مَن ظَلَمَ ثُمّ بَدّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوَءٍ فَإِنّي غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ * وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام, كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الاَيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة, وابتعثه إلى فرعون وملئه, فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له, فقال تعالى: {إذ قال موسى لأهله} أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق, وذلك في ليل وظلام, فآنس من جانب الطور ناراً, أي رأى ناراً تتأجج وتضطرم, فقال {لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر} أي عن الطريق {أو آتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون} أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها بخبر عظيم, واقتبس منها نوراً عظيماً, ولهذا قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً, ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة, ثم رفع رأسه, فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن ناراً, وإنما كانت نوراً يتوهج, وفي رواية عن ابن عباس: نور رب العالمين, فوقف موسى متعجباً مما رأى {فنودي أن بورك من في النار}. قال ابن عباس: تقدس {ومن حولها} أي من الملائكة, قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب, حدثنا أبو داود هو الطيالسي, حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة, سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل», زاد المسعودي «وحجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره». ثم قرأ أبو عبيدة {أن بورك من في النار ومن حولها} وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به. وقوله تعالى: {وسبحان الله رب العالمين} الذي يفعل ما يشاء, ولا يشبهه شيء من مخلوقاته, ولا يحيط به شيء من مصنوعاته, وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات, ولا تكتنفه الأرض والسموات, بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات. وقوله تعالى: {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم} أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه, الحكيم في أقواله وأفعاله, ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء, فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك, ولهذا قال تعالى: {فلما رآها تهتز كأنها جان} والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً. وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت, فلما عاين موسى ذلك {ولى مدبراً ولم يعقب} أي لم يلتفت من شدة فرقه {يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون} أي لا تخف مما ترى, فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبياً وجيهاً. وقوله تعالى: {إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم} هذا استنثاء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر, وذلك أن من كان على عمل سيء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب, فإن الله يتوب عليه, كما قال تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} وقال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار, وصدق من جعل له معجزة, وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه, فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف. وقوله تعالى: {في تسع آيات} أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه {إنهم كانوا قوماً فاسقين} وهذه هي الاَيات التسع التي قال الله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: {فلماجاءتهم آياتنا مبصرة} أي بينة واضحة ظاهرة {قالوا هذا سحر مبين} وأرادوا معارضته بسحرهم, فغلبوا وانقلبوا صاغرين {وجحدوا بها} في ظاهر أمرهم {واستيقنتها أنفسهم} أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله, ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها {ظلماً وعلواً} أي ظلماً من أنفسهم سجية ملعونة, وعلواً أي استكباراً من اتباع الحق, ولهذا قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم, وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة, وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد, الجاحدون لما جاء به من ربه, أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى, وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله, وما سبقه من البشارات من الأنبياء به, وأخذ المواثيق له, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي فَضّلَنَا عَلَىَ كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَيْءٍ إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّىَ إِذَآ أَتَوْا عَلَىَ وَادِي النّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيّهَا النّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصّالِحِينَ يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام, من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة, والصفات الجميلة, وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والاَخرة, والملك والتمكين التام في الدنيا, والنبوة والرسالة في الدين, ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام, أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته, لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام. وقوله تعالى: {وورث سليمان داود} أي في الملك والنبوة, وليس المراد وراثة المال, إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود, فإنه قد كان لدواد مائة امرأة, ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة, فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه فهو صدقة» وقال: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم, حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً, وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله, ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود, كما قد يتفوه به كثير من الناس, فهو قول بلا علم, ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة, إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم, ويعرف ما تقول, وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا, بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء, وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها, ولهذا قال تعالى: {علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} أي مما يحتاج إليه الملك {إن هذا لهو الفضل المبين} أي الظاهر البين لله علينا. قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو, عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة, فكان إذا خرج أغلقت الأبواب, فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب, فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار, فإذا رجل قائم وسط الدار, فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود, فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار, فقال له داود: من أنت ؟ فقال: الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب, فقال داود: أنت إذاً والله ملك الموت مرحباً بأمر الله, فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس, فقال سليمان عليه السلام للطير: أظلي داود, فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض, فقال لها سليمان: اقبضي جناحاً جناحاً» قال أبو هريرة: يا رسول الله كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية. قال أبو الفرج بن الجوزي: المضرحية هن النسور الحمراء. وقوله تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير, يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه, والجن وهم بعدهم في المنزلة, والطير ومنزلتها فوق رأسه, فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله: {فهم يوزعون} أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد: جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم. وقوله: {حتى إذا أتوا على وادي النمل} أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون} أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس, وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان, وأنها كانت عرجاء, وكانت بقدر الذئب, أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها, فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم, ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها {فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلي والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه} أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها عليّ من تعليمي منطق الطير والحيوان. وعلى والدي بالإسلام لك, والإيمان بك {وأن أعمل صالحاً ترضاه} أي عملاً تحبه وترضاه {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك, والرفيق الأعلى من أوليائك, ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره, وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل, فلا حاصل لها. وعن نوف البكالي أنه قال: كان نمل سليمان أمثال الذئاب, هكذا رأيته مضبوطاً بالياء المثناة من تحت, وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف, والله أعلم. والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك, وهذا أمرعظيم جداً. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا يزيد بن هارون, أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال:خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي, فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك, ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق, عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قرصت نبياً من الأنبياء نملة, فأمر بقرية النمل فأحرقت, فأوحى الله إليه, أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟». ** وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ * لاُعَذّبَنّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأذْبَحَنّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّي بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه, فنظر له الماء في تخوم الأرض, كما يرى الإنسان الشىء الظاهر على وجه الأرض, ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض, فإذا دلهم عليه, أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره, فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره {فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} حدث يوماً عبد الله بن عباس بنحو هذا, وفي القوم رجل من الخوارج يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس, فقال له: قف يا ابن عباس غلبت اليوم, قال: ولم ؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض, وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ تراباً, فيجىء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي, فقال ابن عباس, لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته, ثم قال له: ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر, فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة في غوطة دمشق, وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس, وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره, فامتنع عليه, فألح عليه شهوراً, فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده جمعة في قرية برزة, وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه, فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخوراً كثيراً حتى عجعج الوادي بالدخان, فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما, فلا يلتفتان إلى شيء منها, حتى أقبلت حية نحو الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار, فاستبشرا بها عظيماً, وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة, وكسرا المجامر, وأخذا الحية, فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به, فسألتهما أن يكحلاني فأبيا, فألححت عليهما وقلت: لا بد من ذلك وتوعدتهما بالدولة, فكحلا عيني الواحدة اليمنى, فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة أنظر ما تحتها كما ترى المرآة, ثم قالا لي: سر معنا قليلاً, فسرت معهما وهما يحدثاني حتى إذا بعدت عن القرية أخذاني فكتفاني, وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا, فلم أزل كذلك ملقى مكتوفاً حتى مر بي نفر ففك وثاقي, فهذا ما كان من خبر عيني. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن عمرو الغساني, حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عليه السلام عنبر, وقال محمد بن إسحاق: كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير, وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر, فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد {فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} أخطأه بصري من الطير, أم غاب فلم يحضر. وقوله: {لأعذبنه عذاباً شديداً} قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن عباس: يعني نتف ريشه, وقال عبد الله بن شداد: نتف ريشه وتشميسه, وكذا قال غير واحد من السلف أنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل. وقوله: {أو لأذبحنه} يعني قتله {أو ليأتيني بسلطان مبين} بعذر بيّن واضح, وقال سفيان بن عيينة وعبد الله بن شداد: لما قدم الهدهد قالت له الطير: ما خلفك ؟ فقد نذر سليمان دمك, فقال: هل استثنى ؟ قالوا: نعم. قال: {لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قال: نجوت إذاً, قال مجاهد: إنما دفع الله عنه ببره بأمه. ** فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاّ يَسْجُدُواْ للّهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ يقول تعالى: {فمكث} الهدهد {غير بعيد} أي غاب زماناً يسيراً, ثم جاء فقال لسليمان: {أحطت بما لم تحط به} أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك {وجئتك من سبأ بنبأ يقين} أي بخبر صدق حق يقين, وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن, ثم قال: {إني وجدت امرأة تملكهم} قال الحسن البصري: وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ, وقال قتادة: كانت أمها جنية, وكان مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة, وقال زهير بن محمد: هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان, وأمها فارعة الجنية, وقال ابن جريج: بلقيس بنت ذي شرخ وأمها بلتعة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا مسدد, حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان مع صاحبة سليمان ألف قيل, تحت كل قيل مائة ألف مقاتل, وقال الأعمش: عن مجاهد كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {إني وجدت امرأة تملكهم} كانت من بيت مملكة, وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلاً, كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل, وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة أميال من صنعاء, وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن, والله أعلم. وقوله: {وأوتيت من كل شيء} أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن {ولها عرش عظيم} يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللاَلىء. قال زهير بن محمد: كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعاً, وعرضه أربعون ذراعاً, وقال محمد بن إسحاق: كان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ, وكان إنما يخدمها النساء, ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة, قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم, وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه, قد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة ,وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحاً ومساء, ولهذا قال: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} أي عن طريق الحق {فهم لا يهتدون}. وقوله: {ألا يسجدوا لله} معناه {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله} أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها, كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقرأ بعض القراء {ألا يا اسجدوا لله} جعلها ألا الإستفتاحية, ويا للنداء, وحذف المنادى تقديره عنده ألا يا قوم اسجدوا لله. وقوله: {الذي يخرج الخبء في السموات والأرض} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض, وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد, وقال سعيد بن المسيب: الخبء الماء, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: خبء السموات والأرض ما جعل فيهما من الأرزاق, المطر من السماء والنبات من الأرض. وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها. وقوله: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون} أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال, وهذا كقوله تعالى: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار} وقوله: {الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم} أي هو المدعو وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم, الذي ليس في المخلوقات أعظم منه. ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير, وعبادة الله وحده والسجود له نهي عن قتله, كما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد, وإسناده صحيح. ** قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بّكِتَابِي هَـَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ إِنّيَ أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ * أَلاّ تَعْلُواْ عَلَيّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم {قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين} أي صدقت في إخبارك هذا {أم كنت من الكاذبين} في مقالتك لتتخلص من الوعيد الذي أوعدتك ؟ {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون} وذلك أن سليمان عليه السلام كتب كتاباً إلى بلقيس وقومها. وأعطاه ذلك الهدهد فحمله, قيل في جناحه كما هي عادة الطير, وقيل بمنقاره, وجاء إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها, ثم تولى ناحية أدباً ورياسة, فتحيرت مما رأت وهالها ذلك, ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته, فإذا فيه {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها, ثم قالت لهم {يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم} تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر أتى به فألقاه إليها, ثم تولى عنها أدباً, وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك, ولا سبيل لهم إلى ذلك, ثم قرأته عليهم {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين} فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام, وأنه لا قبل لهم به, وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة, فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء: لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثاً في تفسيره حيث قال: حدثنا أبي, حدثنا هارون بن الفضل أبو يعلى الخياط. حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود» قلت: يا نبي الله أي آية ؟ قال «سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد» قال: فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه, فقلت نسي ثم التفت إلي وقال: «إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم» هذا حديث غريب, وإسناده ضعيف. وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الاَية. فكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} وقوله: {أن لا تعلوا عليّ} قال قتادة: يقول لا تجبروا علي {وأتوني مسلمين} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني مسلمين. قال ابن عباس: موحدين, وقال غيره: مخلصين, وقال سفيان بن عيينة: طائعين. ** قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَفْتُونِي فِيَ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّىَ تَشْهَدُونِ * قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوَاْ أَعِزّةَ أَهْلِهَآ أَذِلّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ لما قرأت عليهم كتاب سليمان, استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها, ولهذا قالت {يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون} أي حتى تحضرون وتشيرون {قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد} أي منوا إليها بعددهم وعددهم وقوتهم, ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا: {والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه, فما لنا عاقة عنه. وبعد هذا فالأمر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه. قال الحسن البصري رحمه الله: فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها, فلما قالوا لها ما قالوا, كانت هي أحزم رأياً منهم وأعلم بأمر سليمان, وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير. وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمراً عجيباً بديعاً, فقالت لهم: إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلي وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا. ولهذا قالت {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها} قال ابن عباس: أي إذا دخلوا بلداً عنوة أفسدوه أي خربوه {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر. قال ابن عباس: قالت بلقيس {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} قال الرب عز وجل: {وكذلك يفعلون} ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة, فقالت {وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون} أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك, فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا, أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها, علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس. وقال ابن عباس وغير واحد: قالت لقومها إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه, وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه. ** فَلَمّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِي اللّهُ خَيْرٌ مّمّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُم بِجُنُودٍ لاّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنّهُم مّنْهَآ أَذِلّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولاَلىء وغير ذلك. وقال بعضهم: أرسلت بلبنة من ذهب, والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب. قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما: أرسلت جواري في زي الغلمان, وغلمان في زي الجواري فقالت: إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي, قالوا: فأمرهم سليمان فتوضؤا, فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك, وقيل بل جعلت الجارية تغسل باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس, وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن, والغلمان من مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله, والله أعلم. وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء ولا من الأرض, فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملأه من ذلك, وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان ذلك أم لا, وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات, والظاهر أن سليمان عليه السلام, لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية, ولا اعتنى به, بل أعرض عنه. وقال منكراً عليهم {أتمدونن بمال ؟} أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم ؟ {فما آتاني الله خير مما آتاكم} أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه {بل أنتم بهديتكم تفرحون} أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف, وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف. قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه: أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة, فلما رأت رسلها ذلك, قالوا: ما يصنع هذا بهديتنا, وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد {ارجع إليهم} أي بهديتهم {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها} أي لا طاقة لهم بقتالهم {ولنخرجنهم منها أذلة} أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة {وهم صاغرون} أي مهانون مدحورون. فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها, وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة, معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام, ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم عليه, ووفودهم إليه فرح بذلك وسره. ** قَالَ يَأَيّهَا الْمَلاُ أَيّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مّقَامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِيّ أَمِينٌ * قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَـَذَا مِن فَضْلِ رَبّي لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ رَبّي غَنِيّ كَرِيمٌ قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت: قد والله عرفت ما هذا بملك, وما لنا به من طاقة وما نصنع بمكابرته شيئاً, وبعثت إليه: إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه من دينك, ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه. وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ, فجعل في سبعة أبيات بعضها في بعض, ثم أقفلت عليه الأبواب ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قبلك وسرير ملكي, فلا يخلص إليه أحد من عباد الله, و لايرينه أحد حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل منهم ألوف كثيرة فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال: {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين}. وقال قتادة: لما بلغ سليمان أنها جاثية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه.وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر. وكان مستراً بالديباج والحرير, وكانت عليه تسعة مغاليق, فكره أن يأخذه بعد إسلامهم. وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم, فقال {يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين} وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي وزهير بن محمد {قبل أن يأتوني مسلمين} فتحرم علي أموالهم بإسلامهم {قال عفريت من الجن} قال مجاهد: أي مارد من الجن, قال شعيب الجبائي: وكان اسمه كوزن, وكذا قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان, وكذا قال أيضاً وهب بن منبه. قال أبو صالح وكان كأنه جبل {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال ابن عباس رضي الله عنه: يعني قبل أن تقوم من مجلسك. وقال مجاهد: مقعدك, وقال السدي وغيره: كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام, من أول النهار إلى أن تزول الشمس {وإني عليه لقوي أمين} قال ابن عباس: أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجوهر, فقال سليمان عليه الصلاة والسلام أريد أعجل من ذلك, ومن ههنا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك, وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لأحد من)بعده, وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها لأن هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه, هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة. فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك {قال الذي عنده علم من الكتاب} قال ابن عباس وهو آصف كاتب سليمان, وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخياء. وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم وقال قتادة: كان مؤمناً من الإنس واسمه آصف, وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة أنه كان من الإنس, زاد قتادة من بني إسرائيل. وقال مجاهد كان اسمه أسطوم. وقال قتادة في رواية عنه كان اسمه بليخا, وقال زهير بن محمد هو رجل من الإنس يقال له ذو النور. وزعم عبد الله بن لهيعة أنه الخضر, وهو غريب جداً. وقوله: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} أي ارفع بصرك وانظر, مد بصرك مما تقدر عليه, فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك, وقال وهب بن منبه: امدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به, فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى. قال مجاهد: قال يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري قال: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قال: فمثل بين يديه, قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم: لما دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس وكان في اليمن وسليمان عليه السلام ببيت المقدس غاب السرير وغاص في الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه, قال وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقراً عنده {قال هذا من فضل ربي} أي هذا من نعم الله عليّ {ليبلوني} أي ليختبرني {أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه} كقوله: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} وكقوله: {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون}. وقوله: {ومن كفر فإن ربي غني كريم} أي هو غني عن العباد وعبادتهم كريم أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد, وهذا كما قال موسى {إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد} وفي صحيح مسلم «يقول الله تعالى: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله, ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». ** قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِيَ أَمْ تَكُونُ مِنَ الّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ * فَلَمّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنّا مُسْلِمِينَ * وَصَدّهَا مَا كَانَت تّعْبُدُ مِن دُونِ اللّهِ إِنّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصّرْحَ فَلَمّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنّهُ صَرْحٌ مّمَرّدٌ مّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} قال ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه, وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جُعل أصفر, وما كان أصفر جعل أحمر, وما كان أخضر جعل أحمر غير كل شيء عن حاله. وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره وزادوا فيه ونقصوا {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك} أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها ثبات وعقل, ولها لب ودهاء وحزم, فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر فقالت {كأنه هو} أي يشبهه ويقاربه. وهذا غاية في الذكاء والحزم. وقوله: {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} قال مجاهد يقوله سليمان, وقوله تعالى: {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} هذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده {ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين} وهذا الذي قاله مجاهد وسعيد: حسنٌ وقاله ابن جرير أيضاً, ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله {وصدها} ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز وجل تقديره ومنعها {ما كانت تعبد من دون الله} أي صدها عن عبادة غير الله {إنها كانت من قوم كافرين} (قلت): ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي. وقوله: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج وأجري تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه. واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل: إنه لما عزم على تزوجها واصطفائها لنفسه, ذكر له جمالها وحسنها لكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره. فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقاً وأحسنهم قدماً ولكن رأى على رجليها شعراً لأنها ملكة وليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها الموسى فقالت لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن: اصنعوا شيئاً غير الموسى يذهب بهذا الشعر فصنعوا له النورة. وكان أول من اتخذت له النورة, قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم. وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها: ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير, فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله, وقال الحسن البصري: لما رأت العلجة الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكاً أعظم من ملكها, وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه قال: أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها وسلطاناً هو أعظم من سلطانها {فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} لا تشك أنه ماء تخوضه, قيل لها {إنه صرح ممرد من قوارير}. فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة فوقع سليمان ساجداً إعظاماً لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت ؟ قالت أنسيت ما قلت ؟ فقالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} فأسلمت وحسن إسلامها. وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثراً غريباً عن ابن عباس فقال: حدثنا الحسين بن علي عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الإنس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهراً ورواحها شهرٌ, قال فبينما هو ذات يوم في مسير له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال {ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} قال: وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض. قال عطاء وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد {فمكث غير بعيد ـ فقرأ حتى انتهى إلى قوله ـ سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا} وكتب بسم الله الرحمن الرحيم, إلى بلقيس {أن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين} فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون, فلما جاءت الهدية سليمان قال: أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة, قال عطاء ومجاهد حينئذ في الأزد. قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين {قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال: وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس كما يجلس الأمراء ثم يقوم. فقال: {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} قال سليمان أريد أعجل من ذلك, فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ثم يصعد إلى السرير, قال فلما رأى سليمان عرشها قال {هذا من فضل ربي} الاَية {قال نكروا لها عرشها} فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ؟ قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد ماء ليس من أرض ولا سماء. وكان سليمان إذا سئل عن شيء سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين قال: فقالت الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املأ منه الاَنية. قال فأمر بالخيل فأجريت ثم أخذ عرقها فملأ منه الاَنية, قال وسألت عن لون الله عز وجل, قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجداً فقال: يا رب لقد سألتني عن أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك, فقال: ارجع فقد كفيتكهم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه ؟ قالت ما سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه ؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء, قال ونسوه كلهم. قال وقالت الشياطين إن سليمان يريد أن يتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد لم ننفك من عبوديته, قال فجعلوا صرحاً ممرداً من قوارير فيه السمك قال فقيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي شعراء. فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه ؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين النورة. قال فهو أول من جعلت له النورة, ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث (قلت): بل هو منكر غريب جداً ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس, والله أعلم. والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة. أصل الصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع, قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان {ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب} الاَية. والصرح قصر في اليمن عالي البناء, والممرد المبني بناء محكماً أملس {من قوارير} أي زجاج, وتمريد البناء تمليسه, ومارد: حصن بدومة الجندل, والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه, فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم, وملك عظيم, وأسلمت لله عز وجل وقالت {رب إني ظلمت نفسي} أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله {وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً. ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ اطّيّرْنَا بِكَ وَبِمَن مّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له {فإذا هم فريقان يختصمون} قال مجاهد: مؤمن وكافر كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه} ؟ {قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} {قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة} أي لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته ولهذا قال: {لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون قالوا اطيرنا بك وبمن معك} أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيراً, وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحداً منهم سوء إلا قال هذا من قبل صالح وأصحابه. قال مجاهد: تشاءموا بهم وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون: {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} الاَية. وقال تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله, وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك * قل كل من عند الله} أي بقضائه وقدره, وقال تعالى مخبراً عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون {قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم} الاَية, وقال هؤلاء {اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله} أي الله يجازيكم على ذلك {بل أنتم قوم تفتنون} قال قتادة: تبتلون بالطاعة والمعصية والظاهر أن المراد بقوله: {تفتنون} أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال. ** وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللّهِ لَنُبَيّتَنّهُ وَأَهْلَهُ ثُمّ لَنَقُولَنّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّا دَمّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوَاْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح, وآل بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضاً, بأن يبيتوه في أهله ليلاً فيقلتوه غيلة, ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه: إنهم ما علموا بشيء من أمره, وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك فقال تعالى: {وكان في المدينة} أي مدينة ثمود {تسعة رهط} أي تسعة نفر {يفسدون في الأرض ولا يصلحون} وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود, لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم. قال العوفي عن ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة, أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم, وقد فعل ذلك. وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: كان أسماء هؤلاء التسعة: دعمى, ودعيم, وهرما, وهريم, وداب, وصواب, ورياب, ومسطع, وقدار بن سالف عاقر الناقة, أي الذي باشر ذلك بيده, قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} وقال تعالى: {إذ انبعث أشقاها}. وقال عبد الرزاق: أنبأنا يحيى بن ربيعة الصنعاني, سمعت عطاء ـ هو ابن أبي رباح ـ يقول {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} قال: كانوا يقرضون الدراهم, يعني أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عدداً كما كان العرب يتعاملون. وقال الإمام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض, بكل طريق يقدرون عليها, فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير ذلك. وقوله تعالى: {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} أي تحالفوا وتابعوا على قتل نبي الله صالح عليه السلام من لقيه ليلاً غيلة, فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم, قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا على هلاكه, فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين, وقال قتادة: تواثقوا على أن يأخذوه ليلاً فيقتلوه, وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث الله عليهم صخرة فأهمدتهم, قال العوفي عن ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة, قالوا حين عقروها: لنبيتن صالحاً وأهله فنقتلهم ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئاً, وما لنا به من علم فدمرهم الله أجمعين. وقال محمد بن إسحاق: قال هؤلاء التسعة بعدما عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحاً, فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا, وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته, فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة, فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح, فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة, فقالوا لصالح: أنت قتلتهم, ثم هموا به فقامت عشيرته دونه, ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث, فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربكم عليكم غضباً, وإن كان كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون, فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لما عقروا الناقة قال لهم صالح {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام, فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث, وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه, فخرجوا إلى كهف, أي غار هناك ليلاً فقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم, فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم فخشوا أن تشدخهم فتبادروا, فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار, فلا يدري قومهم أين هم, ولا يدرون ما فعل بقومهم, فعذب الله هؤلاء ههنا, وهؤلاء ههنا, وأنجى الله صالحاً ومن معه ثم قرأ {ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية} أي فارغة ليس فيها أحد {بما ظلموا إن في ذلك لاَية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}. ** وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَخْرِجُوَاْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم, وهي إتيان الذكور دون الإناث, وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال, والنساء بالنساء فقال: {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} أي يرى بعضكم بعضاً, وتأتون في ناديكم المنكر {أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون} أي لا تعرفون شيئاً لا طبعاً ولا شرعاً كما قال في الاَية الأخرى: {أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون} {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} أي يتحرجون من فعل ما تفعلون, ومن إقراركم على صنيعكم فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم فعزموا على ذلك, فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, قال الله تعالى: {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} أي من الهالكين مع قومها, لأنها كانت ردءاً لهم على دينهم وعلى طريقتهم, في رضاها بأفعالهم القبيحة, فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم, لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا كرامة لها. وقوله تعالى: {وأمطرنا عليهم مطراً} أي حجارة من سجيل منضود, مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد ولهذا قال: {فساء مطر المنذرين} أي الذين قامت عليهم الحجة, ووصل إليه الإنذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم. ** قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىَ عِبَادِهِ الّذِينَ اصْطَفَىَ ءَآللّهُ خَيْرٌ أَمّا يُشْرِكُونَ * أَمّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {الحمد لله} أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى, وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام, عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام, وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره: إن المراد بعباده الذين اصطفى, هم الأنبياء, قال: وهو كقوله: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}. وقال الثوري والسدي: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين, وروي نحوه عن ابن عباس أيضاً, ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه بعد ذكره لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر, أن يحمدوه على جميع أفعاله, وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار. وقد قال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح, حدثنا طلق بن غنام, حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك, عن ابن عباس {وسلام على عباده الذين اصطفى} قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم, وقوله تعالى: {آلله خير أم ما يشركون} استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة آخرى. ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره, فقال تعالى: {أمّن خلق السموات} أي خلق تلك السموات في ارتفاعها وصفائها. وما جعل فيها من الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة. وخلق الأرض في استفالها وكثافتها وما جعل فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار, والفيافي والقفار, والزروع والأشجار, والثمار والبحار, والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك. وقوله تعالى: {وأنزل لكم من السماء ماء} أي جعله رزقاً للعباد {فأنبتنا به حدائق} أي بساتين {ذات بهجة} أي منظر حسن وشكل بهي {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها. وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بذلك المتفرد به دون ما سواه من الأصنام والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركون كما قال تعالى في الاَية الأخرى {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} {ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق, وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة, من هو المتفرد بالخلق والرزق ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله ؟} أي أإله مع الله يعبد, وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق. ومن المفسرين من يقول معنى قوله: {أإله مع الله} فعل هذا وهو يرجع إلى معنى الأول لأن تقدير الجواب أنهم يقولون ليس ثم أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير ؟ كما قال تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} الاَية. وقوله تعالى ههنا: {أمن خلق السموات والأرض} {أمن} في هذه الاَيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها ؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الاَخر لأن في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك. وقد قال الله تعالى: {آلله خير أم ما يشركون}. ثم قال في الاَية الأخرى: {بل هم قوم يعدلون} أي يجعلون لله عدلاً ونظيراً. وهكذا قال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك ؟ ولهذا قال تعالى: {قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} وقال تعالى: {أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي أمن هو شهيد على أفعال الخلق حركاتهم وسكناتهم يعلم الغيب جليله وحقيره كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام التي عبدوها من دون الله ؟ ولهذا قال {وجعلوا لله شركاء قل سموهم} وهكذا هذه الاَيات الكريمة كلها. ** أَمّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـَهٌ مّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى: {أمن جعل الأرض قراراً} أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة بل جعلها من فضله ورحمته مهاداً بساطاً ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك كما قال تعالى في الاَية الاَخرى {والله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء} {وجعل خلالها أنهاراً} أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك, وسيرها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه {وجعل لها رواسي} أي جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بهم {وجعل بين البحرين حاجزاً} أي جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزاً, أي مانعاً يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد هذا بهذا, وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقضاء كل منهما على صفته المقصودة منه, فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس, والمقصود منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى الحيوان والنبات والثمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب, والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحاً أجاجاً لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى: {وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً} ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله ؟} أي فعل هذا, أو يعبد على القول الأول والاَخر ؟. وكلاهما متلازم صحيح {بل أكثرهم لا يعلمون} أي في عبادتهم غيره. ** أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السّوَءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلاً مّا تَذَكّرُونَ ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد, المرجو عند النوازل, كما قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وهكذا قال ههنا {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه, والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه. قال الإمام أحمد: أنبأنا عفان: أنبأنا وهيب, أنبأنا خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي, عن رجل من بلهجيم قال: قلت يا رسول الله إلام تدعو ؟ قال: «أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك, والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك, والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك» قال: قلت أوصني, قال: «لا تسبن أحداً ولا تزهدن في المعروف, ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك, ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي, واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين, وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة». وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر, فذكر اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا يونس هو ابن عبيد, حدثنا عبيدة الهجيمي, عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة, وقد وقع هدبها على قدميه فقلت: أيكم محمد رسول الله ؟ فأومأ بيده إلى نفسه, فقلت: يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيّ جفاؤهم فأوصني, قال: «لا تحقرن من المعروف شيئاً, ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط, ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي, وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك, فلا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره, وإياك وإسبال الإزار, فإن إسبال الإزار من المخيلة, وإن الله لا يحب المخيلة, ولا تسبن أحداً» قال: فما سببت بعده أحداً ولا شاة ولا بعيراً. وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقاً وعندهما طرف صالح منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن هاشم, حدثنا عبدة بن نوح عن عمر بن الحجاج, عن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاوس يعودني فقلت له: ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن, فقال: ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه, وقال وهب بن منبه: قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن, والأرضون بمن فيهن, فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه, وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل: كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب, فقلت: لا خبرة لي فيها, فقال: بل هي أقرب, فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل, فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني, ففررت من بين يديه وتبعني, فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه, فقال هو لي: وإنما أريد قتلك, فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل, فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل, فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد, فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه افرغ, فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً, فتعلقت بالفارسوقلت: بالله من أنت ؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً. وذكر في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجيلة قالت: هزم الكفار يوماً المسلمين في غزوة فوقف جواد جيد بصاحبه وكان من ذوي اليسار ومن الصلحاء, فقال للجواد: ما لك ؟ ويلك إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم, فقال له الجواد: وما لي لا أقصر وأنت تكل العلوفة إلى السواس فيلظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل ؟ فقال: لك علي عهد الله أن لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا في حجري, فجرى الجواد عند ذلك ونجى صاحبه وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره, واشتهر أمره بين الناس وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك وبلغ ملك الروم أمره, فقال: ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها, واحتال ليحصله في بلده فبعث إليه رجلاً من المرتدين عنده, فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الإسلام وقومه حتى استوثق, ثم خرجا يوماً يمشيان على جنب الساحل, وقد واعد شخصاً آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره, فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت. قال: فخرج سبعان فأخذاهما ورجع الرجل سالماً. وقوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي يخلف قرناً لقرن قبلهم وخلفاً لسلف كما قال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} وقال تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات} وقال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} أي قوماً يخلف بعضهم بعضاً كما قدمنا تقريره, وهكذا هذه الاَية {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي أمة بعد أمة, وجيلاً بعد جيل, وقوماً بعد قوم, ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد, ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض, بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق آدم من تراب, ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض, ولكن لا يميت أحداً حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد, فكانت تضيق عليهم الأرض, وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم, ويتضرر بعضهم ببعض, ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة, ثم يكثرهم غاية الكثرة, ويذرأهم في الأرض, ويجعلهم قروناً بعد قرون, وأمماً بعد أمم, حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية, كما قدر ذلك تبارك وتعالى, وكما أحصاهم وعدهم عداً, ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله, ولهذا قال تعالى: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله} أي يقدر على ذلك أو أإله مع الله يعبد ؟ وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له ؟ {قليلاً ما تذكرون} أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم. ** أَمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ تَعَالَى اللّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى: {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر} أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية كما قال تعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} الاَية {ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته} أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين الأزلين القنطين {أإله مع الله ؟ تعالى الله عما يشركون}. ** أَمّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السّمَآءِ والأرْضِ أَإِلَـَهٌ مّعَ اللّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدىء ويعيد} وقال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} {ومن يرزقكم من السماء والأرض} أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض كما قال تعالى: {والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع} وقال تعالى: {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها} فهو تبارك وتعالى ينزل من السماء ماء مباركاً فيسلكه ينابيع في الأرض, ثم يخرج به منها أنواع الزروع والثمار والأزاهير وغير ذلك من ألوان شتى {كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لاَيات لأولي النهى} ولهذا قال تعالى: {أإله مع الله} أي فعل هذا وعلى القول الاَخر بعد هذا {قل هاتوا برهانكم} على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى {إن كنتم صادقين} في ذلك وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى: {ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون}. ** قُل لاّ يَعْلَمُ مَن فِي السّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب إلا الله. وقوله تعالى: {إلا الله} استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الاَية, وقال تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث} إلى آخر السورة, والاَيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى: {وما يشعرون أيان يبعثون} أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السموات والأرض بوقت الساعة كما قال تعالى: {ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة} أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو جعفر الرازي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها, قالت: من زعم أنه يعلم ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية لأن الله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} وقال قتادة: إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوماً للشياطين, فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه, وتكلف ما لا علم له به. وإن أناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة, من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا, ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم, وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب, وقضى الله تعالى أنه لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون. رواه ابن أبي حاتم بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح. وقوله: {بل ادّارك علمهم في الاَخرة بل هم في شك منها} أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها, وقرأ آخرون {بل أدرك علمهم} أي تساوى علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وقد سأله عن وقت الساعة: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} أي غاب, وقال قتادة {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} يعني بجهلهم بربهم, يقول لم ينفذ لهم علم في الاَخرة, هذا قول, وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس {بل ادّارك علمهم في الاَخرة} حين لم ينفع العلم, وبه قال عطاء الخراساني والسدي أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} وقال سفيان عن عمرو بن عبيد عن الحسن, أنه كان يقرأ {بل أدرك علمهم} قال: اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الاَخرة. وقوله تعالى: {بل هم في شك منها} عائد على الجنس, والمراد الكافرون, كما قال تعالى: {وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة, بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً} أي الكافرون منكم. وهكذا قال ههنا: {بل هم في شك منها} أي شاكون في وجودها ووقوعها {بل هم منها عمون} أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَإِذَا كُنّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَـَذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ يقول تعالى مخبراً عن منكري البعث من المشركين أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظماً ورفاتاً وتراباً, ثم قال: {لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل} أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا قوعاً, وقولهم {إن هذا إلا أساطير الأولين} يعنون ما هذا الوعد بإعادة الأبدان {إلا أساطير الأولين} أي أخذه قوم عمن قبلهم من كتب يتلقاه بعض عن بعض وليس له حقيقة, قال الله تعالى مجيباً لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد: {قل} يا محمد لهؤلاء {سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} أي المكذبين بالرسل وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره كيف حلت بهم نقمة الله وعذابه ونكاله ونجى الله من بينهم رسله الكرام ومن اتبعهم من المؤمنين, فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته, ثم قال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولا تحزن عليهم} أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات {ولا تكن في ضيق مما يمكرون} أي في كيدك, ورد ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب. ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنّ رَبّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَإِنّ رَبّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السّمَآءِ وَالأرْضِ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ يقول تعالى مخبراً عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟} قال الله تعالى مجيباً لهم: {قل} يا محمد {عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون} قال ابن عباس: أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون, وهكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي, وهذا هو المراد بقوله تعالى: {ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريباً} وقال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وإنما دخلت اللام في قوله: {ردف لكم} لأنه ضمن معنى عجل لكم, كما قال مجاهد في رواية عنه {عسى أن يكون ردف لكم} عجل لكم. ثم قال الله تعالى: {وإن ربك لذو فضل على الناس} أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} أي يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر, {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} {يعلم السر وأخفى} {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون} ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السموات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة, وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه, فقال تعالى: {وما من غائبة} قال ابن عباس: يعني وما من شيء {في السماء والأرض إلا في كتاب مبين} وهذه كقوله: {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير}. ** إِنّ هَـَذَا الْقُرْآنَ يَقُصّ عَلَىَ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ * إِن رَبّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ * إِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مّسْلِمُونَ يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من الهدى والبيان والفرقان أنه يقص على بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل {أكثر الذي هم فيه يختلفون} كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه فاليهود افتروا والنصارى غلوا فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام, عليه أفضل الصلاة والسلام, كما قال تعالى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون}, وقوله {وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين} أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم في العمليات. ثم قال تعالى: {إن ربك يقضي بينهم} أي يوم القيامة {بحكمه وهو العزيز} أي في انتقامه {العليم} بأفعال عباده وأقوالهم {فتوكل على الله} أي في جميع أمورك وبلغ رسالة ربك {إنك على الحق المبين} أي أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليه الشقاوة وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية, ولهذا قال تعالى: {إنك لا تسمع الموتى} أي لا تسمعهم شيئاً ينفعهم, فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر, ولهذا قال تعالى: {ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم * إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير, السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة, الخاضعُ لله ولما جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم السلام. ** وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبّةً مّنَ الأرْضِ تُكَلّمُهُمْ أَنّ النّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق, يخرج الله لهم دابة من الأرض, قيل: من مكة, وقيل: من غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فتكلم الناس على ذلك, قال ابن عباس والحسن وقتادة ويروى عن علي رضي الله عنه: تكلمهم كلاماً, أي تخاطبهم مخاطبة, وقال عطاء الخراساني: تكلمهم فتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير وفي هذا القول نظر لا يخفى, والله أعلم. وقال ابن عباس في رواية: تجرحهم, وعنه رواية قال: كلاّ تفعل هذا وهذا, وهو قول حسن ولا منافاة, والله أعلم. وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن فرات, عن أبي الطفيل, عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة, فقال: «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها, والدخان والدابة! وخروج يأجوج ومأجوج, وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام, والدجال, وثلاثة خسوف: خسف بالمغرب, وخسف بالمشرق, وخسف بجزيرة العرب, ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس, تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا» وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من طرق عن فرات القزاز, عن أبي الطفيل عامر بن واثلة, عن حذيفة موقوفاً. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه مسلم أيضاً من حديث عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عنه مرفوعاً, فالله أعلم. (طريق أخرى) قال أبو داود الطيالسي عن طلحة بن عمرو وجرير بن حازم, فأما طلحة فقال: أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي: أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفه بن أسيد الغفاري أبي سريحة, وأما جرير فقال: عن عبد الله بن عبيد عن رجل من آل عبد الله بن مسعود. وحديث طلحة أتم وأحسن قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر: فتخرج خرجة من أقصى البادية, ولا يدخل ذكرها القرية ـ يعني مكة ـ ثم تكمن زمناً طويلاً, ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك, فيعلو ذكرها في أهل البادية ويدخل ذكرها القرية» يعني مكة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها المسجد الحرام, لم يرعهم إلا وهي تدنو بين الركن والمقام, تنفض عن رأسها التراب, فارفض الناس عنها شتى ومعاً, وبقيت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله, فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري, وولت في الأرض لا يدركها طالب, ولا ينجو منها هارب, حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الاَن تصلي, فيقبل عليها فتسمه في وجهه, ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطحبون في الأمصار, يعرف المؤمن من الكافر, حتى إن المؤمن ليقول: يا كافر اقضني حقي, وحتى إن الكافر ليقول: يا مؤمن اقضني حقي» ورواه ابن جرير من طريقين عن حذيفة بن أسيد موقوفاً, والله أعلم. ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعاً, وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم, وهو يطوف بالبيت ولكن إسناده لا يصح. (حديث آخر) قال مسلم بن الحجاج: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا محمد بن بشر عن أبي حيان عن أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الاَيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها, وخروج الدابة على الناس ضحى, وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً». (حديث آخر) روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستاً, طلوع الشمس من مغربها, والدخان, والدجال, والدابة, وخاصة أحدكم, وأمر العامة» تفرد به, وله من حديث قتادة عن الحسن عن زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستاً: الدجال, والدخان, ودابة الأرض, وطلوع الشمس من مغربها, وأمر العامة, وخويصة أحدكم». (حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا حرملة بن يحيى, حدثنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها, والدخان, والدابة, والدجال, وخويصة أحدكم, وأمر العامة» تفرد به. (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام, فتخطم أنف الكافر بالعصا, وتجلي وجه المؤمن بالخاتم, حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» ورواه الإمام أحمد عن بهز وعفان ويزيد بن هارون ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به, وقال: «فتخطم أنف الكافر بالخاتم, وتجلو وجه المؤمن بالعصا, حتى إن أهل الخوان الواحد ليجتمعون فيقول: هذا يا مؤمن, ويقول: هذا يا كافر» ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد المؤدب عن حماد بن سلمة به. (حديث آخر) قال ابن ماجه: حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو, حدثنا أبو نميلة, حدثنا خالد بن عبيد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية قريب من مكة, فإذا أرض يابسة حولها رمل, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخرج الدابة من هذا الموضع» فإذا فتر في شبر, قال ابن بريدة: فحججت بعد ذلك بسنين فأرانا عصاً له, فإذا هو بعصاي هذه كذا وكذا, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة أن ابن عباس قال: هي دابة ذات زغب لها أربع قوائم من بعض أودية تهامة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن رجاء, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية قال: قال عبد الله: تخرج الدابة من صدع من الصفا, كجري الفرس ثلاثة أيام لم يخرج ثلثها, وقال محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح قال: سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة فقال: الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد, والله لو كنت معهم أو لو شئت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها. قيل: فتصنع ماذا يا عبد الله بن عمرو, فقال: تستقيل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه, ثم تستقبل الشام فتصرخ صرخة تنفذه, ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه, ثم تروح من مكة فتصبح بعسفان, قيل ثم ماذا ؟ قال لا أعلم, وعن عبد الله بن عمر أنه قال: تخرج الدابة ليلة جمع. رواه ابن أبي حاتم, وفي إسناده ابن البيلمان. وعن وهب بن منبه: أنه حكى من كلام عزير عليه السلام أنه قال: وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها, وتضع الحبالى قبل التمام, ويعود الماء العذب أجاجاً, ويتعادى الأخلاء وتحرق الحكمة, ويرفع العلم, وتكلم الأرض التي تليها, وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون, ويتعبون فيما لاينالون, ويعملون فيما لا يأكلون, رواه ابن أبي حاتم عنه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح كاتب الليث, حدثني معاوية بن صالح عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن الدابة فيها من كل لون, ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وقال ابن عباس: هي مثل الحربة الضخمة, وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنها دابة لها ريش, وزغب, وحافر, وما لها ذنب, ولها لحية, وإنها لتخرج حضر الفرس الجواد ثلاثاً, وما خرج ثلثها, رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جريج عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور, وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل, وقرنها قرن أيل, وعنقها عنق نعامة, وصدرها صدر أسد, ولونها لون نمر, وخاصرتها خاصرة هر, وذنبها ذنب كبش, وقوائمها قوائم بعير, بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعاً, تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان, فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى نكتة بيضاء, فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لهاوجهه, ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان, فتفشو تلك النكتة السوداء حتى يسود بها وجهه, حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق بكم ذا يا مؤمن, بكم ذا يا كافر ؟ وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم فيعرفون مؤمنهم من كافرهم, ثم تقول لهم الدابة: يا فلان أبشر أنت من أهل الجنة, ويا فلان أنت من أهل النار. فذلك قول الله تعالى: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}. ** وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمّةٍ فَوْجاً مّمّن يُكَذّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّىَ إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا الْلّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى مخبراً عن يوم القيامة وحشر الظالمين من المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله عز وجل ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا, تقريعاً وتوبيخاً وتصغيراً وتحقيراً فقال تعالى: {ويوم نحشر من كل أمة فوجاً} أي من كل قوم وقرن فوجاً أي جماعة {ممن يكذب بآياتنا} كما قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} وقال تعالى: {وإذا النفوس زوجت} وقوله تعالى: {فهم يوزعون} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون. وقال قتادة: وزعة يرد أولهم على آخرهم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يساقون {حتى إذا جاءوا} ووقفوا بين يدي الله عز وجل في مقام المساءلة {قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أم ماذا كنتم تعملون} أي فيسألون عن اعتقادهم وأعمالهم! فلما لم يكونوا من أهل السعادة وكانوا كما قال الله عنهم: {فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى} فحينئذ قامت عليهم الحجة, ولم يكن لهم عذر يعتذرون به, كما قال الله تعالى {هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون} الاَية, وهكذا قال ههنا: {ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون} أي بهتوا فلم يكن لهم جواب لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم, وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية. ثم قال تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم وشأنه الرفيع الذي تجب طاعته والانقياد لأوامره وتصديق أنبيائه فيما جاؤوا به من الحق الذي لا محيد عنه, فقال تعالى: {ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وتهدأ أنفاسهم, ويستريحون من نصب التعب في نهارهم {والنهار مبصراً} أي منيراً مشرقاً, فبسبب ذلك يتصرفون في المعاش والمكاسب والأسفار والتجارات وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها {إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}. ** وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاّ مَن شَآءَ اللّهُ وَكُلّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِيَ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ إِنّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَكُبّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور, وهو كما جاء في الحديث قرن ينفخ فيه. وفي حديث الصور: إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى, فينفخ فيه أولاً نفخة الفزع ويطولها وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء فيفزع من في السموات ومن في الأرض {إلا من شاء الله} وهم الشهداء, فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون. قال الإمام مسلم بن الحجاج: حدثنا عبيد الله بن معاذالعنبري, حدثنا أبي, حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم, سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي, سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه, وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان الله, أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما, لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً, إنما قلت أنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً يخرب البيت ويكون ويكون ـ ثم قال ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين ـ لا أدري أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً ـ فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه, ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة, ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام, فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته, حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه» قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً, ولا ينكرون منكراً, فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون ؟ فيقولون: فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان, وهم في ذلك دارّ رزقهم حسن عيشهم, ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ـ قال ـ وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله, قال: فيصعق ويصعق الناس, ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطراً كأنه الطل ـ أو قال: الظل, نعمان الشاك, فتنبت منه أجساد الناس, ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون, ثم يقال: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون, ثم يقال: أخرجوا بعث النار, فيقال: كم ؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين, قال: فذلك يوم يجعل الولدان شيباً, وذلك يوم يكشف عن ساق». وقوله ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً. الليت هو صفحة العنق, أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيداً, فهذه نفخة الفزع, ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت, ثم بعد ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق, ولهذا قال تعالى: {وكل أتوه داخرين} قرىء بالمد وبغيره على الفعل, وكل بمعنى واحد, وداخرين أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره, كما قال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده} وقال تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} وفي حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور, ثم ينفخ إسرافيل فيه بعد ما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها, فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج أرواح المؤمنين نوراً, وأرواح الكافرين ظلمة, فيقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها. فتجيء الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ, ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم, قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون}. وقوله تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه, وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها, كما قال تعالى: {يوم تمور السماء موراً * وتسير الجبال سيراً} قال تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً * فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} وقال تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة} وقوله تعالى: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة {الذي أتقن كل شيء} أي أتقن كل ما خلق, وأودع فيه من الحكمة ما أودع, {إنه خبير بما يفعلون} أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر, وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. ثم بين تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذ, فقال: {من جاء بالحسنة فله خير منها} قال قتادة: بالإخلاص, وقال زين العابدين: هي لا إله إلا الله, وقد بين تعالى في الموضع الاَخر أن له عشر أمثالها {وهم من فزع يومئذ آمنون} كما قال في الاَية الأخرى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} وقال تعالى: {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمناً يوم القيامة} وقال تعالى: {وهم في الغرفات آمنون} وقوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} أي من لقي الله مسيئاً لا حسنة له, أو قد رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه, ولهذا قال تعالى: {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}. وقال ابن مسعود وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم, وأنس بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي, وأبو وائل وأبو صالح ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم, والزهري والسدي والضحاك والحسن وقتادة وابن زيد في قوله: {ومن جاء بالسيئة} يعني بالشرك. ** إِنّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الّذِي حَرّمَهَا وَلَهُ كُلّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَقُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ يقول تعالى مخبراً رسوله وآمراً له أن يقول: {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء} كما قال تعالى: {قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها, كما قال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}, وقوله تعالى: {الذي حرمها} أي الذي إنما صارت حراماً شرعاً وقدراً بتحريمه لها, كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض, فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يعضد شوكه, ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها» الحديث بتمامه. وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع, كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام, ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى: {وله كل شيء} من باب عطف العام على الخاص, أي هو رب هذه البلدة ورب كل شيء ومليكه لا إله إلا هو {وأمرت أن أكون من المسلمين} أي الموحدين المخلصين المنقادين لأمره المطيعين له. وقوله: {وأن أتلو القرآن} أي على الناس أبلغهم إياه كقوله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الاَيات والذكر الحكيم} وكقوله تعالى: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} الاَية, أي أنا مبلغ ومنذر, {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنماأنا من المنذرين} أي لي أسوة بالرسل الذين أنذروا قومهم, وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم, وخلصوا من عهدتهم وحساب أممهم على الله تعالى, كقوله تعالى: {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب} وقال {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} {وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها} أي لله الحمد الذي لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه, والإنذار إليه, ولهذا قال تعالى: {سيريكم آياته فتعرفونها} كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}. وقوله تعالى: {وما ربك بغافل عما تعملون} أي بل هو شهيد على كل شيء. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر, حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي, حدثنا سعيد بن أبي سعيد, سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا يغترن أحدكم بالله, فإن الله لو كان غافلاً شيئاً لأغفل البعوضة والخردلة والذرة» وقال أيضاً: حدثنا محمد بن يحيى, حدثنا نصر بن علي قال أبي أخبرني خالد بن قيس عن مطر عن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم, وقد ذكر عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه كان ينشد هذين البيتين إما له وإما لغيره: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقلخلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةولا أن ما يخفى عليه يغيب آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنة. سورة القصص قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق عن معد يكرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين, فقال: ما هي معي, ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت, قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** طسَمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نّبَإِ مُوسَىَ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نّمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مّا كَانُواْ يَحْذَرونَ فقد تقدم الكلام على الحروف المقطعة, وقوله: {تلك} أي هذه {آيات الكتاب المبين} أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور, وعلم ما قد كان وما هو كائن. وقوله: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} الاَية, كما قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص} أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر, ثم قال تعالى: {إن فرعون علا في الأرض} أي تكبر وتجبر وطغى {وجعل أهلها شيعاً} أي أصنافاً قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته. وقوله تعالى: {يستضعف طائفة منهم} يعني بني إسرائيل, وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم, هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد يستعملهم في أخس الأعمال, ويكدهم ليلاً ونهاراً في أشغاله وأشغال رعيته, ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم, إهانة لهم واحتقاراً وخوفاً من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام, يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام, حين ورد الديار المصرية, وجرى له مع جبارها ما جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية, فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه, فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته من يكون هلاك ملك مصر على يديه, فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون, فاحترز فرعون من ذلك, وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر, لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر, ولكل أجل كتاب, ولهذا قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ـ إلى قوله ـ يحذرون} وقد فعل تعالى ذلك بهم, كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون ـ إلى قوله ـ يعرشون}. وقال تعالى: {كذلك وأورثناها بني إسرائيل} أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى, فما نفعه ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب, بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه, بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفاً من الولدان, إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك, وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله وتتفداه, وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه, لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال, الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ** وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرّةُ عَيْنٍ لّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَىَ أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل, خافت القبط أن يفني بني إسرائيل, فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة, فقالوا لفرعون: إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون. ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال, فيخلص إلينا ذلك, فأمر بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً, فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان, وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان, وكان لفرعون ناس موكلون بذلك, وقوابل يَدُرْنَ على النساء, فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها, فإذا كان وقت ولادتها لايقبلها إلا نساء القبط, فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن, وإن ولدت غلاماً دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا, قبحهم الله تعالى. فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها, ولم تفطن لها الدايات ولكن لما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً, وخافت عليه خوفاً شديداً, وأحبته حباً زائداً, وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه, فالسعيد من أحبه طبعاً وشرعاً, قال الله تعالى: {وألقيت عليك محبة مني} فلما ضاقت به ذرعاً, ألهمت في سرها, وألقي في خلدها, ونفث في روعها, كما قال تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل, فاتخذت تابوتاً ومهدت فيه مهداً, وجعلت ترضع ولدها, فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت, وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها, فلما كانت ذات يوم دخل عليها من تخافه, فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر, وذهلت عن أن تربطه, فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون, فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون, ولا يدرين ما فيه, وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها, فلما كشف عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه, فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه, وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها, ولهذا قال: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} الاَية, قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة, لا لام التعليل, لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك, ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه, ولكن إذا نظر إلى معنى السياق, فإنه تبقى اللام للتعليل, لأن معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدواً لهم وحزناً فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه, ولهذا قال تعالى: {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتاباً إلى قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن, قال الله تعالى: {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى ولياً وناصراً, والله تعالى يقول: {ليكون لهم عدواً وحزناً} الاَية. وقوله تعالى: {وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك} الاَية, يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل, فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون, فقالت: {قرة عين لي ولك} فقال فرعون: أما لك فنعم, وأما لي فلا, فكان كذلك, وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه, وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها من رواية ابن عباس مرفوعاً عند النسائي وغيره. وقوله: {عسى أن ينفعنا} وقد حصل لها ذلك, وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه. وقوله: {أو نتخذه ولداً} أي أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه, وذلك أنه لم يكن لها ولد منه. وقوله تعالى: {وهم لا يشعرون} أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة. ** وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىَ فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلآ أَن رّبَطْنَا عَلَىَ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لاُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَىَ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَىَ أُمّهِ كَيْ تَقَرّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى مخبراً عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغاً, أي من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى, قاله ابن عباس ومجاهد, وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة, والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم. {إن كادت لتبدي به} أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد, وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها, قال الله تعالى: {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه} أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها, فقالت لها: {قصيه} أي اتبعي أثره, وخذي خبره, وتطلبي شأنه من نواحي البلد, فخرجت لذلك {فبصرت به عن جنب} قال ابن عباس: عن جانب. وقال مجاهد: بصرت به عن جنب عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده, وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك واستطلقته منه, عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثدياً, وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك, فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته, فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها. قال الله تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} أي تحريماً قدرياً, وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه, ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه, وهي آمنة بعد ما كانت خائفة, فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه {قالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} قال ابن عباس: فلما قالت ذلك, أخذوها وشكوا في أمرها, وقالوا لها: وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته, فأرسلوها, فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم, ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه, ففرحوا بذلك فرحاً شديداً, وذهب البشير إلى امرأة الملك, فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً, وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة, ولكن لكونه وافق ثديها, ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه, فأبت عليها وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً, ولا أقدر على المقام عندك, ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت, فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك, وأجرت عليها النفقة والصلات والكساوى والإحسان الجزيل, فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمناً, في عز وجاه ورزق دارّ. ولهذا جاء في الحديث «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير, كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه, والله أعلم, فسبحان من بيده الأمر, ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجاً وبعد كل ضيق مخرجاً, ولهذا قال تعالى: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها} أي به {ولا تحزن} أي عليه {ولتعلم أن وعد الله حق} أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين, فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين, فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعاً وشرعاً. وقوله تعالى: {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا والاَخرة, فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر, كما قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم} وقال تعالى: {فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً}. ** وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىَ حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَـَذَا مِنْ عَدُوّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىَ فَقَضَىَ عَلَيْهِ قَالَ هَـَذَا مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ إِنّهُ عَدُوّ مّضِلّ مّبِينٌ * قَالَ رَبّ إِنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * قَالَ رَبّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام, ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى, آتاه الله حكماً وعلماً. قال مجاهد: يعني النبوة {وكذلك نجزي المحسنين} ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين, فقال تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: وذلك بين المغرب والعشاء. وقال ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن ابن عباس: كان ذلك نصف النهار, وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أي يتضاربان ويتنازعان {هذا من شيعته} أي إسرائيلي {وهذا من عدوه} أي قبطي, قاله ابن عباس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق, فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام, فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس, فعمد إلى القبطي {فوكزه موسى فقضىَ عليه} قال مجاهد: فوكزه أي طعنه بجمع كفه. وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه, فقضي عليه, أي كان فيها حتفه فمات {قال} موسى {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي} أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة {فلن أكون ظهيراً} أي معيناً {للمجرمين} أي الكافرين بك, المخالفين لأمرك. ** فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقّبُ فَإِذَا الّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَىَ إِنّكَ لَغَوِيّ مّبِينٌ * فَلَمّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالّذِي هُوَ عَدُوّ لّهُمَا قَالَ يَمُوسَىَ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاّ أَن تَكُونَ جَبّاراً فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ يقول تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام لما قتل ذلك القبطي أنه أصبح {في المدينة خائفاً} أي من معرة ما فعل {يترقب} أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر فمر في بعض الطرق, فإذا ذلك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر, فلما مر عليه موسى استصرخه على الاَخر, فقال له موسى {إنك لغوي مبين} أي ظاهر الغواية كثير الشر, ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي, فاعتقد الإسرائيلي لخوره وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك, فقال يدفع عن نفسه {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ؟} وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه السلام, فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه, ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده, فعلم فرعون بذلك, فاشتد حنقه, وعزم على قتل موسى, فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك. ** وَجَآءَ رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىَ قَالَ يَمُوسَىَ إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ قال تعالى: {وجاء رجل} وصفه بالرجولية, لأنه خالف الطريق, فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه, فسبق إلى موسى, فقال له: يا موسى {إن الملأ يأتمرون بك} أي يتشاورون فيك {ليقتلوك فاخرج} أي من البلد {إني لك من الناصحين}. ** فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقّبُ قَالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * وَلَمّا تَوَجّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىَ رَبّيَ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السّبِيلِ * وَلَمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمّةً مّنَ النّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتّىَ يُصْدِرَ الرّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَىَ لَهُمَا ثُمّ تَوَلّىَ إِلَى الظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره, خرج من مصر وحده, ولم يألف ذلك قبله بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة {فخرج منها خائفاً يترقب} أي يتلفت {قال رب نجني من القوم الظالمين} أي من فرعون وملئه, فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكاً على فرس, فأرشده إلى الطريق, فالله أعلم {ولما توجه تلقاء مدين} أي أخذ طريقاً سالكاً مهيعاً, فرح بذلك {قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} أي الطريق الأقوم, ففعل الله به ذلك وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والاَخرة, فجعله هادياً مهدياً {ولما ورد ماء مدين} أي لما وصل إلى مدين وورد ماءها, وكان لها بئر يرده رعاء الشاء {وجد عليه أمة من الناس يسقون} أي جماعة يسقون, {ووجد من دونهم امرأتين تذودان} أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا, فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما {قال ما خطبكما ؟} أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ؟ {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء} أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء {وأبونا شيخ كبير} أي فهذا الحال الملجىء لنا إلى ما ترى, قال الله تعالى: {فسقى لهما} قال أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا عبد الله, أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين, وجد عليه أمة من الناس يسقون قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر, ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال, فإذا هو بامرأتين تذودان قال: ما خطبكما ؟ فحدثتاه, فأتى الحجر فرفعه, ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم, إسناد صحيح. وقوله تعالى: {ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر, وكان حافياً, فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه, وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه, وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع, وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه, وإنه لمحتاج إلى شق تمرة, وقوله {إلى الظل} قال ابن عباس وابن مسعود والسدي: جلس تحت شجرة. وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العنقزي, حدثنا أبي, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: حثثت على جمل ليلتين حتى صبحت مدين, فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى, فإذا هي شجرة خضراء ترف, فأهوى إليها جملي وكان جائعاً فأخذها جملي فعالجها ساعة ثم لفظها, فدعوت الله لموسى عليه السلام ثم انصرفت. وفي رواية عن ابن مسعود أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى, كما سيأتي إن شاء الله, فالله أعلم. وقال السدي, كانت الشجرة من شجر السمر. وقال عطاء بن السائب لما قال موسى {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} أسمع المرأة. ** فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمّا جَآءَهُ وَقَصّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ * قَالَ إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيّ وَاللّهُ عَلَىَ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ لما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما, أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً, فسألهما عن خبرهما, فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام, فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها, قال الله تعالى: {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} أي مشي الحرائر, كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: كانت مستترة بكم درعها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم, حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه: جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها, ليست بسلفع من النساء دلاجة ولاجة خراجة. هذا إسناد صحيح. قال الجوهري: السلفع من الرجال الجسور, ومن النساء الجارية السليطة, ومن النوق الشديدة. {قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة, بل قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا, يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا {فلما جاءه وقص عليه القصص} أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده {قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين} يقول: طب نفساً وقر عيناً, فقد خرجت من مملكتهم, فلا حكم لهم في بلادنا, ولهذا قال: {نجوت من القوم الظالمين}. وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو ؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين, وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء, وقد قاله الحسن البصري وغير واحد, ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز الأوسي, حدثنا مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيباً هو الذي قص عليه موسى القصص, قال {لا تخف نجوت من القوم الظالمين}. وقد روى الطبراني عن سلمة بن سعد الغزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له «مرحباً بقوم شعيب وأختان موسى هديت» وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب. وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب. وقال آخرون. كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه {وما قوم لوط منكم ببعيد} وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن, وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة, كما ذكره غير واحد. وما قيل إن شعيباً عاش مدة طويلة, إنما هو ـ والله أعلم ـ احتراز من هذا الإشكال, ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ههنا, وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده, كما سنذكره قريباً إن شاء الله, ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون, والله أعلم. قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه السلام, وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثرى صاحب مدين, رواه ابن جرير به, ثم قال: الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر, ولا خبر تجب به الحجة في ذلك. وقوله تعالى: {قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل, قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام, قالت لأبيها {يا أبت استأجره} أي لرعية هذه الغنم. قال عمر وابن عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت {إن خير من استأجرت القوي الأمين} قال لها أبوها: وما علمك بذلك ؟ قالت له: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال, وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي: كوني من ورائي, فإذا اختلفت علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر حين تفرس في عمر, وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه, وصاحبة موسى حين قالت {يا أبت استأجره إن خير من أستأجرت القوي الأمين} قال {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين, قال شعيب الجبائي: وهما صفوريا وليا. وقال محمد بن إسحاق: صفوريا وشرفا, ويقال ليا, وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الاَية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة, فقال: اشتريت, أنه يصح, والله أعلم. وقوله: {على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك} أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين, فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك, وإلا ففي الثمان كفاية {وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك, وقد استدلوا بهذه الاَية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال: بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة أنه يصح, ويختار المشتري بأيهما أخذه صح, وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» على هذا المذهب, وفي الاستدلال بهذه الاَية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله, والله أعلم. ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة, بهذه الاَية, واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في كتابه السنن حيث قال: باب استئجار الأجير على طعام بطنه, حدثنا محمد بن الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال: سمعت عتبة بن المنذر السلمي يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: «إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه» وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف, لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة, ولكن قد روي من وجه آخر, وفيه نظر أيضاً. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن الندّر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه» وقوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام {قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل} يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين, فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهدوخرجت من الشرط, ولهذا قال {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي} أي فلا حرج علي, مع أن الكامل وإن كان مباحاً لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج, كما قال تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه, وكان كثير الصيام, وسأله عن الصوم في السفر, فقال: «إن شئت فصم, وإن شئت فأفطر» مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر, هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما. وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله, فقدمت على ابن عباس رضي الله عنه فسألته, فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل, هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره عن سعيد بن جبير, ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير: أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية والأول أشبه, والله أعلم, وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعاً, قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: أتمهما وأكملهما» ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة: حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني فذكره. وفي إسناده قلب, وإبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة, عن ابن عباس عن النبي فذكره, ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً عن ابن عباس إلا من هذا الوجه. ثم قال ابن أبي حاتم: قرىء على يونس بن عبد الأعلى, أنبأنا ابن وهب, أنبأنا عمرو بن الحارث عن يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح أن رسول الله سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: «لا علم لي» فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل, فقال جبريل: لا علم لي, فسأل جبريل ملكاً فوقه, فقال: لا علم لي, فسأل ذلك الملك ربه عز وجل عما سأله عنه جبريل, عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب عز وجل: قضى أبرهما وأبقاهما, أو قال أزكاهما, وهذا مرسل, وقد جاء مرسلاً من وجه آخر, وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد: إن النبي صلى الله عليه وسلم, سأل جبريل, أي الأجلين قضى موسى ؟ فقال: سوف أسأل إسرافيل فسأله, فقال: سوف أسأل الرب عز وجل, فسأله فقال: أبرهما وأوفاهما. (طريق أخرى مرسلة أيضاً) قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: «أوفاهما وأتمهما» فهذه طرق متعاضدة, ثم قد روي هذا مرفوعاً من رواية أبي ذر رضي الله عنه. قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن, حدثنا إسحاق بن إدريس, حدثنا عويذ بن أبي عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ ـ قال ـ «أوفاهما وأبرهما ـ قال ـ وإن سئلت: أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما» ثم قال البزار: لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عَوبَذ بن أبي عمران, وهو ضعيف. ثم قد روي أيضاً نحوه من حديث عتبة بن النّدر بزيادة غريبة جداً, فقال أبو بكر البزار: حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني, حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن النّدر يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأجلين قضى موسى ؟ قال: «أبرهما وأوفاهما» ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام لما أراد فراق شعيب عليه السلام, أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون, قال: فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه, فولدت قوالب ألوان كلها, وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثغول» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية» هكذا أورده البزار. وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير, حدثني عبد الله بن لهيعة (ح) وحدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, أنبأنا الوليد, أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن النّدر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه, فلما وفى الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين ؟ ـ قال: أبرهما وأوفاهما, فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به, فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام, وكانت غنمه سوداء حسناء, فانطلق موسى عليه السلام, إلى عصاه, فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض, ثم أوردها فسقاها, ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة, قال: فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش, قال يحيى: ولا ضبون, وقال صفوان: ولا ضبوب, قال أبو زرعة: الصواب طنوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف, قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية». وحدثنا أبو زرعة, أنبأنا صفوان قال: سمعت الوليد قال: سألت ابن لهيعة ما الفشوش ؟ قال: التي تفش بلبنها واسعة الشخب, قلت: فما الضبوب ؟ قال: الطويلة الضرع تجره, قلت: فما العزوز ؟ قال: ضيقة الشخب. قلت: فما الثعول ؟ قال: التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين, قلت: فما الكميشة ؟ قال: التي تفوت الكف كميشة الضرع صغير لا يدركه الكف. مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري, وفي حفظه سوء, وأخشى أن يكون رفعه خطأ, والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة, لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة, وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك موقوفاً عليه ما يقارب بعضه بإِسناد جيد, فقال: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا معاذ بن هشام, حدثنا أبي, حدثنا قتادة, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما, قال له صاحبه: كل شاة ولدت على غير لونها, فلك ولدها, فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء, فلما رأت الخيال فزعت, فجالت جولة, فولدن كلهن بلقاً إلا شاة واحدة, فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام. ** فَلَمّا قَضَىَ مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطّورِ نَاراً قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوَاْ إِنّيَ آنَسْتُ نَاراً لّعَلّيَ آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مّنَ النّارِ لَعَلّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشّجَرَةِ أَن يَمُوسَىَ إِنّيَ أَنَا اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمّا رَآهَا تَهْتَزّ كَأَنّهَا جَآنّ وَلّىَ مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يَمُوسَىَ أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنّكَ مِنَ الاَمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوَءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رّبّكَ إِلَىَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ قد تقدم في تفسير الاَية قبلها أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأتقاهما, وقد يستفاد هذا أيضاً من الاَية الكريمة حيث قال تعالى: {فلما قضى موسى الأجل} أي الأكمل منهما, والله أعلم. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: قضى عشر سنين وبعدها عشراً أخر, وهذا القول لم أره لغيره, وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير, فالله أعلم. وقوله: {وسار بأهله} قالوا: كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله, فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه, فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره, فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة, فنزل منزلاً, فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً, فتعجب من ذلك, فبينما هو كذلك {آنس من جانب الطور ناراً} أي رأى ناراً تضيء على بعد {فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً} أي حتى أذهب إليها {لعلي آتيكم منها بخبر} وذلك لأنه قد أضل الطريق {أو جذوة من النار} أي قطعة منها {لعلكم تصطلون} أي تستدفئون بها من البرد, قال الله تعالى: {فلما أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن} أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب, كما قال تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة, والجبل الغربي عن يمينه, والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي, فوقف باهتاً في أمرها, فناداه ربه {من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة}. قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام سمرة خضراء ترف, إسناده مقارب. وقال محمد بن إسحاق عن بعض من لا يتهم عن وهب بن منبه قال: شجرة من العليق, وبعض أهل الكتاب يقول إنها من العوسج. وقال قتادة: هي من العوسج, وعصاه من العوسج. وقوله تعالى: {أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه, تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه. وقوله: {وأن ألق عصاك} أي التي في يدك كما قرره على ذلك في قوله تعالى: {وما تلك بيمينك يا موسى ؟ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} والمعنى أما هذه عصاك التي تعرفها {ألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى} فعرف وتحقق أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء: كن فيكون, كما تقدم بيان ذلك في سوره طه, وقال ههنا: {فلما رآها تهتز} أي تضطرب {كأنها جان ولى مدبراً} أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها, واتساع فمها واصطكاك أنيابها وأضراسها, بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها, تنحدر في فيها تتقعقع كأنها حادرة في واد فعند ذلك {ولى مدبراً ولم يعقب} أي ولم يكن يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك, فلما قال الله له: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الاَمنين} رجع فوقف في مقامه الأول, ثم قال الله تعالى: {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها, فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق, ولهذا قال: {من غير سوء} أي من غير برص. وقوله تعالى: {واضمم إليك جناحك من الرهب} قال مجاهد: من الفزع, وقال قتادة: من الرعب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بن جرير: مما حصل لك من خوفك من الحية, والظاهر أن المراد أعم من هذا, وهو أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده, فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف, وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده, فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ صالح, أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم عن مجاهد قال: كان موسى عليه السلام قد ملىء قلبه رعباً من فرعون, فكان إذا رآه قال: اللهم إني أدرأ بك في نحره, وأعوذ بك من شره, فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام, وجعله في قلب فرعون, فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار. وقوله تعالى: {فذانك برهانان من ربك} يعني إلقاء العصا وجعلها حية تسعى وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء, دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار, وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه, ولهذا قال تعالى: {إلى فرعون وملئه} أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع {إنهم كانوا قوماً فاسقين} أي خارجين عن طاعة الله, مخالفين لأمره ودينه. ** قَالَ رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدّقُنِي إِنّيَ أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ * قَالَ سَنَشُدّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون الذي إنما خرج من ديار مصر فراراً منه وخوفاً من سطوته {قال رب إني قتلت منهم نفساً} يعني ذلك القبطي {فأخاف أن يقتلون} أي إذا رأوني {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً} وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة, فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه, فحصل فيه شدة في التعبير, ولهذا قال: {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري} أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم, وهو القيام بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد, ولهذا قال: {وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً} أي وزيراً ومعيناً ومقوياً لأمري, يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل, لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد, ولهذا قال: {إني أخاف أن يكذبون}. وقال محمد بن إسحاق {ردءاً يصدقني} أي يبين لهم عني ما أكلمهم به, فإنه يفهم عني ما لا يفهمون, فلما سأل ذلك موسى قال الله تعالى: {سنشد عضدك بأخيك} أي سنقوي أمرك, ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبياً معك, كما قال في الاَية الأخرى: {قد أوتيت سؤلك يا موسى} وقال تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً} ولهذا قال بعض السلف: ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام, فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً معه إلى فرعون وملئه, ولهذا قال تعالى في حق موسى {وكان عند الله وجيهاً}. وقوله تعالى: {ونجعل لكما سلطاناً} أي حجة قاهرة {فلا يصلون إليكما بآياتنا} أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله, كما قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ـ إلى قوله ـ والله يعصمك من الناس} وقال تعالى: {الذين يبلغون رسالات الله ـ إلى قوله ـ وكفى بالله حسيباً} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً ومؤيداً, ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والاَخرة, فقال تعالى: {أنتما ومن اتبعكما الغالبون} كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} وقال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} إلى آخر الاَية, ووجه ابن جرير على أن المعنى: ونجعل لكما سطاناً فلا يصلون إليكما, ثم يبتدىء فيقول: {بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون} تقديره أنتما ومن اتبعكما الغالبون بآياتنا, ولا شك أن هذا المعنى صحيح, وهو حاصل من التوجيه الأول, فلا حاجة إلى هذا, والله أعلم. ** فَلَمّا جَآءَهُم مّوسَىَ بِآيَاتِنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِيَ آبَآئِنَا الأوّلِينَ * وَقَالَ مُوسَىَ رَبّيَ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَىَ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الظّالِمُونَ يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة, والدلالة القاهرة على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره, فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه, وأيقنوا أنه من عند الله, عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة, وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا {ما هذا إلا سحر مفترى} أي مفتعل مصنوع, وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك. وقوله: {وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} يعنون عبادة الله وحده لا شريك له, يقولون: ما رأينا أحداً من آبائنا على هذا الدين, ولم نرَ الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى, فقال موسى عليه السلام مجيباً لهم {ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده} يعني مني ومنكم, وسيفصل بيني وبينكم, ولهذا قال: {ومن تكون له عاقبة الدار} أي من النصرة والظفر والتأييد {إنه لا يفلح الظالمون} أي المشركون بالله عز وجل. ** وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَأَيّهَا الْملاُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحاً لّعَلّيَ أَطّلِعُ إِلَىَ إِلَـَهِ مُوسَىَ وَإِنّي لأظُنّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنّوَاْ أَنّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظّالِمِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله, كما قال الله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه} الاَية, وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية, فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم, ولهذا قال: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} وقال تعالى إخباراً عنه: {فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى * فأخذه الله نكال الاَخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} يعني أنه جمع قومه, ونادى فيهم بصوته العالي مصرحاً لهم بذلك, فأجابوه سامعين مطيعين, ولهذا انتقم الله تعالى منه, فجعله عبرة لغيره في الدنيا والاَخرة, وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك, فقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين}. وقوله: {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى} يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين, يعني يتخذ له آجراً لبناء الصرح وهوالقصر المنيف الرفيع العالي, كما قال في الاَية الاَخرى: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب} وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يرَ في الدنيا بناء أعلى منه, إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون, ولهذا قال: {وإني لأظنه من الكاذبين} أي في قوله: إن ثم رباً غيري, لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا, فإنه قال: {وما رب العالمين ؟} وقال: {لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين} وقال {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} وهذا قول ابن جرير. وقوله تعالى: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} أي طغوا وتجبروا, وأكثروا في الأرض الفساد, واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد {فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد} ولهذا قال تعالى ههنا: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم} أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة, فلم يبقَ منهم أحد {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار} أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع {ويوم القيامة لا ينصرون} أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الاَخرة, كما قال تعالى: {أهلكناهم فلا ناصر لهم}. وقوله تعالى: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة} أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله, كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك {ويوم القيامة هم من المقبوحين} قال قتادة: وهذه الاَية كقوله تعالى: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُولَىَ بَصَآئِرَ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم, عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم, من إنزال التوارة عليه بعد ما أهلك فرعون وملأه. وقوله تعالى: {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} يعني أنه بعد إنزال التوارة لم يعذب أمة بعامة بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين, كما قال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد وعبد الوهاب قالا: حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعد ما أنزلت التوارة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى, ثم قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الاَية, ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه, وهكذا رواه أبو بكر البزار في مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة, عن أبي سعيد موقوفاً, ثم رواه عن نصر بن علي عن عبد الأعلى عن عوف, عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى» ثم قرأ {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الاَية. وقوله: {بصائر للناس وهدى ورحمة} أي من العمى والغي, وهدى إلى الحق ورحمة, أي إرشاداً إلى العمل الصالح {لعلهم يتذكرون} أي لعل الناس يتذكرون به ويهتدون بسببه. ** وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىَ مُوسَى الأمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ * وَلَكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِيَ أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـَكِن رّحْمَةً مّن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * وَلَوْلآ أَن تُصِيبَهُم مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبّنَا لَوْلآ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم, وهو رجل أمي لا يقرأ شيئاً من الكتب, نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك, كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال تعالى: {وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون} الاَية, أي وما كنت حاضراً لذلك, ولكن الله أوحاه إليك, وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه, وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه, ثم قال تعالى: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين} الاَية, وقال في آخر السورة {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} وقال بعد ذكر قصة يوسف {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون} الاَية, وقال في سورة طه: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} الاَية, وقال ههنا بعد ما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها, وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي هي شرقية على شاطىء الوادي {وما كنت من الشاهدين} لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك, ليكون حجة وبرهاناً على قرون قد تطاول عهدها, ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين. وقوله تعالى: {وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا} أي وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه {ولكنا كنا مرسلين} أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولاً {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه: أخبرنا علي بن حجر, أخبرناعيسى بن يونس عن حمزة الزيات عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال: نودوا أن: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني, وأجبتكم قبل أن تدعوني, وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة وهو ابن حبيب الزيات, عن الأعمش. ورواه ابن جرير من حديث وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش, عن علي بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه, والله أعلم. وقال مقاتل بن حيان {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت. وقال قتادة {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} موسى وهذا ـ والله أعلم ـ أشبه بقوله تعالى: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} ثم أخبر ههنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء, كما قال تعالى: {وإذ نادى ربك موسى} وقال تعالى: {إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى} وقال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجياً}. وقوله تعالى: {ولكن رحمة من ربك} أي ما كنت مشاهداً لشيء من ذلك, ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد وبإرسالك إليهم {لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عز وجل {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً} الاَية, أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة, ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم, فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير, كما قال تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} وقال تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة. ** فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلآ أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَىَ أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىَ مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنّا بِكُلّ كَافِرُونَ * قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ هُوَ أَهْدَىَ مِنْهُمَآ أَتّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنّمَا يَتّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلّ مِمّنْ اتّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللّهِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ يقول تعالى مخبراً عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم, لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول أنهم لما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم, قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والإلحاد {لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} الاَية, يعنون ـ والله أعلم ـ من الاَيات كثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع والثمار, مما يضيق على أعداء الله, وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الاَيات الباهرة, والحجج القاهرة, التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل, ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه, بل كفروا بموسى وأخيه هارون, كما قالوا لهما {أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين} وقال تعالى: {فكذبوهما فكانوا من المهلكين} ولهذا قال ههنا: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل} أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الاَيات العظيمة {قالوا سحران تظاهرا} أي تعاونا {وقالوا إنا بكل كافرون} أي بكل منهما كافرون, ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون, دل ذكر أحدهما على الاَخر, كما قال الشاعر: فما أدري إذا يممت أرضاًأريد الخير أيهما يليني أي فما أدري يليني الخير أو الشر. قال مجاهد بن جبر: أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك, فقال الله: {أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا} قال يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم {تظاهرا} أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الاَخر ؟ وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله {ساحران} يعنون موسى وهارون, وهذا قول جيد قوي, والله أعلم. وقال مسلم بن يسار عن ابن عباس {قالوا ساحران تظاهرا} قال: يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذه رواية الحسن البصري. وقال الحسن وقتادة: يعني عيسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم, وهذا فيه بعد, لأن عيسى لم يجر له ذكر ههنا, والله أعلم. وأما من قرأ {سحران تظاهرا} فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يعنون التوارة والقرآن, وكذا قال عاصم الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال السدي: يعني صدق كل واحد منهما الاَخر. وقال عكرمة: يعنون التوارة والإنجيل, وهو رواية عن أبي زرعة, واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة: الإنجيل والقرآن, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب, والظاهر على قراءة {سحران} أنهم يعنون التوارة والقرآن, لأنه قال بعده: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} وكثيراً ما يقرن الله بين التوارة والقرآن, كما في قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ـ إلى أن قال ـ وهذا كتاب أنزلناه مبارك} وقال في آخر السورة: {ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن} الاَية, وقال: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} وقال الجن {إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لمن بين يديه} وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا)أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, وهو القرآن, وبعده في الشرف والعظمة الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه السلام, وهو الكتاب الذي قال الله فيه: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} والإنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة, ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل, ولهذا قال تعالى: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين} أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل, قال الله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك} أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم, ولم يتبعوا الحق {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} أي بلا دليل ولا حجة {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله {إن الله لا يهدي القوم الظالمين}. وقوله تعالى: {ولقد وصلنا لهم القول} قال مجاهد: فصلنا لهم القول. وقال السدي: بينا لهم القول. وقال قتادة: يقول تعالى: أخبرهم كيف صنع بمن مضى, وكيف هو صانع {لعلهم يتذكرون} قال مجاهد وغيره {وصلنا لهم} يعني قريشاً, وهذا هو الظاهر, لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة, رفاعة هذا هو ابن قرظة القرظي, وجعله ابن مندة: رفاعة بن شموال خال صفية بنت حيي وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا, كذا ذكره ابن الأثير ـ قال: نزلت {ولقد وصلنا لهم القول} في عشرة أنا أحدهم, رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه. ** الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ قَالُوَاْ آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِن رّبّنَآ إنّا كُنّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَـَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السّيّئَةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ اللّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن, كما قال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} وقال تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله} وقال تعالى: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً} وقال تعالى: {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ـ إلى قوله ـ فاكتبنا مع الشاهدين}. قال سعيد بن جبير: نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي, فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم {يس والقرآن الحكيم} حتى ختمها, فجعلوا يبكون وأسلموا, ونزلت فيهم هذه الاَية الأخرى {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين} يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين, أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم الثاني, ولهذا قال: {بما صبروا} أي على اتباع الحق, فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس, وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي, وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه,ورجل كانت له أمة, فأدبها فأحسن تأديبها, ثم أعتقها فتزوجها». وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني, حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال: إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح, فقال قولاً حسناً جميلاً, وقال فيما قال: «من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين وله ما لنا وعليه وما علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله ما لنا وعليه ما علينا». وقوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} أي لا يقابلون السيء بمثله, ولكن يعفون ويصفحون {ومما رزقناهم ينفقون} أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة لأهليهم وأقاربهم, والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات. وقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم, بل كما قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً} {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه, أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح, ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب, ولهذا قال عنهم إنهم قالوا {لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. قال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة, فوجدوه في المسجد, فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه, ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة, فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا, دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن, فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع, ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه, وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره, فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش, فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب, بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل, فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال: قال: ما نعلم ركباً أحمق منكم, أو كما قالوا لهم فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه, ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيراً. قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران, فالله أعلم أي ذلك كان. قال: ويقال ـ والله أعلم ـ أن فيهم نزلت هذه الاَيات {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ـ إلى قوله ـ لا نبتغي الجاهلين} قال: وسألت الزهري عن هذه الاَيات فيمن نزلت ؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والاَيات اللاتي في سورة المائدة {ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً ـ إلى قوله ـ فاكتبنا مع الشاهدين}. ** إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوَاْ إِن نّتّبِعِ الْهُدَىَ مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكّن لّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىَ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ رّزْقاً مّن لّدُنّا وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد {لا تهدي من أحببت} أي ليس إليك ذلك, إنما عليك البلاغ, والله يهدي من يشاء, وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة, كما قال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وهذه الاَية أخص من هذا كله, فإنه قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهوأعلم بالمهتدين} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية, وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً طبعياً لا شرعياً, فلما حضرته الوفاة وحان أجله, دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإسلام. فسبق القدر فيه واختطف من يده, فاستمر على ما كان عليه من الكفر, ولله الحكمة التامة. قال الزهري: حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه, وهو المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم قل لا إله إلا الله, كلمة أحاج لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب, وأبى أن يقول لا إله إلا الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فأنزل الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} وأنزل في أبي طالب {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} أخرجاه من حديث الزهري, وهكذا رواه مسلم في صحيحه, والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عماه قل لا إله إلا الله, أشهد لك بها يوم القيامة» فقال: لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت, لأقررت بها عينك, لا أقولها إلا لأقر بها عينك, فأنزل الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} وقال الترمذي: حسن غريب, لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان, ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان: حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه, وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا إله إلا الله, فأبى عليه ذلك, وقال: أي ابن أخي ملة الأشياخ, وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة, حدثنا حماد بن سلمة, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي, قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً, فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره, ثم قال: «ممن الرجل ؟» قلت: من تنوخ. قال: «هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية ؟» قلت: إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع إليهم, فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه, وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء». وقوله تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى نتخطف من أرضنا} يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين, أن يقصدونا بالأذى والمحاربة, ويتخطفونا أينما كنا, قال الله تعالى مجيباً لهم: {أو لم نمكن لهم حرماً آمناً} يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل, لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين وحرم معظم آمن منذ وضع, فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم, ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق ؟ وقوله تعالى: {يجبى إليه ثمرات كل شيء} أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره, وكذلك المتاجر والأمتعة {رزقاً من لدنا} أي من عندنا {ولكن أكثرهم لا يعلمون} ولهذا قالوا ما قالوا, وقد قال النسائي: أنبأنا الحسن بن محمد, حدثنا الحجاج عن ابن جريج, أخبرني ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس, ولم يسمعه منه, إن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا}. ** وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاّ قَلِيلاً وَكُنّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىَ حَتّىَ يَبْعَثَ فِيَ أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنّا مُهْلِكِي الْقُرَىَ إِلاّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ يقول تعالى معرضاً بأهل مكة في قوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق, كما قال في الاَية الأخرى {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ـ إلى قوله ـ فأخذهم العذاب وهم ظالمون} ولهذا قال تعالى: {فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً} أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم. وقوله تعالى: {وكنا نحن الوارثين} أي رجعت خراباً ليس فيها أحد. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعباً يقول لعمر: إن سليمان عليه السلام قال للهامة ـ يعني البومة ـ: ما لك لا تأكلين الزرع ؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه, قال: فما لك لا تشربين الماء ؟ قالت: لأن الله تعالى أغرق قوم نوح به. قال: فما لك لا تأوين إلا إلى الخراب ؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى, ثم تلا {وكنا نحن الوارثين} ثم قال تعالى مخبراً عن عدله وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له, وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم, ولهذا قال: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها} وهي مكة {رسولاً يتلو عليهم آياتنا} فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام, كما قال تعالى: {لتنذر أم القرى ومن حولها} وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} وقال: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وتمام الدليل قوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً} الاَية, فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة, وقد قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى, لأنه رسول إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها. وثبت في الصحيحين عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «بعثت إلى الأحمر والأسود» ولهذا ختم به النبوة والرسالة, فلا نبي من بعده ولا رسول, بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة, وقيل المراد بقوله: {حتى يبعث في أمها رسولاً} أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم, حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما, وليس ببعيد. ** وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مّتّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا, وما فيها من الزينة الدنيئة, والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الاَخرة من النعيم العظيم المقيم, كما قال تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وقال: {وما عند الله خير للأبرار} وقال: {وما الحياة الدنيا في الاَخرة إلا متاع} وقال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والاَخرة خير وأبقى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والله ما الحياة الدنيا في الاَخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم, فلينظر ماذا يرجع إليه». وقوله تعالى: {أفلا تعقلون ؟} أي أفلا يعقل من يقدم الدنيا على الاَخرة. وقوله تعالى: {أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} يقول تعالى: أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح الأعمال من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة, كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده, فهو ممتع في الحياة الدنيا أياماً قلائل {ثم هو يوم القيامة من المحضرين} قال مجاهد وقتادة: من المعذبين. ثم قد قيل: إنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. وقيل في حمزة وعلي وأبي جهل, وكلاهما عن مجاهد, الظاهر أنها عامة, وهذا كقوله تعالى إخباراً عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات, وذاك في الدركات, فقال: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} وقال تعالى: {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون}. ** وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبّنَا هَـَؤُلآءِ الّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوَاْ إِيّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ * فَأَمّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىَ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ يقول تعالى مخبراً عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} يعني أين الاَلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد, هل ينصرونكم أو ينتصرون ؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد, كما قال تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون}. وقوله: {قال الذين حق عليهم القول} يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر {ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون} فشهدوا عليهم أنه أغووهم فاتبعوهم ثم تبرءوا من عبادتهم, كما قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً} وقال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقال الخليل عليه السلام لقومه {إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً} الاَية, وقال الله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ـ إلى قوله ـ وما هم بخارجين من النار} ولهذا قال: {وقيل ادعوا شركاءكم} أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا {فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب} أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة. وقوله: {لو أنهم كانوا يهتدون} أي فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا, وهذا كقوله تعالى: {ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقاً * ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفاً}. وقوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} النداء الأول عن سؤال التوحيد, وهذا فيه إثبات النبوات, ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم, وكيف كان حالكم معهم ؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره: من ربك, ومن نبيك, وما دينك ؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, وأما الكافر فيقول: هاه هاه لا أدري, ولهذا لاجواب له يوم القيامة غير السكوت, لأن من كان في هذه أعمى, فهو في الاَخرة أعمى وأضل سبيلاً, ولهذا قال تعالى: {فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} قال مجاهد: فعميت عليهم الحجج, فهم لا يتساءلون بالأنساب. وقوله {فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً} أي في الدنيا {فعسى أن يكون من المفلحين} أي يوم القيامة وعسى من الله موجبة, فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة. ** وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللّهِ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ * وَرَبّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللّهُ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الاُولَىَ وَالاَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار, وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب, قال تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار} أي ما يشاء, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, فالأمور كلها خيرها وشرها بيده, ومرجعها إليه, وقوله: {ما كان لهم الخيرة} نفي على أصح القولين, كقوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} وقد اختار ابن جرير أن {ما} ههنا بمعنى الذي تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة, وقد احتج بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح, والصحيح أنها نافية, كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس وغيره أيضاً. فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار, وأنه لا نظير له في ذلك, ولهذا قال {سبحان الله وتعالى عما يشركون} أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً. ثم قال تعالى: {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} أي يعلم ما تكن الضمائر, وما تنطوي عليه السرائر, كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}. وقوله {وهو الله لا إله إلا هو} أي هو المنفرد بالإلهية, فلا معبود سواه, كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه {له الحمد في الأولى والاَخرة} أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته {وله الحكم} أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته {وإليه ترجعون} أي جميعكم يوم القيامة, فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر, ولايخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال. ** قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما وبيّن أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولسئمته النفوس وانحصرت منه, ولهذا قال تعالى: {من إله غير الله يأتيكم بضياء} أي تبصرون به وتستأنسون بسببه {أفلا تسمعون ؟} ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمداً, أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة, لأضر ذلك بهم, ولتعبت الأبدان وكلت من كثرة الحركات والأشغال, ولهذا قال تعالى: {من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه} أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم {أفلا تبصرون * ومن رحمته} أي بكم {جعل لكم الليل والنهار} أي خلق هذا وهذا {لتسكنوا فيه} أي في الليل {ولتبتغوا من فضله} أي في النهار بالأسفار والترحال, والحركات والأشغال, وهذا من باب اللف والنشر. وقوله: {ولعلكم تشكرون} أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار, ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار, أو بالنهار استدركه بالليل, كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} والاَيات في هذا كثيرة. ** وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وهذا أيضاً نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلهاً آخر, يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون} أي في دار الدنيا {ونزعنا من كل أمة شهيداً} قال مجاهد: يعني رسولاً {فقلنا هاتوا برهانكم} أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء {فعلموا أن الحق لله} أي لا إله غيره, فلم ينطقوا ولم يحيروا جواباً {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي ذهبوا فلم ينفعوهم. ** إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىَ فَبَغَىَ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الاَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال {إن قارون كان من قوم موسى} قال: كان ابن عمه, وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج: هو قارون بن يصهر بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث. وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام, قال ابن جريج: وأكثر أهل العلم على أنه كان ابن عمه, والله أعلم. وقال قتادة بن دعامة: كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى, وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة, ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري, فأهلكه البغي لكثرة ماله. وقال شهر بن حوشب: زاد في ثيابه شبراً طولاً ترفعاً على قومه. وقوله: {وآتيناه من الكنوز} أي الأموال {ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة} أي ليثقل حملها الفئام من الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود, كل مفتاح مثل الإصبع, كل مفتاح على خزانة على حدته, فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً, وقيل غير ذلك, والله أعلم. وقوله: {إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين} أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه, فقالوا على سبيل النصح والإرشاد: لا تفرح بما أنت فيه, يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال, {إن الله لا يحب الفرحين} قال ابن عباس: يعني المرحين. وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقوله: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الاَخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات, التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والاَخرة {ولا تنس نصيبك من الدنيا} أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح, فإن لربك عليك حقاً, ولنفسك عليك حقاً, ولأهلك عليك حقاً, ولزورك عليك حقاً, فآت كل ذي حق حقه {وأحسن كما أحسن الله إليك} أي أحسن إلى خلقه, كما أحسن هو إليك {ولا تبغ الفساد في الأرض} أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض, وتسيء إلى خلق الله {إن الله لا يحب المفسدين}. ** قَالَ إِنّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىَ عِلْمٍ عِندِيَ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدّ مِنْهُ قُوّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه, وأرشدوه إلى الخير {قال إنما أوتيته على علم عندي} أي لا أفتقر إلى ما تقولون, فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي, فتقديره إنما أعطيته لعلم الله فيّ أني أهل له, وهذا كقوله تعالى: {وإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم} أي على علم من الله بي, وكقوله تعالى: {ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي} أي هذا أستحقه. وقد روي عن بعضهم أنه أراد {إنما أوتيته على علم عندي} أي أنه كان يعاني علم الكيمياء, وهذا القول ضعيف, لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل, لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز وجل, قال الله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له}. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي, فليخلقوا ذرة, فليخلقوا شعيرة» وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل, فكيف بمن يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى ؟ هذا زور ومحال, وجهل وضلال, وإنما يقدرون على الصبغ في الصور الظاهرة, وهي كذب وزغل وتمويه وترويج أنه صحيح في نفس الأمر وليس كذلك قطعاً لا محالة, ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة الأفاكون, فأما ما يجريه الله سبحانه من خرق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهباً أو فضة أو نحو ذلك, فهذا أمر لا ينكره مسلم, ولا يرده مؤمن, ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات, وإنما هذا عن مشيئة رب الأرض والسموات واختياره وفعله, كما روي عن حيوة بن شريح المصري رحمه الله تعالى أنه سأله سائل, فلم يكن عنده ما يعطيه, ورأى ضرورته, فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه, ثم ألقاها إلى ذلك السائل, فإذا هي ذهب أحمر, والأحاديث والاَثار في هذا كثيرة جداً يطول ذكرها. وقال بعضهم: إن قارون كان يعرف الاسم الأعظم, فدعا الله به فتمول بسببه. والصحيح المعنى الأول, ولهذا قال الله تعالى راداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال {أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً} أي قد كان من هو أكثر منه مالاً, وما كان ذلك عن محبة منّاله, وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم, ولهذا قال: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} أي لكثرة ذنوبهم قال قتادة {على علم عندي} على خير عندي. وقال السدي: على علم أني أهل لذلك. وقد أجاد في تفسير هذه الاَية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, فإنه قال في قوله: {قال إنما أوتيته على علم عندي} قال: لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال, وقرأ {أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً} الاَية, وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي. ** فَخَرَجَ عَلَىَ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يَلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقّاهَآ إِلاّ الصّابِرُونَ يقول تعالى مخبراً عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة, وتجمل باهر, من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه, فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها, تمنوا أن لو كان لهممثل الذي أعطي {قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} أي ذو حظ وافر من الدنيا, فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم {ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً} أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الاَخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرءوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}. وقوله: {ولا يلقاها إلا الصابرون} قال السدي: ولا يلقى الجنة إلا الصابرون, كأنه جعل ذلك من تمام الكلام الذين أوتوا العلم. قال ابن جرير: ولا يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الاَخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك, وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك. ** فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الّذِينَ تَمَنّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلآ أَن مّنّ اللّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض, كما ثبت في الصحيح عند البخاري من حديث الزهري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به, فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة». ثم رواه من حديث جرير بن زيد عن سالم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص, حدثنا الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما, أمر الله الأرض فأخذته, فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة» تفرد به أحمد, وإسناده حسن. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي, حدثنا أبو خيثمة, حدثنا أبو يعلى بن منصور, أخبرني محمد بن مسلم, سمعت زياد النميري يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما, فأمر الله الأرض فأخذته, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب العجائب الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال: رأيت شاباً في مسجد نجران, فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه وجماله, فقال: ما لك تنظر إلي ؟ فقلت: أعجب من جمالك وكمالك. فقال: إن الله ليعجب مني, قال فما زال ينقص وينقص حتى صار بطول الشبر, فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب به. وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام, واختلف في سببه فعن ابن عباس والسدي أن قارون أعطى امرأة بغياً مالاً على أن تبهت موسى بحضرة الملأ من بني إسرائيل وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب الله تعالى, فتقول يا موسى إنك فعلت بي كذا وكذا, فلما قالت ذلك في الملأ لموسى عليه السلام أرعد من الفرق, وأقبل عليها بعد ما صلى ركعتين ثم قال: أنشدك بالله الذي فرق البحر وأنجاكم من فرعون, وفعل كذا وكذا لما أخبرتني بالذي حملك على ما قلت ؟ فقالت: أما إذ نشدتني فإن قارون أعطاني كذا وكذا على أن أقول ذلك لك, وأنا أستغفر الله وأتوب إليه, فعند ذلك خر موسى لله عز وجل ساجداً, وسأل الله في قارون, فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه, فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره, فكان ذلك, وقيل إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب, وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة, فمر في محفله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام وهو يذكرهم بأيام الله, فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه, فدعاه موسى عليه السلام وقال: ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: يا موسى أما لئن كنت فضلت علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا, ولئن شئت لنخرجن فلتدعون علي وأدعو عليك, فخرج موسى وخرج قارون في قومه, فقال موسى عليه السلام: تدعو أو أدعو أنا, فقال: بل أدعو أنا, فدعا قارون فلم يجب له, ثم قال موسى: أدعو ؟ قال: نعم, فقال موسى: اللهم مر الأرض أن تطيعني اليوم, فأوحى الله إِليه أني قد فعلت, فقال موسى: يا أرض خذيهم, فأخذتهم إِلى أقدامهم ثم قال: خذيهم, فأخذتهم إِلى ركبهم, ثم إِلى مناكبهم, ثم قال: أقبلي بكنوزهم وأموالهم. قال: فأقبلت بها حتى نظروا إليها, ثم أشار موسى بيده, ثم قال: اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض, وعن ابن عباس قال: خسف بهم إِلى الأرض السابعة. وقال قتادة: ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة, فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة, وقد ذكر ههنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صفحاً. وقوله تعالى: {فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين} أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه, ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله, ولا كان هو في نفسه منتصراً لنفسه, فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره. وقوله تعالى: {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} أي الذين لما رأوه في زينته {قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم} فلما خسف به أصبحو يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر, أي ليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه, فإن الله يعطي ويمنع ويضيق ويوسع ويخفض ويرفع, وله الحكمة التامة والحجة البالغة, وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود «إِن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم, وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب, ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» {لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا} أي لولا لطف الله بنا وإِحسانه إِلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله {ويكأنه لا يفلح الكافرون} يعنون أنه كان كافراً, ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الاَخرة, وقد اختلف النحاة في معنى قوله ههنا ويكأن, فقال بعضهم: معناه ويلك اعلم أن, ولكن خفف فقيل ويك ودل فتح أن على حذف اعلم, وهذا القول ضعفه ابن جرير, والظاهر أنه قوي ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن, والكتابة أمر وضعي اصطلاحي, والمرجع إلى اللفظ العربي, والله أعلم, وقيل معناها ويكأن أي ألم تر أن, قاله قتادة. وقيل معناها وي كأن ففصلها وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه, وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قال ابن جرير: وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة إنها بمعنى ألم تر أن, واستشهد بقول الشاعر: سألتاني الطلاق إذ رأتانيقلّ مالي قد جئتماني بنكر ويكأن من يكن له نشب يحببومن يفتقر يعش عيش ضر) ** تِلْكَ الدّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ * مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الّذِينَ عَمِلُواْ السّيّئَاتِ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يخبر تعالى أن الدار الاَخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول, جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا يريدون علواً في الأرض أي ترفعاً على خلق الله وتعاظماً عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم, كما قال عكرمة العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: العلو البغي. وقال سفيان بن سعيد الثوري عن منصور عن مسلم البطين: العلو في الأرض التكبر بغير حق, والفساد أخذ المال بغير حق. وقال ابن جريج {لا يريدون علواً في الأرض} تعظماً وتجبراً {ولا فساداً} عملاً بالمعاصي. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أشعث السمان عن أبي سلام الأعرج عن علي قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه, فيدخل في قوله تعالى: {تلك الدار الاَخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين} وهذا محمول على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره, فإن ذلك مذموم, كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل, فهذا لا بأس به, فقد ثبت أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة, أفمن الكبر ذلك ؟ فقال: «لا, إن الله جميل يحب الجمال». وقال تعالى: {من جاء بالحسنة} أي يوم القيامة {فله خير منها} أي ثواب الله خير من حسنة العبد, فكيف والله يضاعفه أضعافاً كثيرة, وهذا مقام الفضل ثم قال: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} كما قال في الاَية الأخرى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار, هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} وهذا مقام الفضل والعدل. ** إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدّكَ إِلَىَ مَعَادٍ قُل رّبّيَ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىَ وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوَ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مّن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ ظَهيراً لّلْكَافِرِينَ * وَلاَ يَصُدّنّكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَىَ رَبّكَ وَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس, ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة, فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة, ولهذا قال تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} أي افترض عليك أداءه إلى الناس {لرادك إلى معاد} أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك, كما قال تعالى: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} وقال تعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} وقال: {وجيء بالنبيين والشهداء}. وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} يقول لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن. قاله السدي, وقال أبو سيعد مثلها, وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما {لرادك إلى معاد} قال: إلى يوم القيامة, ورواه مالك عن الزهري, وقال الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} إلى الموت, ولهذا طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما, وفي بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة. وقال مجاهد: يحييك يوم القيامة, وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد بن جبير وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح. وقال الحسن البصري: إي والله إن له لمعاداً فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة. وقد روي عن ابن عباس غير ذلك. كما قال البخاري في التفسير من صحيحه: حدثنا محمد بن مقاتل, أنبأنا يعلى, حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} قال: إلى مكة, وهكذا رواه النسائي في تفسير سننه, وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به, وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس {لرادك إلى معاد} أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها. وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله: {لرادك إلى معاد} إلى مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الجراز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك نحو ذلك. وحدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة, فبلغ الجحفة, اشتاق إلى مكة, فأنزل الله عليه {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} إلى مكة, وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الاَية مدنية وإن كان مجموع السورة مكياً, والله أعلم. وقد قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لرادك إلى معاد} قال: هذه مما كان ابن عباس يكتمها. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القارىء أنه قال في قوله: {لرادك إلى معاد} قال إلى بيت المقدس, وهذا ـ والله أعلم ـ يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة, لأن بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب. ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة, وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم, كما فسر ابن عباس سورة {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخر السورة, أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه, وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب, ووافقه عمر على ذلك وقال: لا أعلم منها غير الذي تعلم, ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: {لرادك إلى معاد} بالموت, وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت, وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين: الإنس والجن, ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإطلاق. وقوله تعالى: {قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين} أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل: ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني, وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار, ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والاَخرة. ثم قال تعالى مذكراً لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم {وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب} أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك {ولكن رحمة من ربك} أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك, فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة {فلا تكونن ظهيراً} أي معيناً {للكافرين} ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم {ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك} أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله, فإن الله معلٍ كلمتك ومؤيد دينك ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان, ولهذا قال: {وادع إلى ربك} أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له {ولا تكونن من المشركين}. وقوله: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو} أي لا تليق العبادة إلا له, ولا تنبغي الإلهية إلا لعظمته, وقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم, الذي تموت الخلائق ولا يموت, كما قال تعالى: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فعبر بالوجه عن الذات, وهكذا قوله ههنا: {كل شيء هالك إلا وجهه} أي إلا إياه. وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد ـ ألا كل شيء ما خلا الله باطل ـ». وقال مجاهد والثوري في قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} أي إلا ما أريد به وجهه, وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر له, قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر: أستغفر الله ذنباً لست محصيهرب العباد إليه الوجه والعمل وهذا القول لا ينافي القول الأول, فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة, والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس, فإنه الأول الاَخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر, حدثنا مسلم بن إبراهيم, حدثنا عمر بن سليم الباهلي, حدثنا أبو الوليد قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة, فيقف على بابها فينادي بصوت حزين, فيقول أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: {كل شيء هالك إلا وجهه} وقوله: {له الحكم} أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه {وإليه ترجعون} أي يوم معادكم, فيجزيكم بأعمالكم إن خيراً فخير, وإن شراً فشر. آخر تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة. سورة العنكبوت وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الَـمَ * أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوَاْ أَن يَقُولُوَاْ آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ أما الكلام على الحروف المقطعة, فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمناوهم لا يفتنون} استفهام إنكار, ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان, كما جاء في الحديث الصحيح «أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الصالحون, ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء» وهذه الاَية كقوله: {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} ومثلها في سورة براءة. وقال في البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} ولهذا قال ههنا {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه, والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون, وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة, وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله: {إلا لنعلم} إلا لنرى وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود, والعلم أعم من الرؤية, فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود. وقوله تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان, فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم, ولهذا قال: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} أي يفوتونا {ساء ما يحكمون} أي بئس ما يظنون. ** مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللّهِ فَإِنّ أَجَلَ اللّهِ لاَتٍ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَن جَاهَدَ فَإِنّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ يقول تعالى: {من كان يرجو لقاء الله} أي في الدار الاَخرة, وعمل الصالحات ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل, فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كلاماً موفراً, فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات, ولهذا قال تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لاَت وهو السميع العليم} وقوله تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} كقوله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه, فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد, ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئاً, ولهذا قال تعالى: {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين} قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم, ومع بره وإحسانه بهم, يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء, وهو أن يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا, ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون, فيقبل القليل من الحسنات, ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف, ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح, كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} وقال ههنا: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون}. ** وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنّهُمْ فِي الصّالِحِينَ يقول تعالى آمراً عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده, فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان, ولهما عليه غاية الإحسان, فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق, ولهذا قال تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا * إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم, قال: {وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} أي وإن حرصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين, فإياك وإياهما, فلا تطعهما في ذلك, فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة, فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك, وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك, وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا, فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب أي حباً دينياً, ولهذا قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين}. وقال الترمذي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال: نزلت فيّ أربع آيات, فذكر قصته وقال: قالت أم سعد: أليس الله قد أمرك بالبر ؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر, قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروافاها, فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً * وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} الاَية, وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضاً. وقال الترمذي حسن صحيح. ** وَمِنَ النّاسِ مَن يِقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مّن رّبّكَ لَيَقُولُنّ إِنّا كُنّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنّ الْمُنَافِقِينَ يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت الإيمان في قلوبهم, بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم, فارتدوا عن الإسلام, ولهذا قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله, وكذا قال غيره من علماء السلف, وهذه الاَية كقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ـ إلى قوله ـ ذلك هو الضلال البعيد} ثم قال عز وجل: {لئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد, وفتح ومغانم, ليقولن هؤلاء لكم: إنا كنا معكم, أي إخوانكم في الدين, كما قال تعالى: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم, وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}, وقال تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} وقال تعالى مخبراً عنهم ههنا: {ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم} ثم قال الله تعالى: {أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين} أي أو ليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم, وإن أظهروا لكم الموافقة. وقوله تعالى: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} أي وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء, ليتميز هؤلاء من هؤلاء, من يطيع الله في الضراء والسراء, ومن إنما يطيعه في حظ نفسه, كما قال تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}, وقال تعالى بعد وقعة أحد التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} الاَية. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُواْ اتّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مّن شَيْءٍ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ يقول تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا, واتبعوا سبيلنا {ولنحمل خطاياكم} أي وآثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا وفي رقابنا, كما يقول القائل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي, قال الله تعالى تكذيباً لهم {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} أي: فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم, فإنه لا يحمل أحد وزر أحد, قال الله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} وقال تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً يبصرونهم}. وقوله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة, أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئاً, كما قال تعالى, {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} الاَية, وفي الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً». وفي الصحيح «ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها, لأنه أول من سن القتل». وقوله تعالى: {وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون} أي يكذبون ويختلقون من البهتان, وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً فقال: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة, حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية, حدثني سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به, ثم قال: «إياكم والظلم, فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول: أين فلان بن فلان ؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال, فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عز وجل, ثم يأمر المنادي فينادي: من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم, فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن, فيقول الرحمن: اقضوا عن عبدي, فيقولون: كيف نقضي عنه ؟ فيقول: خذوا لهم من حسناته, فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة, وقد بقي من أصحاب الظلامات, فيقول: اقضوا عن عبدي, فيقولون: لم يبق له حسنة, فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه» ثم نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الاَية الكريمة {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون}. وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا, وأخذ من مال هذا, وأخذ من عرض هذا, فيأخذ هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإذا لم تبق له حسنة, أخذ من سيئاتهم فطرح عليه». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه وعن فتات الطينة بإصبعين, فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك». ** وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىَ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً, وسراً وجهاراً, ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فراراً عن الحق وإعراضاً عنه وتكذيباً له, وما آمن معه منهم إلا قليل, ولهذا قال تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون} أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإنذار, فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم, فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء, وبيده الأمر, وإليه ترجع الأمور {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية} الاَية, واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك, ويذل عدوك ويكبتهم, ويجعلهم أسفل السافلين. قال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة, ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً, وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس وفشوا. وقال قتادة: يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين عاماً لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة, ودعاهم ثلثمائة سنة, ولبث بعد الطوفان ثلثمائة سنة وخمسين عاماً, وهذا قول غريب, وظاهر السياق من الاَية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً. وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالى أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة, فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً, ثم عاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة, وهذا أيضاً غريب, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقول ابن عباس أقرب, والله أعلم. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر: كم لبث نوح في قومه ؟ قال: قلت ألف سنة إلا خمسين عاماً, قال: فإن الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا. وقوله تعالى: {فأنجيناه وأصحاب السفينة} أي الذين آمنوا بنوح عليه السلام, وقد تقدم ذكر ذلك مفصلاً في سورة هود, وتقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى: {وجعلناها آية للعالمين} أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها, كما قال قتادة: إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان, كما قال تعالى: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ـ إلى قوله ـ ومتاعاً إلى حين} وقال تعالى: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} وقال ههنا: {فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس, كقوله تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} أي وجعلنا نوعها رجوماً فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء, وقال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين} ولهذا نظائر كثيرة. وقال ابن جرير: لو قيل إن الضمير في قوله: {وجعلناها} عائد إلى العقوبة لكانوجهاً, والله أعلم. ** وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاتّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنّ الّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء, أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له والإخلاص له في التقوى وطلب الرزق منه وحده لا شريك له, وتوحيده في الشكر, فإنه المشكور على النعم لا مسدي لهاغيره, فقال لقومه: {اعبدوا الله واتقوه} أي أخلصوا له العبادة والخوف {ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والاَخرة, واندفع عنكم الشر في الدنيا والاَخرة, ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع, وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم, هكذا رواه العوفي عن ابن عباس, وبه قال مجاهد والسدي, وروى الوالبي عن ابن عباس: وتصنعون إفكاً أي تنحتونها أصناما, وبه قال مجاهد في رواية, وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم, واختاره ابن جرير رحمه الله. وهي لا تملك لكم رزقاً {فابتغوا عند الله الرزق} وهذا أبلغ في الحصر كقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} {رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} ولهذا قال: {فابتغوا} أي فاطلبوا {عند الله الرزق} أي لا عند غيره, فإن غيره لا يملك شيئاً {واعبدوه واشكروا له} أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده, واشكروا له على ما أنعم به عليكم {إليه ترجعون} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله. وقوله تعالى: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء. وقال قتادة في قوله: {وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم} قال: يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم, وهذا من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول واعترض بهذا إلى قوله: {فما كان جواب قومه} وهكذا نص على ذلك ابن جرير أيضاً. والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام, يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله {فما كان جواب قومه} والله أعلم. ** أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الاَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـَئِكَ يَئِسُواْ مِن رّحْمَتِي وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يقول تعالى مخبراً عن الخليل عليه السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً, ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين, فالذي بدأ هذا قادر على إعادته, فإنه سهل عليه يسير لديه, ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الاَفاق من الاَيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السموات وما فيها من الكواكب النيرة الثوابت والسيارات, والأرضين وما فيها من مهاد وجبال, وأودية وبراري وقفار, وأشجار وأنهار, وثمار وبحار, كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها, وعلى وجود صانعها الفاعل المختار, الذي يقول للشيء كن فيكون, ولهذا قال: {أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير} كقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الاَخرة} أي يوم القيامة {إن الله على كل شيء قدير} وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} وكقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟ * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون}. وقوله تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء} أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء, ويحكم ما يريد, لا معقب لحكمه, ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون, فله الخلق والأمر مهما فعل فعدل, لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة, كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم» ولهذا قال تعالى: {يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون} أي ترجعون يوم القيامة. وقوله تعالى: {وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء} أي لا يعجزه أحد من أهل سمواته وأرضه, بل هو القاهر فوق عباده, فكل شيء خائف منه فقير إليه, وهو الغني عما سواه {وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * والذين كفروا بآيات الله ولقائه} أي جحدوها وكفروا بالمعاد {أولئك يئسوا من رحمتي} أي لا نصيب لهم فيها {وأولئك لهم عذاب أليم} أي موجع شديد في الدنيا والاَخرة. ** فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نّاصِرِينَ يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل, أنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان {إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه} وذلك لأنهم قام عليهم البرهان وتوجهت عليهم الحجة, فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم {فقالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم * وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين} وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة, وحوطوا حولها, ثم أضرموا فيها النار, فارتفع لها لهب إلى عنان السماء, ولم توقد نار قط أعظم منها, ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق, ثم قذفوه فيها, فجعلها الله عليه برداً وسلاماً, وخرج منها سالماً بعد ما مكث فيها أياماً, ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماماً, فإنه بذل نفسه للرحمن, وجسده للنيران, وسخا بولده للقربان, وجعل ماله للضيفان, ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان. وقوله تعالى: {فأنجاه الله من النار} أي سلمه منها بأن جعلها عليه برداً وسلاماً {إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون * وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا} يقول لقومه مقرعاً لهم وموبخاً على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان: إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا, وهذا على قراءة من نصب مودة بينكم على أنه مفعول له, وأما على قراءة الرفع, فمعناه إنما اتخاذكم هذا لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط {ثم يوم القيامة} ينعكس هذا الحال, فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً ثم {يكفر بعضكم ببعض} أي تتجاحدون ما كان بينكم {ويلعن بعضكم بعضاً} أي يلعن الأتباع المتبوعين, والمتبوعون الأتباع {كلما دخلت أمة لعنت أختها} وقال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} وقال ههنا: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار} الاَية, أي ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار وما لكم من ناصر ينصركم, ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله, وهذا حال الكافرين, وأما المؤمنون فبخلاف ذلك. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا أبو عاصم الثقفي, حدثنا الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن جعدة بن هبيرة المخزومي عن أبيه عن جده, عن أم هانىء أخت علي بن أبي طالب قالت: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أخبرك أن الله تعالى يجمع الأولين والاَخرين يوم القيامة في صعيد واحد, فمن يدري أين الطرفان ؟ ـ قالت: الله ورسوله أعلم ـ ثم ينادي مناد من تحت العرش: يا أهل التوحيد, فيشرئبون ـ قال أبو عاصم يرفعون رؤوسهم ـ ثم ينادي: يا أهل التوحيد, ثم ينادي الثالثة: يا أهل التوحيد, إن الله قد عفا عنكم ـ قال ـ فيقوم الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلامات الدنيا ـ يعني المظالم ـ ثم ينادي: يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض, وعلى الله الثواب». ** فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَىَ رَبّيَ إِنّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيّتِهِ النّبُوّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه آمن له لوط, يقال إنه ابن أخي إبراهيم, يقولون هو لوط بن هاران بن آزر, يعني ولم يؤمن به, من قومه سواه وسارة امرأة إبراهيم الخليل, لكن يقال كيف الجمع بين هذه الاَية وبين الحديث الوارد في الصحيح أن إبراهيم حين مر على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه, فقال: أختي, ثم جاء إليها فقال لها: إني قد قلت له إنك أختي فلا تكذبيني, فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك, فأنت أختي في الدين. وكأن المراد من هذا ـ والله أعلم ـ أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الإسلام غيري وغيرك, فإن لوطاً عليه السلام آمن به من قومه, وهاجر معه إلى بلاد الشام, ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها, وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي. وقوله تعالى: {وقال إِني مهاجر إِلى ربي} يحتمل عود الضمير في قوله {وقال إني مهاجر} على لوط. لأنه هو أقرب المذكورين, ويحتمل عوده إلى إبراهيم, قال ابن عباس والضحاك, وهو المكنى عنه بقوله: {فآمن له لوط} أي من قومه, ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك, ولهذا قال: {إنه هو العزيز الحكيم} أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به, الحكيم في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية. وقال قتادة: هاجروا جميعاً من كوثى, وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم, ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم, وتقذرهم روح الله عز وجل, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تبيت معهم إذا باتوا, وتقيل معهم إذا قالوا, وتأكل ما سقط منهم». وقد أسند الإمام أحمد هذا الحديث فرواه مطولاً من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمرعن قتادة عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية, قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي, فجئته إذ جاء رجل فانتبذ الناس وعليه خميصة, فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص, فلما رآه نوف أمسك عن الحديث, فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة, فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم, لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها, فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن, تحشرهم النار مع القردة والخنازير, فتبيت معهم إذا باتوا, وتقيل معهم إذا قالوا, وتأكل من تخلف منهم» قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم, كلما خرج منهم قرن قطع كلما خرج منهم قرن قطع ـ حتى عدها زيادة على عشرين مرة ـ كلما خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم» ورواه الإمام أحمد عن أبي داود وعبد الصمد كلاهما عن هشام الدستوائي عن قتادة به, وقد رواه أبو داود في سننه فقال في كتاب الجهاد (باب ما جاء في سكنى الشام) حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا معاذ بن هشام, حدثني أبي عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر, قال: سمعت رسول لله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون هجرة بعد هجرة, وينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم, ويبقى في الأرض شرار أهلها, تلفظهم أرضهم, وتقذرهم نفس الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير». وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا أبو جناب يحيى بن أبي حية عن شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم, ثم لقد رأيتنا بآخرة الاَن والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم, ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لئن أنتم اتبعتم أذناب البقر, وتبايعتم بالعينة, وتركتم الجهاد في سبيل الله, ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه, وتتوبوا إلى الله تعالى» وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها, وتلفظهم أرضوهم, وتقذرهم روح الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تقيل معهم إذا قالوا, وتبيت معهم حيث يبيتون, وما سقط منهم فلها» ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يخرج قوم من أمتي يسيئون الأعمال, يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ـ قال يزيد: لا أعلمه إلا قال ـ يحقر أحدكم علمه مع علمهم, يقتلون أهل الإسلام, فإذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم, ثم إذا خرجوا فاقتلوهم, فطوبى لمن قتلهم, وطوبى لمن قتلوه, كلما طلع منهم قرن قتله الله» فردد ذلك رسول لله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة وأكثر, وأنا أسمع. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا أبو الحسن بن الفضل, أخبرنا عبد الله بن جعفر, حدثنا يعقوب بن سفيان, حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا: حدثنا يحيى بن حمزة, حدثنا الأوزاعي عن نافع, وقال أبو النضر عمن حدثه عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد هجرة إلى مهاجر إبراهيم, حتى لا يبقى إلاشرار أهلها, تلفظهم الأرضون, وتقذرهم روح الرحمن, وتحشرهم النار مع القردة والخنازير, تبيت معهم حيث باتوا, وتقيل معهم حيث قالوا, لها ما سقط منهم» غريب من حديث نافع, والظاهر أن الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء, والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى الحفظ. وقوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} كقوله: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله, وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً} أي أنه لما فارق قومه, أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي, وولد له ولد صالح نبي في حياة جده, وكذلك قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} أي زيادة, كما قال تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما, تقر به أعينكما, وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن وثبتت به السنة النبوية, قال الله تعالى: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً} الاَية, وفي الصحيحين «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام» فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب} قال: هما ولدا إبراهيم, فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد, فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس. وقوله تعالى: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً, وجعله للناس إماماً أن جعل في ذريته النبوة والكتاب, فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهو من سلالته, فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم, حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم, فقام في ملئهم مبشراً بالنبي العربي القرشي الهاشمي خاتم الرسل على الإطلاق, وسيد ولد آدم في الدنيا والاَخرة, الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام, ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه, عليه أفضل الصلاة والسلام. وقوله: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الاَخرة لمن الصالحين} أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصولة بسعادة الاَخرة, فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني, والمنزل الرحب, والمورد العذب, والزوجة الحسنة الصالحة, والثناء الجميل, والذكر الحسن, وكل أحد يحبه ويتولاه, كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوه, كما قال تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} أي قام بجميع ما أمر به وكمل طاعة ربه, ولهذا قال تعالى: {وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الاَخرة لمن الصالحين} وكما قال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ـ إلى قوله ـ وإنه في الاَخرة لمن الصالحين}. ** وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ * قَالَ رَبّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ يقول تعالى مخبراً عن نبيه لوط عليه السلام, أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم, وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال في إتيانهم الذكران من العالمين, ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم, وكانوا مع هذا يكفرون بالله ويكذبون رسله, ويخالفون ويقطعون السبيل, أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم {وتأتون في ناديكم المنكر} أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها, لا ينكر بعضهم على بعض شيئاً من ذلك, فمن قائل كانوا يأتون بعضهم بعضاً في الملأ, قاله مجاهد, ومن قائل كانوا يتضارطون ويتضاحكون, قالته عائشة رضي الله عنها والقاسم, ومن قائل كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك, وكل ذلك يصدر عنهم وكانوا شراً من ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حماد بن أسامة, أخبرني حاتم بن أبي صغيرة, حدثنا سماك بن حرب عن أبي صالح مولى أم هانىء عن أم هانىء قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وتأتون في ناديكم المنكر} قال «يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم, وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه» ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة, عن أبي يونس القشيري عن حاتم بن أبي صغيرة به, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة, حدثنا محمد بن كثير عن عمرو بن قيس عن الحكم عن مجاهد {وتأتون في ناديكم المنكر} قال: الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسؤال في المجلس, وحل أزرار القباء. وقوله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم, ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال: {رب انصرني على القوم المفسدين}. ** وَلَمّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُوَاْ إِنّا مُهْلِكُوَ أَهْلِ هَـَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ * قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنّهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَلَمّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ * إِنّا مُنزِلُونَ عَلَىَ أَهْلِ هَـَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مّنَ السّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيّنَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لما استنصر لوط عليه السلام بالله عز وجل عليهم, بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة أضياف, فجاءهم بما ينبغي للضيف, فلما رآهم أنه لا همة لهم إلى الطعام, نكرهم وأوجس منهم خيفة, فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة, وكانت حاضرة, فتعجبت من ذلك كما تقدم بيانه في سورة هود والحجر, فلما جاءت إبراهيم البشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط, أخذ يدافع لعلهم ينظرون لعل الله أن يهديهم, ولما قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية {قال إن فيها لوطاً, قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} أي من الهالكين, لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم, ثم ساروا من عنده فدخلوا على لوط في صورة شبان حسان, فلما رآهم كذلك {سيء بهم وضاق بهم ذرعاً} أي اغتم بأمرهم إن هو أضافهم خاف عليهم من قومه وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة {قالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون} وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض, ثم رفعها إلى عنان السماء, ثم قلبها عليهم, وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك, وما هي من الظالمين ببعيد, وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة, وجعلهم عبرة إلى يوم التناد, وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد. ولهذا قال تعالى: {ولقد تركنا منها آية بينة} أي واضحة {لقوم يعقلون} كما قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون}. ** وَإِلَىَ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ آلاَخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام, أنه أنذر قومه أهل مدين, فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له, وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة, فقال: {يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الاَخر} قال ابن جرير: قال بعضهم معناه واخشوا اليوم الاَخر, وهذا كقوله تعالى: {لمن كان يرجو الله واليوم الاَخر} وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد وهو السعي فيها والبغي على أهلها, وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان ويقطعون الطريق على الناس, هذا مع كفرهم بالله ورسوله, فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم, وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها, وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها, إنه كان عذاب يوم عظيم, وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء. وقوله: {فأصبحوا في دارهم جاثمين} قال قتادة: ميتين, وقال غيره: قد ألقى بعضهم على بعض. ** وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تّبَيّنَ لَكُم مّن مّسَاكِنِهِمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مّوسَىَ بِالْبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ * فَكُلاّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مّنْ أَخَذَتْهُ الصّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم, وأخذهم بالانتقام منهم, فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف, وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن, وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر قريباً من وادي القرى, وكانت العرب تعرف مساكنهما جيداً, وتمر عليها كثيراً, وقارون صاحب الأموال الجزيلة ومفاتيح الكنوز الثقيلة, وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم {فكلاً أخذنا بذنبه} أي كانت عقوبته بما يناسبه {فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا} وهم عاد, وذلك أنهم قالوا: من أشد منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد, عاتية الهبوب جداً, تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم, وتقتلعهم من الأرض, فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء, ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه, فيبقى بدنا بلا رأس, كأنهم أعجاز نخل منقعر {ومنهم من أخذته الصيحة} وهم ثمود, قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوه سواء بسواء, ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم, وتهددوا نبي الله صالحاً ومن آمن معه وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم, فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات {ومنهم من خسفنا به الأرض} وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا, وعصى الرب الأعلى, ومشى في الأرض مرحاً, وفرح ومرح وتاه بنفسه, واعتقد أنه أفضل من غيره, واختال في مشيته, فخسف الله به وبداره الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة {ومنهم من أغرقنا} وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر {وما كان الله ليظلمهم} أي فيما فعل بهم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}. أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم, وهذا الذي ذكرناه ظاهر سياق الاَية, وهو من باب اللف والنشر, وهو أنه ذكر الأمم المكذبة, ثم قال {فكلاً أخذنا بذنبه} أي من هؤلاء المذكورين, وإنما نبهت على هذا لأنه قد روى ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله: {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} قال قوم لوط {ومنهم من أغرقنا} قال: قوم نوح, وهذا منقطع عن ابن عباس: فإن ابن جريج لم يدركه. ثم قد ذكر الله في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان, وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء, وأطال السياق والفصل بين ذلك وبين هذا السياق, وقال قتادة {فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً} قال: قوم لوط, {ومنهم من أخذته الصيحة} قوم شعيب, وهذا بعيد أيضاً لما تقدم, والله أعلم. ** مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم, ويتمسكون بهم في الشدائد, فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه, فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم, إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت, فإنه لا يجدي عنه شيئاً, فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء, وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع, فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها. ثم قال تعالى متوعداً لمن عبد غيره وأشرك به, إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد, وسيجزيهم وصفهم, إنه حكيم عليم, ثم قال تعالى: {وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون} أي وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه, قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثني ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل, وهذه منقبة عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثنا أبي, حدثنا ابن سنان عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني, لأنني سمعت الله تعالى يقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. ** خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ * اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السموات والأرض بالحق, يعني لاعلى وجه العبث واللعب {لتجزى كل نفس بما تسعى} {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. وقوله تعالى: {إن في ذلك لاَية للمؤمنين} أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية, ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن, وهو قراءته وإبلاغه للناس {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات, أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك. وقد جاء في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعاً «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم تزده من الله إلا بعداً». (ذكر الاَثار الواردة في ذلك) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس, حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد, حدثنا عمر بن أبي عثمان, حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له». وحدثنا علي بن الحسين, حدثنا يحيى بن أبي طلحة اليربوعي, حدثنا أبو معاوية عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً» ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر, لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً, فهذا موقوف. قال ابن جرير: وحدثنا القاسم, حدثنا الحسين, حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة» وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر.قال: قال سفيان {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك} قال: فقال سفيان: إي والله تأمره وتنهاه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد عن جويبر عن الضحاك عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وقال أبو خالد مرة عن عبد الله ـ: «لاصلاة لمن لم يطع الصلاة, وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر» والموقوف أصح, كما رواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قيل لعبد الله: إن فلاناً يطيل الصلاة, قال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها. وقال ابن جرير: حدثنا علي, حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر, لم يزدد بها من الله إلا بعداً» والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم, والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, أنبأنا جرير ـ يعني ابن عبد الحميد ـ عن الأعمش عن أبي صالح قال: أراه عن جابر, شك الأعمش, قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق. قال: «سينهاه ما تقول». وحدثنا محمد بن موسى الجرشي, أخبرنا زياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يشك, ثم قال: وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد, واختلفوا في إسناده, فرواه غير واحد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو غيره. وقال قيس عن الأعمش عن أبي سفيان, عن جابر قال جرير وزياد عن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, أخبرنا الأعمش قال: أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل, فإذا أصبح سرق, فقال: «إنه سينهاه ما تقول».وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر, ولهذا قال تعالى: {ولذكر الله أكبر} أي أعظم من الأول {والله يعلم ما تصنعون} أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} قال: إن الصلاة فيها ثلاث خصال, فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخصال فليست بصلاة: الإخلاص, والخشية, وذكر الله, فالإخلاص يأمره بالمعروف, والخشية تنهاه عن المنكر, وذكر الله القرآن يأمره وينهاه وقال ابن عون الأنصاري: إذا كنت في صلاة, فأنت في معروف, وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر, والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر. وقال حماد بن أبي سليمان {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} يعني ما دمت فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} يقول: ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه, وكذا روى غير واحد عن ابن عباس, وبه قال مجاهد وغيره, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس {ولذكر الله أكبر} قال: ذكر الله عند طعامك وعند منامك, قلت: فإن صاحباً لي في المنزل يقول غير الذي تقول, قال: وأي شيء يقول ؟ قلت: يقول الله تعالى: {فاذكروني أذكركم} فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه, قال: صدق, قال: وحدثنا أبي, حدثنا النفيلي, حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} قال: لها وجهان, قال: ذكر الله عندما حرمه, قال: وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, أخبرنا هشيم, أخبرنا عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس: هل تدري ما قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} ؟ قال: قلت نعم, قال: فما هو ؟ قلت: التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك. قال: لقد قلت قولاً عجيباً وما هو كذلك ولكنه إنما يقول ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه, وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس, وروي أيضاً عن ابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان الفارسي وغيرهم, واختاره ابن جرير. ** وَلاَ تُجَادِلُوَاْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُوَاْ آمَنّا بِالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـَهُنَا وَإِلَـَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ قال قتادة وغير واحد: هذه الاَية منسوخة بآية السيف, ولم يبق معهم مجادلة, وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف. وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين, فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه, كما قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} الاَية, وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} وهذا القول اختاره ابن جرير, وحكاه عن ابن زيد. وقوله تعالى: {إلا الذين ظلموا منهم} أي حادوا عن وجه الحق, وعموا عن واضح المحجة, وعاندوا وكابروا, فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم, قال الله عز وجل: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ـ إلى قوله ـ إن الله قوي عزيز} قال جابر: أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف, قال مجاهد {إلا الذين ظلموا منهم} يعني أهل الحرب, ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه, فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً, ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً, ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً معلقاً على شرط وهو أن يكون منزلاً لا مبدلاً ولا مؤولاً. قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عثمان بن عمر, أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم, وإلهنا وإلهكم واحد, ونحن له مسلمون» وهذا الحديث تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن عمرو, أخبرنا يونس عن الزهري, أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود, فقال: يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم» قال اليهودي: أنا أشهد أنها تتكلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم, وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله, فإن كان حقاً لم تكذبوهم, وإن كان باطلاً لم تصدقوهم» (قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة. وقيل عمار, وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه, ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان, لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل, وما أقل الصدق فيه, ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحاً. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا أبو عاصم, أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبيد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا, إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل, فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال. وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا إبراهيم بن سعد, أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضاً لم يشب, وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً, ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. وقال البخاري: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري, أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطاً من قريش بالمدينة, وذكر كعب الأحبار, فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب, وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. (قلت) معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد, لأنه يحدث عن صحف يحسن بها الظن, وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة, لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة, ومع ذلك وقرب العهد, وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل, ومن منحه الله تعالى علماً بذلك كل بحسبه, و لله الحمد والمنة. ** وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـَؤُلآءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الْكَافِرونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الظّالِمُونَ قال ابن جرير: يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل, كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب, وهذا الذي قاله حسن ومناسبته وارتباطه جيد. وقوله تعالى: {فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به} أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء, كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما. وقوله تعالى: {ومن هؤلاء من يؤمن به} يعني العرب من قريش وغيرهم {وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون} أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل, ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات. ثم قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, وهكذا صفته في الكتب المتقدمة, كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} الاَية, وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين, لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده, بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم. ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضي عليه محمد بن عبد الله, فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال بقول الباجي, وتبرؤوا منه, وأنشدوا في ذلك أقوالاً وخطبوا به في محافلهم, وإنما أراد الرجل ـ أعني الباجي ـ فيما يظهر عنه, أنه كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة, كما قال صلى الله عليه وسلم إخباراً عن الدجال: «مكتوب بين عينيه كافر» وفي رواية «ك ف ر, يقرؤها كل مؤمن» وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة, فضعيف لا أصل له, قال الله تعالى: {وما كنت تتلو} أي تقرأ {من قبله من كتاب} لتأكيد النفي ولا تخطه بيمينك, تأكيد أيضاً, وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه}. وقوله تعالى: {إذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس, فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} قال الله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض} الاَية, وقال ههنا: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمراً ونهياً وخبراً, يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً, كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى: «إني مبتليك ومبتل بك, ومنزل عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظاناً» أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى ذلك المحل, لأنه قد جاء من الحديث الاَخر «لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار» ولأنه محفوظ في الصدور ميسر على الألسنة, مهيمن على القلوب, معجز لفظاً ومعنى, ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة أناجيلهم في صدورهم. واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتاباً, ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب, ونقله عن قتادة وابن جريج, وحكي الأول عن الحسن البصري فقط, قلت وهو الذي رواه العوفي عن ابن عباس, وقاله الضحاك وهو الأظهر والله أعلم. وقوله تعالى: {وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون} أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون, أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه, كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}. ** وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَىَ بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللّهِ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات, يعنون ترشدهم إلى أن محمداً رسول الله كما أتى صالح بناقته, قال الله تعالى: {قل} يا محمد {إنما الاَيات عند الله} أي إنما أمر ذلك إلى الله, فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم, لأن هذا سهل عليه يسير لديه, ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان, فلا يجيبكم إلى ذلك, كما قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالاَيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}. وقوله: {وإنما أنا نذير مبين} أي إنما بعثت نذيراً لكم بين النذارة, فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} وقال تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} ثم قال تعالى مبيناً كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم, وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, الذي هو أعظم من كل معجزة, إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل عن معارضة عشر سور من مثله, بل عن معارضة سورة منه, فقال تعالى: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} أي أو لم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم, ونبأ ما بعدهم, وحكم ما بينهم, وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب, ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب, فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي, كما قال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} وقال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى}. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, حدثنا ليث, حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الاَيات ما مثله آمن عليه البشر, وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي, فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى: {إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بياناً للحق وإزاحة للباطل, وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون. ثم قال تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً} أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب, ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني, فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني, كما قال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين} وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به, ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات {يعلم مافي السموات والأرض} أي لا تخفى عليه خافية {والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل, كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم, وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل, فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم. ** وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مّسَمّى لّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول تعالى مخبراً عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم وبأس الله أن يحل عليهم, كما قال تعالى: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقال ههنا: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب} أي لولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريباً سريعاً كما استعجلوه, ثم قال: {وليأتينهم بغتة} أي فجأة {وهم لا يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة. قال شعبة عن سماك عن عكرمة: قال في قوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} قال: البحر وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد, حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبي أنه سمع ابن عباس يقول: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} وجهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه, وتكور فيه الشمس والقمر, ثم يوقد فيكون هو جهنم. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عاصم, أخبرنا عبد الله بن أمية, حدثني محمد بن حيي, أخبرني صفوان بن يعلى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البحر هو جهنم» قالوا ليعلى, فقال: ألا ترون أن الله تعالى يقول: {ناراً أحاط بهم سرادقها} قال: لا والذي نفس يعلى بيده, لا أدخلها أبداً حتى أعرض على الله ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله تعالى, هذا تفسير غريب, وحديث غريب جداً, والله أعلم. ثم قال عز وجل: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} كقوله تعالى: {لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش} وقال تعالى: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} وقال تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم} الاَية, فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم, وهذا أبلغ في العذاب الحسي. وقوله تعالى: {ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون} تهديد وتقريع وتوبيخ, وهذا عذاب معنوي على النفوس, كقوله تعالى: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر} وقال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً * هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون}. ** يَعِبَادِيَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَنُبَوّئَنّهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ * وَكَأَيّن مّن دَآبّةٍ لاّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيّاكُمْ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ هذا أمر من الله تعالى المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين, بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم, ولهذا قال تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه, حدثنا بقية بن الوليد, حدثني جبير بن عمرو القرشي, حدثني أبو سعد الأنصاري عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البلاد بلاد الله, والعباد عباد الله, فحيثما أصبت خيراً فأقم» ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها, خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك, فوجدوا خير المنزلين هناك: أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى, فآواهم وأيدهم بنصره, وجعلهم سيوماً ببلاده, ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة. ثم قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون} أي أينما كنتم يدرككم الموت, فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله, فهو خير لكم, فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه, ثم إلى الله المرجع والمآب, فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء, ووافاه أتم الثواب ولهذا قال تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار} أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن, يصرفونها ويجرونها حيث شاؤوا {خالدين فيها} أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولا {نعم أجر العاملين} نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين {الذين صبروا} أي على دينهم. وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء, وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده وتصديق موعده. وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, أخبرنا صفوان المؤذن, أخبرنا الوليد بن مسلم, أخبرنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود, حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حدثه أن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها, وباطنها من ظاهرها, أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام, وأطاب الكلام, وتابع الصلاة والصيام, وقام بالليل والناس نيام {وعلى ربهم يتوكلون} في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة, بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا, بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب, فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار, ولهذا قال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد {الله يرزقها وإياكم} أي الله يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها, فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض, والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي, حدثنا يزيد يعني ابن هارون, حدثنا الجراح بن منهال الجزري ـ هو أبو العطوف ـ عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة, فجعل يلتقط من التمر ويأكل, فقال لي: «يا ابن عمر ما لك لا تأكل ؟» قال: قلت لا أشتهيه يا رسول الله, قال لكني أشتهيه, وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً ولم أجده, ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين ؟» قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا, ولا باتباع الشهوات, فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية, فإن الحياة بيد الله, ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد» هذا حديث غريب, وأبو العطوف الجزري ضعيف, وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه البيض خرجوا وهم بيض, فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياماً حتى يسود الريش, فيظل الفرخ فاتحاً فاه يتفقد أبويه فيقيض الله تعالى طيراً صغاراً كالبرغش, فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه, والأبوان يتفقدانه كل وقت, فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه, فإذا رأوه قد اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق, ولهذا قال الشاعر: يا رازق النعاب في عشهوجابر العظم الكسير المهيض وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وترزقوا» قال البيهقي: أخبرنا إملاء أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان, أخبرنا أحمد بن عبيد, أخبرنا محمد بن غالب, حدثني محمد بن سنان, أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن رداد شيخ من أهل المدينة, حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سافروا تصحوا وتغنموا» قال: ورويناه عن ابن عباس: وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة, أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سافروا تربحوا وصوموا تصحوا, واغزوا تغنموا» وقد ورد مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعاً, وعن معاذ بن جبل موقوفاً, وفي لفظ «سافروا مع ذوي الجد والميسرة» قال: ورويناه عن ابن عباس: وقوله: {وهو السميع العليم} أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم. ** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىَ يُؤْفَكُونَ * اللّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٍ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّن نّزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلا هو, لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار, وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم, واختلافها واختلاف أرزاقهم, فتفاوت بينهم, فمنهم الغني والفقير وهو العليم بما يصلح كلاً منهم, ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر, فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها, فإذا كان الأمر كذلك, فلم يعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته, وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية. وقد كان المشركون يعترفون بذلك, كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك, إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. ** وَمَا هَـَذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها, وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب {وإن الدار الاَخرة لهي الحيوان} أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء, بل هي مستمرة أبد الاَباد. وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} أي لاَثروا ما يبقى على ما يفنى, ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له, فهلا يكون هذا منهم دائماً {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} كقوله تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلاإياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم} الاَية, وقال ههنا: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل, أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فاراً منها, فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة, فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربهم الدعاء, لا ينجي فإنه ههنا إلا هو, فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره, فإنه. لا ينجي في البر أيضاً غيره, اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد, فلأجدنه رؤوفاً رحيماً, فكان كذلك, وقوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا} هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة, لأنهم لا يقصدون ذلك, ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم, وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل, وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله {ليكون لهم عدواً وحزناً}. ** أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِالْحَقّ لَمّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنّمَ مَثْوًى لّلْكَافِرِينَ * وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ يقول تعالى ممتناً على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد, ومن دخله كان آمناً فهم في أمن عظيم, والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضاً, ويقتل بعضهم بعضاً, كما قال تعالى: {لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف} وقوله تعالى: {أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون} أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد و{بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار} وكفروا بنبي الله وعبده ورسوله, فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله, وأن لا يشركوا به, وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره, فكذبوه وقاتلوه, وأخرجوه من بين ظهرهم, ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم, وقتل من قتل منهم ببدر, ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين, ففتح الله على رسوله مكة, وأرغم آنافهم وأذل رقابهم. ثم قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه} أي لا احد أشد عقوبة ممن كذب على الله, فقال: إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء. ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله, وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه, فالأول مفتر والثاني مكذب, ولهذا قال تعالى: {أليس في جهنم مثوى للكافرين} ثم قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا} يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين {لنهدينهم سبلنا} أي لنبصرنهم سبلنا, أي طرقنا في الدنيا والاَخرة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} قال: الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني, فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر, فإذا سمعه في الأثر عمل به, وحمد الله حتى وافق ما في نفسه. وقوله {وإن الله لمع المحسنين} قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي , حدثنا عيسى بن جعفر قاضي الري, حدثنا أبو جعفر الرازي عن المغيرة عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك, ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك, والله أعلم. آخر تفسير سورة العنكبوت. و لله الحمد والمنة. سورة الروم بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الَـمَ * غُلِبَتِ الرّومُ * فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ * وَعْدَ اللّهِ لاَ يُخْلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ نزلت هذه الاَيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم. واضطر هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة, ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا أبو إسحاق عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض} قال غلبت وغلبت, قال: كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم, لأنهم أصحاب أوثان, وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب, فذكر ذلك لأبي بكر, فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, «أما إنهم سيغلبون» فذكره أبو بكر لهم, فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلاً, فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا, وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا, فجعل أجلاً خمس سنين, فلم يظهروا, فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال «ألا جعلتها إلى دون ـ أراه قال العشر ـ» قال سعيد بن جبير: البضع ما دون العشر, ثم ظهرت الروم بعد قال: فذلك قوله {آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد يومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعاً عن الحسين بن حريث عن معاوية بن عمرو, عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان بن سعيد الثوري به. وقال الترمذي: حسن غريب إنما نعرفه من حديث سفيان عن حبيب ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن اسحاق الصاغاني عن معاوية بن عمرو به ورواه ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي, الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس, حدثنا أبو إسحاق الفزاري فذكره, وعندهم قال سفيان: فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر. (حديث آخر) قال سليمان بن مهران الأعمش عن مسلم عن مسروق قال: قال عبد الله: خمس قد مضين, الدخان, واللزام, والبطشة, والقمر, والروم, أخرجاه. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند, عن عامر ـ هو الشعبي ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كان فارس ظاهراً على الروم, وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس, لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم, فلما نزلت {آلمَ * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} قالوا: يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين ؟ قال: صدق. قالوا: هل لك أن نقامرك ؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين, فمضت السبع ولم يكن شيء, ففرح المشركون بذلك, وشق على المسلمين, فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال «ما بضع سنين عندكم ؟» قالوا: دون العشر. قال «اذهب فزايدهم, وازدد سنتين في الأجل» قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس, ففرح المؤمنون بذلك, وأنزل الله تعالى: {آلمَ * غلبت الروم ـ إلى قوله تعالى ـ لا يخلف الله وعده}. (حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي, حدثنا مؤمن عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت {آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس ؟ قال: صدق صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرك ؟ فجعل بينه وبينهم أجلاً, فحل الأجل قبل أن تغلب الروم فارس , فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فساءه ذلك وكرهه, وقال لأبي بكر «ما دعاك إلى هذا ؟» قال: تصديقاً لله ولرسوله. قال «تعرض لهم وأعظم الخطر واجعله إلى بضع سنين» فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العود, فإن العود أحمد ؟ قالوا: نعم, فلم تمض تلك السنون حتى غلبت الروم فارس, وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية, فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا السحت, قال «تصدق به». (حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا محمد بن إسماعيل , حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت {ألَم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} فكانت فارس يوم نزلت هذه الاَية قاهرين للروم, وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم, لأنهم وإياهم أهل كتاب, وفي ذلك قول الله: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم} وكانت قريش تحب ظهور فارس, لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب, ولا إيمان ببعث, فلما أنزل الله هذه الاَية, خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة {ألَمَ * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين} قال ناس من قريش لأبي بكر: فذاك بيننا وبينكم, زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين,أفلا نراهنك على ذلك ؟ قال: بلى, وذلك قبل تحريم الرهان, فارتهن أبو بكر والمشركون, وتواضعوا الرهان وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين, فسم بيننا وبينك وسطاً ننتهي إليه ؟ قال: فسموا بينهم ست سنين, قال: فمضت ست السنين قبل أن يظهروا, فأخذ المشركون رهن أبي بكر , فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس: فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين, قال: لأن الله قال في بضع سنين, قال: فأسلم عند ذلك ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي, ثم قال: هذا حديث حسن صحيح, لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد. وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم, ومن أغرب هذه السياقات ما رواه الإمام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال: حدثني حجاج عن أبي بكر بن عبد الله عن عكرمة قال: كان في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال, فدعاها كسرى فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيك, فأشيري علي أيهم أستعمل ؟! فقالت: هذا فلان وهو أروغ من ثعلب, وأحذر من صقر, وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان, وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا, تعني أولادها الثلاثة, فاستعمل أيهم شئت, قال: فإني استعملت الحليم, فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس, فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم, وقطع زيتونهم, قال أبو بكر بن عبد الله: فحدثت بهذا الحديث عطاء الخرساني فقال: أما رأيت بلاد الشام ؟ قلت: لا, قال أما إنك لو رأيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع, فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته. قال عطاء الخراساني: حدثني يحيى بن يعمر أن قيصر بعث رجلاً يدعى قطمة بجيش من الروم, وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بأذرعات وبصرى, وهي أدنى الشام إليكم, فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس, ففرحت بذلك كفار قريش, وكرهه المسلمون, قال عكرمة: ولقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنكم أهل كتاب, والنصارى أهل كتاب, ونحن أميون, وقد ظهر إخواتكم من أهل فارس على إخواننا من أهل الكتاب, وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم, فأنزل الله تعالى: {ألَمَ * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد يومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء} فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا, فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم, فوالله ليظهرن الله الروم على فارس, أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم, فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت يا أبا فضيل, فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله, فقال: أُناحِبُكَ عشر قلائص مني وعشر قلائص منك, فإن ظهرت الروم على فارس غرمت, وإِن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين, ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال «ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع, فزايده في الخطر وماده في الأجل» فخرج أبو بكر فلقي أبيا, فقال: لعلك ندمت ؟ فقال: لا, تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل, فاجعلها مائة قلوص لمائة قلوص إلى تسع سنين, قال: قد فعلت, فظهرت الروم على فارس قبل ذلك, فغلبهم المسلمون. قال عكرمة: لما أن ظهرت فارس على الروم, جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز, فقال: لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى, فبلغت كسرى, فكتب كسرى إلى شهريراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان, فكتب إليه: أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان له نكاية وصوت في العدو, فلا تفعل,فكتب إليه: إن في رجال فارس خلفاً منه, فعجل إلي برأسه. فراجعه, فغضب كسرى فلم يجبه, وبعث بريداً إلى أهل فارس: إِني قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان, ثم دفع إلى البريد صحيفة لطيفةٍ صغيرة, فقال: إذا ولي فرخان الملك وانقاد إليه أخوه, فأعطه هذه, فلما قرأ شهريراز الكتاب قال: سمعاً وطاعة, ونزل عن سريره وجلس فرخان, ودفع إليه الصحيفة قال: ائتوني بشهريراز, وقدمه ليضرب عنقه, قال, لا تعجل حتى أكتب وصيتي, قال: نعم, فدعا بالسفط فأعطاه الصحائف, قال: كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد, فرد الملك إلى أخيه شهريراز, وكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد, ولا تحملها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين رومياً, فإني ألقاك في خمسين فارسياً, فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي, وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق, وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلاً, ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما, مع كل واحد منهما سكين فدعيا ترجماناً بينهما, فقال شهريراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا, وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت, ثم أمر أخي أن يقتلني وقد خلعناه جميعاً, فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما, ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين, فإذا جاوز اثنين فشا, قال: أجل, فقتلا الترجمان جميعاً بسكينيهما, فأهلك الله كسرى, وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية, ففرح والمسلمون معه. فهذا سياق غريب وبناء عجيب. ولنتكلم عن كلمات هذه الاَيات الكريمة, فقوله تعالى: {آلمَ * غلبت الروم} قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة, وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم, وهم أبناء عم بني إسرائيل, ويقال لهم بنو الأصفر, وكانوا على دين اليونان, واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك, وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة, ويقال لها المتحيرة, ويصلون إلى القطب الشمالي, وهو الذين أسسوا دمشق, وبنوا معبدها, وفيه محاريب إلى جهة الشمال, فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة, وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له قيصر, فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس وأمه مريم الهيلانية الفدقانية من أرض حران, كانت قد تنصرت قبله, فدعته إلى دينها, وكان قبل ذلك فيلسوفاً فتابعها, يقال تقية, واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس, واختلفوا اختلافاً منتشراً متشتتاً لا ينضبط, إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً, فوضعوا لقسطنطين العقيدة, وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة, وإنما هي الخيانة الحقيرة, ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل, وغير ذلك مما يحتاجون إليه, وغيروا دين المسيح عليه السلام, وزادوا فيه ونقصوا منه, فصلوا إلى المشرق, واعتاضوا عن السبت بالأحد, وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير, واتخذوا أعياداً أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والثعابين, وجعلوا له الباب, وهو كبيرهم, ثم البتاركة, ثم المطارنة, ثم الأساقفة والقساقسة, ثم الشمامسة, وابتدعوا الرهبانية, وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد, وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية, يقال إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة, وبنى بيت لحم بثلاث محاريب, وبنت أمه القمامة, وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك. ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف, ثم النسطورية أصحاب نسطورا, وهم فرق وطوائف كثيرة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة» والغرض أنهم استمروا على النصرانية, كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل, وكان من عقلاء الرجال, ومن أحزم الملوك وأدهاهم, وأبعدهم غوراً, وأقصاهم رأياً, فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كبيرة, فناوأه كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم, وهو سابور ذو الأكتاف, وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر, وله رياسة العجم, وحماقة الفرس, وكانوا مجوساً يعبدون النار, فتقدم عن عكرمة أنه: بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه, والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده, فقهره وكسره وقصره, حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية, فحاصره بها مدة طويلة, حتى ضاقت عليه, وكانت النصارى تعظمه تعظيماً زائداً, ولم يقدر كسرى على فتح البلد, ولا أمكنه ذلك لحصانتها لأن نصفها من ناحية البر, ونصفها الاَخر من ناحية البحر, فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك, فلما طال الأمر, دبر قيصر مكيدة, ورأى في نفسه خديعة, فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ويشترط عليه ما شاء, فأجابه إلى ذلك, وطلب منه أموالاً عظيمة لايقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة, فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب, واستقل عقله لما طلب منه ما طلب, ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره, وسأل كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته, ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه, فأطلق سراحه, فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينة فجمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي, فإن رجعت إليكم قبل الحول, فأنا ملككم, وإن لم أرجع إليكم قبلها, فأنتم بالخيار: إن شئتم استمررتم على بيعتي, وإن شئتم وليتم عليكم غيري, فأجابوه بأنك ملكنا مادمت حياً, ولو غبت عشرة أعوام, فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا, وكسرى مخيم على القسطنطينية ينتظره ليرجع, فركب قيصر من فوره وسار مسرعاً حتى انتهى إلى بلاد فارس, فعاث في بلادهم قتلاً لرجالها ومن بها من المقاتلة أولاً فأولاً, ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى, فقتل من بها وأخذ جميع حواصله وأمواله, وأسر نساءه وحريمه, وحلق رأس ولده وركبه على حماره, وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة, وكتب إلى كسرى يقول: هذا ما طلبت فخذه, فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى, واشتد حنقه على البلد, فاشتد في حصارها بكل ممكن, فلم يقدر على ذلك, فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها, فلما علم قيصر بذلك, احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة, وركب في بعض الجيش, وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث, فحملت معه, وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعداً, ثم أمر بالقاء تلك الأحمال في النهر, فلما مرت بكسرى ظن وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك, فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس, وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض, فخاضوا وأسرعوا السير, ففاتوا كسرى وجنوده, ودخلوا القسطنطينية, فكان ذلك يوماً مشهوداً عند النصارى, وبقي كسرى وجيوشه حائرين لا يدرون ماذا يصنعون, لم يحصلوا على بلاد قيصر, وبلادهم قد خربتها الروم, وأخذوا حواصلهم, وسبوا ذراريهم, ونساءهم, فكان هذا من غلب الروم لفارس, وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب الفرس للروم, وكانت الوقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما, وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز, وقال مجاهد: كان ذلك في الجزيرة, وهي أقرب بلاد الروم من فارس, فالله أعلم. ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع, فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع, وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبة {آلمَ * غلبت الروم} الاَية «ألا احتطت يا أبا بكر, فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟» ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو أنه قال ذلك,. وقوله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} أي من قبل ذلك ومن بعده, فبني على الضم لما قطع المضاف, وهو قوله قبل عن الإضافة ونويت {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى, وهم المجوس, وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قوله طائفة كثيرة من العلماء, كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر, ظهرت الروم على فارس, فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به, وأنزل الله {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}. وقال الاَخرون: بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية. قاله عكرمة والزهري وقتاده وغير واحد. ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس, شكراً لله تعالى ففعل, فلما بلغ بيت المقدس لم يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة, فأعطاه دحية لعظيم بصرى, فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر. فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز, فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة من كبار قريش, وكانوا بغزة, فجيء بهم إليه فجلسوا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان: أنا, فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه: إني سائل هذا عن هذا الرجل, فإن كذب فكذبوه, فقال أبو سفيان, فو الله لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت, فسأله هرقل عن نسبه وصفته, فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر ؟ قال: قلت لا, ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها, يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين, فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية, لأن قيصر إنما وفى بنذره بعد الحديبية, والله أعلم. ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعثت, فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده, ثم بعد أربع سنين من نصرته وفى بنذره, والله أعلم, والأمر في هذا سهل قريب, إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين, فلما انتصرت الروم على فارس, فرح المؤمنون بذلك, لأن الروم أهل كتاب في الجملة, فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس, كما قال تعالى: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ـ إلى قوله ـ ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين}. وقال تعالى ههنا {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثني أسيد الكلابي قال: سمعت العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم, ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فارس, والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة. وقوله تعالى: {وهو العزيز} أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه {الرحيم} بعباده المؤمنين. وقوله تعالى: {وعد الله لا يخلف الله وعده} أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق, وخبر صدق لا يخلف ولا بد من كونه ووقوعه, لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق, ويجعل لها العاقبة {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي بحكم الله في كونه, وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل. وقوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الاَخرة هم غافلون} أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها, فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها, وهم غافلون عما ينفعهم في الدار الاَخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة, قال الحسن البصري: والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم على ظفره, فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الاَخرة هم غافلون} يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا, وهم في أمر الدين جهال. ** أَوَلَمْ يَتَفَكّرُواْ فِيَ أَنفُسِهِمْ مّا خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَأَجَلٍ مّسَمّى وَإِنّ كَثِيراً مّنَ النّاسِ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ لَكَافِرُونَ * أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَأَثَارُواْ الأرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـَكِن كَانُوَاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوَءَىَ أَن كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ يقول تعالى منبهاً على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها, وأنه لا إله غيره ولا رب سواه, فقال {أولم يتفكروا في أنفسهم} يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي وما بينهما من المخلوقات المتنوعة والأجناس المختلفة, فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلاً بل بالحق, وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة, ولهذا قال تعالى: {وإِن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون} ثم نبههم على صدق رسله فيما جاؤوا به عنه, بما أيدهم من المعجزات والدلائل الواضحات من إهلاك من كفر بهم ونجاة من صدقهم, فقال تعالى: {أولم يسيروا في الأرض} أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين, ولهذا قال {فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة} أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم أيها المبعوث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم وأكثر أموالاً وأولاداً, وما أوتيتم معشار ما أوتوا, ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه وعمروا فيها أعماراً طوالاً, فعمروها أكثر منكم, واستغلوها أكثر من استغلالكم, ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا, أخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق, ولا حالت أموالهم ولا أولادهم بينهم وبين بأس الله, ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة, وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} أي وإنما أوتوا من أنفسهم حيث كذبوا بآيات الله واستهزؤوا بها, وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم, ولهذا قال تعالى: {ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون} كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال تعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم} وعلى هذا تكون السوأى منصوبة مفعولاً لأساؤوا, وقيل بل المعنى في ذلك {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى} أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا تكون السوأى منصوبة خبر كان, هذا توجيه ابن جرير, ونقله عن ابن عباس وقتادة, ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن الضحاك بن مزاحم, وهو الظاهر ـ والله أعلم ـ لقوله {وكانوا بها يستهزئون}. ** اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لّهُمْ مّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرّقُونَ * فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَخِرَةِ فَأُوْلَـَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ يقول تعالى: { الله يبدأ الخلق ثم يعيده} أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته {ثم إليه ترجعون} أي يوم القيامة, فيجازي كل عامل بعمله. ثم قال {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} قال ابن عباس: ييأس المجرمون, وقال مجاهد: يفتضح المجرمون, وفي رواية يكتئب المجرمون {ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء} أي ما شفعت فيهم الاَلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم. ثم قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون} قال قتادة: هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها, يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين, فذلك آخر العهد بينهما, ولهذا قال تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون} قال مجاهد وقتادة: ينعمون. وقال يحيى بن أبي كثير: يعني سماع الغناء والحبرة أعم من هذا كله, قال العجاج: فالحمد لله الذي أعطى الحبرموالي الحق إن المولى شكر) ** فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة, وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه عند المساء, وهو إقبال الليل بظلامه, وعند الصباح وهو إسفار النهار عن ضيائه. ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد, فقال تعالى: {وله الحمد في السموات والأرض} أي هو المحمود على ما خلق في السموات والأرض, ثم قال تعالى: {وعشياً وحين تظهرون} فالعشاء هو شدة الظلام, والإظهار قوة الضياء, فسبحان خالق هذا وهذا, فالق الإصباح, وجاعل الليل سكناً, كما قال تعالى: {والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها} وقال تعالى: {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} وقال تعالى: {والضحى والليل إذا سجى} والاَيات في هذا كثيرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبّان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون» وقال الطبراني: حدثنا مطلب بن شعيب الأزدي, حدثنا عبد الله بن صالح, حدثني الليث بن سعيد بن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه, عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ومن قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون, وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون, الاَية بكمالها أدرك ما فاته في يومه, ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» إسناد جيد ورواه أبو داود في سننه.. وقوله تعالى: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي} هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة, وهذه الاَيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط, فإنه يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها, ليدل خلقه على كمال قدرته, فمن ذلك إخراج النبات من الحب والحب من النبات, والبيض من الدجاج والدجاج من البيض, والإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان, والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن وقوله تعالى: {ويحيي الأرض بعد موتها} كقوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون ـ إلى قوله ـ وفجرنا فيها من العيون} وقال تعالى: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ـ إلى قوله ـ وأن الله يبعث من في القبور} وقال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً ـ إلى قوله ـ لعلكم تذكرون} ولهذا قال ههنا {وكذلك تخرجون}. ** وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لّتَسْكُنُوَاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مّوَدّةً وَرَحْمَةً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته وكمال قدرته, أنه خلق أباكم آدم من تراب {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} فأصلكم من تراب ثم من ماءٍ مهين, ثم تصور فكان علقة ثم مضغة, ثم صار عظاماً شكله على شكل الإنسان, ثم كسا الله تلك العظام لحماً, ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير, ثم خرج من بطن أمه صغيراً ضعيف القوى والحركة, ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون, ويسافر في أقطار الأقاليم, ويركب متن البحور, ويدور أقطار الأرض, ويتكسب ويجمع الأموال, وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في أمور الدنيا والاَخرة كل بحسبه, فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب, وفاوت بينهم في العلوم والفكر, والحسن والقبح, والغنى والفقر, والسعادة والشقاوة, ولهذا قال تعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد وغندر قالا: حدثنا عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض, فجاء بنو آدم على قدر الأرض, جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك, والخبيث والطيب, والسهل والحزن وبين ذلك» ورواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً} أي خلق لكم من جنسكم إناثاً يكن لكمأزواجاً {لتسكنوا إليها} كما قال تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها} يعني بذلك حواء, خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر, ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً وجعل إناثهم من جنس آخر إما من جان أو حيوان, لما حصل هذا الإئتلاف بينهم وبين الأزواج, بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس, ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم, وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة, ورحمة وهي الرأفة, فإن الرجل يمسك المرأة إنما لمحبته لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد, أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك {إن في ذلك لاَيات لقوم يتفكرون}. ** وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلّيْلِ وَالنّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مّن فَضْلِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على قدرته العظيمة {خلق السموات والأرض} أي خلق السموات في ارتفاعها واتساعها, وسقوف أجرامها, وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات, والأرض في انخفاضها وكثافتها, وما فيها من جبال وأودية وبحار, وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى: {واختلاف ألسنتكم} يعني اللغات, فهؤلاء بلغة العرب, وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى, وهؤلاء كرج, وهؤلاء روم, وهؤلاء فرنج وهؤلاء بربر, وهؤلاء تكرور, وهؤلاء حبشة, وهؤلاء هنود, وهؤلاء عجم, وهؤلاء صقالبة, وهؤلاء خزر, وهؤلاء أرمن, وهؤلاء أكراد, إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم, فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان, وليس يشبه واحد منهم الاَخر, بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل, كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئته لا تشبه أخرى, ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الاَخر {إن في ذلك لاَيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله} أي ومن الاَيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار, فيه تحصل الراحة وسكون الحركة وذهاب الكلال والتعب. وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم {إن في ذلك لاَيات لقوم يسمعون} أي يعون. قال الطبراني: حدثنا حجاج بن عمران السدوسي, حدثنا عمرو بن الحصين العقيلي, حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة, حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان, سمعت عبد الملك بن مروان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل, فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال {قل اللهم غارت النجوم, وهدأت العيون, وأنت حي قيوم يا حي يا قيوم, أنم عيني وأهدىء ليلي} فقلتها, فذهب عني. ** وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزّلُ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السّمَآءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الأرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ يقول تعالى: {ومن آياته} الدالة على عظمته أنه {يريكم البرق خوفاً وطمعاً} أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة, وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه, ولهذا قال تعالى: {وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها} أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء, فلما جاءها الماء {اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة, ولهذا قال {إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون} ثم قال تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} كقوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} وقوله {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا}. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين يقول: لا والذي تقوم السماء والأرض بأمره, أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها, ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسموات, وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم, ولهذا قال تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} كما قال تعالى: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} وقال تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة} وقال تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون}. ** وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يقول تعالى: {وله من في السموات والأرض} أي ملكه وعبيده {كل له قانتون} أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً. وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعاً «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة» وقوله {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني أيسر عليه, وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البداءة, والبداءة عليه هينة, وكذا قال عكرمة وغيره وروى البخاري: حدثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب, أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك, وشتمني ولم يكن له ذلك, فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته, وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً, وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد» انفرد بإخراجه البخاري, كما انفرد بروايته أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به. وقد رواه الإمام أحمد منفرداً به عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة: حدثنا أبو يونس سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله. وقال آخرون: كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء. وقال العوفي عن ابن عباس: كل عليه هين, وكذا قاله الربيع بن خُثيم, ومال إليه ابن جرير وذكر عليه شواهد كثيرة, قال: ويحتمل أن يعود الضمير في قوله {وهو أهون عليه} إلى الخلق, أي وهو أهون على الخلق. وقوله {وله المثل الأعلى في السموات والأرض} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كقوله تعالى: {ليس كمثله شيء} وقال قتادة: مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره, وقال مثل هذا ابن جرير, وقد أنشد بعض المفسرين عند ذكر هذه الاَية لبعض أهل المعارف: إذا سكن الغدير على صفاءوجنب أن يحركه النسيم ترى فيه السماء بلا امتراءكذاك الشمس تبدو والنجوم كذاك قلوب أرباب التجلييرى في صفوها الله العظيم وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شيء, وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه, الحكيم في أقواله وأفعاله شرعاً وقدراً, وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى: {وله المثل الأعلى} قال: لا إِله إِلا الله. ** ضَرَبَ لَكُمْ مّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لّكُمْ مّن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * بَلِ اتّبَعَ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به, العابدين معه غيره, الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له, ملك له, كما كانوا في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. فقال تعالى: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم} أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم {هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء} أي يرتضي أحدكم أن يكون عبده شريكاً له في ماله فهو وهو فيه على السواء {تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} أي تخافون أن يقاسموكم الأموال. قال أبو مجلز: إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك, وليس له ذاك, كذلك الله لا شريك له, والمعنى إن أحدكم يأنف من ذلك, فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه ؟ وهذا كقوله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, وجعلوها بنات الله, وقد كان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم, يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون, أم يدسه في التراب ؟ فهم يأنفون من البنات, وجعلوا الملائكة بنات الله, فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم, فهذا أغلظ الكفر, وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه, وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة من ذلك, أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. قال الطبراني: حدثنا محمود بن الفرج الأصفهاني, حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي, حدثنا حماد بن شعيب عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك, تملكه وما ملك. فأنزل الله تعالى: {هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم} ولما كان التنبيه بهذا المثل على براءته تعالى ونزاهته بطريق الأولى والأحرى. قال تعالى: {كذلك نفصل الاَيات لقوم يعقلون} ثم قال تعالى مبيناً أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهاً من أنفسهم وجهلاً {بل اتبع الذين ظلموا} أي المشركون {أهواءهم} أي في عبادتهم الأنداد بغير علم {فمن يهدي من أضل الله} أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم {وما لهم من ناصرين} أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ولا محيد لهم عنه, لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ** فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الّذِينَ فَرّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم, الذي هداك الله لها وكملها لك غاية الكمال, وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها, فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره, كما تقدم عند قوله تعالى: {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا بلى}. وفي الحديث «إني خلقت عبادي حنفاء, فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الإسلام, ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية. وقوله تعالى: {لا تبديلٍ لخلق الله} قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها, فيكون خبراً بمعنى الطلب, كقوله تعالى: {ومن دخله كان آمنا} وهو معنى حسن صحيح, وقال آخرون: هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة, لا يولد أحد إلا على ذلك, ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله {لا تبديل لخلق الله} أي لدين الله, وقال البخاري: قوله {لا تبديل لخلق الله} لدين الله, خلق الأولين دين الأولين, الدين والفطرة الإسلام. حدثنا عبدان: أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري, أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه, كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء, هل تحسون فيها من جدعاء ؟» ثم يقول «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به, وأخرجاه أيضاً من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة, فمنهم الأسود بن سريع التميمي. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا يونس عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه فأصبت ظهراً, فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟» فقال رجل: يا رسول الله أما هم أبناء المشركين ؟ فقال «لا إنما خياركم أبناء المشركين ـ ثم قال ـ لا تقتلوا ذرية, لاتقتلوا ذرية ـ وقال ـ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها, فأبواها يهودانها أو ينصرانها» ورواه النسائي في كتاب السير عن زياد بن أيوب عن هشيم, عن يونس وهو ابن عبيد بن الحسن البصري به. ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم, حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه, فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً». ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة, حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين, فقال «الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً بذلك. وقد قال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة, أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: أتى علي زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين, وأولاد المشركين مع المشركين, حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم, فقال «الله أعلم بما كانوا عاملين». قال: فلقيت الرجل فأخبرني, فأمسكت عن قولي. ومنهم عياض بن حمار المجاشعي. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم, فقال في خطبته «إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال, وإِني خلقت عبادي حنفاء كلهم, وإِنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم, وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا, ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب, وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك, وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء, تقرؤه نائماً ويقظان: ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً, فقلت: يارب إذاً يثلغ رأسي فيدعه خبزة, قال: استخرجهم كما استخرجوك, واغزهم نغزك, وأنفق عليهم فسننفق عليك, وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله, وقاتل بمن أطاعك من عصاك ـ قال ـ: وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق, ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم, ورجل عفيف فقير متصدق وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً, والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه, ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك» وذكر البخيل أو الكذاب والشنظير: الفحاش. انفرد بإخراجه مسلم, فرواه من طرق عن قتادة به. وقوله تعالى: {ذلك الدين القيم} أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس, فهم عنه ناكبون, كما قال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وقال تعالى: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} الاَية. وقوله تعالى: {منيبين إليه} قال ابن زيد وابن جريج: أي راجعين إليه. {واتقوه} أي خافوه وراقبوه, {وأقيموا الصلاة} وهي الطاعة العظيمة, {ولا تكونوا من المشركين} أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح, حدثنا يوسف بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم قال: مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال: ما قوام هذه الأمة ؟ قال معاذ: ثلاث وهن المنجيات: الإخلاص وهي الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها, والصلاة وهي الملة, والطاعة وهي العصمة, فقال عمر: صدقت. حدثني يعقوب, حدثنا ابن علية, حدثنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر رضي الله عنه قال لمعاذ: ما قوام هذا الأمر ؟ فذكر نحوه. وقوله تعالى: {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون} أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه, وآمنوا ببعض وكفروا ببعض, وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم, أي تركوه وراء ظهورهم, وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام, كما قال تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله} الاَية, فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة, وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء, وهذه لأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة, المتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه, كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال «ما أنا عليه وأصحابي». ** وَإِذَا مَسّ النّاسَ ضُرّ دَعَوْاْ رَبّهُمْ مّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَآ أَذَقْنَا النّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الإضطرار يدعون الله وحده لا شريك له, وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى: {ليكفروا بما آتيناهم} هي لام العاقبة عند بعضهم, ولام التعليل عند آخرين, ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك, ثم توعدهم بقوله {فسوف تعلمون} قال بعضهم والله لو توعدني حارس درب لخفت منه, فكيف والمتوعد ههنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون ؟ ثم قال منكراً على المشركين فيما اختلقوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} أي حجة {فهو يتكلم} أي ينطق {بما كانوا به يشركون} وهذا استفهام إنكار, أي لم يكن لهم شيء من ذلك. ثم قال تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها, وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقطنون} هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله ووفقه, فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال {ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور} أي يفرح في نفسه ويفخر على غيره, وإذا أصابته شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكلية. قال الله تعالى: {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء. كما ثبت في الصحيح« عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له». وقوله تعالى: {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله, فيوسع على قوم ويضيق على آخرين {إن في ذلك لاَيات لقوم يؤمنون}. ** فَآتِ ذَا الْقُرْبَىَ حَقّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لّلّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَآ آتَيْتُمْ مّن رّباً لّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول تعالى آمراً بإعطاء {ذي القربى حقه} أي من البر والصلة, {والمسكين} وهو الذي لا شيء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته, {وابن السبيل} وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره, {ذلك خير للذين يريدون وجه الله} أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى, {وأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والاَخرة. ثم قال تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى لهم, فهذا لا ثواب له عند الله, بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب والشعبي, وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه, إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, قاله الضحاك, واستدل بقوله: {ولا تمنن تستكثر} أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان: فربا لا يصح, يعني ربا البيع ؟ وربا لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلها, وأضعافها, ثم تلا هذه الاَية {وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله} وإنما الثواب عند الله في الزكاة, ولهذا قال تعالى: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء. كما جاء في الصحيح «وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها, كما يربي أحدكم فلوّه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد». وقوله عز وجل: { الله الذي خلقكم ثم رزقكم} أي هو الخالق الرزاق, يخرج الإنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوة, ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب. كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن سلام أبي شرحبيل عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئاً فأعناه, فقال «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما, فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة, ثم يرزقه الله عز وجل». وقوله تعالى: {ثم يميتكم} أي بعد هذه الحياة, {ثم يحييكم} أي يوم القيامة. وقوله تعالى: {هل من شركائكم} أي الذين تعبدونهم من دون الله {من يفعل من ذلكم من شيء ؟} أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك, بل الله سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة, ثم يبعث الخلائق يوم القيامة, ولهذا قال بعد هذا كله {سبحانه وتعالى عما يشركون} أي تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد, بل هو الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. ** ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذِي عَمِلُواْ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مّشْرِكِينَ قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي وغيرهم: المراد بالبر ههنا الفيافي, وبالبحر الأمصار والقرى. وفي رواية عن ابن عباس وعكرمة: البحر الأمصار, والقرى ما كان منهما على جانب نهر. وقال آخرون بل المراد بالبر هو البر المعروف, وبالبحر هو البحر المعروف. وقال زيد بن رفيع {ظهر الفساد} يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط, وعن البحر تعمى دوابه, رواه ابن أبي حاتم, وقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الأعرج عن مجاهد {ظهر الفساد في البر والبحر} قال: فساد البر قتل ابن آدم, وفساد البحر أخذ السفينة غصباً. وقال عطاء الخراساني: المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى, وبالبحر جزائره. والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون, ويؤيده ما قاله محمد بن إسحاق في السيرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح ملك أيلة, وكتب إليه ببحره, يعني ببلده, ومعنى قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي . وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض, لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة, ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود «لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلهامن أن يمطروا أربعين صباحاً» والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات, وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية, وهو تركها, فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف, فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج, قيل للأرض: أخرجي بركتك, فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها, ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس, وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيح أن الفاجر إذا مات تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد والحسين قالا: حدثنا عوف عن أبي قحذم قال: وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد, صرة فيها حب, يعني من بر, أمثال النوى عليه مكتوب: هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل, وروى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد ههنا الشرك, وفيه نظر. وقوله تعالى: {ليذيقهم بعض الذي عملوا} الاَية, أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم {لعلهم يرجعون} أي عن المعاصي, كما قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} ثم قال تعالى: {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل} أي من قبلكم {كان أكثرهم مشركين} أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم. ** فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ الْقِيّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدّ لَهُ مِنَ اللّهِ يَوْمَئِذٍ يَصّدّعُونَ * مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الإستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله} أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له {يومئذ يصدعون} أي يتفرقون, ففريق في الجنة وفريق في السعير, ولهذا قال تعالى: {من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون * ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله} أي يجازيهم مجازاة الفضل, الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله {إنه لا يحب الكافرين} ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور. ** وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىَ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجيء الغيث عقبها, ولهذا قال تعالى: {وليذيقكم من رحمته} أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد {ولتجري الفلك بأمره} أي في البحر وإنما سيرها بالريح {ولتبتغوا من فضله} أي في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم, وقطر إلى قطر {ولعلكم تشكرون} أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى. ثم قال تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا} هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس, فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاؤوا أممهم به من الدلائل الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً, كقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة» ثم تلا هذه الاَية {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}. ** اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَىَ آثَارِ رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ ذَلِكَ لَمُحْييِ الْمَوْتَىَ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لّظَلّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل منه الماء, فقال تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابً} إما من البحر كما ذكره غير واحد, أو مما يشاء الله عز وجل {فيبسطه في السماء كيف يشاء} أي يمده فيكثره وينميه, ويجعل من القليل كثير, ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس, ثم يبسطها حتى تملأ أرجاءالأفق, وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة, كما قال تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت ـ إلى قوله ـ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} وكذلك قال ههنا {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً} قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة: يعني قطعاً. وقال غيره: متراكماً, كما قاله الضحاك. وقال غيره: أسود من كثرة الماء, تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض. وقوله تعالى: {فترى الودق يخرج من خلاله} أي فترى المطر وهو القطر, يخرج من بين ذلك السحاب {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون} أي إليه يفرحون لحاجتهم بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى: {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} معنى الكلام أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر, كانوا قنطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك, فلما جاءهم جاءهم على فاقة, فوقع منهم موقعاً عظيماً, وقد اختلف النحاة في قوله {من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} فقال ابن جرير: هو تأكيد, وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون: من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله, أي الإنزال لمبلسين, ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس, ويكون معنى الكلام أنهم كانوا محتاجين إليه قبل نزوله, ومن قبله أيضاً قد فات عندهم نزوله وقتاً بعد وقت, فترقبوه في إبانه, فتأخر, ثم مضت مدة فترقبوه فتأخر, ثم جاءهم بغتة بعد الإياس منه والقنوط, فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ولهذا قال تعالى: {فانظر إلى آثار رحمة الله} يعني المطر {كيف يحيي الأرض بعد موتها} ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها فقال تعالى: {إن ذلك لمحيي الموتى} أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات {إنه على كل شيء قدير} ثم قال تعالى: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفرً لظلوا من بعده يكفرون} يقول تعالى: {ولئن أرسلنا ريحاً} يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه, فرأوه مصفراً, أي قد أصفر وشرع في الفساد لظلوا من بعده, أي بعد هذا الحال, يكفرون, أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم. كقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون ـ إلى قوله ـ بل نحن محرومون}. فال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع, حدثنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة, وأربعة عذاب, فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات, وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر, والعاصف والقاصف وهما في البحر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب, حدثنا عمي, حدثنا عبد الله بن عياش, حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني الأرض الثانية ـ فلما أراد أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً تهلك عاداً, فقال: يا رب أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور, قال له الجبار تبارك وتعالى: لا إذاً تكفأ الأرض وما عليها, ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم, فهي التي قال الله في كتابه {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} هذا حديث غريب, ورفعه منكر, والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه. ** فَإِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ يقول تعالى: كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها, ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مع ذلك مدبرون عنك, كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم بل ذلك إلى الله, فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء, ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وليس ذلك لأحد سواه, ولهذا قال تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} أي خاضعون مستجيبون مطيعون, فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه وهذا حال المؤمنين, والأول مثل الكافرين, كما قال تعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الاَية {إنك لا تسمع الموتى} على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم, حتى قال عمر: يا رسول الله ما تخاطب من قوم قد جيفوا ؟ فقال «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم, ولكن لا يجيبون» وتأولته عائشة على أنه قال «إنهم الاَن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق». وقال قتادة: أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعاً وتوبيخاً ونقمة. والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة, من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححاً له عن ابن عباس مرفوعاً «ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه في الدنيافيسلم عليه, إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام». ** اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال, فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة, ثم يصير عظاماً, ثم تكسى العظام لحماً, وينفخ فيه الروح, ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى, ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً, ثم حدثاً ثم مراهقاً شاباً. وهو القوة بعد الضعف, ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم, وهو الضعف بعد القوة, فتضعف الهمة والحركة والبطش, وتشيب اللمة, وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة, ولهذا قال تعالى: {ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء} أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد {وهو العليم القدير}. قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن فضيل ويزيد, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن عمر {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً} فقال {الله الذي خلقكم من ضعف ثم من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً} ثم قال: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي, فأخذ علي كما أخذت عليك, ورواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث فضيل, ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه. ** وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لاّ ينفَعُ الّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والاَخرة, ففي الدنيا فعلوا من عبادة الأوثان, وفي الاَخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً, فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا, ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم. قال الله تعالى: {كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث} أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الاَخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا, فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة {لقد لبثتم في كتاب الله} أي في كتاب الأعمال {إلى يوم البعث} أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم {ولكنكم كنتم لا تعلمون} قال الله تعالى: {فيومئذ} أي يوم القيامة {لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم} أي اعتذارهم عما فعلوا {ولا هم يستعتبون} أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا, كما قال تعالى: {وإِن يستعتبوا فما هم من المعتبين}. ** وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنّاسِ فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لّيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وَلاَ يَسْتَخِفّنّكَ الّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ يقول تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي قد بينا لهم الحق, ووضحناه لهم, وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويتبعوه {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون} أي لورأوا أي آية كانت, سواء كانت باقتراحهم أو غيره, لايؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل, كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه, كما قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ولهذا قال ههنا {كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق} أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم, فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك عليهم وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والاَخرة {ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} أي بل اثبت على ما بعثك الله به, فإنه الحق الذي لا مرية فيه, ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع, بل الحق كله منحصر فيه. قال سعيد عن قتادة: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة, فقال: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأنصت له علي حتى فهم ما قال, فأجابه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون} رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال, حدثنا وكيع: حدثنا يحيى بن آدم عن شريك عن عثمان ابن أبي زرعة عن علي بن ربيعة قال: نادى رجل من الخوارج علياً رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر, فقال {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}. (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شريك عن عمران بن ظبيان عن أبي يحيى قال: صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر, فناداه رجل من الخوارج {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون}. (ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير, سمعت شبيب أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم, فقال «إنه يلبس علينا القرآن, فإن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء, فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» وهذا إسناد حسن, ومتن حسن, وفيه سر عجيب, ونبأ غريب, وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به, فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة الإمام. آخر تفسير سورة الروم. و لله الحمد والمنة. سورة لقمان بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الَـمَ * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ * الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ بِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَـَئِكَ عَلَىَ هُدًى مّن رّبّهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ تقدم في سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة, وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين, وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة, فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة, وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها, ووصلوا أرحامهم وقراباتهم, وأيقنوا بالجزاء في الدار الاَخرة, فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك لم يراؤوا به, ولا أرادوا جزاءاً من الناس ولا شكوراً, فمن فعل ذلك كذلك, فهو من الذين قال الله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي {وأولئك هم المفلحون} أي في الدنيا والاَخرة. ** وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلّىَ مُسْتَكْبِراً كَأَن لّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنّ فِيَ أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لما ذكر تعالى حال السعداء, وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه, كما قال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} الاَية, عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب, كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} قال: هو والله الغناء. روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب, أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الاَية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل على سبيل الله} فقال عبد الله بن مسعود: الغناء والله الذي لا إله إلا هو, يرددها ثلاث مرات, حدثنا عمرو بن علي, حدثنا صفوان بن عيسى, أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير, عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: الغناء, وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن نديمة. وقال الحسن البصري: نزلت هذه الأية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} في الغناء والمزامير. وقال قتادة: قوله {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم} والله لعله لا ينفق فيه مالاً, ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق, وما يضر على ما ينفع, وقيل: أراد بقوله {يشتري لهو الحديث} اشتراء المغنيات من الجواري. قال ابن أبي حاتم, حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن خلاد الصفار عن عبيد الله بن زحر, عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن, عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام, وفيهن أنزل الله عز وجل علي {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله}» وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه, ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب, وضعف علي بن يزيد المذكور. (قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء, والله أعلم. وقال الضحاك في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} قال: يعني الشرك, وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله. وقوله {ليضل عن سبيل الله} أي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله, وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة أو تعليلاً للأمر القدري, أي قيضوا لذلك ليكونوا كذلك. وقوله تعالى: {ويتخذها هزواً} قال مجاهد: ويتخذ سبيل الله هزواً يستهزىء بها. وقال قتادة: يعني ويتخذ آيات الله هزواً, وقول مجاهد أولى. وقوله {أولئك لهم عذاب مهين} أي كما استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر. ثم قال تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرأ} أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الاَيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به من صمم, كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها, {فبشره بعذاب أليم} أي يوم القيامة, يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته. ** إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الاَخرة, الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين, وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله {لهم جنات النعيم} أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمراكب والنساء والنضرة والسماع, الذي لم يخطر ببال أحد وهم في ذلك مقيمون دائماًلا يظعنون دائماً ولا يبغون عنها حولاً. وقوله تعالى: {وعد الله حقاً} أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله, والله لا يخلف الميعاد, لأنه الكريم المنان الفعال لما يشاء القادر على كل شيء {وهو العزيز} الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء {الحكيم} في أقواله وأفعاله, الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} الاَية. وقوله {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}. ** خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىَ فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَآبّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَـَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السموات والأرض, وما فيها وما بينهما, فقال تعالى: {خلق السموات بغير عمد} قال الحسن وقتادة: ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد, لها عمد لا ترونها, وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد بما أغنى عن إعادته, {وألقى في الأرض رواسي} يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء, ولهذا قال {أن تميد بكم} أي لئلا تميد بكم. وقوله تعالى: {وبث فيها من كل دابة} أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالهاوألوانها إلا الذي خلقها, ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله {وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} أي من كل زوج من النبات كريم, أي حسن المنظر. وقال الشعبي: والناس أيضاً من نبات الأرض, فمن دخل الجنة فهو كريم, ومن دخل النار فهو لئيم. وقوله تعالى: {هذا خلق الله} أي هذا الذي ذكره الله تعالى من خلق السموات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره, وحده لا شريك له في ذلك, ولهذا قال تعالى: {فأروني ماذا خلق الذين من دونه} أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد {بل الظالمون} يعني المشركين بالله العابدين معه غيره {في ضلال} أي جهل وعمى {مبين} أي واضح ظاهر لا خفاء به. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ اختلف السلف في لقمان: هل كان نبياً أو عبداً صالحاً من غير نبوة ؟ على قولين, الأكثرون على الثاني.وقال سفيان الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً. وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير: قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال: كان قصيراً أفطس من النوبة. وقال يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر, ذا مشافر, أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة. وقال الأوزاعي: حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله, فقال له سعيد بن المسيب: لا تحزن من أجل أنك أسود, فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان: بلال, ومهجع مولى عمر بن الخطاب, ولقمان الحكيم كان أسود نوبياً ذا مشافر. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال: كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً, فقال له مولاه: اذبح لنا هذه الشاه, فذبحها, قال: أخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرج اللسان والقلب, ثم مكث ما شاء الله, ثم قال: اذبح لنا هذه الشاة, فذبحها, قال: أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب, فقال له مولاه: أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها, فأخرجتهما, وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها, فأخرجتهما ؟ فقال لقمان:إنه ليس من شيء أطيب منهماإذا طابا, ولا أخبث منهما إذا خبثا. وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد: كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً. وقال الأعمش: قال مجاهد: كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين, مشقق القدمين. وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن مجاهد: كان لقمان الحكيم عبداً حبشياً, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, قاضياً على بني إسرائيل, وذكر غيره أنه كان قاضياً على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو بن قيس قال: كان لقمان عبداً أسود, غليظ الشفتين, مصفح القدمين, فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم, فقال له: ألست الذي كنت ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا ؟ قال: نعم, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا صفوان, حدثنا الوليد, حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال: إن الله رفع لقمان الحكيم بحكمته, فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك, فقال له: ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس ؟ قال: بلى, قال: فما بلغ بك ما أرى ؟ قال: قدر الله, وأداء الأمانة, وصدق الحديث, وتركي ما لا يعنيني, فهذه الاَثار منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبياً, ومنها ما هو مشعر بذلك, لأن كونه عبداً قد مسه الرق ينافي كونه نبياً, لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها, ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبياً, وإنما ينقل كونه نبياً عن عكرمة إن صح السند إليه, فإنه رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة, قال: كان لقمان نبياً, وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي, وهو ضعيف, والله أعلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة, قال: وقف رجل على لقمان الحكيم, فقال: أنت لقمان, أنت عبد بني الحسحاس ؟ قال: نعم, قال: أنت راعي الغنم ؟ قال: نعم, قال: أنت الأسود ؟ قال: أما سوادي فظاهر, فما الذي يعجبك من أمري ؟ قال: وطء الناس بساطك, وغشيهم بابك, ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن صَغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك, قال لقمان: غضي بصري وكفي لساني, وعفة طعمتي وحفظي فرجي, وقولي بصدق, ووفائي بعهدي, وتكرمتي ضيفي, وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني, فذاك الذي صيرني إلى ما ترى.) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن نفيل, حدثنا عمرو بن واقد, عن عبدة بن رباح, عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال يوماً وذكر لقمان الحكيم, فقال: ما أوتي ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال, ولكنه كان رجلاً صمصامة سكيتاً, طويل التفكر, عميق النظر, لم ينم نهاراً قط, ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع, ولا يبول ولا يتغوط, ولا يغتسل, ولا يعبث ولا يضحك, وكان لا يعيد منطقاً نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد, وكان قد تزوج وولد أولاد, فماتوا فلم يبك عليهم, وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر, فبذلك أوتي ما أوتي. وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي, حدثنا العباس بن الوليد, حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي, حدثنا سعيد عن ابن بشير قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة, فاختار الحكمة على النبوة, قال: فأتاه جبريل وهو نائم, فذر عليه الحكمة, أو رش عليه الحكمة, قال: فأصبح ينطق بها, قال سعيد: فسمعت عن قتادة يقول: قيل للقمان: كيف اخترت الحكمة على النبوة, وقد خيرك ربك ؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه, ولكنت أرجو أن أقوم بها, ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة, فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير, وفيه ضعف قد تكلموا فيه بسببه, فالله أعلم, والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} أي الفقه في الإسلام,ولم يكن نبياً ولم يوح إليه. وقوله {ولقد آتينا لقمان الحكمة} أي الفهم والعلم والتعبير {أن أشكر الله} أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه, ثم قال تعالى: {ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه} أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين لقوله تعالى: {ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون}. وقوله {ومن كفر فإن الله غني حميد} أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولوكفر أهل الأرض كلهم جميعاً, فإنه الغني عما سواه, فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه. ** وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَبُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَىَ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىَ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده, وهو لقمان بن عنقاء بن سدون, واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي, وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر, وأنه آتاه الحكمة, وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه, فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً, ثم قال محذراً له {إن الشرك لظلم عظيم} أي هو أعظم الظلم. قال البخاري: حدثنا قتيبة, حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنه ليس بذاك, ألا تسمع إلى قول لقمان {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}» ورواه مسلم من حديث الأعمش به, ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين, كما قال تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن, وقال ههنا {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن} قال مجاهد: مشقة وهن الولد, وقال قتادة جهداً على جهد, وقال عطاء الخراساني ضعفاً على ضعف. وقوله {وفصاله في عامين} أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين, كما قال تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} الاَية, ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر, لأنه قال في الاَية الأخرى {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً, ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه, كما قال تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً} ولهذا قال {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير} أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء. قال ابن حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان قالا: حدثنا عبيد الله, أخبرنا إسرائيل عن أبي اسحاق عن سعيد بن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل, وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقام فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً, وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً, وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن, وخلود فلا موت. وقوله {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك, ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفاً, أي محسناً إليهما, {واتبع سبيل من أناب إلى} يعني المؤمنين, {ثم إِلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعلمون} قال الطبراني في كتاب العشرة: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد, حدثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال: أنزلت في هذه الاَية {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} الاَية, قال: كنت رجلاً براً بأمي, فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي , فيقال: يا قاتل أمه, فقلت: لا تفعلي يا أمه, فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوماً وليلة لم تأكل, فأصبحت قد جهدت, مكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل, فأصبحت قد اشتد جهدها, فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء, فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي, فأكلت. ** يَبُنَيّ إِنّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىَ مَآ أَصَابَكَ إِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ * وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم, ليمتثلها الناس ويقتدوا بها, فقال {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل} أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة من خردل, وجوز بعضهم أن يكون الضمير في قوله إنها ضمير الشأن والقصة, وجوز على هذا رفع مثقال, والأول أولى. وقوله عز وجل {يأت بها الله} أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط, وجازى عليها إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, كما قال تعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً} الاَية. وقال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء, أو غائبة ذاهبة في ارجاء السموات والأرض, فإن الله يأتي بها, لأنه لا تخفى عليه خافية, ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض, ولهذا قال تعالى: {إن الله لطيف خبير} أي لطيف العلم, فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت وتضاءلت, {خبير} بدبيب النمل في الليل البهيم. وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله{فتكن في صخرة} أنها صخرة تحت الأرضين السبع, وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة إن صح ذلك, ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم, وهذا ـ والله أعلم ـ كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, والظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة, فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم, عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان». ثم قال {يا بني أقم الصلاة} أي بحدودها وفروضها وأوقاتها {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} أي بحسب طاقتك وجهدك {واصبر على ما أصابك} علم أن الاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى, فأمره بالصبر. وقوله {إن ذلك من عزم الأمور} أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور وقوله {ولا تصعر خدك للناس} يقول لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقاراً منك لهم, واستكباراً عليهم, ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم, كما جاء في الحديث «ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط, وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة, والمخيلة لا يحبها الله». قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله {ولا تصعر خدك للناس} يقول لا تتكبر فتحقر عباد الله, وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك, وكذا روى العوفي وعكرمة عنه. وقال مالك عن زيد بن أسلم {ولا تصعر خدك للناس} لا تتكلم وأنت معرض, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم. وقال إبراهيم النخعي: يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول. وقال ابن جرير: وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها, حتى تلفت أعناقها عن رؤوسها, فشبه به الرجل المتكبر, ومنه قول عمرو بن حيي التغلبي. وكنا إذا الجبار صعر خدهأقمنا له من ميله فتقوما وقال أبو طالب في شعره:وكنا قديماً لا نقر ظلامةإذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها وقوله {ولا تمش في الأرض مرحا} أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً, لا تفعل ذلك يبغضك الله, ولهذا قال {إن الله لا يحب كل مختال فخور} أي مختال معجب في نفسه, فخور أي على غيره. وقال تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً} وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي, حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى, حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه, فقال «إن الله لا يحب كل مختال فخور» فقال رجل من القوم: والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها, ويعجبني شراك نعلي, وعلاقة سوطي, فقال «ليس ذلك الكبر, إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» ورواه من طريق أخرى بمثله, وفيه قصة طويلة, ومقتل ثابت ووصيته بعد موته. وقوله {واقصد في مشيك} أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط, ولا بالسريع المفرط, بل عدلاً وسطا بين بين. وقوله {واغضض من صوتك} أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه, ولهذا قال {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير, أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه, ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى, وهذا التشبيه في هذا بالحمير, يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه». وقال النسائي عند تفسير هذه الاَية: حدثنا قتيبة بن سعيد , حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله, وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان, فإنها رأت شيطاناً» وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه من طرق عن جعفر بن ربيعة به, وفي بعض الألفاظ: بالليل, فالله أعلم. فهذه وصايا نافعة جداً, وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم, وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثيرة, فلنذكر منها أنموذجاً ودستوراً إلى ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أخبرنا ابن المبارك, أخبرنا سفيان, أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه». وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن موسى بن سليمان, عن القاسم يحدث عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والتقنع, فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار». وقال: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان عن ضمرة, حدثنا الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه: يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عبدة بن سليمان , أخبرنا ابن المبارك, حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: قال لقمان لابنه: يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام, يعني السلام, ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا, فإن أفاضوا في ذكر الله, فأجل سهمك معهم, وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال: وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه, وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل, فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظها جبل تفطر, قال: فتفطر ابنه. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني, حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي, حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتخذوا السودان, فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم, والنجاشي, وبلال المؤذن» قال أبو القاسم الطبراني أراد الحبش. فصل في الخمول والتواضع وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه. وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتاباً مفرداً, ونحن نذكر منه مقاصده, قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر, حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد بن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «رب أشعث ذي طمرين يصفح عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لأبره» ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت, وعلي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره, وزاد «منهم البراء بن مالك». وقال أبو بكر بن سهل التميمي: حدثنا ابن أبي مريم, حدثنا نافع بن زيد عن عياش بن عباس عن عيسى بن عبد الرحمن, عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد, فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما يبكيك يا معاذ ؟ قال: حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول «إن اليسير من الرياء شرك, وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء, الذين إذا غابوا لم يفتقدوا, وإذا حضروا لم يعرفوا, قلوبهم مصابيح الهدى, ينجون من كل غبراء مظلمة». حدثنا الوليد بن شجاع, حدثنا عفان بن علي عن حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره, لو قال: اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة, ولم يعطه من الدنيا شيئاً». وقال أيضاً: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله ديناراً أو درهماً أو فلساً لم يعطه, ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها, ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها, ولم يمنعها إياه لهوانه عليه, ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» وهذا مرسل من هذا الوجه. وقال أيضاً: حدثنا إسحاق ابن إبراهيم, أخبرنا جعفر بن سليمان, حدثنا عوف قال: قال أبو هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم, وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا, وإذا قالوا لم ينصت لهم, حوائج أحدهم تتجلجل في صدره, لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم». قال: وأنشدني عمر بن شبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك: ألا رب ذي طمرين في منزل غدازرابيه مبثوثة ونمارقه قد اطردت أنهاره حول قصرهوأشرق والتفت عليه حدائقه وروي أيضاً من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم, عن أبي أمامة مرفوعاً «قال الله: من أغبط أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ, ذو حظ من صلاة, أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر, وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك» قال: ثم أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده, وقال «عجلت منيته, وقل تراثه, وقلت بواكيه» وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء, قيل: ومن الغرباء ؟ قال: الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أنعم عليك, ألم أعطك, ألم أسترك ؟ ألم... ألم... ألم أُخمل ذكرك. ثم قال الفضيل: إن استطعت ألا تعرف فافعل, وما عليك أن لا يثنى عليك, وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس محموداً عند الله. وكان ابن محيريز يقول: اللهم إني أسألك ذكراً خاملاً. وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك, واجعلني في نفسي من أوضع خلقك. وعند الناس من أوسط خلقك. (باب ما جاء في الشهرة) ثم قال: حدثنا أحمد بن عيسى المصري, حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب, عن سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: حسب امرىء من الشر إلا من عصم الله أن يشير الناس إليه بالإصابع في دينه ودنياه, وإن الله لاينظر إلى صوركم, ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم» وروي مثله عن إسحاق بن البهلول عن ابن أبي فديك, عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي, عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله مرفوعاً مثله, وروي عن الحسن مرسلاً نحوه فقيل للحسن: فإنه يشار إليك بالأصابع, فقال: إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق. وعن علي رضي الله عنه قال: لاتبدأ لأن تشتهر, ولا ترفع شخصك لتذكر, وتعلم واكتم, واصمت تسلم, تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب: ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وقال محمد بن العلاء: من أحب الله أحب أن لا يعرفه الناس. وقال سماك بن سلمة: إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان: إن أحببت أن يسلم إليك دينك فأقل من المعارف. كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم. وقال: حدثنا علي بن الجعد, أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوماً يمشون معه فقال: ذباب طمع وفراش النار. وقال ابن إدريس عن هارون بن ابن عنترة عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال: إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن: خرج ابن مسعود فاتبعه أناس, فقال: والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وقال حماد بن زيد: كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم, ردوا رداً شديداً, فكان ذلك يغمه. وقال عبد الرزاق عن معمر: كان أيوب يطيل قميصه, فقيل له في ذلك, فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص, واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم, فلبسهما أياماً ثم خلعهما, وقال: لم أر الناس يلبسونهما. وقال إبراهيم النخعي: لا تلبس من الثياب ما يشهر في الفقهاء ولا ما يزدريك السفهاء. وقال الثوري: كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه. وحدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار النهاق. وقال الحسن رحمه الله: إن قوماً جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم, فصاحب الكساء بكسائه أعظم من صاحب المطرف بمطرفه ما لهم تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان, وقلوبكم قلوب الذئاب, البسوا ثياب الملوك, وألينوا قلوبكم بالخشية. (فصل في حسن الخلق) قال أبو التياح عن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً وعن عطاء عن ابن عمر: قيل يا رسول الله أي المؤمنين أفضل ؟ قال «أحسنهم خلقاً». وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعاً «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الاَخرة وشرف المنازل, وإنه لضعيف العبادة, وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد» وعن سيار بن هارون عن حميد عن أنس مرفوعاً «ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والاَخرة» وعن عائشة مرفوعاً «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار». وقال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس, حدثنا عبد الله بن إدريس, أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة, فقال «تقوى الله وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار, فقال «الأجوفان: الفم والفرج» وقال أسامة بن شريك: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الأعراب من كل مكان, فقالوا: يا رسول الله ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال «حسن الخلق». وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق, وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به. وعن مسروق عن عبد الله مرفوعاً «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً». حدثنا عبد الله بن أبي بدر, حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ليعطي العبد على الثواب من حسن الخلق, كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الأجر ويروح». وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعاً «إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منزلاً في الجنة مساويكم أخلاقاً الثرثارون المتشدقون المتفيهقون» وعن أبي أويس عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعاً «ألا أخبركم بأكملكم إيماناً أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً الذين يؤلفون ويألفون». وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر ابن أبي الفرات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما حسن الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار». وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعاً «خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق». وقال ميمون بن مهران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق» وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال: حدثنا علي بن الجعد, حدثنا أبو المغيرة الأحمسي, حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من ذنب أعظم عند الله من سوء الخلق, إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب. كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل». وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوعاً «إنكم لا تسعون الناس بأموالكم, ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق». وقال محمد بن سيرين: حسن الخلق عون على الدين. (فصل في ذم الكبر) قال علقمة عن ابن مسعود رفعه «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر, ولا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من إيمان» وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً «من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر, أكبه الله على وجهه في النار» حدثنا إسحاق بن إسماعيل, حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعاً «لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين, فيصيبه ما أصابهم من العذاب». وقال مالك بن دينار: ركب سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن, فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء, ثم خفضوه حتى مست قدمه ماء البحر, فسمعوا صوتاً لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع قال: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر نفسه فيقول: خرج من مجرى البول مرتين. وقال الشعبي: من قتل اثنين فهو جبار, ثم تلا {أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض} وقال الحسن: عجباً لابن آدم يغسل الخرء بيده في اليوم مرتين, ثم يتكبر يعارض جبار السموات. قال: حدثنا خالد بن خداش, حدثنا حماد بن زيد عن علي بن الحسن عن الضحاك بن سفيان, فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم وقال الحسن عن يحيى عن أبي قال: إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه. وقال محمد بن الحسين بن علي ـ من ولد علي رضي الله عنه ـ ما دخل قلب رجل شيء من الكبر, إلا نقص من عقله بقدر ذلك. وقال يونس بن عبيد: ليس مع السجود كبر, ولا مع التوحيد نفاق. ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته, وذلك قبل أن يستخلف, فطعن طاوس في جنبه بأصبعه, وقال: ليس هذا شأن من في بطنه خرء ؟ فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا: كانت بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية. (فصل في الإختيال) عن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعاً «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» ورواه عن إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعاً مثله. وحدثنا محمد بن بكار, حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعاً «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره, وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته نفسه خسف الله به الأرض, فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره. ** أَلَمْ تَرَوْاْ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىَ عَذَابِ السّعِيرِ يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والاَخرة بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم, وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد, وجعله إياها لهم سقفاً محفوظاً, وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار, وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة الشبه والعلل, ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم, بل منهم من يجادل في الله, أي في توحيده وإرساله الرسل ومجادلته في ذلك بغير علم, ولا مستند من حجة صحيحة, ولا كتاب مأثور صحيح, ولهذا قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير} أي مبين مضيء {وإذا قيل لهم} أي لهؤلاء المجادلين في توحيد الله {اتبعوا ما أنزل الله} أي على رسوله من الشرائع المطهرة{قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا} أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الاَباء الأقدمين, قال الله تعالى: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه, ولهذا قال تعالى: {أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}. ** وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ وَإِلَىَ اللّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُوَاْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمّ نَضْطَرّهُمْ إِلَىَ عَذَابٍ غَلِيظٍ يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجههلله أي أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه, ولهذا قال {وهو محسن} أي في عمله باتباع ما به أمر, وترك ما عنه زجر {فقد استمسك بالعروة الوثقى} أي فقد أخذ موثقاً من الله متيناً لا يعذبه {وإلى الله عاقبة الأمور * ومن كفر فلا يحزنك كفره} أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به, فإن قدر الله نافذ فيهم, وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا, أي فيجزيهم عليه {إن الله عليم بذات الصدور} فلا تخفى عليه خافية, ثم قال تعالى: {نمتعهم قليلاً} أي في الدنيا {ثم نضطرهم} أي نلجئهم {إلى عذاب غليظ} أي فظيع صعب مشق على النفوس, كما قال تعالى: {إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}. ** وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّنْ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ إِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السموات والأرض وحده لا شريك له, ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له, ولهذا قال تعالى: {ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله} أي إذ قامت عليكم الحجة باعترافكم {بل أكثرهم لا يعلمون}. ثم قال تعالى: {لله ما في السموات والأرض} أي هو خلقه وملكه {إن الله هوالغني الحميد} أي الغني عما سواه. وكل شيء فقير إليه, الحميد في جميع ما خلق, له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع, وهو المحمود في الأمور كلها. ** وَلَوْ أَنّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا, وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد, ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها, كما قال سيد البشر وخاتم الرسل «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فقال تعالى: {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله} أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه, فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر, ولو جاء أمثالها مدداً, وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة, ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب, بل كما قال تعالى في الاَية الأخرى {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً} فليس المراد بقوله {بمثله} آخر فقط بل بمثله ثم بمثله, ثم بمثله ثم هلم جرا, لأنه لا حصر لاَيات الله وكلماته. قال الحسن البصري: لو جعل شجر الأرض أقلاماً, وجعل البحر مداداً, وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا, لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام. وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد, فقال الله تعالى: {ولو أن ما في الأرض شجرة أقلام} أي لو كان شجر الأرض أقلاماَ ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه. وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها, وقد أنزل الله ذلك {ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام} الاَية, يقول: لو كان البحر مداداً لكلمات الله, والأشجار كلها أقلاماً, لا نكسرت الأقلام وفني ماء البحر, وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء, لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني كما ينبغي, حتى يكون هو الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول. وقد روي أن هذه الاَية نزلت جواباً لليهود. قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جيبر أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلاكما» قالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنها في علم الله قليل, وعندكم من ذلك ما يكفيكم» وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك {ولو أن في الأرض من شجرة أقلام} الاَية, وهكذا روي عن عكرمة وعطاء بن بشار, وهذا يقتضي أن هذه الاَية مدنية, لا مكية, والمشهور أنها مكية, والله أعلم. وقوله {إن الله عزيز حكيم} أي عزيز قد عز كل شيء وقهره وغلبه, فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه, حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع شؤونه. وقوله تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة, الجميع هين عليه, {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة, فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقوله {إن الله سميع بصير} أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة, كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة, ولهذا قال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} الاَية. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِيَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى وَأَنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ يخبر تعالى أنه {يولج الليل في النهار} يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك, ويقصر هذا, وهذا يكون زمن الصيف, يطول النهار إلى الغاية, ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار, وهذا يكون في الشتاء {وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى} قيل إلى غاية محدودة, وقيل إلى يوم القيامة, وكلا المعنيين صحيح, ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش, ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح, عن ابن عباس أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها, فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها, قال: وكذلك القمر, إسناده صحيح. وقوله {وأن الله بما تعلمون خبير} كقوله {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض} ومعنى هذا أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء, كقوله تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} الاَية. وقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوابها على أنه الحق, أي الموجود الحق الإله الحق, وأن كل ما سواه باطل, فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه, لأن كل ما في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده, لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه, ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك , ولهذا قال تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} أي العلي الذي لا أعلى منه, الكبير الذي هو أكبر من كل شيء, فكل خاضع حقير بالنسبة إليه. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللّهِ لِيُرِيَكُمْ مّنْ آيَاتِهِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مّوْجٌ كَالظّلَلِ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمّا نَجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ كُلّ خَتّارٍ كَفُورٍ يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر لتجري فيه الفلك بأمره, أي بلطفه وتسخيره, فإنه لو لا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت, ولهذا قال {ليريكم من آياته} أي من قدرته {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} أي صبار في الضراء شكور في الرخاء, ثم قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل} أي كالجبال والغمام {دعوا الله مخلصين له الدين} كما قال تعالى: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} وقال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك} الاَية. ثم قال تعالى: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} قال مجاهد: أي كافر كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاحد, كما قال تعالى: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}. وقال ابن زيد: هو المتوسط في العمل, وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} الاَية, فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل, ويحتمل أن يكون مراداً هنا أيضاً, ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والاَيات الباهرات في البحر, ثم بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام, والدؤوب في العبادة, والمبادرة إلى الخيرات, فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والحالة هذه والله أعلم. وقوله تعالى: {وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور} فالختار هو الغدار, قاله مجاهد والحسن وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم: وهو الذي كلما عاهد نقض عهده, والختر أتم الغدر وأبلغه. قال عمرو بن معد يكرب. وإنك لو رأيت أبا عميرملأت يديك من غدر وختر وقوله {كفور} أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها. ** يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد, وآمراً لهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث {لا يجزي والد عن ولده} أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه. لم يقبل منه, ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الاَخرة {ولا يغرنكم بالله الغرور} يعني الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة, فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه, وليس من ذلك شيء بل كان ما قال تعالى: {يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً} قال وهب بن منبه: قال عزير عليه السلام: لما رأيت بلاء قومي, اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي, فضرعت إلى ربي وصليت وصمت, فأنا في ذلك أتضرع أبكي, إذ أتاني الملك فقلت له, خبرني هل تشفع أرواح المصدقين للظلمة أو الاَباء لأبنائهم ؟ قال: إن القيامة فيها فصل القضاء, وملك ظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن, ولا يؤخذ فيه والد عن ولده, ولا ولد عن والده, ولا أخ عن أخيه, ولا عبد عن سيده, ولا يهتم أحد به غيره, ولا يحزن لحزنه, ولا أحديرحمه, كل مشفق على نفسه, ولا يؤخذ إنسان عن إنسان, كل يهمه همه, ويبكي عوله, ويحمل وزره, ولا يحمل وزره معه غيره, رواه ابن أبي حاتم. ** إِنّ اللّهَ عِندَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها, فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها, فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب {لا يجليها لوقتها إلا هو} وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك, ومن يشاء الله من خلقه, وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه, ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقياً أو سعيداً, علم الملائكة الموكلون بذلك, ومن شاء الله من خلقه, وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها {وما تدري نفس بأي أرض تموت} في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان, لا علم لأحد بذلك, وهذه شبيهة بقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} الاَية. وقد وردت السنة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب. قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب, حدثني حسين بن واقد, حدثني عبد الله بن بريدة, سمعت أبي بريدة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}» هذا حديث صحيح الإسناد, ولم يخرجوه. (حديث ابن عمر) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلاالله {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}» انفرد بإخراجه البخاري, فرواه في كتاب الإستسقاء في صحيحه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان بن سعيد الثوري به. ورواه في التفسير من وجه آخر, فقال: حدثنا يحيى بن سليمان,حدثنا ابن وهب, حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أن أباه حدثه أن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس» ثم قرأ {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} انفرد به أيضاً. ورواه الإمام أحمد عن غندر عن شعبة عن عمر بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير}». (حديث ابن مسعود) رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن شعبة, حدثني عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: قال عبد الله: أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} وكذا رواه عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة به. وزاد في آخره. قال: قلت له أنت سمعته من عبد الله ؟ قال: نعم, أكثر من خمسين مرة, ورواه أيضاً عن وكيع عن مسعر عن عمرو بن مرة به. وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن, ولم يخرجوه. (حديث أبي هريرة) قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل يمشي فقال: يا رسول الله, ما الإيمان ؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته, وكتبه ورسله ولقائه, وتؤمن بالبعث الاَخر» قال: يا رسول الله ما الإسلام ؟ قال «الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان» قال: يا رسول الله ما الإحسان ؟ قال «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل, ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها, وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله, {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث, ويعلم مافي الأرحام} الاَية, ثم انصرف الرجل فقال «ردوه علي» فأخذوا ليردوه, فلم يروا شيئاً, فقال: «هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم» ورواه البخاري أيضاً في كتاب الإيمان, ومسلم عن طرق عن أبي حيان به. وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري, وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله, وهو من أفراد مسلم. (حديث ابن عباس) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا عبد الحميد, حدثنا شهر, حدثنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فأتاه جبريل, فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً كفيه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: حدثني ما الإسلام ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل, وتشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له, وأن محمداً عبده ورسوله» قال: فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت ؟ قال «إذا فعلت ذلك فقد أسلمت» قال: يا رسول الله, فحدثني ما الإيمان ؟ قال «الإيمان أن تؤمن بالله واليوم الاَخر, والملائكة والكتاب والنبيين, وتؤمن بالموت وبالحياة بعد الموت, وتؤمن بالجنة والنار, والحساب والميزان, وتؤمن بالقدر كله: خيره وشره» قال فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال «إذا فعلت ذلك فقد آمنت} قال: يا رسول الله حدثني ما الإحسان ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه, فإن كنت لا تراه فإنه يراك» قال: يا رسول الله فحدثني متى الساعة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ـ سبحان الله ـ في خمس لا يعلمهن إلا هو {إن الله عنده علم الساعة, وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك ـ قال: أجل يا رسول الله, فحدثني, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الأمة ولدت ربتها ـ أو ربها ـ ورأيت أصحاب الشاء يتطاولون في البنيان, ورأيت الحفاة الجياع العالة كانوا رؤوس الناس, فذلك من معالم الساعة وأشراطها» قال: يا رسول الله ومن أصحاب الشاء الحفاة الجياع العالة ؟ قال «العرب» حديث غريب, ولم يخرجوه. (حديث رجل من بني عامر) روى الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمة «اخرجي إليه, فإنه لا يحسن الإستئذان, فقولي له فليقل: السلام عليكم, أأدخل ؟» قال: فسمعته يقول ذلك, فقلت: السلام عليكم, أأدخل ؟ فأذن لي فدخلت, فقلت: بمَ أتيتنا به ؟ قال «لم آتكم إلا بخير, أتيتكم بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له, وأن تدعوا اللات والعزى, وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات, وأن تصوموا من السنة شهراً, وأن تحجوا البيت, وأن تأخذوا الزكاة من مال أغنيائكم فتردوها على فقرائكم» قال: فقال فهل بقي من العلم شيء لا تعلمه ؟ قال «قد علّمني الله عز وجل خيراً, وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس {إن الله عنده علم الساعة, وينزل الغيث, ويعلم ما في الأرحام} الاَية, وهذا إسناد صحيح. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى, فأخبرني ما تلد, وبلادنا مجدبة, فأخبرني متى ينزل الغيث, وقد علمت متى ولدت, فأخبرني متى أموت فأنزل الله عز وجل {إن الله عنده علم الساعة ـ إلى قوله ـ عليم خبير} قال مجاهد: وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب, ثم قرأت {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً}. وقوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} قال قتادة: أشياء استأثر الله بهن, فلم يطلع عليهنّ ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً {إن الله عنده علم الساعة} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة, أو في أي شهر, أو ليل أو نهار {وينزل الغيث} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً {ويعلم ما في الأرحام} فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى, أحمر أو أسود, وما هو {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} أخير أم شر, ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً, لعلك المصاب غداً {وما تدري نفس بأي أرض تموت} أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض, أفي بحر أم بر أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, أخبرنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما جعل الله ميتة عبد بأرض إلا جعل له فيها حاجة». وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة, حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن أبي إسحاق عن مطر بن عكاش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا قضى الله ميتة عبد بأرض جعل له إليها حاجة» وهكذا رواه الترمذي في القدر من حديث سفيان الثوري به, ثم قال: حسن غريب, ولا يعرف لمطر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث, وقد رواه أبو داود في المراسيل, فالله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا أيوب عن أبي المليح بن أسامة عن أبي عزة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها ـ أو قال ـ بها حاجة» وأبو عزة هذا هو يسار بن عبيد الله, ويقال ابن عبد الهذلي. وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية, وقال: صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني, حدثنا المؤمل بن إسماعيل, حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن أبي عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله عنده علم الساعة ـ إلى ـ عليم خبير}. (حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن ثابت الجحدري ومحمد بن يحيى القطعي قالا: حدثنا عمر بن علي, حدثنا إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة» ثم قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحداً يرفعه إلا عمر بن علي المقدمي. وقال ابن أبي الدنيا: حدثني سليمان بن أبي مسيح قال: أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان: فما تزود مما كان يجمعهسوى حنوط غداة البين مع خرق وغير نفحة أعواد تشب لهوقل ذلك من زاد لمنطلق لا تأسين على شيء فكل فتىإلى منيته سيار في عنق وكل من ظن أن الموت يخطئهمعلل بأعاليل من الحمق بأيما بلدة تقدر منيتهإن لا يسير إليها طائعاً يُسق أورده الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث, وهو أعشى همدان, وكان الشعبي زوج أخته, وهو مزوج بأخت الشعبي أيضاً, وقد كان ممن طلب العلم والتفقه, ثم عدل إلى صناعة الشعر فعرف به, وقد روى ابن ماجه عن أحمد بن ثابت وعمر بن شبة, كلاهما عن عمر بن علي مرفوعاً إذا كان أجل أحدكم بأرض أوثبته له إليها حاجة, فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله عز وجل, فتقول الأرض يوم القيامة: رب هذا ما أودعتني, قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما جعل الله منية عبد بأرض إلا جعل له إليها حاجة». سورة السجدة روى البخاري في كتاب الجمعة: حدثنا أبو نعيم, حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة {آلم تنزيل} السجدة و {هل أتى على الإنسان} ورواه مسلم أيضاً من حديث سفيان الثوري به. وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر, أخبرنا الحسن بن صالح عن ليث عن أبي الزبير عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لاينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة, وتبارك الذي بيده الملك, تفرد به أحمد. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الَـمَ * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رّبّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقّ مِن رّبّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله {تنزيل الكتاب لا ريب فيه} أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل {من رب العالمين} ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين أم {يقولون افتراه} أي اختلقه من تلقاء نفسه {بل هو من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} أي يتبعون الحق. ** اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ * يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ يخبر تعالى أنه خالق للأشياء فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش, وقد تقدم الكلام على ذلك {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} أي بل هو المالك لأزمة الأمور, الخالق لكل شيء, المدبر لكل شيء, القادر على كل شيء, فلا ولي لخلقه سواه, ولا شفيع إلا من بعد إذنه {أفلا تتذكرون} يعني أيها العابدون غيره المتوكلون على من عداه, تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل, لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقد أورد النسائي ههنا حديثاً فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب, حدثني محمد بن الصباح, حدثنا أبو عبيدة الحداد, حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال «إن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام, ثم استوى على العرش في اليوم السابع, فخلق التربة يوم السبت, والجبال يوم الأحد, والشجر يوم الاثنين, والمكروه يوم الثلاثاء, والنور يوم الأربعاء, والدواب يوم الخميس, وآدم يوم الجمعة في آخر ساعة من النهار بعد العصر, وخلقه من أديم الأرض: أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها, من أجل ذلك جعل الله من بني آدم الطيب والخبيث» هكذا أورد هذا الحديث إسناداً ومتنا, وقد أخرج مسلم والنسائي أيضاً من حديث حجاج بن محمد الأعور, عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية, عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو أصح, وكذا علله غير واحد من الحفاظ, والله أعلم. قوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة, كما قال تعالى: { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن} الاَية, وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة وقال مجاهد وقتادة والضحاك: النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام وصعوده في مسيرة خمسمائة عام, ولكنه يقطعها في طرفة عين, ولهذا قال تعالى: {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون * ذلك عالم الغيب والشهادة} أي المدبر لهذه الأمور, الذي هو شهيد على أعمال عباده, يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها, هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه, ودانت له العباد والرقاب, الرحيم بعباده المؤمنين, فهو عزيز في رحمته رحيم في عزته. ** الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها. وقال مالك عن زيد بن أسلم {الذي أحسن كل شيء خلقه} قال: أحسن خلق كل شيء كأنه جعله من المقدم والمؤخر, ثم لما ذكر تعالى خلق السموات والأرض, شرع في ذكر خلق الإنسان, فقال تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين} يعني خلق أبا البشر آدم من طين {ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين} أي يتناسلون كذلك من نطفة من بين صلب الرجل وترائب المرأة {ثم سواه} يعني آدم لما خلقه من تراب, خلقاً سوياً مستقيماً {ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني العقول {قليلاً ما تشكرون} أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل, فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل. ** وَقَالُوَاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفّاكُم مّلَكُ الْمَوْتِ الّذِي وُكّلَ بِكُمْ ثُمّ إِلَىَ رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا {أئذا ضللنا في الأرض} أي تمزقت أجسامنا وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت {أئنا لفي خلق جديد} أي أئنا لنعود بعد تلك الحال ؟ يستعبدون ذلك , وهذا إنما هو بعيد بالنسبة إلى قدرتهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم, الذي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون, ولهذا قال تعالى: {بل هم بلقاء ربهم كافرون} ثم قال تعالى: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم} الظاهر من هذه الاَية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة, كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة إبراهيم, وقد سمي في بعض الاَثار بعزرائيل وهو المشهور, قاله قتادة وغير واحد وله أعوان, وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم وتناولها ملك الموت, قال مجاهد: حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء, ورواه زهير بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلاً, وقاله ابن عباس رضي الله عنهما. وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري, حدثنا عمر بن سمرة عن جعفر بن محمد قال: سمعت أبي يقول: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن» فقال ملك الموت: يا محمد طب نفساً وقر عيناً, فإني بكل مؤمن رفيق, واعلم أن ما في الأرض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات, حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم,والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الاَمر بقبضها. قال جعفر: بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة, فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان, ولقنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهداً يقول: ما على ظهر الأرض من)بيت شعر أو مدر إلا وملك الموت يطوف به كل يوم مرتين. وقال كعب الأحبار: والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنياإلا وملك الموت يقوم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {ثم إلى ربكم ترجعون} أي يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم. ** وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـَكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـَذَآ إِنّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُـواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عز وجل, حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم, أي من الحياء والخجل يقولون {ربنا أبصرنا وسمعنا} أي نحن الاَن نسمع قولك ونطيع أمرك, كما قال تعالى: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنافي أصحاب السعير} وهكذا هؤلاء يقولون {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا} أي إلى دار الدنيا {نعمل صالحاً إنا موقنون} أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق, وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا لكانوا كما كانوا فيها كفاراً يكذبون بآيات الله ويخالفون رسله, كما قال تعالى: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا} الاَية, وقال ههنا {ولو شئنا لاَتينا كل نفس هداها} كما قال تعالى: {ولو شاء ربك لاَمن من في الأرض كلهم جميعاً} {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} أي من الصنفين فدارهم النار لامحيد لهم عنها ولا محيص لهم منها, نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك, {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ: ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له إذ عاملتموه معاملة من هو ناس له {إنا نسيناكم} أي سنعاملكم معاملة الناسي, لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء, بل من باب المقابلة كما قال تعالى: {فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا} وقوله تعالى: {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} أي بسبب كفركم وتكذيبكم, كما قال تعالى في الاَية الأخرى {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً * إلا حميماً وغساقاً * ـ إلى قوله ـ فلن نزيدكم إلا عذاباً}. ** إِنّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرّواْ سُجّداً وَسَبّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَىَ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مّآ أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يقول تعالى: {إنما يؤمن بآياتنا} أي إنما يصدق بها {الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً} أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً {وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون} أي عن أتباعهم والانقياد لها كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة, قال الله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ثم قال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والإضطجاع على الفرش الوطيئة, قال مجاهد والحسن في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك قيام الليل. وعن أنس وعكرمة ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة: هو الصلاة بين العشاءين, وعن أنس أيضاً: هو انتظار صلاة العتمة. ورواه ابن جرير بإسناد جيد. وقال الضحاك: هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة {يدعون ربهم خوفاً وطمعاً} أي خوفاً من وبال عقابه وطمعاً في جزيل ثوابه {ومما رزقناهم ينفقون} فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية, ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والاَخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وفينا رسول الله يتلو كتابهإذا انشق معروف من الصبح ساطع أرانا الهدى بعد العمى, فقلوبنابه موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشهإذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال الإمام أحمد: حدثنا روح وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة, أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته فيقول: ربنا أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي, ثار من فراشه ووطائه من حيه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا, فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع, فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي, فيقول الله عز وجل للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه». وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به بنحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار, قال «لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه, تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصوم رمضان, وتحج البيت ـ ثم قال: ـ ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة, والصدقة تطفيء الخطيئة, وصلاة الرجل في جوف الليل ـ ثم قرأ ـ {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {جزاء بما كانوا تعلمون} ثم قال ـ ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ ـ فقلت: بلى يارسول الله فقال: ـ رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروه سنامه الجهاد في سبيل الله ـ ثم قال ـ: ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟» فقلت: بلى يا نبي الله, فأخذ بلسانه ثم قال «كف عليك هذا». فقلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به, فقال «ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم من طرق عن معمر به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة والصدقة تكفر الخطيئة, وقيام العبد في جوف الليل» وتلا هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} ورواه أيضاً من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم, عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت, والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعاً بنحوه. ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر, عن معاذ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال «قيام العبد من الليل». وروى ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا فطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي لله في غزوة تبوك فقال «إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصوم جنة, والصدقة تطفىء الخطيئة, وقيام الرجل في جوف الليل» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الاَية, ثم قال: حدثنا أبي, حدثنا سويد بن سعيد, حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا جمع الله الأولين والاَخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم, ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ـ الاَية ـ فيقومون وهم قليل». وقال البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب, حدثنا الوليد بن العطاء بن الأغر, حدثنا عبد الحميد بن سليمان, حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه, قال: قال بلال: لما نزلت هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الاَية, كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء, فنزلت هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} ثم قال: لا نعلم روى أسلم عن بلال سواه, وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق. وقوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد, لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب, جزاء وفاقاً, فإن الجزاء من جنس العمل قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم, فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر, رواه ابن أبي حاتم. قال البخاري قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} قال: وحدثنا سفيان, حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال الله مثله. قيل لسفيان رواية, قال: فأي شيء ؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الترمذي: حسن صحيح, ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر, حدثنا أبو أسامة عن الأعمش, حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر ذخراً من بله ما اطلعتم عليه» ثم قرأ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح: قرأ أبو هريرة {قرات أعين} انفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق, قال: ورواه الترمذي في التفسير, وابن جرير من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال حماد: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس, لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به. وروى الإمام أحمد: حدثنا هارون, حدثنا ابن وهب, حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى, ثم قال في آخر حديثه «فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر» ثم قرأ هذه الاَية {تتجافى جنوبهم عن المضاجع ـ إلى قوله ـ يعملون} وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد, كلاهما عن ابن وهب به وقال ابن جرير: حدثني العباس بن أبي طالب, حدثنا معلى بن أسد, حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر لم يخرجوه. وقال مسلم أيضاً في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر وغيره, حدثنا سفيان, حدثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد, سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال: سمعته على المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل: ما أدنى أهل الجنة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنة الجنة, فيقال له: ادخل الجنة, فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك مَلكٍ من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب, فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله, ومثله فقال في الخامسة, رضيت رضيت ربي, فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله, ولك ما اشتهت ولذت عينك, فيقول: رضيت رب, قال: رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت, غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها, فلم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, قال: ومصداقه من كتاب الله عز وجل {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} الاَية, ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وقال: حسن صحيح. قال: ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة ولم يرفعه, والمرفوع أصح. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير المدائني, حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد, حدثنا زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال, بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكانه سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا من المزيد, فيمكث معها سبعين سنة, ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه, فتقول له: قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب, فيقول: من أنت ؟ فتقول: أنا التي قال الله {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}. وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات, معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم, وذلك قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ويخبرون أن الله عنهم راض. وروى ابن جرير: حدثنا سهل بن موسى الرازي, حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره, قال: الجنة مائة درجة, أولها درجة فضة, وأرضها فضة, ومساكنها فضة, وآنيتها فضة, وترابها المسك, والثانية ذهب, وأرضها ذهب, ومساكنها ذهب, وآنيتها ذهب, وترابها المسك, والثالثة لؤلؤ, وأرضها لؤلؤ, ومساكنها اللؤلؤ, وآنيتها اللؤلؤ, وترابها المسك, وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ثم تلا هذه الاَية {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} الاَية. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين قال «يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض, فإن بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة, قال: فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث, قال: فقلت فأين ذهبت الحسنة ؟ قال {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم} الاَية, قلت: قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} قال: العبد يعمل سراً أسره إلى لله لم يعلم به الناس, فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين. ** أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاّ يَسْتَوُونَ * أَمّا الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوَىَ نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمّا الّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النّارُ كُلّمَآ أَرَادُوَاْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * وَلَنُذِيقَنّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الأدْنَىَ دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله, بمن كان فاسقاً أي خارجاً عن طاعة ربه, مكذباً لرسل الله إليه, كما قال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} الاَية, ولهذا قال تعالى ههنا {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} أي عند الله يوم القيامة, وقد ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط, ولهذا فصل حكمهم فقال {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا يمقتضاها وهي الصالحات {فلهم جنات المأوى} أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية {نزلا} أي ضيافة وكرامة {بما كانوا يعملون * وأما الذين فسقوا} أي خرجوا عن الطاعة فمأواهم النار, كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها, كقوله {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها} الاَية قال الفضيل بن عياض: «والله إن الأيدي لموثقة, وإن الأرجل لمقيدة, وإن اللهب ليرفعهم, والملائكة تقمعهم {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً. وقوله تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها, وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم الجزري وخصيف. وقال ابن عباس في رواية عنه: يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد وأبو عبيدة: يعني به عذا ب القبر. وقال النسائي, أخبرنا عمرو بن علي, أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص, وأبي عبيدة عن عبد الله {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: سنون أصابتهم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القواريري, حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى الجزار, عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الاَية {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: القمر والدخان قد مضيا والبطشة واللزام, ورواه مسلم من حديث شعبة به موقوفاً نحوه. وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه. وقال عبد الله بن مسعود أيضاً في رواية عنه: العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم. قال السدي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير, فأصيبوا أو غرموا, ومنهم من جمع له الأمران. وقوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها, ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة.: إياكم والإعراض عن ذكر الله, فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة, وأعوز أشد العوز, وعظم من أعظم الذنوب, ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك {إنا من المجرمين منتقمون} أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام. وروى ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي, حدثنا محمد بن المبارك, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله يقول: ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق, أو عق والديه, أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم, يقول الله تعالى: {إنا من المجرمين منتقمون} ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش به وهذا حديث غريب جداً. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِيَ إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنّ رَبّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه آتاه الكتاب, وهو التوراة, وقوله تعالى: {فلا تكن في مرية من لقائه} قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء, ثم روي عن أبي العالية الرياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم, يعني ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة, ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض, سبط الرأس, ورأيت مالكاً خازن النار والدجال» في آيات أراهن الله إياه {فلا تكن في مرية من لقائه} أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا الحسن بن علي الحلواني, حدثنا روح بن عبادة. حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية, عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وجعلناه هدى لبني إسرائيل} قال: جعل موسى هدى لبني إسرائيل, وفي قوله {فلا تكن في مرية من لقائه} قال: من لقاء موسى ربه عز وجل. وقوله تعالى: {وجعلناه} أي الكتاب الذي آتيناه {هدى لبني إسرائيل} كما قال تعالى في سورة الإسراء {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلاً}. وقوله: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} أي لما كانوا صابرين على أوامر الله, وترك زواجره, وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به, كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله, ويدعون إلى الخير, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا, سلبوا ذلك المقام, وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه, فلا عملاً صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً, ولهذا قوله تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} قال قتادة وسفيان : لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان: هكذا كان هؤلاء, ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع: قال سفيان: لا بد للدين من العلم, كما لا بد للجسد من الخبز. وقال ابن بنت الشافعي: قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي: سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوساء. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى: {ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقتاهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر} الاَية, كما قال هنا {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي من الاعتقادات والأعمال. ** أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ يقول تعالى: أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل, ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل, فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} ولهذا قال {يمشون في مساكنهم} أي هؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين, فلا يرون منها أحداً ممن يسكنها ويعمرها, ذهبوا منها {كأن لم يغنوا فيها} كما قال {فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا} وقال {فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا في الأرض ـ إلى قوله ـ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} ولهذا قال ههنا {إن في ذلك لاَيات} أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل, ونجاة من آمن بهم, لاَيات وعبراً ومواعظ ودلائل متناظرة {أفلا يسمعون} أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم. وقوله تعالى: {أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز} يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح, وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته, ولهذا قال تعالى: {إلى الأرض الجرز} وهي التي لا نبات فيها, كما قال تعالى: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً} أي يبساً لا تنبت شيئاً, وليس المراد من قوله {إلى الأرض الجرز} أرض مصر فقط, بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها, ولكنها مرادة قطعاً من هذه الاَية, فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها, فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة, وفيه طين أحمر, فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضاً, ليبنبت الزرع فيه, فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم, وطين جديد من غير أرضهم, فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبدً. قال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص, حين دخل بؤونة من أشهر العجم, فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال: وما ذاك ؟ قالوا: إن كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر, عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها, فأرضينا أبويها, وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون, ثم ألقيناها في هذا النيل, فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام, إن الإسلام يهدم ما كان قبله, فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء, فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك, فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت, وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا, فألقها في النيل, فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها, فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر, أما بعد, فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري, وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك, فنسأل الله أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة, قد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له, ولهذا قال تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} كما قال تعالى: {فلينظر بالإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً} الاَية, ولهذا قال ههنا {أفلا يبصرون}. وقال ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس في قوله {إلى الأرض الجزر} قال: هي التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول, وعن ابن عباس ومجاهد: هي أرض باليمن, وقال الحسن رحمه الله: هي قرى بين اليمن والشام. وقال عكرمة والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد: الأرض الجرز التي لا نبات فيها, وهي مغبرة, قلت: وهذا كقوله تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها} الاَيتين. ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الّذِينَ كَفَرُوَاْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنّهُمْ مّنتَظِرُونَ يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار ووقوع بأس الله بهم, وحلول غضبه ونقمته عليهم, استبعاداً وتكذيباً وعناداً {ويقولون متى هذا الفتح} أي متى تنصر علينا يا محمد ؟ كما تزعم أن لك وقتاً علينا وينتقم لك منا, فمتى يكون هذا ؟ ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين, قال الله تعالى: {قل يوم الفتح} أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى {لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} كما قال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم} الاَيتين. ومن زعم أن المراد من هذا الفتح فتح مكة فقد أبعد النجعة, وأخطأ فأفحش, فإن يوم الفتح قد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء, وقد كانوا قريباً من ألفين, ولوكان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى: {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله {فافتح بيني وبينهم فتحاً} الاَية, وكقوله {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق} الاَية, وقال تعالى: {واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد} وقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} وقال تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}. ثم قال تعالى: {فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون} أي أعرض عن هؤلاء المشركين, وبلغ ما أنزل إليك من ربك, كقوله: {اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو} الاَية, وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعد وسينصرك على من خالفك, إنه لا يخلف الميعاد. وقوله {إنهم منتظرون} أي أنت منتظر وهم منتظرون ويتربصون بكم الدوائر {أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} وسترى أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك, وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم, وحلول عذابه بهم, وحسبنا الله ونعم الوكيل. آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة. سورة الأحزاب قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا خلف بن هشام, حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها ؟ قال: قلت ثلاثاً وسبعين آية, فقال: قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة, ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة, نكالاً من الله, والله عليم حكيم, ورواه النسائي من وجه آخر عن عاصم وهو ابن أبي النجود, وهو ابن بهدلة به, وهذا إسناد حسن, وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ لفظه وحكمه أيضاً, والله أعلم. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** يَا أَيّهَا النّبِيّ اتّقِ اللّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَـيْكَ مِن رَبّكَ إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * وَتَوَكّلْ عَلَىَ اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى, فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا, فلأن يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى والأحرى. وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله, ترجو ثواب الله, وأن تترك معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم {إن الله كان عليماً حكيماً} أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه, فإنه عليم بعواقب الأمور, حكيم في أقواله وأفعاله, ولهذا قال تعالى: {واتبع ما يوحى إليك من ربك} أي من قرآن وسنة {إن الله كان)بما تعملون خبيراً} أي فلا تخفى عليه خافية, وتوكل على الله, أي في جميع أمورك وأحوالك {وكفى بالله وكيلا} أي وكفى به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إِليه. ** مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لاَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ فَإِن لّمْ تَعْلَمُوَاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـَكِن مّا تَعَمّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي أمراً معروفاً حسياً, وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولاتصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أماً له, كذلك لا يصير الدعي ولداً للرجل إِذا تبناه فدعاه ابناً له, فقال {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} كقوله عز وجل {ماهن أمهاتهم إِن أمهاتهم اللائي ولدنهم} الاَية. وقوله تعالى: {وما جعل أدعيائكم أبنائكم} هذا هو المقصود بالنفي, فإِنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم, كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة, فكان يقال له زيد بن محمد, فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله تعالى: {وماجعل أدعياءكم أبناءكم} كما قال تعالى في أثناء السورة {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} وقال ههنا {ذلكم قولكم بأفواههم} يعني تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً, فإِنه مخلوق من صلب رجل آخر, فما يمكن أن يكون أبوان كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} قال سعيد بن جبير {يقول الحق} أي العدل, وقال قتادة {وهو يهدي السبيل} أي الصراط المستقيم. وقد ذكر غير واحد أن هذه الاَية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين, وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر, فأنزل الله تعالى هذه الاَية رداً عليه. هكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان, قال: إِن أباه حدثه قال: قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} ما عنى بذلك ؟ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي فخطر خطرة, فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترون له قلبين: قلباً معكم وقلباً معهم, فأنزل الله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني, عن عبد بن حميد وعن أحمد بن يونس, كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به. ثم قال: وهذا حديث حسن, وكذا رواه ابن جرير وابن حاتم من حديث زهير به. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل: يقول ليس ابن رجل آخر ابنك, وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه, وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء, فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إِلى آبائهم في الحقيقة, وأن هذا هو العدل والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله: حدثنا مُعلى بن أسد, حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال: حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال: إِن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إِلا زيد بن محمد حتى نزل القرآن {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن موسى بن عقبة به. وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك, ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يارسول الله إِنا كنا ندعو سالماً ابناً, وإِن الله قد أنزل ما أنزل, وإِنه كان يدخل علي وإِني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً, فقال صلى الله عليه وسلم «أرضعيه تحرمي عليه» الحديث, ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي, وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقال عز وجل {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إِذا قضوا منهن وطراً} وقال تبارك وتعالى في آية التحريم {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} احترازاً عن زوجة الدعي فإِنه ليس من الصلب, فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين «حرّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب», فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب, فليس مما نهى عنه في هذه الاَية بدليل مارواه الإمام أحمد وأهل السنن إِلا الترمذي, من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن الحسن العُرني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدّمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع, فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول «أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» قال أبو عبيدة وغيره: أُبَيْنِيّ تصغير بَني وهذا ظاهر الدلالة, فإِن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر. وقوله {ادعوهم لاَبائهم} في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه, وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان, وأيضاً ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يابني» ورواه أبو داود والترمذي. وقوله عز وجل {فإِن لم تعلموا آباءهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم} أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إِلى آبائهم إِن عرفوا, فإِن لم يعرفوا فهم إِخوانهم في الدين ومواليهم, أي عوضاً عما فاتهم من النسب, ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة رضي الله عنها تنادي, ياعم ياعم, فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك, فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها, فكل أدلى بحجة, فقال علي رضي الله عنه: أنا أحق بها وهي ابنة عمي: وقال زيد: ابنة أخي, وقال جعفر بن أبي طالب: ابنة عمي وخالتها تحتي, يعني أسماء بنت عميس, فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله عنه «أنت مني وأنا منك». وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي». وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا» ففي الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق, وأرضى كلا من المتنازعين. وقال لزيد رضي الله عنه «أنت أخونا ومولانا». كما قال تعالى: {فإِخوانكم في الدين ومواليكم}. وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إِبراهيم, حدثنا ابن علية, عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال الله عز وجل {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله فإِن لم تعلموا آبائهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم} فأنا ممن لا يعرف أبوه فأنا من إِخوانكم في الدين, قال أبي: والله إِني لأظنه لو علم أن أباه كان حماراً لانتمى إِليه, وقد جاء في الحديث «من ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه كفر» وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم, ولهذا قال تعالى: {ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله فإِن لم تعلموا آبائهم فإِخوانكم في الدين ومواليكم}. ثم قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} إِي إِذا نسبتم بعضهم إِلى غير أبيه في الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع, فإِن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إِثمه, كما أرشد إِليه في قوله تبارك وتعالى آمراً عباده أن يقولوا {ربنا لا تؤاخذنا إِن نسينا أو أخطأنا} وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: قد فعلت». وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران, وإِن اجتهد فأخطأ فله أجر». وفي حديث آخر «إِن الله تبارك وتعالى رفع عن أمتي الخطا. والنسيان وما يكرهون عليه» وقال تبارك وتعالى ههنا {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً} أي وإِنما الإثم على من تعمد الباطل, كما قال عز وجل {لا يؤاخذكم الله في اللغو في أيمانكم} الاَية. وفي الحديث المتقدم «ليس من رجل ادعى إِلى غير أبيه وهو يعلمه إِلا كفر». وفي القرآن المنسوخ: فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود, عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: إِن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق, وأنزل معه الكتاب, فكان فيما أنزل عليه آية الرجم, فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده, ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإِنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال«لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فإِنما أنا عبد الله, فقولوا عبده ورسوله» وربما قال معمر «كما أطرت النصارى ابن مريم» ورواه في الحديث الاَخر «ثلاث في الناس كفر: الطعن في النسب, والنياحة على الميت, والاستسقاء بالنجوم». ** النّبِيّ أَوْلَىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَن تَفْعَلُوَاْ إِلَىَ أَوْلِيَآئِكُمْ مّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحة لهم, فجعله أولى بهم من أنفسهم, وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم, كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وفي الصحيح «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إِليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين». وفي الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء إلا من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم «لا يا عمر حتى أكون أحب إِليك من نفسك» فقال: يا رسول الله, والله لأنت أحب إِلي من كل شيء حتى من نفسي, فقال صلى الله عليه وسلم «الاَن ياعمر» ولهذا قال تعالى في هذه الاَية {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. وقال البخاري عند هذه الاَية الكريمة: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح, حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من مؤمن إِلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والاَخرة, اقرؤوا إِن شئتم {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا, وإِن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه» تفرد به البخاري ورواه أيضاً في الاستقراض, وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله, ورواه أحمد من حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه, فأيما رجل مات وترك ديناً فإِليّ, ومن ترك مالاً فهو لورثته» ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه. وقال تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} أي في الحرمة والاحترام, والتوقير والإكرام والإعظام, ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إِلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع, وإِن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر, وهو من باب إِطلاق العبارة لا إِثبات الحكم, وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم, ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقال ذلك, وهل يقال لهن أمهات المؤمنين فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغييباً ؟ وفيه قولان, صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يقال ذلك, وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي كعب وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قرآ {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}. وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن, وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه, حكاه البغوي وغيره, واستأنسوا عليه بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي, حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم, عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم, فإِذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها, ولا يستطب بيمينه». وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن عجلان, والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: {ماكان محمد أبا أحد من رجالكم}. وقوله تعالى: {وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} أي في حكم الله {من المؤمنين والمهاجرين} أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار, وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم, كما قال ابن عباس وغيره: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكذا قال سعيد بن جبير وغيره من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديثاً عن الزبير بن العوام فقال: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار {وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا, فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم وأورثناهم, فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد, وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً, وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق بن سعد الزرقي, ويقول بعض الناس غيره, قال الزبير رضي الله عنه: وواخبت أنا كعب بن مالك فجئته فابتعلته, فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى, والله يابني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله تعالى هذه الاَية فينا معشر قريش والأنصار خاصة, فرجعنا إِلى مواريثنا. وقوله تعالى: {إِلا أن تفعلوا إِلى أوليائكم معروفاً} أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية. وقوله تعالى: {كان ذلك في الكتاب مسطوراً} أي هذا الحكم, وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض, حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير, قاله مجاهد وغير واحد, وإِن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إِلى ماهو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي, والله أعلم. ** وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً * لّيَسْأَلَ الصّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً يقول الله تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إِقامة دين الله تعالى, وإِبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق, كما قال تعالى: {وإِذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتومنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إِصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إِرسالهم, وكذلك هذا, ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم, وهو من باب عطف الخاص على العام, وقد صرح بذكرهم أيضاً في هذه الاَية, وفي قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إِليك وما وصينا به إِبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولاتتفرقوا} فذكر الطرفين, والوسط الفاتح, والخاتم, ومن بينهما على الترتيب, فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها, كما قال تعالى: {وإِذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} فبدأ في هذه الاَية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه, ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة الدمشقي, حدثنا محمد بن بكار, حدثنا سعيد بن بشير, حدثني قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وإِذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الاَية. قال النبي صلى الله عليه وسلم «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم» سعيد بن بشير فيه ضعف, وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلاً وهو أشبه, ورواه بعضهم عن قتاده موقوفاً: والله علم. وقال أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا أبو أحمد حدثنا حمزة الزيات, حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم. موقوف وحمزة فيه ضعف, وقد قيل إِن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام, كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: ورفع أباهم آدم, فنظر إِليهم يعني ذريته, وأن فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك, فقال: رب لو سويت بين عبادك, فقال: إِني أحببت أن أشكر, ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور, وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة, وهو الذي يقول الله تعالى: {وإِذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} وهذا قول مجاهد أيضاً, وقال ابن عباس: الميثاق الغليظ العهد. وقوله تعالى: {ليسأل الصادقين عن صدقهم} قال مجاهد: المبلغين المؤدين عن الرسل. وقوله تعالى: {وأعد للكافرين} أي من أممهم {عذاباً أليماً} أي موجعاً فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم, ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء, وإِن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين, فما جاءت به الرسل هو الحق, ومن خالفهم فهو على الضلال. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَآءُوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَاْ يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإِحسانه إِلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إِياهم عام تألبوا عليهم وتحزبوا, وذلك عام الخندق, وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور. وقال موسى بن عقبة وغيره: كان في سنة أربع, وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بن النضير الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إِلى خيبر, منهم سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع, خرجوا إِلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم, ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة, فأجابوهم إِلى ذلك, ثم خرجوا إِلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً, وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدها أبو سفيان صخر بن حرب, وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر, والجميع قريب من عشرة آلاف, فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم, أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة ممايلي الشرق, وذلك بإِشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه, فعمل المسلمون فيه واجتهدوا, ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر, وكان في حفره ذلك آيات بينات ودلائل واضحات. وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد, ونزلت طائفة منهم أعالي أرض المدينة, كما قال الله تعالى: {إِذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو ثلاثة آلاف, وقيل سبعمائة, فأسندوا ظهورهم إِلى سلع ووجوههم إِلى نحو العدو, والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجال أن تصل إِليهم, وجعل النساء والذراري في آطام المدينة, وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة, ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل, فذهب إِليهم حيي بن أخطب النضري, فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالؤوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعظم الخطب واشتد الأمر وضاق الحال, كما قال الله تبارك وتعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر, إِلا أنهم لا يصلون إِليهم ولم يقع بينهم قتال, إِلا أن عمرو بن عبد ودّ العامري وكان من الفرس الشجعان المشهورين في الجاهلية, ركب ومعه فوارس, فاقتحموا الخندق وخلصوا إِلى ناحية المسلمين, فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إِليه, فيقال إِنه لم يبرز أحد فأمر علياً رضي الله عنه فخرج إِليه فتجاولا ساعة ثم قتله علي رضي الله عنه, فكان علامة النصر. ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شيء, ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار, حتى ارتحلوا خائبين خاسرين, كما قال الله عز وجل: {ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً} قال مجاهد: وهي الصبا, ويؤيده الحديث الاَخر: «نصرت بالصبا, وأهلكت عاد بالدبور» وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا داود عن عكرمة قال قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت الشمال: إِن الحرة لا تسري بالليل, قال: فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج, عن حفص بن غياث, عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكره وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يونس حدثنا ابن وهب, حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد وريح إِلى المدينة, فقال: أئتنا بطعام ولحاف, قال: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي وقال «من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا» قال: فذهبت والريح تسفي كل شيء, فجعلت لاألقى أحداً إِلا أمرته بالرجوع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما يلوي أحد منهم عنق, قال: وكان معي ترس لي, فكانت الريح تضربه علي, وكان فيه حدي, قال: فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي فأبعدها إِلى الأرض. وقوله {وجنوداً لم تروها} هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف, فكان رئيس كل قبيلة يقول: يا بني فلان إِلي, فيجتمعون إِليه, فيقول: النجاء, النجاء لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب. وقال محمد بن إِسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: ياأبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال: نعم يا ابن أخي, قال: وكيف كنتم تصنعون ؟ قال: والله لقد كنا نجهد, قال الفتى: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض, ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة رضي الله عنه: ياابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم با لخندق, وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت فقال «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ ـ يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع ـ أدخله الله الجنة» قال: فما قام رجل, ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت إِلينا فقال مثله, فما قام منا رجل, ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هوياً من الليل, ثم التفت إِلينا فقال «من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ ـ يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة ـ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة» فما قام من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد, فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني, فقال صلى الله عليه وسلم «ياحذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون, ولا تحدثنّ شيئاً حتى تأتينا». قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله عز وجل تفعل بهم ما تفعل, لا تقر لهم قراراً ولا ناراً ولا بناء, فقام أبو سفيان فقال يامعشر قريش, لينظر كل امرىء من جليسه, قال حذيفة رضي الله عنه: فأخذت بيد الرجل إِلى جنبي فقلت: من أنت ؟ فقال: أن فلان بن فلان, ثم قال أبو سفيان: يامعشر قريش إِنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف, وأخلفتنا بنو قريظة, وبلغنا عنهم الذي نكره, ولقينا من هذه الريح ما ترون, والله ما تطمئن لنا قدر ولاتقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء, فارتحلوا فإِني مرتحل, ثم قام إِلى جمله وهو معقول فجلس عليه, ثم ضربه فوثب به على ثلاث, فما أطلق عقاله إِلا وهو قائم, ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلي أن لاتحدث شيئاً حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة رضي الله عنه: فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل, فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح علي طرف المرط, ثم ركع وسجد, وإِني لفيه, فلما سلم أخبرته الخبر, وسمعت غطفان بما فعلت قريش, فانشمروا راجعين إِلى بلادهم. وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إِبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجال: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت, فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة» فلم يجبه منا أحد, ثم الثانية ثم الثالثة مثله, ثم قال صلى الله عليه وسلم «ياحذيفة قم فأتنا بخبر من القوم» فلم أجد بداً إِذ دعاني باسمي أن أقوم فقال: «ائتني بخبر القوم ولاتذعرهم علي» قال: فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم, فإِذا أبو سفيان يَصْلي ظهره بالنار, فوضعت سهماً في كبد قوسي وأردت أن أرميه, ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذعرهم علي, ولو رميته لأصبته, قال: فرجعت كأنما أمشي في حمام, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت, فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها, فلم أزل نائماً حتى الصبح, فلما أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قم يانومان». ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم قال: إِن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه: نشكو إِلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم, إِنكم أدركتموه ولم ندركه, ورأيتموه ولم نره, فقال حذيفة رضي الله عنه: ونحن نشكو إِلى الله إِيمانكم به ولم تروه, والله لا تدري ياابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون, لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة, ثم ذكر نحو ما تقدم مطولاً. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضاً, وقد أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز بن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه: أما والله لو شاهدنا ذلك كنا فعلنا وفعلنا, فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك, لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً, وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا, وقريظة لليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا, وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه, فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إِن بيوتنا عورة وما هي بعورة, فما يستأذنه أحد منهم إِلا أذن له, ويأذن لهم فيتسللون, ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إِذ استقبلنا رسول الله رجلاً رجلاً, حتى أتى علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إِلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي, قال: فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي فقال: «من هذا ؟» فقلت: حذيفة. قال: «حذيفة ؟» قتقاصرت الأرض فقلت: بلى يارسول الله كراهية أن أقوم, فقمت فقال «إِنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم» قال: وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قهراً. قال: فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته» قال: فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قرّاً في جوفي إِلا خرج من جوفي, فما أجد فيه شيئاً, قال: فلما وليت, قال صلى الله عليه وسلم «يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتني» قال: فخرجت حتى إِذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد, فإِذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته, ويقول: الرحيل الرحيل, ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك, فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار, فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني» قال: فأمسكت ورددت سهمي إِلى كنانتي, ثم إِني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر, فإِذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإِذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً, فوالله إِني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفَرَسَتْهم, الريح تضربهم بها, ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك إِذ أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين, فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم, فرجعت إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملته يصلي, فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر, وجعلت أقرقف فأومأ إِلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي, فدنوت منه فأسبل عليّ شملته, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى, فأخبرته خبر القوم, وأخبرته أني تركتهم يرتحلون, وأنزل الله تعالى: {يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إِذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً} وأخرج أبو داود في سننه منه: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حزبه أمر صلى, من حديث عكرمة بن عمار به. وقوله تعالى: {إِذ جاؤوكم من فوقكم} أي الأحزاب {ومن أسفل منكم} تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة {وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر} أي شدة الخوف والفزع {وتظنون بالله الظنونا} قال ابن جرير: ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين, وأن الله سيفعل ذلك. وقال محمد بن إِسحاق في قوله تعالى: {وإِذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر, وتظنون بالله الظنونا} ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق, حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر, وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إِلى الغائط. وقال الحسن في قوله عز وجل {وتظنون بالله الظنونا} ظنون مختلفة, ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون, وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق, وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري, حدثنا أبو عامر, (ح) وحدثنا أبي, حدثنا أبو عامرالعقدي, حدثنا الزبير يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه, عن رُتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يارسول الله هل من شيء نقول, فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم, قولوا: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» قال: فضرب وجوه أعدائه بالريح, فهزمهم بالريح وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي. ** هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ مّا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طّآئِفَةٌ مّنْهُمْ يَأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاّ فِرَاراً يقول الله تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة, والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق, ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم, أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً, فحينئذ ظهر النفاق, وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم {وإِذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إِلا غروراً} أما المنافق فنجم نفاقه, والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إِيمانه وشدة ماهو فيه من ضيق الحال, وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى: {وإِذ قالت طائفة منهم ياأهل يثرب} يعني المدينة. كما جاء في الصحيح «أريت في المنام دار هجرتكم, أرض بين حرتين, فذهب وهلي أنها هجر فإِذا هي يثرب» وفي لفظ: المدينة. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إِبراهيم بن مهدي, حدثنا صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى, إِنما هي طابة هي طابة» تفرد الإمام أحمد, وفي إِسناده ضعف, والله أعلم. ويقال كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إِرم بن سام بن نوح, قاله السهيلي. قال: وروي عن بعضهم أنه قال: إِن لها في التوراة أحد عشر اسماً: المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة والعذراء والمرحومة. وعن كعب الأحبار قال: إِنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة: ياطيبة وياطابة ويامسكينة لا تُقلي الكنوز أرفع أحاجرك على أحاجر القرى. وقوله {لا مقام لكم} أي ههنا يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة {فارجعوا} أي إِلى بيوتكم ومنازلكم {ويستأذن فريق منهم النبي} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: هم بنو حارثة قالوا: بيوتنا نخاف عليها السراق, وكذا قال غير واحد, وذكر ابن إِسحاق أن القائل لذلك هو أوس بن قيظي, يعني اعتذروا في الرجوع إِلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو, فهم يخشون عليها منهم, قال الله تعالى: {وما هي بعورة} أي ليست كما يزعمون {إِن يريدون إِلا فراراً} أي هرباً من الزحف. ** وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا ثُمّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاَتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُواْ بِهَآ إِلاّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولاً * قُل لّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاّ تُمَتّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً * قُلْ مَن ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مّنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوَءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يخبر تعالى عن هؤلاء الذين {يقولون إِن بيوتنا عورة وما هي بعورة إِن يريدون إِلا فراراً} أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها, ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً, وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع, هكذا فسرها قتادة وعبد الرحمن بن زيد وابن جرير, وهذا ذم لهم في غاية الذم, ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفرون من الزحف {وكان عهد الله مسئولا} أي وإِن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك, ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة, ولهذا قال تعالى: {وإِذاً لا تمتعون إِلا قليلاً} أي بعد هربكم وفراركم {قل متاع الدنيا قليل, والاَخرة خير لمن اتقى} ثم قال تعالى: {قل من ذا الذي يعصمكم من الله} أي يمنعكم {إِن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً} أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث. ** قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّ قَلِيلاً * أَشِحّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَىَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَـَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً يخبر تعالى عن إِحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم {هلم إِلينا} إِلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار, وهم مع ذلك {لا يأتون البأس إِلا قليلاً* أشحة عليكم} أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم. وقال السدي {أشحة عليكم} أي في الغنائم, {فإِذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إِليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} أي من شدة خوفه وجزعه, وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال {فإِذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} أي فإِذا كان الأمن تكلموا كلاماً بليغاً فصيحاً عالياً, وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة, وهم يكذبون في ذلك, وقال ابن عباس رضي الله عنهما {سلقوكم} أي استقبلوكم. وقال قتادة: أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة: أعطونا أعطونا قد شهدنا معكم, وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق, وهم مع ذلك أشحة على الخير, أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير, فهم كما قال في أمثالهم الشاعر: أفي السلم أعياراً جفاءً وغلظةوفي الحرب أمثال النساء العوارك أي في حال المسالمة كأنهم الحمر, والأعيار جمع عير وهو الحمار, وفي الحرب كأنهم النساء الحيض, ولهذا قال تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً} أي سهلاً هيناً عنده. ** يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدّواْ لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مّا قَاتَلُوَاْ إِلاّ قَلِيلاً وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} بل هم قريب منهم وإِن لهم عودة إِليهم {وإِن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم} أي ويودون إِذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة, بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إِلا قليلاً} أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إِلا قليلاً لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم, والله سبحانه وتعالى العالم بهم. ** لّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الاَخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً * وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُواْ هَـَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً هذه الاَية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله, ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل, صلوات الله وسلامه عليه دائماً إِلى يوم الدين, ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال تعالى: {لمن كان يرجوا الله واليوم الاَخر وذكر الله كثيراً}. ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين المصدقين بموعود الله لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والاَخرة, فقال تعالى: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة: يعنون قوله تعالى في سورة البقرة: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ؟ ألا إِن نصر الله قريب} أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب, ولهذا قال تعالى: {وصدق الله ورسوله}. وقوله تعالى: {وما زادهم إِلا إِيماناً وتسليماً} دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إِلى الناس وأحوالهم, كما قال جمهور الأئمة: إِنه يزيد وينقص, وقد قررنا ذلك في أول شرح البخاري, ولله الحمد والمنة, ومعنى قوله جلت عظمته {وما زادهم} أي ذلك الحال والضيق والشدة {إِلا إِيماناً} بالله {وتسليماً} أي انقياداً لاَوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم. ** مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الأدبار, وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق {صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه} قال بعضهم: أجله. وقال البخاري: عهده وهو يرجع إِلى الأول {ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} أي وما غيروا عهد الله ولا نقضوه ولا بدلوه. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال: لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها إِلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه, الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} تفرد به البخاري دون مسلم, وأخرجه أحمد في مسنده والترمذي والنسائي في التفسير من سننهما من حديث الزهري به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال البخاري أيضاً: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري, حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: نرى هذه الاَية نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله} الاَية, انفرد به البخاري من هذا الوجه, ولكن له شواهد من طرق أخر. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت قال: قال أنس: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه, وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غُيّبت عنه, لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل ما أصنع. قال فهاب أن يقول غيرها, فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه, فقال له أنس رضي الله عنه: ياأبا عمرو أين واهاً لريح الجنة إِني أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه, قال: فوجد في جسده بضع وثمانين بين ضربة وطعنة ورمية, فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر فما عرفت أخي إِلا ببنانه, قال: فنزلت هذه الاَية {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه, وفي أصحابه رضي الله عنهم. ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به. ورواه النسائي أيضاً وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به نحوه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس, رضي الله عنه قال: إِن عمه يعني أنس بن النضر رضي الله عنه, غاب عن قتال بدر, قال: غُيّبت عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين, لئن الله أشهدني قتالاً للمشركين ليرين الله تعالى ما أصنع, قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون, فقال: اللهم إِني أعتذر إِليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ وأبرأ إِليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني المشركين ـ ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ رضي الله عنه دون أحد, فقال: أنا معك. قال سعد رضي الله عنه: فلم أستطع أن أصنع ما صنع, فلما قتل قال: فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم, وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه نزلت {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد, والنسائي فيه أيضاً عن إِسحاق بن إِبراهيم, كلاهما عن يزيد بن هارون به. وقال الترمذي: حسن. وقد رواه البخاري في المغازي عن حسان بن حسان, عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به, ولم يذكر نزول الاَية. ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني, حدثنا سليمان بن أيوب بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله , حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال: لما أن رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر, فحمد الله تعالى وأثنى عليه, وعزى المسلمين بما أصابهم, وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر, ثم قرأ هذه الاَية {من المؤمنين رجال صدقو ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه} الاَية كلها, فقام إِليه رجل من المسلمين فقال: يارسول الله من هؤلاء ؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان, فقال: «أيها السائل: هذا منهم» وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به. وأخرجه الترمذي في التفسير والمناقب أيضاً, وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما رضي الله عنه به. وقال: حديث غريب, لا نعرفه إلا من حديث يونس. وقال أيضاً: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عامر ـ يعني العقدي ـ حدثني إسحاق ـ يعني ابن طلحة بن عبيد الله ـ عن موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية رضي الله عنه, فلما خرجت دعاني فقال: ألا أضع عندك ياابن أخي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «طلحة ممن قضى نحبه». ورواه ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «طلحة ممن قضى نحبه» ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبه} يعني عهده {ومنهم من ينتظر} قال يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء. وقال الحسن {فمنهم من قضى نحبه} يعني موته على الصدق والوفاء, ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك, ومنهم من لم يبدل تبديلاً, وكذا قال قتادة وابن زيد. وقال بعضهم, نحبه نذره. وقوله تعالى: {وما بدلوا تبديلاً} أي وما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر, بل استمروا على ما عاهدوا عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا {إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً* ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار}. وقوله تعالى: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم} أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ليميز الخبيث من الطيب, فيظهر أمر هذا بالفعل, وأمر هذا بالفعل, مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه, ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم, كما قال تعالى: {ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم} فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلاً به قبل وجوده, وكذا قال الله تعالى: {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب} ولهذا قال تعالى ههنا {ليجزي الله الصادقين بصدقهم} أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم به ومحافظتهم عليه {ويعذب المنافقين} وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه, وعذابه, ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه, وإن شاء تاب عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الإيمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان, ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه فهي الغالبة لغضبه قال {إن الله كان غفوراً رحيما}. ** وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية, ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين, لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد, ولكن قال تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} فسلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى, وهم أخلاط من قبائل من قبائل شتى أحزاب وآراء, فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعاتهم, وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم, ولم ينالوا خيراً لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم, ولا في الاَخرة بما تحملوه من الاَثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعدواة وهمهم بقتله واستئصال جيشه, ومن هم بشيء وصدق همه بفعله, فهو في الحقيقة كفاعله. وقوله تبارك وتعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} أي لم يحتاجوا إِلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم, بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده, ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا إله إلا الله وحده, صدق وعده, ونصر عبده وأعز جنده, وهزم الأحزاب وحده, فلا شيء بعده» أخرجاه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب, اهزم الأحزاب, اللهم اهزمهم وزلزلهم». وفي قوله عز وجل {وكفى الله المؤمنين القتال} إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش, وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم. قال محمد بن إسحاق, لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا, ولكنكم تغزونهم» فلم تغز قريش بعد ذلك, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة, وهذا الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن سفيان, حدثني أبو إسحاق قال: سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب «الاَن نغزوهم ولا يغزوننا» وهكذا رواه البخاري في صحيحه من حديث الثوري, وإسرائيل عن أبي إسحاق به, وقوله تعالى: {وكان الله قوياً عزيزاً} أي بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيراً, وأعز الله الإسلام وأهله, وصدق وعده ونصر رسوله وعبده, فله الحمد والمنة. ** وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة, نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد, وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله, دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى نقض العهد, وقال له فيما قال: ويحك قد جئتك بعز الدهر, أتيتك بقريش وأحابيشها, وغطفان وأتباعها, ولا يزالون ههنا حتى يستأصلون محمداً وأصحابه, فقال له كعب: بل والله أتيتني بذل الدهر, ويحك ياحيي إنك مشؤوم, فدعنا منك, فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه, واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم شيء أن يدخل معهم في الحصن, فيكون له أسوتهم, فلما نقضت قريظة, وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً, فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً, ووضع الناس السلاح, فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم سلمة رضي الله عنها, إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من ديباج, فقال: أوضعت السلاح يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «نعم» قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها, وهذا الاَن رجوعي من طلب القوم, ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة, وفي رواية فقال له: عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح ؟ قال «نعم» قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء, قال صلى الله عليه وسلم «أين ؟» قال: بني قريظة, فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم, فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره, وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة, وكانت على أميال من المدينة, وذلك بعد صلاة الظهر, وقال صلى الله عليه وسلم «لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة» فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق, فصلى بعضهم في الطريق وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا تعجيل المسير, وقال آخرون: لا نصليها إلا في بني قريظة, فلم يعنف واحداً من الفريقين, وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه, وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه, ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما طال عليه الحال, نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه, لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية, واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك, كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول في مواليه بني قينقاع, حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فظن هؤلاء أن سعداً سيفعل فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك, ولم يعلموا أن سعداً رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق, فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة المسجد ليعوده من قريب, وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به, اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فأفجرها, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, فاستجاب الله تعالى دعاءه, وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلباً من تلقاء أنفسهم فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم, فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه, جعل الأوس يلوذون به ويقولون: ياسعد إنهم مواليك فأحسن فيهم, ويرققونه عليهم ويعطفونه وهو ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه غير مستبقهم, فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم» فقام إليه المسلمون, فأنزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم, فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن هؤلاء ـ وأشار إليهم ـ قد نزلوا على حكمك, فاحكم فيهم بما شئت» فقال رضي الله عنه: وحكمي نافذ عليهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم «نعم». قال وعلى من في هذه الخيمة ؟ قال «نعم». قال وعلى من ههنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله , وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً وإكراماً وإعظاماً, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم». فقال رضي الله عنه: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة», وفي رواية «لقد حكمت بحكم الملك», ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد فخدت في الأرض, وجيء بهم مكتفين, فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة, وسبى من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم, وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه موجزاً وبسيطاً, ولله الحمد والمنة. ولهذا قال تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم {من أهل الكتاب} يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل, كان قد نزل آباؤهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذين يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} فعليهم لعنة الله. وقوله تعالى: {من صياصيهم} يعني حصونهم, كذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف, ومنه سمي صياصي البقر, وهي قرونها لأنها أعلى شيء فيها, {وقذف في قلوبهم الرعب} وهو الخوف, لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم, وليس من يعلم كمن لا يعلم, وأخافوا المسلمين وراموا قتالهم ليعزوا في الدنيا, فانعكس عليهم الحال, وانقلبت إليهم القال, انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون, فكما رامو العز ذلوا, وأرادوا استئصال المسلمين فاستئصلوا, وأضيف إلى ذلك شقاوة الاَخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة, ولهذا قال تعالى: {فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً} قالذين قتلوا هم المقاتلة والاَسراء هم الأصاغر والنساء. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير, أخبرنا عبد الملك بن عمير عن عطية القرظي قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة, فشكوا في, فأمربي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل أنبت بعد, فنظروني فلم يجدوني أنبت, فخلي عني وألحقني بالسبي, وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال الترمذي: حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه. وقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم} أي جعلها لكم من قتلكم لهم {وأرضاً لم تطؤوها} قيل: خيبر, وقيل مكة, رواه مالك عن زيد بن أسلم وقيل فارس والروم, وقال ابن جرير يجوز أن يكون الجميع مراداً {وكان الله على كل شيء قديراً}. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفوا الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي, فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه, ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة, قالت: فجلست إلى الأرض, فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه, فأنا أتخوف على أطراف سعد, قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم, فمر وهو يرتجز ويقول: لبث قليلاً يشهد الهيجا جملما أحسن الموت إذا حان الأجل قالت: فقمت فاقتحمت حديقة, فإذا فيها نفر من المسلمين, وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه تسبغة له, تعني المغفر, فقال عمر رضي الله عنه: ما جاء بك ؟ لعمري والله إنك لجريئة, وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز ؟ قالت: فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ, فدخلت فيها, فرفع الرجل التسبغة عن وجهه, فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, فقال: ياعمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم, وأين التحوز أو الفرار إلا إلى الله تعالى ؟ قالت: ورمى سعداً رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له, وقال له: خذها وأنا ابن العرقة, فأصاب أكحله فقطعه, فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة, قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية, قالت: فرقأ كُلْمه وبعث الله تعالى الريح على المشركين {وكفى الله المؤمنين القتال, وكان الله قوياً عزيزاً}, فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة, ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد, ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم, ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد, قالت: فجاءه جبريل عليه السلام وإن على ثناياه لنقع الغبار, فقال: أوقد وضعت السلاح ؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح, اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم, قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته, وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا, فمر على بني تميم وهم جيران المسجد, فقال «من مر بكم ؟» قالوا: مر بنا دحية الكلبي, وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام, فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة, فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء, قيل لهم انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر, فأشار إليهم إنه الذبح, قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «انزلوا على حكم سعد بن معاذ» فنزلوا, وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه, فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه, وحف به قومه فقالوا: ياأبا عمرو حلفاؤك ومواليك, وأهل النكاية ومن قد علمت, قالت: فلا يرجع إليهم شيئاً ولا يلتفت إليهم, حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قال: قال أبو سعيد فلما طلع, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه» فقال عمر رضي الله عنه: سيدنا الله, قال «أنزلوه» فأنزلوه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «احكم فيهم» قال سعد رضي الله عنه: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم, وتسبى ذراريهم, وتقسم أموالهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله» ثم دعا سعد رضي الله عنه, فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئاً فأبقني لها, وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قال: فانفجر كلمه وكان قد برىء منه إلا مثل الخرص, ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله , قالت عائشة رضي الله عنها: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما, قالت: فوالذي نفس محمد بيده, إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي, وكانوا كما قال الله تعالى: {رحماء بينهم} قال علقمة: فقلت أي أمه, فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت: كانت عينه لاتدمع على أحد, ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم, وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نحواً من هذا, ولكنه أخصر منه, وفيه دعا سعد رضي الله عنه. ** يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ إِن كُنتُنّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنّ وَأُسَرّحْكُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنّ تُرِدْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الاَخِرَةَ فَإِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنّ أَجْراً عَظِيماً هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها, وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال, ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل, فاخترن رضي الله عنهنّ وأرضاهن الله ورسوله والدار الاَخرة, فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الاَخرة. قال البخاري: حدثنا أبو اليمان, أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه, قالت: فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك» وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه, قالت: ثم قال: «إن الله تعالى قال: {ياأيها النبي قل لأزواجك}» إلى تمام الاَيتين, فقلت له: ففي أي هذا أستأمر أبوي, فإني أريد الله ورسوله والدار الاَخرة ؟ وكذا رواه معلقاً عن الليث, حدثني يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها فذكره, وزاد: قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل مافعلت, وقد حكى البخاري أن معمراً اضطرب فيه, فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة, وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبدة الضبي, حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أريد أن أذكر لك أمراً, فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك» قالت: قلت: وما هو يارسول الله ؟ قال فرده عليها, فقالت: وما هو يارسول الله ؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم عليها {يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} إلى آخر الاَية, قالت: فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الاَخرة, قالت: ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا ابن وكيع, حدثنا محمد بن بشر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت آية التخيير بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ياعائشة إني عارض عليك أمراً فلا تفتاتي فيه بشيء حتى تعرضيه على أبويك: أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما» فقالت: يارسول الله وما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: {ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الاَخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً} قالت: فإني أريد الله ورسوله والدار الاَخرة ولا أؤامر في ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحجر فقال: «إن عائشة رضي الله عنها قالت كذا وكذا» فقلن: ونحن نقول مثلما قالت عائشة رضي الله عنهن كلهن. رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به. قال ابن جرير: وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي, حدثنا أبي حدثنا محمد بن إِسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على نسائه أمر أن يخيرهن, فدخل علي فقال: «سأذكر لك أمراً فلا تعجلي حتى تستشيري أباك» فقلت: وما هو يارسول الله ؟ قال: «إِني أمرت أن أخيركن» وتلا عليها آية التخيير إِلى آخر الاَيتين, قالت: فقلت وما الذي تقول: لاتعجلي حتى تستشيري أباك ؟ فإِني أختار الله ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بذلك, وعرض على نسائه فتتابعن كلهن, فاخترن الله وسوله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يزيد بن سنان البصري, حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح, حدثني الليث, حدثني عقيل عن الزهري, أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة رضي الله عنها: أنزلت آية التخيير, فبدأ بي أول امرأة من نسائه, فقال صلى الله عليه وسلم: «إِني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك» قالت, وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه, قالت ثم قال: «إِن الله تبارك وتعالى قال: {ياأيها النبي قل لأزواجك} الاَيتين, قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإِني أريد الله وسوله والدار الاَخرة. ثم خير نساءه كلهن, فقلن ما قالت عائشة رضي الله عنهن, وأخرجه البخاري ومسلم جميعاً عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاخترناه, فلم يعدها علينا شيئاً, أخرجاه من حديث الأعمش وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو, حدثنا زكريا بن إِسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس, والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له, ثم أقبل عمر رضي الله عنه, فاستأذن فلم يؤذن له, ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما, فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه, وهو صلى الله عليه وسلم ساكت, فقال عمر رضي الله عنه: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك, فقال عمر رضي الله عنه: يارسول الله لو رأيت ابنة زيد ـ امرأة عمر ـ سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «هن حولي يسألنني النفقة» فقام أبو بكر رضي الله عنه إِلى عائشة ليضربها, وقام عمر رضي الله عنه إِلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده, فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلن: والله لانسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده, قال: وأنزل الله عز وجل الخيار, فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال: «إِني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» قالت: وما هو ؟ قال: فتلا عليها: {ياأيها النبي قل لأزواجك} الاَية, قالت عائشة رضي الله عنها: أفيك أستأمر أبوي ؟ بل أختار الله تعالى ورسوله, وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت, فقال صلى الله عليه وسلم: «إِن الله تعالى لم يبعثني معنفاً, ولكن بعثني معلماً ميسراً, لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إِلا أخبرتها» انفرد بإِخراجه مسلم دون البخاري, فرواه هو والنسائي من حديث زكريا بن إِسحاق المكي به. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا سريج بن يونس, حدثنا علي بن هشام بن البريد عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع, عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه الدنيا والاَخرة ولم يخيرهن الطلاق, وهذا منقطع. وقد روي عن الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك, وهو خلاف الظاهر من الاَية, فإِنه قال: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً} أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن, وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن لو طلقهن على قولين, أصحهما نعم لو وقع ليحصل المقصود من السراح, والله أعلم. قال عكرمة: وكان تحته يومئذ تسع نسوة: خمس من قريش: عائشة وحفصة وأم حبيب وسودة وأم سلمة رضي الله عنهن, وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية وميمونة بنت الحارث الهلالية, وزينب بنت جحش الأسدية, وجويرية بنت الحارث المصطلقية, رضي الله عنهن وأرضاهن جميعاً. ** يَنِسَآءَ النّبِيّ مَن يَأْتِ مِنكُنّ بِفَاحِشَةٍ مّبَيّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً * وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنّ للّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يقول الله تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الاَخر, واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال بن عباس رضي الله عنهما: وهي النشوز وسوء الخلق, وعلى كل تقدير فهو شرط, والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: {ولقد أوحي إِليك وإِلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} وكقوله عز وجل: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} {قل إِن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هوالله الواحد القهار} فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً صيانة لجنابهن وحجابهن الرفيع, ولهذا قال تعالى: {من يأن منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} قال مالك عن زيد بن أسلم {يضاعف لها العذاب ضعفين} قال: في الدنيا والاَخرة, وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله { وكان ذلك على الله يسيراً} أي سهلاً هيناً, ثم ذكر عدله وفضله في قوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله} أي ويستجب {نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً} أي في الجنة فإِنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى العليين, فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إِلى العرش. ** يَنِسَآءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ وَلاَ تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الاُولَىَ وَأَقِمْنَ الصّلاَةَ وَآتِينَ الزّكَـاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً * وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىَ فِي بُيُوتِكُـنّ مِنْ آيَاتِ اللّهِ وَالْحِكْــمَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك, فقال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إِذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن, فإِنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة, ثم قال تعالى: {فلا تخضعن بالقول} قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيق الكلام إِذا خاطبن الرجال, ولهذا قال تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} أي دغل {وقلن قولاً معروفاً} قال ابن زيد: قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير, ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم, أي لاتخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها. وقوله تعالى: {وقرن في بيوتكن} أي الزمن فلا تخرجن لغير حاجة, ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات» وفي رواية «وبيوتهن خير لهن». وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا حميد بن مسعدة, حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة, حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: جئن النساء إِلى رسول الله فقلن: يارسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى, فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قعدت ـ أو كلمة نحوها ـ منكن في بيتها, فإِنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت إِلا روح بن المسيب, وهو رجل من أهل البصرة مشهور. وقال البزار أيضاً: حدثنا محمد المثنى, حدثني عمرو بن عاصم, حدثنا همام عن قتادة عن مورّق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِن المرأة عورة, فإِذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها» رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإِسناده المتقدم وأبو داوود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها, وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها» وهذا إِسناد جيد. وقوله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال, فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} يقول: إِذا خرجتن من بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج, فنهى الله تعالى عن ذلك, وقال مقاتل بن حيان {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده, فيواري قلائدها وقرطها وعنقها, ويبدو ذلك كله منها, وذلك التبرج, ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير: حدثني ابن زهير, حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود ابن أبي الفرات, حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تلا هذه الاَية {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} قال: كانت فيما بين نوح وإِدريس, وكانت ألف سنة, وإِن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والاَخر يسكن الجبل, وكان رجال الجبل صباحاً, وفي النساء دمامة. وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة, وإِن إِبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام, فآجر نفسه منه فكان يخدمه, فاتخذ إِبليس شيئاً من مثل الذي يرمز فيه الرعاء, فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله, فبلغ ذلك من حوله فانتابوهم يسمعون إِليه, واتخذوا عيداً يجتمعون إِليه في السنة, فيتبرج النساء للرجال, قال ويتزين الرجال لهن, وإِن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك, فرأى النساء وصباحتهن, فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك, فتحولوا إِليهن فنزلوا معهن, وظهرت الفاحشة فيهن, فهو قول الله تعالى: {ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}. وقوله تعالى: {وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إِقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له, وإِيتاء الزكاة وهي الإحسان إِلى المخلوقين {وأطعن الله ورسوله} وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى: {إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا, لأنهن سبب نزول هذه الاَية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إِما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق {إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وهكذا روى ابن أبي حاتم قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي, حدثنا زيد بن الحبّاب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم, فإِن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح, وإِن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففيه نظر, فإِنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك: (الحديث الأول): قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد, أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إِذا خرج إِلى صلاة الفجر يقول: «الصلاة ياأهل البيت, إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به. وقال: حسن غريب. (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا أبو نعيم, حدثنا يونس عن أبي إِسحاق, أخبرني أبو داود عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا طلع الفجر جاء إِلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما, فقال: «الصلاة الصلاة, إِنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب. (حديث آخر) وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا الأوزاعي, حدثنا شداد أبو عمار قال: دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وعنده قوم, فذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه, فشتمه معهم, فلما قاموا قال لي: شتمت هذا الرجل ؟ قلت: قد شتموه فشتمته معهم, ألا أخبركم بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: بلى , قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه, فقالت: توجه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم, آخذ كل واحدٍ منهما بيده حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة رضي الله عنهما, وأجلسهما بين يديه, وأجلس حسناً وحسيناً رضي الله عنهما كل واحد منها على فخذه, ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءه, ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الاَية {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي, وأهل بيتي أحق». وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم, عن أبي عمرو الأوزاعي بسنده نحوه, زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه: فقلت وأنا ـ يارسول الله صلى الله عليك ـ من أهلك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وأنت من أهلي» قال واثلة رضي الله عنه: وإِنها من أرجى ماأرتجي, ثم رواه أيضاً عن عبد الأعلى بن واصل عن الفضل بن دكين, عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد بن أبي عمار قال: إِني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه, إِذ ذكروا علياً رضي الله عنه فشتموه, فلما قاموا قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموه إِني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم, فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم كساء له ثم قال لهم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي, اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» قلت: يارسول الله وأنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «وأنت» قال: فوالله إِنها لأوثق عمل عندي. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح, حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها, فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها خزيرة, فدخلت عليه بها فقال صلى الله عليه وسلم لها: «ادعي زوجك وابنيك» قالت: فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم, فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له, وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري, قالت: وأنا في الحجرة أصلي, فأنزل الله عز وجل هذه الاَية {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} قالت رضي الله عنها: فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء فغطاهم به, ثم أخرج يده فألوى بها إِلى السماء ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» قالت: فأدخلت رأسي البيت, فقلت: وأنا معكم يارسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنك إِلى خير, إِنك إِلى خير» في إِسناده من لم يسم وهو شيخ عطاء, وبقية رجاله ثقات. (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا مصعب بن المقداد, حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة رضي الله عنها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة, تحملها على طبق, فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال: «أين ابن عمك وابناك ؟» فقالت رضي الله عنها في البيت, فقال صلى الله عليه وسلم: «ادعيهم» فجاءت إِلى علي رضي الله عنه فقالت: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك, قالت أم سلمة رضي الله عنها: فلما رآهم مقبلين مد صلى الله عليه وسلم يده إِلى كساء كان على المنامة, فمده وبسطه وأجلسهم عليه ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله, فضمه فوق رؤوسهم, وأومأ بيده اليمنى إِلى ربه فقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس, عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال: ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها فقالت: في بيتي نزلت {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} قالت أم سلمة: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى بيتي فقال: «لاتأذني لأحد» فجاءت فاطمة رضي الله عنها, فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها, ثم جاء الحسن رضي الله عنه, فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه, ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جده صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها ثم جاء علي رضي الله عنه, فلم أستطع أن أحجبه, فاجتمعوا فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه, ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» فنزلت هذه الاَية حين اجتمعوا على البساط, قالت: فقلت: يارسول الله وأنا ؟ قالت: فوالله ماأنعم, وقال: «إِنك إِلى خير». (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال: إِن أم سلمة رضي الله عنها حدثته قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم: في بيتي يوماً إِذ قالت الخادم: إِن فاطمة وعلياً رضي الله عنهما بالسدة, قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «قومي فتنحي عن أهل بيتي» قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً, فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين رضي الله عنهم, وهما صبيان صغيران, فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما, واعتنق علياً رضي الله عنه بإِحدى يديه, وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى, وقبل فاطمة وقبل علياً: وأغدق عليهم خميصة سوداء, وقال «اللهم إِليك لا إِلى النار أنا وأهل بيتي» قالت: فقلت وأنا يارسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «وأنت». (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا الحسن بن عطية, حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: إِن هذه الاَية نزلت في بيتي {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} قالت: وأنا جالسة على باب البيت, فقلت: يارسول الله ألست من أهل البيت ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنك إِلى خير, أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم» قالت: وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. (طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضاً عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها. (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن مخلد, حدثني موسى بن يعقوب, حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص, عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم, ثم أدخلهم تحت ثوبه, ثم جأر إِلى الله عز وجل ثم قال: «هؤلاء أهل بيتي» قالت أم سلمة رضي الله عنها: فقلت يارسول الله أدخلني معهم, فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت من أهلي». (طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضاً عن أحمد بن محمد الطوسي, عن عبد الرحمن بن صالح, عن محمد بن سليمان الأصبهاني, عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء , عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها بنحو ذلك. (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا وكيع محمد بن بشير عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرطٌ مرحل من شعر أسود, فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله معه, ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه ثم جاء علي رضي الله عنه فأدخله معه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به. (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث, حدثنا محمد بن يزيد عن العوام يعني ابن حوشب رضي الله عنه عن عم له قال: دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه, فقالت رضي الله عنها: تسألني عن رجل من أحب الناس إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت تحته ابنته وأحب الناس إِليه ؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم, فألقى عليهم ثوباً فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي, فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً» قالت: فدنوت منهم فقلت: يارسول الله, وأنا من أهل بيتك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تنحي فإِنك على خير». (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي, حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نزلت هذه الاَية في خمسة: فيّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}» قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم, وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً, والله سبحانه وتعالى أعلم. (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى, حدثنا أبو بكر الحنفي, حدثنا بكير بن مسمار قال: سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال: قال سعد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي, فأخذ علياً وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم, فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: «رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي». (حديث آخر) وقال مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب وشجاع بن مخلد, عن ابن علية, قال زهير: حدثنا إِسماعيل بن إِبراهيم, حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلمة إِلى زيد بن أرقم رضي الله عنه, فلما جلسنا إِليه قال له حصين: لقد لقيت يازيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه, وغزوت معه, وصليت خلفه, لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً. حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ياابن أخي والله لقد كبرت سني, وقدم عهدي, ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فما حدثتكم فاقبلوا, ومالا فلا تكلفونيه, ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً, بين مكة والمدينة, فحمد الله تعالى وأثنى عليه, ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد, ألا أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب, وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله تعالى, فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه, ثم قال «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي, أذكركم الله في أهل بيتي» ثلاثاً, فقال له حصين: ومن أهل بيته يازيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: نساؤه من أهل بيته, ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده, قال: ومن هم ؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم, قال: كل هؤلاء حرم الصدقة بعده ؟ قال: نعم. ثم رواه عن محمد بن بكار بن الريان عن حسان بن إِبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه, فذكر الحديث بنحو ما تقدم, وفيه فقلت له: من أهل بيته نساؤه ؟ قال: لا, وايم الله إِن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر, ثم يطلقها فترجع إِلى أبيها,, أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. هكذا وقع في هذه الرواية, والأولى أولى والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه, إِنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة, أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط, بل هم مع آله, وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينهما وبين الرواية التي قبلها, وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إِن صحت, فإِن في بعض أسانيدها نظراً, والله أعلم, ثم الذي لا شك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} فإِن سياق الكلام معهن, ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة, قاله قتادة وغير واحد, واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس, أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس, وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة, وأحظاهن بهذه الغنيمة, وأخصهن من هذه الرحمة العميمة, فإِنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها, كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه. قال بعض العلماء رحمه الله: لأنه لم يتزوج بكراً سواها, ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها, فناسب أن تخصص بهذه المزية, وأن تفرد بهذه المرتبة العليا, ولكن إِذا كان أزواجه من أهل بيته, فقرابته أحق بهذه التسمية, كما تقدم في الحديث «وأهل بيتي أحق». وهذا مايشبه ماثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم, فقال: «هو مسجدي هذا» فهذا من هذا القبيل, فإِن الاَية إِنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر, ولكن إِذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم, فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته بذلك, والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو الوليد, حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي جميلة قال: إِن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما, قال: فبينما هو يصلي إِذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجره, وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد, وحسن رضي الله عنه ساجد. قال: فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه, فمرض منها أشهراً ثم برأ, فقعد على المنبر فقال: ياأهل العراق اتقوا الله فينا, فإِنا أمراؤكم وضيفانكم, ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد في المسجد إِلا وهو يحن بكاءً. وقال السدي عن أبي الديلم قال: قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من الشام: أما قرأت في الأحزاب {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} ؟ فقال: نعم, ولأنتم هم ؟ قال: نعم. وقوله تعالى: {إِن الله كان لطيفاً خبيراً} أي بلطفه بكن, بلغتن هذه المنزلة, وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك. قال ابن جرير رحمه الله: واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة, فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه {إِن الله كان لطيفاً خبيراً} أي ذا لطف بكن, إِذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة, وهي السنة. خبيراً بكن إِذ اختاركن لرسوله وقال قتادة {واذكرن مايتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} قال: يمتن عليهن بذلك, رواه ابن جرير. وقال عطية العوفي في قوله تعالى: {إِن الله كان لطيفاً خبيراً} يعني لطيفاً باستخراجها خبيراً بموضعها, رواه ابن أبي حاتم, ثم قال: وكذا روي عن الربيع بن أنس عن قتادة. ** إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذّاكِـرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً قال الإمام أحمد: حدثنا عفان: حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا عثمان بن حكيم, حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم مالنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال ؟ قالت: فلم يرعني منه ذات يوم إِلا ونداؤه على المنبر, وأنا أسرح شعري, فلففت شعري ثم خرجت إِلى حجرتي حجرة بيتي, فجعلت سمعي عند الجريد فإِذا هو يقول عند المنبر «ياأيها الناس إِن الله تعالى يقول: {إِن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}» إِلى آخر الاَية, وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله. (طريق أخرى عنها) قال النسائي أيضاً: حدثنا محمد بن حاتم, حدثنا سويد, أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها, أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يانبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لايذكرون ؟ فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية, عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: يارسول الله يذكر الرجال ولانذكر, فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية. (طريق أخرى) قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة رضي الله عنها: يارسول الله يذكر الرجال ولانذكر, فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية. (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا سيار بن مظاهر العنزي, حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: ماله يذكر المؤمنين ولايذكر المؤمنات ؟ فأنزل لله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية, وحدثنا بشر حدثنا يزيد, حدثنا سعيد عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن ولم نذكر بشيء أما فينا مايذكر ؟ فأنزل الله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات} الاَية, فقوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} دليل على أن الإيمان غير الإسلام, وهو أخص منه لقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}. وفي الصحيحين «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» فيسلبه الإيمان ولايلزم من ذلك كفره بإِجماع المسلمين, فدل على أنه أخص منه كما قررناه أولاً في شرح البخاري. وقوله تعالى: {والقانتين والقانتات} القنوت هو الطاعة في سكون {أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الاَخرة ويرجو رحمة ربه} وقال تعالى: {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} {يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} {وقوموا لله قانتين} فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إِليها وهو الإيمان, ثم القنوت ناشىء عنهما {والصادقين والصادقات} هذا في الأقوال, فإِن الصدق خصلة محمودة ولهذا كان بعض الصحابة رضي الله عنهم لم تجرب عليهم كذبة لا في الجاهلية ولا في الإسلام, وهو علامة على الإيمان,)كما أن الكذب أمارة على النفاق, ومن صدق نجا, «عليكم بالصدق فإِن الصدق يهدي إِلى البر, وإِن البر يهدي إِلى الجنة, وإِياكم والكذب, فإِن الكذب يهدي إِلى الفجور, وإِن الفجور يهدي إِلى النار, ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً, ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً». والأحاديث فيه كثيرة جداً, {والصابرين والصابرات} هذه سجية الأثبات, وهي الصبر على المصائب, والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر عند الصدمة الأولى, أي أصعبه في أول وهلة, ثم مابعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها {والخاشعين والخاشعات} الخشوع: السكون والطمأنينة, والتؤدة والوقار, والتواضع, والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته, كما في الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك» {والمتصدقين والمتصدقات} الصدقة هي الإحسان إِلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة لله وإِحساناً إِلى خلقه. وقد ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله ـ فذكر منهم ـ ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ما تنفق يمينه» وفي الحديث الاَخر «والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار». والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً له موضع بذاته {والصائمين والصائمات} وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه «والصوم زكاة البدن» أي يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعاً وشرعاً, كما قال سعيد بن جبير: من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى: {والصائمين والصائمات} ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة, كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإِنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإِنه له وجاء» ناسب أن يذكر بعده {والحافظين فروجهم والحافظات} أي عن المحارم والمآثم إِلا عن المباح كما قال عز وجل: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإِنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}. وقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله, حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذاأيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كُتبا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراُ والذاكرات» وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قلت يارسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» قال: قلت يارسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى ؟ قال: «لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دماً, لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه». وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الرحمن بن إِبراهيم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة, فأتى على جمدان فقال «هذا جمدان سيروا فقد سبق المفردون» قالوا: وما المفردون ؟ قال صلى الله عليه وسلم «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» ثم قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: والمقصرين ؟ قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين» قالو, والمقصرين ؟ قال: «والمقصرين» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم دون آخره. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى, حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: إِنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ماعمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل» وقال معاذ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة, ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟» قالوا: بلى يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم «ذكر الله عز وجل». وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِن رجلاً سأله فقال: أي المجاهدين أعظم أجراً يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله تعالى ذكراً» قال: فأي الصائمين أكثر أجراً ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أكثرهم لله عز وجل ذكراً» ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة. كل ذلك يقول رسول الله «أكثرهم لله ذكراً» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما: ذهب الذاكرون بكل خير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجل». وسنذكر إِن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة {ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً} الاَية, إِن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجراً عظيماً وهو الجنة. ** وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها, فقالت: لست بناكحته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلى فانكحيه» قالت: يارسول الله أؤامر في نفسي ؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الاَية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً} الاَية, قالت: قد رضيته لي يارسول الله منكحاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» قالت: إِذاً لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي. وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه وقالت: أنا خير منه حسباً, وكانت امرأة فيها حدة, فأنزل الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة} الاَية كلها, وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه, فامتنعت ثم أجابت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء, يعني بعد صلح الحديبية, فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: قد قبلت, فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه ـ بعد فراقه زينب, فسخطت هي وأخوها وقالا: إِنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجنا عبده, قال: فنزل القرآن {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً} إِلى آخر الاَية, قال: وجاء أمر أجمع من هذا {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} قال: فذاك خاص وهذا أجمع. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه, قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إِلى أبيها, فقال: حتى أستأمر أمها, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «فنعم إِذاً» قال: فانطلق الرجل إِلى امرأته فذكر ذلك لها, قالت: لاها الله ذا ماوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلا جليبيباً وقد منعناها من فلان وفلان, قال: والجارية في سترها تسمع, قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره, إِن كان قد رضيه لكم فأنكحوه, قال: فكأنها جلت عن أبويها, وقالا: صدقت فذهب أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إِن كنت رضيته فقد رضيناه, قال صلى الله عليه وسلم «فإِني قد رضيته» قال: فزوجها, ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب, فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم, قال أنس رضي الله عنه: فلقد رأيتها وإِنها لمن أنفق بيت بالمدينة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن نعيم العدوي, عن أبي برزة الأسلمي قال: إِن جليبيباً كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن, فقلت لامرأتي: لا يدخلن اليوم عليكن جليبيباً فإِنه إِن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن, قالت: وكانت الأنصار إِذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار «زوجني ابنتك» قال: نعم وكرامة يارسول الله ونعمة عين, فقال صلى الله عليه وسلم: «إِني لست أريدها لنفسي» قال: فلمن يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم «لجليبيب» فقال: يارسول الله أشاور أمها, فأتى أمها, فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك ؟ فقالت: نعم ونعمة عين, فقال: إِنه ليس يخطبها لنفسه إِنما يخطبها لجليبيب, فقالت: أجليبيب إنيه أجليبيب إنيه ؟ ألا لعمر الله لا نزوجه, فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها, قالت الجارية: من خطبني إِليكم ؟ فأخبرتها أمها, قالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ ادفعوني إِليه, فإِنه لن يضيعني, فانطلق أبوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها فزوجها جليبيباً, قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له, فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه رضي الله عنهم «هل تفقدون من أحد» ؟ قالوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً, قال صلى الله عليه وسلم «انظروا هل تفقدون من أحد» قالوا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «لكنني أفقد جليبيباً» قال صلى الله عليه وسلم «فاطلبوه في القتلى» فطلبوه فوجدوه إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فقالوا: يارسول الله هاهوذا إِلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه, فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال «قتل سبعة وقتلوه, هذا مني وأنا منه» مرتين أو ثلاثاً, ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إِلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم, ثم وضعه في قبره ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه, قال ثابت رضي الله عنه: فما كان في الأنصار أيم أنفق منها. وحديث إِسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: قال «اللهم صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشها كداً» وكذا كان, فما كان في الأنصار أيم أنفق منها, هكذا أورده الإمام أحمد بطوله, وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله. وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها: أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ؟ نزلت هذه الاَية {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. وقال ابن جريج: أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال: إِنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه, وقرأ ابن عباس رضي الله عنه {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} فهذه الاَية عامة في جميع الأمور, وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحد مخالفته, ولا اختيار لأحد هنا, ولا رأي ولا قول, كما قال تبارك وتعالى: {فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} وفي الحديث «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» ولهذا شدد في خلاف ذلك, فقال {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} كقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. ** وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِيَ أَنعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمّا قَضَىَ زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيَ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم {وأنعمت عليه} أي بالعتق من الرق, وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر حبيباً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب, ويقال لابنه أسامة الحب بن الحب, قالت عائشة رضي الله عنها: ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إِلا أمره عليهم, ولو عاش بعده لاستخلفه, رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داوود عن عبد الله البهي عنها. وقال البزار: حدثنا خالد بن يوسف, حدثنا أبو عوانة, ح وحدثنا محمد بن معمر, حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة, أخبرني عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال: حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما: فقالا: ياأسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت: علي والعباس يستأذنان, فقال صلى الله عليه وسلم: «أتدري ما حاجتهما ؟» قلت: لا يارسول الله, قال صلى الله عليه وسلم: «لكني أدري» قال: فأذن لهما, قالا: يارسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إِليك ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أحب أهلي إِلي فاطمة بنت محمد» قالا: يارسول الله ما نسألك عن فاطمة, قال صلى الله عليه وسلم «فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها, وأمها أميمة بنت عبد المطلب, وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما, وخماراً وملحفة ودرعاً, وخمسين مداً من طعام وعشرة أمداد من تمر, قاله مقاتل بن حيان, فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها, ثم وقع بينهما, فجاء زيد يشكوها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «أمسك عليك زوجك واتق الله» قال الله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم, أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها. وقد روى الإمام أحمد ههنا أيضاً حديثاً من رواية حماد بن زيد عن ثابت, عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضاً. وقد روى البخاري أيضاً بعضه مختصراً فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم, حدثنا معلى بن منصور عن حماد بن زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في زيد, حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه. قال: إن هذه الاَية {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} نزلت في شأن زينب بنت حجش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا علي بن هاشم مرزوق, حدثنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال: سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه} فذكرت له, فقال: لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها, فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إِليه قال: «اتق الله وأمسك عليك زوجك» فقال: قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه. وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا إِسحاق بن شاهين, حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إِليه من كتاب الله تعالى لكتم {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} وقوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها} الوطر هو الحاجة والأرب, أي لما فرغ منها وفارقها زوجناكها, وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى إِليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولامهر ولا شهود من البشر. قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم يعني ابن القاسم, أخبرنا النضر, حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة «اذهب فاذكرها علي» فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها, قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إِليها وأقول إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها, فوليتها ظهري ونكصت على عقبي, وقلت: يازينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك, قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي عز وجل, فقامت إِلى مسجدها, ونزل القرآن, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إِذن, ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم, فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام, فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته, فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يارسول الله كيف وجدت أهلك ؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر, فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه, فألقى الستر بيني وبينه, ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به {لا تدخلوا بيوت النبي إِلا أن يؤذن لكم} الاَية كلها, ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان بن المغيرة به. وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إِن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي فتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات, وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن عبد الله بن جحش قال: تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما, فقالت زينب رضي الله عنها: أنا الذي نزل تزويجي من السماء, وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا التي نزل عذري من السماء, فاعترفت لها زينب رضي الله عنها. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إِني لأدلي عليك بثلاث, وما من نسائك امرأة تدلي بهن: إِن جدي وجدك واحد, وإِني أنكحنيك الله عز وجل من السماء, وإِن السفير جبريل عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إِذا قضوا منهن وطراً} أي إِنما أبحنا لك تزويجها, وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه, فكان يقول له زيد بن محمد, فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ـ إِلى قوله تعالى ـ ادعوهم لاَبائهم هو أقسط عند الله} ثم زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها, لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه, ولهذا قال تعالى في آية التحريم {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} ليحترز من الابن الدعي, فإِن ذلك كان كثيراً فيهم. وقوله تعالى: {وكان أمر الله مفعولاً} أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لامحالة, كانت زينب رضي الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ** مّا كَانَ عَلَى النّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً يقول تعالى: {ماكان على النبي من حرج فيما فرض الله له} أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقوله تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج, وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه {وكان أمر الله قدراً مقدوراً} أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل, فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ** الّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالاَتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللّهَ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً * مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـَكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً يمدح تبارك وتعالى {الذين يبلغون رسالات الله} أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها {ويخشونه} أي يخافونه ولا يخافون أحداً سواه, فلا تمنعهم سطوة أحد عن إِبلاغ رسالات الله تعالى {وكفى بالله حسيباً} أي وكفى بالله ناصراً ومعيناً, وسيد الناس في هذا المقام بل وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإِنه قام بأداء الرسالة وإِبلاغها إِلى أهل المشارق والمغارب إِلى جميع أنواع بني آدم, وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع, فإِنه قد كان النبي قبله إِنما يبعث إِلى قومه خاصة, وأما هو صلى الله عليه وسلم فإِنه بعث إِلى جميع الخلق عربهم وعجمهم {قل ياأيها الناس إِني رسول الله إِليكم جميعاً} ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده, فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم, بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله, في ليله ونهاره, وحضره وسفره, وسره وعلانيته, فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إِلى زماننا هذا, فبنورهم يقتدي المهتدون, وعلى منهجهم يسلك الموفقون, فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله, فيقول الله ما يمنعك أن تقول فيه ؟ فيقول رب خشيت الناس, فيقول: فأنا أحق أن يخشى» ورواه أيضاً عن عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن عمرو بن مرة. ورواه ابن ماجه عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما عن الأعمش به. وقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد, أي لم يكن أباه وإِن كان قد تبناه, فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإِنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها, فماتوا صغاراً وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية, فمات أيضاً رضيعاً, وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين, فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث, وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم, ثم ماتت بعده لستة أشهر. وقوله تعالى: {ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً} كقوله عز وجل: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فهذه الاَية نص في أنه لانبي بعده, وإِذا كان لانبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى, لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة, فإِن كل رسول نبي ولا ينعكس, وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل, عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها, وترك فيها موضع لبنة لم يضعها, فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنه, فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة» ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به, وقال حسن صحيح. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا عبد الواحد بن زياد, حدثنا المختار بن فلفل, حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعد ولا نبي» قال: فشق ذلك على الناس, فقال: «ولكن المبشرات» قالوا: يارسول الله وما المبشرات ؟ قال: «رؤيا الرجل المسلم, وهي جزء من أجزاء النبوة» وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به, وقال: صحيح غريب من حديث المختار بن فلفل. (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إِلا موضع لبنة, فكان من دخلها فنظر إِليها قال: ما أحسنها إِلا موضع هذه اللبنة, فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» ورواه البخاري ومسلم والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به, وقال الترمذي: صحيح غريب من هذا الوجه. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» انفرد به مسلم من رواية الأعمش به. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عثمان بن عبيد الراسبي قال: سمعت أبا الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لانبوة بعدي إِلا المبشرات» قيل: وما المبشرات يارسول الله ؟ قال «الرؤيا الحسنة» ـ أو قال ـ «الرؤيا الصالحة». (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إِلا موضع لبنة من زاوية من زواياها, فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون: ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فكنت أنا اللبنة» أخرجاه من حديث عبد الرزاق. (حديث آخر) عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال الإمام مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إِسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم, ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, وأرسلت إِلى الخلق كافة, وختم بي النبيون» ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث إِسماعيل بن جعفر, وقال الترمذي: حسن صحيح. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأتمها إِلا موضع لبنة واحدة, فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة» ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا معاوية بن صالح, حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي, عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إِني عند الله لخاتم النبيين, وإِن آدم لمنجدل في طينته». (حديث آخر) قال الزهري: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِن لي أسماء أنا محمد, وأنا أحمد, وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر, وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي, وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي» أخرجاه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ابن إِسحاق, حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله ابن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال: «أنا محمد النبي الأمي ـ ثلاثاً ـ ولانبي بعدي, أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش, وتجوز بي , وعوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإِذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله, وحرموا حرامه» تفرد به الإمام أحمد. ورواه الإمام أحمد أيضاً عن يحيى بن إِسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة لهيعة عن عبد الله بن سريج الخولاني عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, فذكر مثله سواء, والأحاديث في هذا كثيرة, فمن رحمة الله تعالى بالعباد إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم, ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإِكمال الدين الحنيف له, وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده, ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب وأفاك دجال ضال مضل, لو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله, وكذلك كل مدع لذلك إِلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال, فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها, وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه, فإِنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولاينهون عن منكر إِلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إِلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم, كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} الاَية, وهذا بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فإِنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه, مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات, فصلوات الله وسلامه عليهم دائماً مستمراً ما دامت الأرض والسموات. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً * تَحِيّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن, لما لهم في ذلك من جزيل الثواب, وجميل المآب. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد, حدثني مولى ابن عياش عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إِعطاء الذهب والورق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم» قالوا: وما هو يارسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ذكر الله عز وجل» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عياش عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس البراغمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه به, قال الترمذي: رواه بعضهم عنه فأرسله. قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات} في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش أنه بلغه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه, فالله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا فرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: اللهم اجعلني أعظم شكرك, وأتبع نصيحتك, وأكثر ذكرك, وأحفظ وصيتك, ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي فضالة الفرج بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكر مثله, وقال: غريب, وهكذا رواه الإمام أحمد أيضاً عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه, فذكره. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال: سمعت عبد الله بن بسر يقول: جاء أعرابيان إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يارسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من طال عمره وحسن عمله» وقال الاَخر: يارسول الله إِن شرائع الإسلام قد كثرت علينا, فمرني بأمر أتشبث به, قال صلى الله عليه وسلم: «لايزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى» وروى الترمذي وابن ماجه الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به, وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال: إِن دراجاً أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون». وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد, حدثنا عقبة بن مكرم العمي, حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري, حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي ثبيب الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذكروا الله ذكراً كثيراً حتى يقول المنافقون إِنكم تراؤون». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي, سمعت أبا الوازع جابر بن عمرو يحدث عن)عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {اذكروا الله ذكراً كثيراً} إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً, ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر, فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه, ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه, فقال: {يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم} بالليل والنهار في البر والبحر, وفي السفر والحضر, والغنى والفقر, والسقم والصحة, والسر والعلانية, وعلى كل حال. وقال عز وجل: {وسبحوه بكرة وأصيلا} فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته, والأحاديث والاَيات والاَثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة جداً, وفي هذه الاَية الكريمة الحث على الإكثار من ذلك. وقد صنف الناس في الأذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار كالنسائي والمعمري وغيرهما. ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الأذكار للشيخ محيي الدين النووي رحمه الله. وقوله تعالى: {وسبحوه بكرة وأصيلاً} أي عند الصباح والمساء, كقوله عز وجل {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} وقوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} هذا تهييج إلى الذكر, أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم, كقوله عز وجل {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة, حكاه البخاري عن أبي العالية, ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عنه, وقال غيره: الصلاة من الله عز وجل الرحمة. وقد يقال: لا منافاة بين القولين, والله أعلم. وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار, كقوله تبارك وتعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك انت العزيز الحكيم * وقهم السيئات} الاَية. وقوله تعالى: {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم, يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين {وكان بالمؤمنين رحيماً} أي في الدنيا والاَخرة, أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم, وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغاة, وأما رحمته بهم في الاَخرة فآمنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه رضي الله عنهم, وصبي في الطريق, فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ, فأقبلت تسعى وتقول: ابني, ابني, وسعت فأخذته, فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار, قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «لا, والله لايلقي حبيبه في النار» إسناده على شرط الصحيحين, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, ولكن في صحيح الإمام البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امراة من السبي قد أخذت صبياً لها فألصقته إلى صدرها وأرضعته, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك ؟» قالوا: لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها» وقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} الظاهر أن المراد ـ والله أعلم ـ تحيتهم, أي من الله تعالى يوم يلقونه سلام أي يوم يسلم عليهم كما قال عز وجل: {سلام قولاً من رب رحيم} وزعم قتادة أن المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الاَخرة, واختاره ابن جرير. (قلت) وقد يستدل له بقوله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. وقوله تعالى: {وأعد لهم أجراً كريماً} يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر, مما لا عين رأت ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر. ** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مّنِيراً * وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنّ لَهُمْ مّنَ اللّهِ فَضْلاً كِبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكّـلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِـيلاً قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا فليح بن سليمان, حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة, قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميين, أنت عبدي ورسولي, سميتك المتوكل, لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح ويغفر, ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء, بأن يقولوا لا إله إلا الله, فيفتح بها أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به. ورواه في التفسير عن عبد الله,قيل ابن رجاء, وقيل ابن صالح,عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو به. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به. وقال البخاري في البيوع: وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه, وقال وهب بن منبه: إِن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث أمياً من الأميين, أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق, لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته, ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه, أبعثه مبشراً ونذيراً لا يقول الخنا, أفتح به أعيناً كمهاً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً, أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم, وأجعل السكينة لباسه, والبر شعاره, والتقوى ضميره, والحكمة منطقه, والصدق والوفاء طبيعته, والعفو والمعروف خلقه, والحق شريعته, والعدل سيرته والهدى إمامه, والإسلام ملته, وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال, وأعلم به بعد الجهالة, وأرفع به بعد الخمالة, وأعرف به بعد النكرة, وأكثر به بعد القلة, وأغني به بعد العيلة, وأجمع به بعد الفرقة, وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة, وأهواء متشتتة, وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة, وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي, ألهمهم التسبيح والتحميد, والثناء والتكبير والتوحيد, في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياناً وقعوداً ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً, ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً, يطهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في الأنصاف, قربانهم دماؤهم, وأناجيلهم في صدورهم, رهبان بالليل ليوث بالنهار, وأجعل في أهل بيته, وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين, أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون, وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم, وأجعل دائرة السوء على من خالفهم, أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم, أجعلهم ورثة لنبيهم, والداعية إلى ربهم, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم, ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم. هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني رحمه الله. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الرحمن بن صالح, حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن شيبان النحوي, أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال «انطلقا فبشرا ولا تنفرا, ويسرا ولا تعسرا, إنه قد أنزل علي {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً}» ورواه الطبراني عن محمد بن نصر بن حميد البزاز البغدادي, عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي, عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي بإسناده مثله, وقال في آخره «فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجاً منيراً بالقرآن». فقوله تعالى: {شاهداً} أي لله بالوحدانية, وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيداً كقوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}. وقوله عز وجل: {ومبشراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب, ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب. وقوله جلت عظمته: {وداعياً إلى الله بإذنه} أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك {وسراجاً منيراً} أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشرافها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله جل وعلا {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه {ودع أذاهم} أي اصفح وتجاوز عنهم, وكل أمرهم إلى الله تعالى, فإن فيه كفاية لهم, ولهذا قال جل جلاله: {وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً}. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسّوهُنّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنّ مِنْ عِدّةٍ تَعْتَدّونَهَا فَمَتّعُوهُنّ وَسَرّحُوهُنّ سَرَاحاً جَمِيلاً هذه الاَية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده, وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها, وقد اختلفوا في النكاح: هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطء أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال, واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده إلا في هذه الاَية, فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها. وقوله تعالى: {المؤمنات} خرج مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق, وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زين العابدين وجماعة من السلف بهذه الاَية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح, لأن الله تعالى قال: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فعقب النكاح بالطلاق, فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله, وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى, وذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق, فعندهما متى تزوجها طلقت منه, واختلفا فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه, فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الاَية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي, حدثنا النضر بن شميل, حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق, قال: سمعت آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق, قال: ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} الاَية وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما قال الله عز وجل: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح, وهكذا روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} فلا طلاق قبل النكاح. وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وقال الترمذي. هذا حديث حسن, وهو أحسن شيء روي في هذا الباب, وهكذا روى ابن ماجه عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاحٍ». وقوله عز وجل: {فما لكم عليهمن من عدة تعتدونها} هذا أمر مجمع عليه بين العلماء, أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها, فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت, ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها, فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً, وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً. وقوله تعالى: {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جيملاً} المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمي لها. قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} وقال عز وجل {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل, فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف, وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره, وهو السراح الجميل. ** يَأَيّهَا النّبِيّ إِنّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِيَ آتَيْتَ أُجُورَهُنّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عَمّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيَ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور ههنا, كما قاله مجاهد وغير واحد. وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشاً وهو نصف أوقية, فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان, فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر, ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها, كذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها ـ رضي الله عنهن أجمعين ـ. وقوله تعالى: {وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك} أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم, وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما, وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام, وكانتا من السراري رضي الله عنهما. وقوله تعالى: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خلاتك} الاَية, هذا عدل وسط بين الإفراط والتفريط, فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً, واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته, فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراط النصارى, فأباح بنت العم والعمة, وبنت الخال والخالة, وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع, وإنما قال: {وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} فوحد لفظ الذكر لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: {عن اليمين والشمائل} {يخرجهم من الظلمات إلى النور} {وجعل الظلمات والنور} وله نظائر كثيرة. وقوله تعالى: {اللاتي هاجرن معك} قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث الرازي, حدثنا عبيد الله بن موسى, حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانىء قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني, ثم أنزل الله تعالى: {إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك} قالت: فلم أكن أحل له, ولم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به, ثم رواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه, ورواه الترمذي في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة إن المراد من هاجر معه إلى المدينة. وفي رواية عن قتادة {اللاتي هاجرن معك} أي أسلمن, وقال الضحاك: قرأ ابن مسعود {واللائي هاجرن معك}. وقوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك} الاَية, أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك. وهذه الاَية توالى فيها شرطان, كقوله تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} وكقول موسى عليه السلام {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} وقال ههنا: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} الاَية. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق, أخبرنا مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك, فقامت قياماً طويلاً, فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟» فقال: ما عندي إلا إزاري هذا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك, فالتمس شيئاً» فقال: لا أجد شيئاً, فقال «التمس ولو خاتماً من حديد» فالتمس فلم يجد شيئاً, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل معك من القرآن شيء ؟» قال: نعم سورة كذا وسورة كذا ـ السور يسميها ـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زوجتكها بما معك من القرآن» أخرجاه من حديث مالك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا مرحوم, سمعت ثابتاً يقول: كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له, فقال أنس: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله هل لك في حاجة ؟ فقالت ابنته: ما كان أقل حياءها, فقال: «هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها» انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به. وقال أحمد أيضاً: حدثنا عبد الله بن بكير, حدثنا سنان بن ربيعة عن الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا, فذكرت من حسنها وجمالها فآثرتك بها, فقال: «قد قبلتها» فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئاً قط, فقال: «لا حاجة لي في ابنتك» لم يخرجوه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا منصور بن أبي مزاحم, حدثنا ابن أبي الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: أن خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه: كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة. فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, حدثنا وكيع, حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمربن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة امرأة, ستاً من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة, وثلاثاً من بني عامر بن صعصعة, وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم المساكين, وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات, وهي التي اختارت الدنيا, وامرأة من بني الجون وهي التي استعاذت منه, وزينب بنت جحش الأسدية, والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعية. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} قال: هي ميمونة بنت الحارث, فيه انقطاع, هذا مرسل, والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصارية, وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته, فالله أعلم. والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير, كما قال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى, حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها ؟ فلما أنزل الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن منصور الجعفي, حدثنا يونس بن بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له. ووراه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير, أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به, لأنه مردود إلى مشيئته, كما قال الله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحها} أي إن اختار ذلك. وقوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك, ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً, وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما, أي أنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها, كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق لما فوضت, فحكم لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها, والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم, فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شيء ولو دخل بها, لأن له أن يتزوج بغير صداق ولا ولي, ولا شهود, كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها, ولهذا قال قتادة في قوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} يقول: ليس لا مرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم} قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة وابن جرير في قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر, وما شاؤوا من الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم, وهم الأمة وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه {لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً}. ** تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنّ وَتُؤْوِيَ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن تَقَرّ أَعْيُنُهُنّ وَلاَ يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَلِيماً قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بشر, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم, قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق ؟ فأنزل الله عز وجل {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء} الاَية, قالت: إني أرى ربك يسارع لك في هواك. وقد تقدم أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة, فدل هذا على أن المراد بقوله: {ترجي} أي تؤخر {من تشاء منهن} أي من الواهبات {وتؤوي إليك من تشاء} أي من شئت قبلتها ومن شئت رددتها, ومن رددتها فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فآويتها, ولهذا قال: {ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك}. قال عامر الشعبي في قوله تعالى: {ترجي من تشاء منهن} الاَية, كن نساء وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم, فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده, منهن أم شريك وقال آخرون: بل المراد بقوله {ترجي من تشاء منهن} الاَية, أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن, فتقدم من شئت وتؤخر من شئت, وتجامع من شئت وتترك من شئت, هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن, ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم, واحتجوا بهذه الاَية الكريمة. وقال البخاري: حدثنا حبان بن موسى, حدثنا عبد الله هو ابن المبارك, وأخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الاَية {ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك} فقلت لها: ما كنت تقولين ؟ فقالت: كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً, فهذا الحديث عنها يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم, وحديثها الأول يقتضي أن الاَية نزلت في الواهبات, ومن ههنا اختار ابن جرير أن الاَية عامة في الواهبات وفي النساء, اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم, وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي, وفيه جمع بين الأحاديث, ولهذا قال تعالى: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن} أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم, فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم, لا جناح عليك في أي ذلك فعلت, ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك, لا أنه على سبيل الوجوب, فرحن بذلك واستبشرن به, وحملن جميلك في ذلك, واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن. وقوله تعالى: {والله يعلم ما في قلوبكم} أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل, ثم يقول: «اللهم هذا فعلي فيما أملك, فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة, وزاد أبو داود بعد قوله «فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» يعني القلب. وإسناده صحيح, ورجاله كلهم ثقات, ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى: {وكان الله عليماً} أي بضمائر السرائر {حليماً} أي يحلم ويغفر. ** لاّ يَحِلّ لَكَ النّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ إِلاّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ رّقِيباً ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم, أن هذه الاَية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضاً عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الاَخرة لما خيرهن رسول لله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الاَية, فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن, وحرم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن, ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن, ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الاَية, وأباح له التزوج, ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن. قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء, ورواه أيضاً من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة, ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة, حدثني عمر بن أبي بكر, حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم, وذلك قول الله تعالى: {ترجي من تشاء منهن} الاَية فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة, الأولى ناسخة للتي بعدها, والله أعلم. وقال آخرون: بل معنى الاَية {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك, اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك, وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه, وعكرمة والضحاك في رواية, وأبي رزين في رواية عنه, وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية, والسدي وغيرهم, قال ابن جرير: حدثنا يعقوب, حدثنا ابن علية عن داود بن أبي هند, حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج ؟ فقال: وما يمنعه من ذلك ؟ قال: قلت قول الله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد} فقال: إنما أحل الله له ضرباً من النساء, فقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك ـ إلى قوله تعالى ـ إن وهبت نفسها للنبي} ثم قيل له: {لا يحل لك النساء من بعد} ورواه عبد الله بن أحمد من طرق عن داود به. وروى الترمذي عن ابن عباس قال: نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله فتياتكم المؤمنات, وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات دين غير الإسلام, ثم قال: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} الاَية. وقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ـ إلى قوله تعالى ـ خالصة لك من دون الؤمنين} وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء, وقال مجاهد {لا يحل لك النساء من بعد} أي من بعد ما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وقال أبو صالح {لا يحل لك النساء من بعد} أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا عربية, ويتزوج بعد من نساء تهامة وما شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة. وقال عكرمة {لا يحل لك النساء من بعد} أي التي سمى الله. واختار ابن جرير رحمه الله: أن الاَية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء, وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً, وهذا الذي قاله جيد, ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف, فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة, والله أعلم. ثم أورد ابن جرير على نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها! وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة, ثم أجاب بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى: {لا يحل لك من النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج} الاَية, وهذا الذي قاله من أن هذا كان قبل نزول الاَية صحيح, ولكن لا يحتاج إلى ذلك, فإن الاَية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن عدا اللواتي في عصمته وأنه لا يستبدل بهن غيرهن, ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال, فالله أعلم, فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي سبب نزول قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً} الاَية.) وأما قضية حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة, عن صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها, وهذا إسناد قوي. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو كريب, حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي, فقال: ما يبكيك ؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك, إنه قد كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي, والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبداً, ورجاله على شرط الصحيحين. وقوله تعالى: {ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} فنهاه عن الزيادة إن طلق واحدة منهن, واستبدال غيرها بها, إلا ما ملكت يمينه, وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثاً مناسباً ذكره ههنا, فقال: حدثنا إبراهيم بن نصر, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي, عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك: وأبادلك بامراتي, أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي, فأنزل الله {ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن} قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة, فدخل بغير إذن, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين الاستئذان ؟» فقال: يارسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت, ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه عائشة أم المؤمنين» قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال «يا عيينة إن الله قد حرم ذلك» فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا ؟ قال «هذا أحمق مطاع, وإنه على ما ترين لسيد قومه» ثم قال البزار: إسحاق بن عبد الله لين الحديث جداً, وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبينا العلة فيه. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النّبِيّ إِلاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىَ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوَاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللّهِ عَظِيماً * إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية, وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه, كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال: وافقت ربي عز وجل في ثلاث, قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى, فأنزل الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن, فأنزل الله آية الحجاب, وقلت لأزاوج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن} فنزلت كذلك, وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة. وقد قال البخاري: حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر, فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش الأسدية التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه, وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما, وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث, فالله أعلم. قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي, حدثنا معتمر بن سليمان, سمعت أبي, حدثنا أبو مجلز عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش, دعا القوم فطعموا, ثم جلسوا يتحدثون, فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا, فلما رأى ذلك قام, فلما قام, قام من قام وقعد ثلاثة نفر, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل, فإذا القوم جلوس, ثم إنهم قاموا فانطلقوا, فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل, فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا} الاَية, وقد رواه أيضا في موضع آخر, ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر بن سليمان به. ثم رواه البخاري منفرداً به من حديث أيوب عن أبي قلابة, عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه, ثم قال: حدثنا أبو معمر, حدثنا عبد الوارث, حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم زينت بنت جحش بخبز ولحم, فأرسلت على الطعام داعياً, فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون, ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون, فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه, فقلت: يارسول الله ما أجد أحداً أدعوه, قال «ارفعوا طعامكم». وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم , فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال: «السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته» قالت: وعليك السلام ورحمة الله, كيف وجدت أهلك يا رسول الله ؟ بارك الله لك ؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة, ويقلن له كما قالت عائشة, ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون, وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء, فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة, فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا, فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والأخرى خارجة, أرخى الستر بيني وبينه, وأنزل آية الحجاب. انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث عبد الوارث, ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكر السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك, وقال رجلان: انفرد به من هذا الوجه, وقد تقدم في أفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو المظفر, حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه, فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تور فقالت: اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل, قال أنس: والناس يومئذ في جهد, فجئت به فقلت: يارسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك, وهي تقرئك السلام وتقول: أخبره أن هذا منا له قليل, فنظر إليه ثم قال «ضعه» فوضعته في ناحية البيت ثم قال: «اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً» فسمى رجالاً كثيراً وقال «ومن لقيت من المسلمين» فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين, فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس, فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا ؟ فقال: كانوا زهاء ثلاثمائة. قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «جىء به» فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال «ما شاء الله» ثم قال«ليتحلق عشرة عشرة, وليسموا, وليأكل كل إنسان مما يليه» فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم, فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم «ارفعه» قال: فجئت فأخذت التور, فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ؟ قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط, فأطالوا الحديث, فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء, ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً, فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج فسلم على حجره وعلى نسائه, فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه, ابتدروا الباب فخرجوا, وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن, فخرج وهو يتلو هذا الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الاَيات, قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس, فأنا أحدث الناس بهن عهداً, وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعاً عن قتيبة عن جعفر بن سليمان به, وقال الترمذي: حسن صحيح, وعلقه البخاري في كتاب النكاح, فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه. ورواه مسلم أيضاً عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن الجعد به, وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه, ورواه البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه, ورواه ابن أبي حاتم أيضاً من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك, ولم يخرجوه, ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: «اذهب فاذكرها علي» قال: فانطلق زيد حتى أتاهاـ قال ـ وهي تخمر عجينها, فلما رأيتها عظمت في صدري, وذكر تمام الحديث كما قدمناه عند قوله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطراً} وزاد في آخره بعد قوله: ووعظ القوم بما وعظوا به. قال هاشم في حديثه {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم} الاَية. وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة. وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب, حدثني عمي عبد الله بن وهب, حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع ـ وهو صعيد أفيح ـ وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: احجب نساءك, فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل, فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكانت امرأة طويلة, فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك ياسودة حرصاً على أن ينزل الحجاب, قالت: فأنزل الله الحجاب, هكذا وقع في هذه الرواية, والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب. كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها, وكانت امرأة جسيمة, لا تخفى على من يعرفها, فرآها عمر بن الخطاب فقال: ياسودة أما والله ما تخفين علينا, فانظري كيف تخرجين ؟ قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق, فدخلت فقالت: يارسول الله إني خرجت لبعض حاجتي, فقال لي عمر: كذا وكذا, قالت: فأوحى الله إليه, ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه, فقال «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» لفظ البخاري, فقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي} حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام, حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك, وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والدخول على النساء» الحديث, ثم استثنى من ذلك فقال تعالى:{إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} قال مجاهد وقتادة وغيرهما: أي غير متحينين نضجه واستواءه, أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول, فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه, وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن, وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين, وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. ثم قال تعالى: {ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا} وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره» وأصله في الصحيحين, وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلى كراع لقبلت, فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض» ولهذا قال تعالى: «ولا مستأنسين لحديث} أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث, ونسوا أنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما قال تعالى: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} وقيل المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به, ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه عليه السلام حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك, ولهذا قال تعالى: {والله لا يستحيي من الحق} أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه. ثم قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية, ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن, فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيساً في قعب, فمر عمر فدعاه فأكل, فأصابت إصبعه إصبعي, فقال حسن أو أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين, فنزل الحجاب {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب. وقوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً} قال بن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا محمد بن أبي حماد, حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده, قال رجل لسفيان: أهي عائشة ؟ قال: قد ذكروا ذلك, وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وذكر بسنده عن السدي إن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه, حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك, ولهذا اجتمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده, لأنهن أزواجه في الدنيا والأخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم, واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته: هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله {من بعده} أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها, فما نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعاً, والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا عبد الوهاب, حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث ـ يعني ابن قيس ـ فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك, فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة, فقال له عمر: ياخليفة رسول الله إنها ليست من نسائه, إنها لم يخيرها رسول الله ولم يحجبها, وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها: قال: فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه وسكن, وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك, وشدد فيه وتوعد عليه بقوله: {إن ذلكم كان عند الله عظيماً} ثم قوله تعالى: {إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً} أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم, فإن الله يعلمه, فإنه لا تخفى عليه خافية {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}. ** لاّ جُنَاحَ عَلَيْهِنّ فِيَ آبَآئِهِنّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنّ وَلاَ إِخْوَانِهِنّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنّ وَلاَ نِسَآئِهِنّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنّ وَاتّقِينَ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيداً لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب, بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم, كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} وفيها زيادات على هذه, وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته ههنا. وقد سأل بعض السلف فقال: لم لم يذكر العم والخال في هاتين الاَيتين ؟ فأجاب عكرمة والشعبي بأنهما لم يذكرا لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما. قال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى, حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد, حدثنا داود عن الشعبي وعكرمة في قوله تعالى: {لا جناح عليهن في آبائهن} الاَية, قلت: ما شأن العم والخال لم يذكرا ؟ قال لأنهما ينعتانهما لأبنائهما وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها. وقوله تعالى: {ولا نسائهن} يعنى بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات. وقوله تعالى: {وما ملكت أيمانهن} يعني به أرقاءهن من الذكور والإناث كما تقدم التنبيه عليه وإيراد الحديث فيه, قال سعيد بن المسيب: إنما يعني به الإماء فقط, رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى: {واتقين الله إن الله كان على كل شيء شهداً} أي واخشينه في الخلوة والعلانية, فإنه شهيد على كل شيء, لا تخفى عليه خافية فراقبن الرقيب. ** إِنّ اللّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلّونَ عَلَى النّبِيّ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ صَلّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة, وصلاة الملائكة الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون يبركون, هكذا علقه البخاري عنهما, وقد رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كذلك, وروي مثله عن الربيع أيضاً, وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كما قاله سواء, رواهما ابن أبي حاتم: وقال أبو عيسى الترمذي: وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم, قالوا: صلاة الرب الرحمة, وصلاة الملائكة الاستغفار. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو الأودي, حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة, قال الأعمش أراه عن عطاء بن أبي رباح {إن الله وملائكته يصلون على النبي} قال: صلاته تبارك وتعالى سبوح قدوس, سبقت رحمتي غضبي والمقصود من هذه الاَية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين, وأن الملائكة تصلي عليه, ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه, ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعاً. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن المغيرة, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام: هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك هل يصلي ربك, فقل: نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي, فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}. وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلاً * هو الذي يصلي عليكم وملائكته} الاَية وقال تعالى: {وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم} الاَية, وفي الحديث «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف», وفي الحديث الاَخر «اللهم صل على آل أبي أوفى» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها «صلى الله عليك وعلى زوجك», وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه, وكيفية الصلاة عليه, ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسر والله المستعان. قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد, أخبرنا أبي عن مسعر عن الحكم عن ابن أبي ليلى. عن كعب بن عجرة قال: قيل يارسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه, فكيف الصلاة ؟ قال: «قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم , إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد». وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية ؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك, فكيف الصلاة ؟ فقال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على آل إبراهيم , إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد» وهذا الحديث قد أخرجه الجماعة في كتبهم من طرق متعددة عن الحكم وهو ابن عتيبة, زاد البخاري وعبد الله بن عيسى كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفه, حدثنا هشيم بن بشير عن يزيد بن أبي زياد, حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}, قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك, فكيف الصلاة عليك, قال «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيهم, إنك حميد مجيد» وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول وعلينا معهم. ورواه الترمذي بهذه الزيادة, ومعنى قولهم أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد, الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن, وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. (حديث آخر) قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف, حدثنا الليث عن ابن الهاد عن عبد الله بن خباب, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام, فكيف نصلي عليك ؟ قال «قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك, كما صليت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم» قال أبو صالح عن الليث: على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم. حدثنا إبراهيم بن حمزة, حدثنا ابن أبي حازم والداوردي عن يزيد يعني ابن الهاد قال: كما صليت على إبراهيم, وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث ابن الهاد به. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: قرأت على عبد الرحمن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرو بن سليم أنه قال: أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك ؟ قال «قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته, كما صليت على إبراهيم, وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد» وقد أخرجه بقية الجماعة سوى الترمذي من حديث مالك به. (حديث آخر) قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري قال: وعبد الله بن زيد هو الذي كان أري النداء بالصلاة, أخبره عن أبي مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة, فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله, فكيف نصلي عليك ؟ قال: فسكت رسول الله حتى تمنينا أنه لم يسأله, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على آل إبراهيم في العالمين, إنك حميد مجيد, والسلام كما قد علمتم» وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث مالك به. وقال الترمذي: حسن صحيح. وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق, عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد الله بن زي بن عبد ربه, عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا: يارسول الله أما السلام فقد عرفناه, فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا ؟ فقال «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» وذكره ورواه الشافعي رحمه الله في مسنده عن أبي هريرة بمثله, ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير, فإن تركه لم تصح صلاته, وقد شرع بعض المتأخرين من المالكية وغيرهم يشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة, ويزعم أنه قد تفرد بذلك, وحكى الإجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم فيما نقله القاضي عياض عنهم, وقد تعسف هذا القائل في رده على الشافعي, وتكلف في دعواه الإجماع في ذلك, وقال ما لم يحط به علماً, فإنا قد روينا وجوب ذلك والأمر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة, كما هو ظاهر الاَية, ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود وأبو مسعود البدري وجابر بن عبد الله, ومن التابعين: الشعبي وأبو جعفر الباقر ومقاتل بن حيان, وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضاً, وإليه ذهب الإمام أحمد أخيراً فيما حكاه عنه أبو زرعة الدمشقي به, وبه قال إسحاق بن راهوية والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي رحمهم الله, حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه, وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على آله فيما حكاه البندنيجي وسليم الرازي وصاحبه نصر بن إبراهيم المقدسي, ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولاً عن الشافعي. والصحيح أنه وجه على أن الجمهور على خلافه, وحكوا الإجماع على خلافه, وللقول بوجوبه ظواهر الحديث والله أعلم. والغرض أن الشافعي رحمه الله يقول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة سلفاً وخلفاً كما تقدم, ولله الحمد والمنة, فلا إجماع على خلافه في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً, والله أعلم. ومما يؤيد ذلك الحديث الاَخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه, والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من رواية حيوة بن شريح المصري عن أبي هانىء حميد بن هانىء عن عمرو بن مالك أبي علي الجنبي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه, ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء» وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجه من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا صلاة لمن لا وضوء له, ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه, ولا صلاة لمن لم يصل على النبي, ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار» ولكن عبد المهيمن هذا متروك وقد رواه الطبراني من رواية أخيه أبي بن عباس, ولكن في ذلك نظر, وإنما يعرف من رواية عبد المهيمن, والله أعلم. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون, أخبرنا إسماعيل عن أبي داود الأعمى عن بريدة قال: قلنا يارسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك, فكيف نصلي عليك ؟ قال «قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد, كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم, إنك حميد مجيد» أبو داود الأعمى اسمه نفيع بن الحارث, متروك. (حديث آخر) موقوف. رويناه من طريق سعيد بن منصور ويزيد بن هارون وزيد بن الحباب, ثلاثتهم عن نوح بن قيس: حدثنا سلامة الكندي أن علياً رضي الله عنه كان يعلم الناس هذا الدعاء: اللهم داحي المدحوات, وبارىء المسموكات, وجبار القلوب على فطرتها: شقيها وسعيدها, اجعل شرائف صلواتك, ونوامي بركاتك, وفضائل آلائك, على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق, والخاتم لما سبق, والمعلن الحق بالحق, والدامغ لجيشات الأباطيل, كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك, مستوفزاً في مرضاتك غير نكل في قدم, ولا واهن في عزم, واعياً لوحيك, حافظاً لعهدك, ماضياً على نفاذ أمرك حتى أورى قبساً لقابس, آلاء الله تصل بأهله أسبابه, به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم, وأبهج موضحات الأعلام, ونائرات الأحكام, ومنيرات الإسلام, فهو أمينك المأمون, وخازن علمك المخزون, وشهيدك يوم الدين, وبعيثك نعمة, ورسولك بالحق رحمة, اللهم افسح له في عدنك, واجزه مضاعفات الخير من فضلك, مهنآت غير مكدرات, من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك المجمول, اللهم أعل على بناء البانين بنيانه. وأكرم مثواه لديك ونزله, وأتمم له نوره واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة, مرضي المقالة ذا منطق عدل, وخطة فصل, وحجة وبرهان عظيم, هذا مشهور من كلام علي رضي الله عنه, وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث, وكذا أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعه في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في إسناده نظراً. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: سلامة الكندي هذا ليس بمعروف ولم يدرك علياً, كذا قال, وقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي الصائغ عن سعيد بن منصور: حدثنا نوح بن قيس عن سلامة الكندي قال: كان علي رضي الله عنه يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم داحي المدحوات, وذكره. (حديث آخر) موقوف قال ابن ماجه: حدثنا الحسين بن بيان حدثنا زياد بن عبد الله, حدثنا المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة, عن الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأحسنوا الصلاة عليه, فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه, قال: فقالوا له علمنا, قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين, وإمام المتقين,وخاتم النبيين, محمد عبدك ورسولك, إمام الخير وقائد الخير, ورسول الرحمة, اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والاَخرون, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى أل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وهذا موقوف, وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو أو عمر على الشك من الراوي قريباً من هذا. (حديث آخر) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا أبو إسرائيل عن يونس بن خباب قال: خطبنا بفارس فقال {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} فقال: أنبأني من سمع ابن عباس يقول: هكذا أنزل, فقلنا: أو قالوا يا رسول الله علمنا السلام عليك, فكيف الصلاة عليك ؟ قال «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وارحم محمداً وآل محمد, كما رحمت آل إبراهيم, إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد, كما باركت على إبراهيم, إنك حميد مجيد» فيستدل بهذا الحديث من ذهب إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم كما هو قول الجمهور, ويعضده حديث الأعرابي الذي قال: اللهم ارحمني ومحمداً, ولا ترحم معنا أحداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لقد حجرت واسعاً» وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه, قال: وأجازه أبو محمد بن أبي زيد. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, أخبرنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى علي صلاة, لم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى علي, فليقل عبد من ذلك أو ليكثر» ورواه ابن ماجه من حديث شعبة به. (حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا بندار, حدثنا محمد بن خالد بن عشمة, حدثني موسى بن يعقوب الزمعي, حدثني عبد الله بن كيسان أن عبد الله بن شداد أخبره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة» تفرد بروايته الترمذي رحمه الله, ثم قال: هذا حديث حسن غريب. (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من ربي فقال لي: ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشراً» فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله ألا أجعل نصف دعائي لك ؟ قال «إن شئت». قال: ألا أجعل ثلثي دعائي لك ؟ قال «إن شئت». قال: ألا أجعل دعائي لك كله. قال «إذن يكفيك الله هم الدنيا وهم الأخرة» فقال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان عمن أسنده: لا أدري. (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا سعيد بن سلام العطار, حدثنا سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل فيقول «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه» فقال أبي: يا رسول الله إني أصلي من الليل, أفأجعل لك ثلث صلاتي ؟ قالرسول الله صلى الله عليه وسلم «الشطر». قال: أفأجعل لك شطر صلاتي ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الثلثان».قال: أفأجعل لك صلاتي كلها ؟ قال «إِذن يغفر لك الله ذنبك كله». وقد رواه الترمذي بنحوه, فقال: حدثنا هناد, حدثنا قبيصة, حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب, عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا ذهب ثلثا الليل, قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا الله, اذكروا الله, جاءت الراجفة تتبعها الرادفة, جاء الموت بما فيه, جاء الموت بما فيه» قال أَبي: قلت يا رسول الله إِني أكثر الصلاة عليك, فكم أجعل لك من صلاتي ؟ قال «ما شئت» قلت: الربع ؟ قال «ما شئت, فإن زدت فهو خير لك» قلت: فالنصف ؟ قال «ما شئت, فإن زدت فهو خير لك». قلت فالثلثين ؟ قال: «ما شئت, فإن زدت فهو خير لك» قلت: أجعل لك صلاتي كلها ؟ قال «إِذن تكفي همك, ويغفر لك ذنبك» ثم قال: هذا حديث حسن. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله أرأيت إِن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال «إِذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك». (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ويونس هو ابن محمد, قالا: حدثنا ليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو بن أبي عمر عن أبي الحويرث, عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاتبعته حتى دخل نخلاً, فسجد فأطال السجود حتى خفت أو خشيت أن يكون قد توفاه الله أو قبضه, قال فجئت أنظر فرفع رأسه فقال «مالك يا عبد الرحمن ؟» قال فذكرت ذلك له فقال «إن جبريل عليه السلام قال لي: ألا أبشرك إن الله عز وجل يقول: من صلى عليك صليت عليه, ومن سلم عليك سلمت عليه». (طريق آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم, حدثنا سليمان بن بلال, حدثنا عمرو بن أبي عمرو بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن بن عوف قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته, فدخل فاستقبل القبلة, فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها, فدنوت منه ثم جلست, فرفع رأسه فقال: «من هذا ؟» قلت: عبد الرحمن. قال «ما شأنك ؟» قلت: يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكون الله قبض روحك فيها, فقال: «إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه, ومن سلم عليك سلمت عليه, فسجدت لله عز وجل شكراً» ورواه إِسماعيل بن إِسحاق القاضي في كتابه عن يحيى بن عبد الحميد عن الدراوردي, عن عمرو بن عبد الواحد عن أبيه, عن عبد الرحمن بن عوف به, ورواه من وجه آخر عن عبد الرحمن. (حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن بحير بن عبد الله بن معاوية بن بحير ريان, حدثنا يحيى بن أيوب , حدثني عبد الله بن عمر عن الحكم بن عتيبة عن إِبراهيم النخعي, عن الأسود بن يزيد عن عمرو بن الخطاب رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحداً يتبعه, ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه, فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً في مشربة, فتنحى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه, فقال «أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجداً فتنحيت عني, إن جبريل أتاني فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ورفعه عشر درجات» وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج على الصحيحين, وقد رواه إسماعيل القاضي عن القعنبي عن سلمة بن وردان عن أنس عن عمر بنحوه ورواه أيضاً عن يعقوب بن حميد عن أنس بن عياض عن سلمة بن وردان, عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب بنحوه. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن سليمان مولى الحسن بن علي, عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه, فقالوا: يا رسول الله إِنا لنرى السرور في وجهك, فقال «إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً, ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً, قلت: بلى» ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة به, وقد رواه إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال, عن عبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة بنحوه. (طريق أخرى) قال الإمام أحمد: حدثنا سريج, حدثنا أبو معشر عن إسحاق بن كعب بن عجرة, عن أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً طيب النفس يرى في وجهه البشر, قالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر, قال «أجل أتاني آت من ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة, كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات, ورفع له عشر درجات, ورد عليه مثلها» وهذا أيضاً إسناد جيد, ولم يخرجوه. (حديث آخر) روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف وعامر بن ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي بن كعب. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد, حدثنا شريك عن ليث عن كعب عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا علي, فإنها زكاة لكم وسلوا الله لي الوسيلة فإِنها درجة في أعلى الجنة, ولا ينالها إلا رجل, وأرجو أن أكون أنا هو» تفرد به أحمد. وقد رواه البزار من طريق مجاهد عن أبي هريرة بنحوه, فقال: حدثنا محمد بن إِسحاق البكالي, حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا داود بن علية عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي فإِنها زكاة لكم, وسلوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة» فسألناه أو أخبرنا فقال «هي درجة في أعلى الجنة, وهي لرجل, وأرجو أن أكون ذلك الرجل» في إِسناده بعض من تكلم فيه. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إِسحاق, حدثناابن لهيعة عن عبد الرحمن بن مريح الخولاني, سمعت أبا قيس مولى عمرو بن العاص, سمعت عبد الله بن عمرو يقول: من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة, فليقل عبد من ذلك أو ليكثر, وسمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع فقال «أنا محمد النبي الأمي ـ قاله ثلاث مرات ـ ولا نبي بعدي, أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه, وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش وتجوز بي, عوفيت وعوفيت أمتي, فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم, فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله, أحلوا حلاله وحرموا حرامه». (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو سلمة الخراساني, حدثنا أبو إسحاق عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من ذكرت عنده فليصل علي, ومن صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشراً» ورواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي داود الطيالسي عن أبي سلمة وهو المغيرة بن مسلم الخراساني, عن أبي إِسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي عن أنس به. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل, حدثنا يونس بن عمرو يعني يونس بن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات, وحط عنه عشر خطيئات». (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو وأبو سعيد, قالا حدثنا سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن علي بن الحسين, عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل من ذكرت عنده ثم لم يُصلّ علي» وقال أبو سعيد «فلم يصل علي» ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال, ثم قال: هذا حديث حسن غريب صحيح, ومن الرواة من جعله من مسند الحسين بن علي, ومنهم من جعله من مسند علي نفسه. (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي: حدثنا حجاج بن منهال, حدثنا حماد بن سلمة عن معبد بن بلال العنزي, حدثنا رجل من أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إِن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي». (حديث آخر) مرسل. قال إِسماعيل: وحدثنا سليمان بن حرب, حدثنا جرير بن حازم, سمعت الحسن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي». (حديث آخر) قال الترمذي: حدثنا أحمد بن إِبراهيم الدورقي, حدثنا ربعي بن إِبراهيم عن عبد الرحمن بن إِسحاق, عن سعيد بن أبي سعيد المقبري, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي, ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له, ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة» ثم قال: حسن غريب. قلت: وقد رواه البخاري في الأدب عن محمد بن عبيد الله: حدثنا ابن أبي حازم عن كثير بن زيد, عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه, ورويناه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال الترمذي: وفي الباب عن جابر وأنس. قلت: وابن عباس وكعب بن عجرة, وقد ذكرت طرق هذا الحديث في أول كتاب الصيام عند قوله: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر, وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي, ويتقوى بالحديث الاَخر الذي رواه ابن ماجه: حدثنا جبارة بن المغلس, حدثنا حماد بن زيد, حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة» جبارة ضعيف, ولكن رواه إسماعيل القاضي من غير وجه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: قال رسول الله «من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة» وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله, والله علم. وذهب آخرون إِلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة, ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس, بل تستحب, نقله الترمذي عن بعضهم, ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه, ولم يصلوا على نبيهم إِلا كان عليهم ترة يوم القيامة, فإن شاء عذبهم وإِن شاء غفر لهم» تفرد به الترمذي من هذا الوجه, ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون كلاهما عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة مرفوعاً مثله, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه. وقد رواه إسماعيل القاضي من حديث شعبة عن سليمان عن ذكوان عن أبي سعيد قال «ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم يوم القيامة حسرة وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب». وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في العمر مرة واحدة امتثالاً لأمر الاَية. ثم هي مستحبة في كل حال, وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة. قال وقد حكى الطبراني أن محمل الاَية على الندب وادعى فيه الإجماع قال ولعله فيما زاد على المرة والواجب فيه مرة كالشهادة له بالنبوة, وما زاد على ذلك فمندوب ومرغب فيه من سنن الإسلام وشعار أهله. (قلت) وهذا قول غريب, فإنه قد ورد الأمر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة, فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه. فمنه بعد النداء للصلاة للحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثنا حيوة, حدثنا كعب بن علقمة أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يقول: إنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم مؤذناً فقولوا مثلما يقول, ثم صلوا علي فإنه من صلى عليّ صلى الله عليه بها عشراً, ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إِلا لعبد من عباد الله, وأرجو أن أكون أنا هو, فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث كعب بن علقمة. (طريق أخرى) قال إِسماعيل القاضي: حدثنا محمد بن أبي بكر, حدثنا عمرو بن علي بن أبي بكر الجشمي عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله لي الوسيلة حقت عليه شفاعتي يوم القيامة». (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي, حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا سعيد بن زيد عن ليث عن كعب الأحبار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلوا علي فإِن صلاتكم علي زكاة لكم, وسلوا الله لي الوسيلة» قال: فإما حدثنا وإِما سألناه, قال «الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل, وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل» ثم رواه عن محمد بن أبي بكر عن معتمر عن ليث وهو ابن أبي سليم به, وكذا الحديث الاَخر. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن وفاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى على محمد وقال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي» وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه. (أثر آخر) ـ قال إِسماعيل القاضي: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا سفيان, حدثني معمر عن ابن طاوس عن أبيه, سمعت ابن عباس يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى وارفع درجته العليا, وأعطه سؤله في الاَخرة والأولى, كما آتيت إبراهيم وموسى عليهما السلام. إِسناد جيد قوي صحيح. ومن ذلك عند دخول المسجد والخروج منه للحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم, حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم, ثم قال: «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك, وإذا خرج صلى على محمد وسلم, ثم قال«اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك». وقال إِسماعيل القاضي: حدثنا يحيى بن عبد الحميد, حدثنا سفيان بن عمر التميمي عن سليمان الضبي عن علي بن الحسين قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة, فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد الأخير ومن ذهب إِلى ذلك من العلماء, منهم الشافعي رحمه الله وأكرمه, وأحمد, وأما التشهد الأول فلا يجب فيه قولاً واحداً وهل تستحب ؟ على قولين للشافعي, ومن ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة, فإِن السنة أن يقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب, وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, وفي الثالثة يدعو للميت, وفي الرابعة يقول اللهم لا تحرمنا أجره, ولا تفتنا بعده. قال الشافعي رحمه الله: حدثنا مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام, ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه, ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ويخلص الدعاء للجنازة , وفي التكبيرات لا يقرأ في شيء منها, ثم يسلم سراً في نفسه. ورواه النسائي عن أبي أمامة نفسه أنه قال من السنة, فذكره, وهذا من الصحابي في حكم المرفوع على الصحيح. ورواه إسماعيل القاضي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن المسيب أنه قال: السنة في الصلاة على الجنازة, فذكره. وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عمر والشعبي, ومن ذلك في صلاة العيد قال إِسماعيل القاضي: حدثنا مسلم بن إِبراهيم, حدثنا هشام الدستوائي, حدثنا حماد بن أبي سليمان عن إِبراهيم عن علقمة أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة, خرج عليهم الوليد بن عقبة يوماً قبل العيد فقال لهم: إِن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه ؟ قال عبد الله: تبدأ فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك, وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك, ثم تكبر وتفعل مثل ذلك, ثم تكبر وتفعل مثل ذلك, ثم تقرأ ثم تكبر وتركع, ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تركع, فقال حذيفة وأبو موسى: صدق أبو عبد الرحمن, إِسناد صحيح. ومن ذلك أنه يستحب ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي: حدثنا أبو داود, حدثنا النضر بن شميل عن أبي قرة الأسدي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك. وكذا رواه أيوب بن موسى عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب. ورواه معاذ بن الحارث عن أبي قرة عن سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعاً, وكذا رواه رزين بن معاوية في كتابه مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى علي, فلا تجعلوني كغمر الراكب, صلوا علي أول الدعاء وآخره وأوسطه» وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الإمام عبد بن حميد الكشي حيث قال: حدثنا جعفر بن عون, أخبرنا موسى بن عبيدة عن إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم عن أبيه قال: قال جابر: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوني كقدح الراكب إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء, فإذا كان له حاجة في الوضوء توضأ, وإِن كان له حاجة في الشرب شرب وإِلا أهرق ما فيه, اجعلوني في أول الدعاء وفي وسط الدعاء وفي آخر الدعاء» وهذا حديث غريب, وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث. ومن آكد ذلك دعاء القنوت لما رواه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي الجوزاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقني شر ما قضيت, فإنك تقضي ولا يقضى عليك, وإِنه لا يذل من واليت, ولا يعز من عاديت, تباركت ربنا وتعاليت, وزاد النسائي في سننه بعد هذا وصلى الله على محمد. ومن ذلك أنه يستحب الإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة وليلة الجمعة. قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي الأشعث الصنعاني عن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أفضل أيامكم يوم الجمعة, فيه خلق آدم وفيه قبض, وفيه النفخة, وفيه الصعقة, فأكثروا علي من الصلاة فيه, فإِن صلاتكم معروضة علي» قالوا: يا رسول الله, وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت ؟ يعني وقد بليت, قال: «إِن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث حسين بن علي الجعفي, وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والنووي في الأذكار. (حديث آخر) قال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا عمرو بن سواد المصري, حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال, عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة, فإنه مشهود تشهده الملائكة, وإِن أَحداً لا يصلي علي فيه إِلا عرضت علي صلاته حتى يفرغ منها» قال: قلت وبعد الموت ؟ «قال إِن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق» هذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع بين عبادة بن نسي وأبي الدرداء فإنه لم يدركه, والله أعلم. وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم الجمعة, ولكن في إِسنادهما ضعف, والله أعلم. وروي مرسلاً عن الحسن البصري يقول: قال إِسماعيل القاضي: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا جرير بن حازم, سمعت الحسن البصري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تأكل الأرض جسد من كلمه روح القدس» مرسل حسن, وقال القاضي وقال الشافعي: أخبرنا إِبراهيم بن محمد, أخبرنا صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة, فأكثروا الصلاة علي» هذا مرسل, وهكذا يجب على الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين, ولا تصح الخطبتان إلا بذلك لأنها عبادة, وذكر الله شرط فيها فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالأذان والصلاة, هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله. ومن ذلك أنه يستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: حدثنا ابن عوف هو محمد حدثنا المقري, حدثنا حيوة عن أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مامنكم من أحد يسلم علي إِلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» تفرد به أبو داود وصححه النووي في الأذكار: ثم قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح قال: قرأت على عبد الله بن نافع, أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً, ولا تجعلوا قبري عيداً, وصلوا علي, فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم» تفرد به أبو داود أيضاً. وقد رواه الإمام أحمد عن سريج عن عبد الله بن نافع وهو الصائغ به, وصححه النووي أيضاً. وقد روي من وجه آخر متصلاً قال القاضي إِسماعيل بن إِسحاق في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس, حدثنا جعفر بن إِبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بيته, عن علي بن الحسين بن علي أن رجلاً كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن الحسين, فقال له علي بن الحسين: ما يحملك على هذا ؟ قال: أحب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثاً عن أبي ؟ قال: نعم: قال له علي بن الحسين: أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاتجعلوا قبري عيداً, ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وصلوا علي وسلموا حيثماكنتم, فتبلغني صلاتكم وسلامكم» في إسناده رجل مبهم لم يسم, وقد روي من وجه آخر مرسلاً قال عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل, عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوماً عند القبر فنهاهم وقال: إِن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتخذوا قبري عيداً, ولا تتخذوا بيوتكم قبوراً, وصلوا علي حيثما كنتم, فإن صلاتكم تبلغني» فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة فنهاهم. وقد روي أنه رأى رجلاً ينتاب القبر فقال: يا هذا ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء, أي الجميع يبلغه صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. وقال الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أحمد بن رشدين المصري, حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا محمد بن جعفر, أخبرني حميد بن أبي زينب عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا علي حيثما كنتم, فإن صلاتكم تبلغني» ثم قال الطبراني: حدثنا العباس بن حمدان الأصبهاني, حدثنا شعيب بن عبد الحميد الطحان, أخبرنا يزيد بن هارون بن أبي شيبان عن الحكم بن عبد الله بن خطاب عن أم أنيس بنت الحسن بن علي عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أرأيت قول الله عز وجل {إِن الله وملائكته يصلون على النبي} ـ فقال ـ «إن هذا من المكتوم, ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم, إِن الله عز وجل وكل بي ملكين لا أذكر عند عبد مسلم فيصلي علي إِلا قال ذانك الملكان غفر الله لك, وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين: آمين, ولا يصلي علي أحد إِلا قال ذانك الملكان: غفر الله لك, ويقول الله وملائكته جواباً لذينك الملكين: آمين» غريب جداً, وإِسناده به ضعف شديد. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب, عن زاذان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إِن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري وسليمان بن مهران الأعمش كلاهما عن عبد الله بن السائب به. فأما الحديث الاَخر «من صلى علي عند قبري سمعته, ومن صلى علي من بعيد بلغته» ففي إِسناده نظر تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً. قال أصحابنا: ويستحب للمحرم إِذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: كان يؤمر الرجل إِذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال, وقال إسماعيل القاضي: حدثنا عارم بن الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك, حدثنا زكريا عن الشعبي عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إِذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعاً وصلوا عند المقام ركعتين, ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون البيت فكبروا سبع مرات تكبيراً بين حمد الله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة لنفسك, وعلى المروة مثل ذلك, إسناد جيد حسن قوي, قالوا: ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح, واستأنسوا بقوله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} قال بعض المفسرين: يقول الله تعالى: لا أذكر إلا ذكرت معي, وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا: هذا موطن يفرد فيه ذكر الله تعالى كما عند الأكل والدخول والوقاع وغير ذلك مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. (حديث آخر) قال إِسماعيل القاضي: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي, حدثنا عمرو بن هارون عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت, عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني», في إسناده ضعيفان, وهما عمرو بن هارون وشيخه, والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيدة الربذي به, ومن ذلك أنه يستحب الصلاة عليه عند طنين الأذن إِن صح الخبر في ذلك على أن الإمام أبا بكر محمد بن إِسحاق بن خزيمة قد رواه في صحيحه فقال: حدثنا زياد بن يحيى, حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله عن علي بن أبي رافع عن أبيه عن أبي رافع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل ذكر الله من ذكرني بخير», إِسناده غريب, وفي ثبوته نظر, والله علم. (مسألة) وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه, وقد ورد في الحديث من طريق كادح بن رحمة عن نهشل عن الضحاك, عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب» وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة وقد روي من حديث أبي هريرة ولا يصح أيضاً, قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخنا أحسبه موضوعاً, وقد روي نحوه عن أبي بكر وابن عباس ولا يصح من ذلك شيء والله أعلم. وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه(الجامع لاَداب الراوي والسامع) قال: رأيت بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كثيراً ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة قال: وبلغني أنه كان يصلي عليه لفظاً. (فصل) وأما الصلاة على غير الأنبياء فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث اللهم صل على محمد وآله وأزواجه وذريته, فهذا جائز بالإجماع وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم فقال قائلون: يجوز ذلك, واحتجوا بقول الله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته}, وبقوله: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة}, وبقوله: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم} الاَية, وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال «اللهم صل على آل أبي أوفى» أخرجاه في الصحيحين, وبحديث جابر أن امرأته قالت يا رسول الله صل علي وعلى زوجي, فقال«صلى الله عليك وعلى زوجك» قال الجمهور من العلماء لا يجوز إِفراد غير الأنبياء بالصلاة لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء إذ ذكروا, فلا يلحق بهم غيرهم فلا يقال: قال أبو بكر صلى الله عليه أو قال علي صلى الله عليه, وإِن كان المعنى صحيحاً, كما لا يقال: قال محمد عز وجل, وإِن كان عزيزاً جليلاً لأن هذا من شعار ذكر الله عز وجل وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء لهم, ولهذا لم يثبت شعاراً لاَل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته, وهذا مسلك حسن. وقال آخرون: لا يجوز ذلك لأن الصلاة على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء, يصلون على من يعتقدون فيهم, فلا يقتدى بهم في ذلك والله أعلم, ثم اختلف المانعون من ذلك: هل هو من باب التحريم أو الكراهة التنزيهية أو خلاف الأولى ؟ على ثلاثة أقوال, حكاه الشيخ أبوزكريا النووي في كتاب الأذكار. ثم قال: والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع وقد نهينا عن شعارهم, والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود. قال أصحابنا والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء, كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله تعالى فكما لا يقال محمد عز وجل وإِن كان عزيزاً جليلاً لا يقال أبو بكر أو علي صلى الله عليه, هذا لفظ بحروفه, قال: وأما السلام ؟ فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات, وأما الحاضر فيخاطب به فيقال: سلام عليك, وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم, وهذا مجمع عليه انتهى ما ذكره (قلت) وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن ينفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه, وهذا وإِن كان معناه صحيحاً, لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإِن هذا من باب التعظيم والتكريم, فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين. قال إِسماعيل القاضي حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب بن زياد حدثني عثمان بن حكيم بن عبادة بن حنيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا تصح الصلاة على أحد إِلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة, وقال أيضاً حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن عبد العزبز رحمه الله: أما بعد فإِن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الاَخرة, وإِن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإِذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك. أثر حسن. قال إِسماعيل القاضي حدثنا معاذ بن أسد حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعباً دخل على عائشة رضي الله عنها فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كعب: ما من فجر يطلع إِلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألفاً بالليل وسبعون ألفاً بالنهار حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفونه. (فرع) قال النووي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول: صلى الله عليه فقط ولا عليه السلام فقط, وهذا الذي قاله منتزع من هذه الاَية الكريمة وهي قوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليماً. ** إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأَعَدّ لَهُمْ عَذَاباً مّهِيناً * وَالّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مّبِيناً يقول تعالى متهدداً ومتوعداً من آذاه بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإِصراره على ذلك وإِيذاء رسوله بعيب أو بنقص ـ عياذاً بالله من ذلك ـ قال عكرمة في قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} نزلت في المصورين . وفي الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره» ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون يا خيبة الدهر فعل بنا كذا وكذا فيسندون أفعال الله وتعالى إلى الدهر ويسبونه وإنما الفاعل لذلك هو الله عز وجل فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء رحمهم الله. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب. والظاهر أن الاَية عامة في كل من آذاه بشيء ومن آذاه فقدآذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله كما قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا إبراهيم بن سعد عن عبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم, ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم, ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله, ومن آذى الله يوشك أن يأخذه وقد رواه الترمذي من حديث عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل به, ثم قال وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقوله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه {فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم, ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسو القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين. وقال أبو داود حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال: «ذكرك أخاك بما يكره» قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» وهكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به ثم قال حسن صحيح, وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن هشام عن عمار بن أنس عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه «أي الربا أربى عند الله ؟» قالوا الله ورسوله أعلم قال «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم» ثم قرأ {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً}. ** يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً * لّئِن لّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنّكَ بِهِمْ ثُمّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاّ قَلِيلاً * مّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوَاْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً * سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً أن يأمر النساء المؤمنات ـ خاصة أزواجه وبناته لشرفهن ـ بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء, والجلباب هو الرداء فوق الخمار, قاله ابن مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم. قال الجوهري: الجلباب الملحفة, قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها: تمشي النسور إليه وهي لاهيةمشي العذارى عليهن الجلابيب قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة, وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يدنين عليهن من جلابيبهن} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وقال عكرمة تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الطهراني فيما كتب إليّ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خيثم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الاَية {يدنين عليهن من جلابيبهن} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثنا يونس بن يزيد قال وسألناه يعني الزهري هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة ؟ قال عليها الخمار إن كانت متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}, وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة وإنما نهى عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن واستدل بقوله تعالى: {ونساء المؤمنين} وقوله: {ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر, لسن بإماء ولا عواهر. قال السدي في قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} قال كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلظ الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن, فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها, وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها, وقال مجاهد يتجلببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة. وقوله تعالى: {وكان الله غقوراً رحيماً} أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك, ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر {والذين في قلوبهم مرض} قال عكرمة وغيره هم الزناة ههنا {والمرجفون في المدنية} يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب وهو كذب وافتراء لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق {لنغرينك بهم} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لنسلطنك عليهم. وقال قتادة لنحرشنك بهم, وقال السدي لنعلمنك بهم {ثم لا يجاورونك فيها} أي في المدينة {إلا قليلاً * ملعونين} حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين {أينما ثقفوا} أي وجدوا {أخذوا} لذلتهم وقلتهم {وقتلوا تقتيلاً} ثم قال تعالى: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} أي وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير. ** يَسْأَلُكَ النّاسُ عَنِ السّاعَةِ قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّ السّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً * إِنّ اللّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ يَقُولُونَ يَلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللّهَ وَأَطَعْنَا الرّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبّنَآ إِنّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلّونَا السّبِيلاْ * رَبّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك, وأرشده أن يرد علمها إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية وهذه مدنية فاستمر الحال في رد علمها إلى الذي يقيمها لكن أخبره أنها قريبة بقوله: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} كما قال تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} وقال: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} وقال: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} ثم قال: {إن الله لعن الكافرين} أي أبعدهم من رحمته {وأعد لهم سعيراً} أي في الدار الاَخرة {خالدين فيها أبداً} أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها {لا يجدون ولياً ولا نصيراً} أي وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه ثم قال: {يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا} أي يسحبون في النار على وجوههم وتلوى وجوههم على جهنم يقولون وهم كذلك يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً} وقال تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا} وقال طاوس, سادتنا يعني الأشراف وكبراءنا يعني العلماء, رواه ابن أبي حاتم أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئاً وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء {ربنا آتهم ضعفين من العذاب} أي بكفرهم وإغوائهم إيانا {والعنهم لعناً كبيراً} قرأ بعض القراء بالباء الموحدة, وقرأ آخرون بالثاء المثلثة وهما قريبا المعنى كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً, ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» أخرجاه في الصحيحين, يروى كثيراً وكبيراً وكلاهما بمعنى صحيح واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه وفي ذلك نظر, بل الأولى أن يقول هذا تارة وهذا تارة كما أن القارىء مخير بين القراءتين أيهما قرأ فَحَسَن وليس له الجمع بينهما, والله أعلم. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة, حدثنا ضرار بن صرد, حدثنا علي بن هاشم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في تسمية من شهد مع علي رضي الله عنه الحجاج بن عمرو بن غزية وهو الذي كان يقول عند اللقاء يامعشر الأنصار أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا* ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً ؟».) ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىَ فَبرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللّهِ وَجِيهاً قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا عوف عن الحسن ومحمد وخلاس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن موسى كان رجلاً حيياً وذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} هكذا أورد هذا الحديث ههنا مختصراً جداً وقد رواه في أحاديث الأنبياء بهذا السند بعينه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يتستر هذ التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة. وإن الله عز وجل أراد أن يبرئة مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ـ قال ـ فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} وهذا سياق حسن مطول وهذا الحديث من إفراد البخاري دون مسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا روح, حدثنا عوف عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخلاس ومحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الاَية {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً} قال: قال رسول الله: «إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يكاد يرى من جلده شيء استحياء منه.» ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولاً ورواه عنه في تفسيره عن روح عن عوف به. ورواه ابن جرير من حديث الثوري عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا. وهكذا رواه من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس في قوله: {لا تكونوا كالذين آذوا موسى} قال: قال قومه له إنك آدر فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشد بثيابه وخرج يتبعها عرياناً حتى انتهب به مجالس بني إسرائيل فرأوه ليس بآدر فذلك قوله: {فبرأه الله مما قالوا} وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما سواء. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الاَدمي قالا: حدثنا يحيى بن حماد, حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «كان موسى عليه السلام رجلاً حيياً وإنه أتى ـ أحسبه قال الماء ـ ليغتسل فوضع ثيابه على صخرة وكان لا يكاد تبدو عورته فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أو به آفة ـ يعنون أنه لا يضع ثيابه ـ فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل, فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال ـ أو كما قال ـ فذلك قوله: {فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً}. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سعيد بن سليمان, حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في قوله: {فبرأه الله مما قالوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون عليه السلام فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حياء فآذوه من ذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجالس بني إسرائيل فتكلمت بموته فما عرف موضع قبره إلا الرخم وإن الله جعله أصم أبكم وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن موسى الطوسي عن عباد بن العوام به ثم قال وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى وجائز أن يكون الأول هو المراد فلا قول أولى من قول الله عز وجل (قلت) يحتمل أن يكون الكل مراداً وأن يكون معه غيره, والله أعلم. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله قال: فقلت ياعدو الله أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه ثم قال «رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش به. (طريق أخرى) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج, سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني عن زيد بن زائدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه, قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الاَخرة, قال: فتثبت حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إنك قلت لنا «لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئاً» وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا, فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال «دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر». وقد رواه أبو داود في الأدب عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل عن الوليد بن أبي هشام به مختصراً «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» وكذا رواه الترمذي في المناقب عن الذهلي سواء إلا أنه قال زيد بن زائدة, ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هشام به مختصراً أيضاً فزاد في إسناده السدي, ثم قال غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى: {وكان عند الله وجيهاً} اي له وجاهة وجاه عند ربه عز وجل. قال الحسن البصري كان مستجاب الدعوة عند الله, وقال غيره من السلف لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه, ولكن منع الرؤية لما يشاء عز وجل. وقال بعضهم من وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً}. ** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا {قولاً سديداً} أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها ثم قال تعالى: {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عوف, حدثنا خالد عن ليث عن أبي بردة, عن أبي موسى الأشعري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر, فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال: «إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً» ثم أتى النساء فقال: «إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولاً سديداً». وقال ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى حدثنا محمد بن عباد بن موسى, حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري حدثنا عيسى بن سمرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا سمعته يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً} الاَية, غريب جداً, وروى من حديث عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن محمد بن كعب عن ابن عباس موقوفاً: من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله, قال عكرمة القول السديد لا إله إلا الله وقال غيره السديد الصدق وقال مجاهد, هو السداد. وقال غيره: هو الصواب والكل حق. ** إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً * لّيُعَذّبَ اللّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لاَدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها ؟ قال: يا رب وما فيها ؟ قال: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى, {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض, عرضها الله على السموات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك, وأشفقوا عليه من غير معصية, ولكن تعظيما لدين الله أن لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} يعني غراً بأمر الله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في هذه الاَية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} قال: عرضت على آدم, فقال: خذها بما فيها, فإن أطعت غفرت لك, وإن عصيت عذبتك, قال: قبلت فما كان إلا مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة, وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريباً من هذا, وفيه نظر وانقطاع بين الضحاك وبينه, والله أعلم. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض, وقال آخرون: هي الطاعة, وقال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبي بن كعب: من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها. وقال قتادة: الأمانة الدين والفرائض والحدود, وقال بعضهم الغسل من الجنابة, وقال مالك عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثة: الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو أنه إن قام بذلك أثيب وإن تركها عوقب فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري, حدثنا حماد بن واقد, يعني أبا عمر الصفار سمعت أبا معمر يعني عون بن معمر يحدث عن الحسن, يعني البصري أنه تلا هذه الاَية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} قال عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم, وحملة العرش العظيم, فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد, التي شدت بالأوتاد, وذللت بالمهاد, قال: فقيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت, قالت: لا ثم عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب, قال قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها ؟ قالت: وما فيها ؟ قال لها: إن أحسنت جزيت, وإن أسأت عوقبت قالت: لا. وقال مقاتل بن حيان إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسموات والأرض والجبال فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة, وهي الطاعة, فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة, ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة ؟ فقلن: يا رب إنا لانستطيع هذا الأمر وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون, ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني, وأعطيكن الفضل والكرامة في الدنيا ؟ فقلن: لا صبر لنا على هذا يا رب, ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شيء أمرتنا به. ثم قرب آدم فقال له: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها ؟ فقال عند ذلك آدم: مالي عندك ؟ قال: يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة, فلك عندي الكرامة والفضل, وحسن الثواب في الجنة, وإن عصيت, ولم ترعها حق رعاتها, وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار, قال: رضيت يا رب, وأتحملها, فقال الله عز وجل عند ذلك قد حملتكها فذلك قوله تعالى: {وحملها الإنسان} رواه ابن أبي حاتم. وعن مجاهد أنه قال: عرضها على السموات فقالت: يا رب حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة. قال: وعرضها على الأرض فقالت: يا رب غرست في الأشجار وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر وما أريد ثواباً ولا أحمل فريضة, وقالت الجبال مثل ذلك قال الله تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} في عاقبة أمره, وهكذا قال ابن جريج. وعن ابن أشوع أنه قال: لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ضججن إلى الله ثلاثة أيام ولياليهن, وقلن: ربنا لا طاقة لنا بالعمل ولا نريد الثواب. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الموصلي, حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذه الاَية {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض} الاَية, قال الإنسان بين أذني وعاتقي, فقال الله عز وجل: إني معينك عليها, إني معينك على عينيك بطبقتين, فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على لسانك بطبقتين, فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق, ومعينك على فرجك بلباس فلا تكشفه إلى ما أكره. ثم روي عن أبي حازم نحو هذا. وقال ابن جرير: حدثنا يونس, حدثناء ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} الاَية, قال: إن الله تعالى عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ويجعل لهن ثواباً وعقاباً, ويستأمنهن على الدين, فقلن لا, نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً, قال: وعرض الله تبارك وتعالى على آدم فقال: بين أذني وعاتقي, قال ابن زيد: قال الله تعالى له: أما إذا تحملت هذا فسأعينك, أجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل لك, فأرخ عليه حجابه واجعل للسانك باباً وغلقاً, فإذا خشيت فأغلق, وأجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني, حدثنا بقية, حدثنا عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه, وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به, فمنهم رسول الله, ومنهم نبي , ومنهم نبي رسول, ونزل القرآن وهو كلام الله, وأنزلت العجمية والعربية, فعلموا أمر القرآن, وعلموا أمر السنن بألسنتهم, ولم يدع الله تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم, فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح, ثم الأمانة أول شيء يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس, ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم وتبقى الكتب, فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها, حتى وصل إليّ وإلى أمتي, ولا يهلك على الله إلا هالك, ولا يغفله إلا تارك, فالحذر أيها الناس, وإياكم والوسواس الخناس, فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً» هذا حديث غريب جداً, وله شواهد من وجوه أخرى. ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني, حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي, حدثنا أبو العوام القطان, حدثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن, وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها ـ وكان يقول ـ وايم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة». قالوا: يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة ؟ قال رضي الله عنه: الغسل من الجنابة, فإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيره, وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن عبد الرحمن العنبري, عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي, عن أبي العوام عمران بن داود القطان به. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا تميم بن المنتصر, أخبرنا إسحاق عن شريك عن الأعمش, عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ـ أو قال ـ يكفر كل شيء إلا الأمانة, يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يارب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقال له: أد أمانتك, فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمه الهاوية, فيذهب به إلى الهاوية, فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها, فيحملها فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم, حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الاَبدين» قال: والأمانة في الصلاة, والأمانة في الصوم والأمانة في الوضوء, والأمانة في الحديث, وأشد ذلك الودائع, فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله ؟ فقال: صدق. وقال شريك: وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, ولم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شيء, إسناده جيد, ولم يخرجوه. ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد. حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاَخر, حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال, ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه, فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك, تراه منتبراً وليس فيه شيء ـ قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال ـ فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلاً أميناً, حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان, ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنه علي دينه, وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه علي ساعيه, فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا. حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة» هكذا رواه الإمام أحمد في مسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما, وقد قال الطبراني في مسنده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما, حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري, حدثنا سعيد بن أبي مريم, حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة, وصدق حديث, وحسن خليقة, وعفة طعمة» فزاد في الإسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما. وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة, قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: حدثنا شريك عن أبي إسحاق الشيباني عن خناس بن سحيم أو قال: جبلة بن سحيم, قال: أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي لا والأمانة, فجعل زياد يبكي ويبكي فظننت أني أتيت أمراً عظيماً, فقلت له: أكان يكره هذا ؟ قال: نعم, كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي, وقد ورد في ذلك حديث مرفوع قال أبو داود: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس, حدثنا زهير, حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة فليس منا» تفرد به أبو داود رحمه الله. وقوله تعالى: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي إنما حمل بني آدم الأمانة وهي التكاليف, ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات, وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله {والمشركين والمشركات} وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله {ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات} أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته {وكان الله غفوراً رحيماً}. آخر تفسير سورة الأحزاب ولله الحمد والمنة. سورة سبأ وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرّحِيمُ الْغَفُورُ يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والاَخرة, لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والاَخرة, المالك لجميع ذلك, الحاكم في جميع ذلك, كما قال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والاَخرة وله الحكم وإليه ترجعون} ولهذا قال تعالى ههنا: {الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض} أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره, كما قال تعالى: {وإن لنا للاَخرة والأولى}, ثم قال عز وجل: {وله الحمد في الاَخرة} فهو المعبود أبداً, المحمود على طول المدى. وقوله تعالى: {هو الحكيم} أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره {الخبير} الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء, وقال مالك عن الزهري: خبير بخلقه, حكيم بأمره, ولهذا قال عز وجل: {يعلم ما يلج في)الأرض وما يخرج منها} أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض, والحب المبذور, والكامن فيها, ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته {وما ينزل من السماء} أي من قطر ورزق, وما يعرج فيها, أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك, {وهو الرحيم الغفور} أي الرحيم بعباده, فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة, الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ * لّيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ مّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالّذِينَ سَعَوْا فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ * وَيَرَى الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ هُوَ الْحَقّ وَيَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ هذه إحدى الاَيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقع: المعاد, لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد, فإحداهن في سورة يونس عليه السلام, وهي قوله تعالى: {ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين} والثانية هذه {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}, والثالثة في سورة التغابن, وهي قوله تعالى: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير} فقال تعالى: {قل بلى وربي لتأتينكم} ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره, فقال: {عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قال مجاهد وقتادة: لا يعزب عنه لا يغيب عنه, أي الجميع مندرج تحت علمه, فلا يخفى عليه شيء, فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت, فهو عالم أين ذهبت , أين تفرقت, ثم يعيدها كما بدأها أول مرة, فإنه بكل شيء عليم. ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة, بقوله تعالى: {ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا في آياتنا معاجزين} أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله, {أولئك لهم عذاب من رجز أليم} أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين, كما قال عز وجل: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} وقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}. وقوله تعالى: {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق} هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها, وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا, رأوه حينئذ عين اليقين, ويقولون يؤمئذ أيضاً {لقد جاءت رسل ربنا بالحق} يقال أيضاً {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} {لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث} {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع, بل قد قهر كل شيء وغلبه, الحميد, في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا. ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلّكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنّةٌ بَلِ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضّلاَلِ الْبَعِيدِ * أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ إِن نّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السّمَآءِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مّنِيبٍ هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة, واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق} أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق {إنكم} أي بعد هذا الحال {لفي خلق جديد} أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك, وهو في هذا الإخبار لا يخلو أمره من قسمين: إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحي إليه ذلك, أو أنه لم يتعمد, لكن لبس عليه كما يلبس على المعتوه والمجنون, ولهذا قالوا: {أفترى على الله كذباً أم به جنة} قال الله عز وجل راداً عليهم {بل الذين لا يؤمنون بالاَخرة في العذاب والضلال البعيد} أي ليس الأمر كما زعموا, ولا كما ذهبوا إليه, بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد, الذي جاء بالحق, وهم الكذبة الجهلة الأغبياء {في العذاب} أي: الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى {والضلال البعيد} من الحق في الدنيا, ثم قال تعالى منبهاً لهم على قدرته في خلق السموات والأرض, فقال تعالى: {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض} أي حيثما توجهوا وذهبوا, فالسماء مطلة عليهم, والأرض تحتهم, كما قال عز وجل : {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم الماهدون}. قال عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة {أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض} قال: إنك إن نظرت عن يمينك, أو عن شمالك, أو من بين يديك, أو من خلفك, رأيت السماء والأرض. وقوله تعالى: {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء} أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم, ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا, ثم قال: {إن في ذلك لاَية لكل عبد منيب} قال معمر عن قتادة: {منيب} تائب. وقال سفيان عن قتادة: المنيب المقبل إلى الله تعالى, أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله, على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد, لأن من قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها, وهذه الأرضين في انخفاضها, وأطوالها وأعراضها, إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام, كما قال تعالى: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} وقال تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. ** وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنّا فَضْلاً يَجِبَالُ أَوّبِي مَعَهُ وَالطّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِي السّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين, وجمع له بين النبوة والملك المتمكن, والجنود ذوي العدد والعدد, وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم, الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات, الصم الشامخات, وتقف له الطيور السارحات, والغاديات, والرائحات, وتجاوبه بأنواع اللغات. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل, فوقف فاستمع لقراءته, ثم قال صلى الله عليه وسلم «لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود» وقال أبو عثمان النهدي: ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه, ومعنى قوله تعالى: {أوبي} أي سبحي, قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد, وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة, وفي هذا نظر, فإن التأويب في اللغة هو الترجيع, فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها. وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه ـ الجمل ـ في باب النداء منه {ياجبال أوبي معه} أي سيري معه بالنهار كله, والتأويب سير النهار كله, والإسآد سير الليل كله, وهذا لفظه, وهو غريب جداً لم أره لغيره, وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة, لكنه بعيد في معنى الاَية ههنا, والصواب أن المعنى في قوله تعالى: {أوبي معه} أي رجعي مسبحة معه كما تقدم, والله أعلم. وقوله تعالى: {وألنا له الحديد} قال الحسن البصري وقتادة والأعمش وغيرهم: كان لا يحتاج أن يدخله ناراً ولا يضربه بمطرقة, بل كان يفتله بيده مثل الخيوط, ولهذا قال تعالى: {أن اعمل سابغات} وهي الدروع قال قتادة, وهو أول من عملها من الخلق, وإنما كانت قبل ذلك صفائح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلاف درهم, ألفين له, ولأهله, وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري {وقدر في السرد} هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع وقال مجاهد في قوله تعالى: {وقدر في السرد} لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة, ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر, وقال الحكم بن عيينة: لا تغلظه فيقصم, ولا تدقه فيقلق, وهكذا روي عن قتادة وغير واحد, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السرد حلق الحديد. وقال بعضهم: يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق, واستشهد بقول الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهماداود أو صنع السوابغ تبع وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر, وفيه كلام, عن أبي إلياس عن وهب بن منبه ما مضمونه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً, فيسأل الركبان عنه وعن سيرته, فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام. قال وهب: حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل, فلقيه داود عليه الصلاة والسلام فسأله كما كان يسأل غيره, فقال: هو خير الناس لنفسه ولأمته, إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملاً. قال: ما هي قال: يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين, يعني بيت المال, فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عز وجل في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله, فألان الله عز وجل له الحديد, وعلمه صنعة الدروع, فعمل الدروع, وهو أول من عملها, فقال الله تعالى: {أن اعمل سابغات وقدر في السرد} يعني مسامير الحلق, قال: وكان يعمل الدرع, فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها, واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله, وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها, وقال: إن الله أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت, إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر, وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج, إلا على أصناف صوته عليه السلام, وكان شديد الاجتهاد, وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير,وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه. وقوله تعالى: {واعملوا صالحاً} أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم {إني بما تعملون بصير} أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم, لا يخفى علي من ذلك شيء. ** وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ اعْمَلُوَاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِيَ الشّكُورُ لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود, عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام من تسخير الريح له, تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر. قال الحسن البصري: كان يغدو على بساطه من دمشق, فينزل باصطخر يتغذى بها ويذهب رائحاً من اصطخر فيبيت بكابل, وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع وبين اصطخر وكابل شهر كامل للمسرع. وقوله تعالى: {وأسلنا له عين القطر} قال ابن عباس رضي لله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم, وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد: القطر النحاس. قال قتادة: وكانت باليمن, فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام قال السدي: وإنما أسيلت له ثلاثة أيام. وقوله تعالى: {ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه} أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه. أي بقدره وتسخيره لهم بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك {ومن يزغ منهم عن أمرنا} أي ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة {نذقه من عذاب السعير} وهو الحريق. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً, فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح, حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير, عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجن على ثلاثة أصناف: صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء, وصنف حيات وكلاب, وصنف يحلون ويظعنون» رفعه غريب جداً. وقال أيضاً: حدثناأبي, حدثنا حرملة, حدثنا ابن وهب, أخبرني بكر بن مضر عن محمد بن بحير عن ابن أنعم أنه قال: الجن ثلاثة أصناف: صنف لهم الثواب وعليهم العقاب, وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض, وصنف حيات وكلاب. قال بكر بن مضر: ولا أعلم إلا أنه قال: حدثني أن الإنس ثلاثة أصناف: صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة, وصنف كالأنعام بل هم أضل سبيلاً, وصنف في صورة الناس على قلوب الشياطين. وقال أيضاً: حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق, حدثنا سلمة يعني ابن الفضل عن إسماعيل عن الحسن قال: الجن ولد إبليس, والإنس ولد آدم, ومن هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون, وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب, ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمناً, فهو ولي الله تعالى, ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافراً فهو شيطان. وقوله تعالى: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل} أما المحاريب فهي البناء الحسن, وهو أشرف شيء في المسكن وصدره. وقال مجاهد: المحاريب بنيان دون القصور. وقال الضحاك: هي المساجد, وقال قتادة: هي القصور والمساجد. وقال ابن زيد: هي ا لمساكن. وأما التماثيل, فقال عطية العوفي والضحاك والسدي: التماثيل الصور. قال مجاهد: وكانت من نحاس. وقال قتادة: من طين وزجاج. وقوله تعالى: {وجفان كالجواب وقدور راسيات} الجواب جمع جابية, وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء, كما قال الأعشى ميمون بن قيس: تروح على آل المحلق جفنةكجابية الشيخ العراقي تفهق وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {كالجواب} أي كالجوبة من الأرض. وقال العوفي عنه كالحياض, وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم. والقدور الراسيات, أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها, كذا قال مجاهد والضحاك وغيرهما. وقال عكرمة: أثافيها منها. وقوله تعالى: {اعملوا آل داود شكراً} أي وقلنا لهم: اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا, وشكراً مصدر من غير الفعل, أو أنه مفعول له, وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية, كما قال الشاعر: أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا قال أبو عبد الرحمن الحبلي: الصلاة شكر والصيام شكر, وكل خير تعمله لله عز وجل شكر, وأفضل الشكر الحمد, رواه ابن جرير, وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح, وهذا لمن هو متلبس بالفعل, وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عبد الله بن أبي بكر, حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن ثابت البناني, قال: كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة, فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي, فغمرتهم هذه الاَية {اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور} وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود, كان ينام نصف الليل, ويقوم ثلثه, وينام سدسه, وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود, كان يصوم يوماً ويفطر يوماً, ولا يفر إذا لاقى». وقد روى أبو عبد الله بن ماجه من حديث سنيد بن داود: حدثنا يوسف بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام, لسليمان, يابني لا تكثر النوم بالليل, فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة» وروى ابن أبي حاتم عن داود عليه الصلاة والسلام ههنا أثراً غريباً مطولاً جداً وقال أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا عمران بن موسى, حدثنا أبو زيد فيض بن إسحاق الرقي قال: قال فضيل في قوله تعالى: {اعملوا آل داود شكراً} قال داود: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك ؟ قال «الاَن شكرتني حين قلت إن النعمة مني». وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} إخبار عن الواقع. ** فَلَمّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلّهُمْ عَلَىَ مَوْتِهِ إِلاّ دَابّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الْجِنّ أَن لّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام, وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة, فإنه مكث متوكئاً على عصاه, وهي منسأته, كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد: مدة طويلة نحواً من سنة, فلما أكلتها دابة الأرض, وهي الأرضة, ضعفت وسقطت إلى الأرض, وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة. وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب وفي صحته نظر. قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منصور, حدثنا موسى بن مسعود, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن السائب عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان نبي الله سليمان عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه, فيقول لها: ما اسمك ؟ فتقول كذا, فيقول: لأي شيء أنت ؟ فإن كانت تغرس غرست, وإن كانت لدواء كتبت, فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك ؟ قالت: الخروب, قال: لأي شيء أنت ؟ قالت: لخراب هذا البيت, فقال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصاً فتوكأ عليها حولاً ميتاً والجن تعمل, فأكلتها الأرضة فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين» قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك, قال: فشكرت الجن للأرضة, فكانت تأتيها بالماء, وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث إبراهيم بن طهمان به. وفي رفعه غرابة ونكارة, والأقرب أن يكون موقوفاً, وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات وفي بعض حديثه نكارة. وقال السدي في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه, وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم. قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين, والشهر والشهرين, وأقل من ذلك وأكثر, فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه, فأدخله في المرة التي توفي فيها, فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا ينبت الله في بيت المقدس شجرة, فيأتيها فيسألها: فيقول ما اسمك ؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا, فإن كانت لغرس غرسها, وإن كانت تنبت دواء قالت: نبت دواء كذا وكذا, فيجعلها كذلك, حتى نبتت شجرة يقال لها الخروبة, فسألها: ما اسمك ؟ قالت: أنا الخروبة, قال ولأي شي نبت ؟ قالت: نبت لخراب هذا المسجد, قال سليمان عليه الصلاة والسلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي, أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس, فنزعها وغرسها في حائط له, ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه, فمات ولم تعلم به الشياطين, وهم في ذلك يعملون له يخافون أن يخرج عليهم فيعاقبهم, وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب, وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه, فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب, فيدخل حتى يخرج من الجانب الاَخر, فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام في المحراب إلا احترق, فمر ولم يسمع صوت سليمان, ثم رجع فلم يسمع, ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق, ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً, فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات, ففتحوا عليه فأخرجوه. ووجدوا منسأته, وهي العصا بلسان الحبشة, قد أكلتها الأرضة, ولم يعلموا منذ كم مات, فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوماً وليلة, ثم حسبوا على ذلك النحو, فوجدوه قد مات منذ سنة, وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه, فمكثوا يدينون له من بعد موته حولاً كاملاً, فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم يطلعون على الغيب, لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له, وذلك قول الله عز وجل: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم, ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام, ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب, ولكنا سننقل إليك الماء والطين, قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت, قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين شكراً لها, وهذا الأثر ـ والله أعلم ـ إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب, وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق, ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق, والباقي لا يصدق ولا يكذب. وقال ابن وهب وأسبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تبارك وتعالى: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته} قال: قال سليمان عليه السلام لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة, فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير وليس له باب, فقام يصلي فاتكأ على عصاه, قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه, ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت, قال: والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي, قال: فبعث الله عز وجل دابة الأرض, قال: والدابة تأكل العيدان يقال لها القادح, فدخلت فيها فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتاً, فلما رأت ذلك الجن, انفضوا وذهبوا, قال: فذلك قوله تعالى: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته} قال أصبغ: بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر, وذكر غير واحد من السلف نحواً من هذا, الله أعلم. ** لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّاتِهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِيَ إِلاّ الْكَفُورَ كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها, وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم, وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم, وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته, فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى, ثم أعرضوا عما أمروا به, فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ, شذر مذر, كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريباً وبه الثقة. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عباس يقول: إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ: ما هو أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل هو رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام منهم أربعة, فأما اليمانيون, فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير, وأما الشامية: فلخم وجذام وعاملة وغسان» ورواه عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وهذا إسناد حسن, ولم يخرجوه, وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر ـ في كتاب القصد والأمم, بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم ـ من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما, فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجه آخر. وقال الإمام أحمد أيضاً وعبد بن حميد: حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي عن يحيى بن هانىء بن عروة عن فروة بن مسيك رضي لله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم» فقاتل بمقبل قومك مدبرهم» فلما وليت دعاني فقال: «لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام» فقلت: يارسول الله أرأيت سبأ, واد هو أو جبل أو ما هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا بل هو رجل من العرب, ولد له عشرة فتيامن ستة, وتشاءم أربعة, تيامن الأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار, الذين يقال لهم بجيلة وخثعم, وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان» وهذا أيضاً إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي, وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن نصر عن يحيى بن هانىء المرادي عن عمه أو عن أبيه ـ شك ـ أسباط ـ قال: قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. (طريق أخرى) لهذا الحديث. قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, حدثني ابن لهيعة عن توبة بن نمر عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية, فقال يوماً: ما أظن قوماً بأرض إلا وهم من أهلها, فقال علي بن أبي رباح: كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية, وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام, أفأقاتلهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «ما أمرت فيهم بشيء بعد» فأنزلت هذه الاَية {لقد كان لسبأ من مسكنهم آية} الاَيات, فقال له رجل: يا رسول الله ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ ما هو: أبلد أم رجل أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل رجل ولد له عشرة, فسكن اليمن منهم ستة, والشام أربعة, أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد الأشعريون وأنمار وحمير غير ما حلها, وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة» فيه غرابة من حيث ذكر نزول الاَية بالمدينة, والسورة مكية كلها, والله سبحانه وتعالى أعلم. (طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو أسامة, حدثنا الحسن بن الحكم, حدثنا أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو: أرض أم امرأة ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بأرض ولا امرأة, ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد, فتيامن ستة وتشاءم أربعة, فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان, وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار» فقال رجل: ما أنمار ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذين منهم خثعم وبجيلة» ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قالا: حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا, ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وقال أبو عمر بن عبد البر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان, حدثنا قاسم بن أصبغ, حدثنا أحمد بن زهير, حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي, حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي, عن يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال: إن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ, فذكر مثله, فقوي هذا الحديث وحسن. قال علماء النسب ـ منهم محمد بن إسحاق ـ: اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان,وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب, وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو, فأعطى قومه فسمي الرائش, والعرب تسمي المال ريشاً ورياشاً. وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم, وقال في ذلك شعراً: سيملك بعدنا ملكاً عظيماًنبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوكيدينوه العباد بغير ذام ويملك بعدهم منا ملوكيصير الملك فينا باقتسام ويملك بعد قحطان نبيتقي مخبت خير الأنام يسمى أحمداً ياليت أنيأعمر بعد مبعثه بعام فأعضده وأحبوه بنصريبكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريهومن يلقاه يبلغه سلامي ذكر ذلك الهمداني في كتاب ـ الإكليل ـ واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاثة طرائق. (والثاني) أنه من سلالة عابر, وهو هود عليه الصلاة والسلام, واختلفوا أيضاً في كيفية نسبه به على ثلاثة طرائق أيضاً. (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام, واختلفوا في كيفية اتصال نسبه على ثلاث طرائق أيضاً. وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجلاً من العرب» يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة سام بن نوح, وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام, وليس هذا المشهور عندهم, والله أعلم. ولكن في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون, فقال: «ارموا بني إسماعيل ؟ فإن أباكم كان رامياً» فأسلم قبيلة من الأنصار ـ والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ـ نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم, ونزلت طائقة منهم بالشام, وإنما قيل باليمن وقيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل إنه قريب من المشلل, كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: إما سألت فإنا معشر نجبالأزد نسبتنا والماء غسان ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولد له عشرة من العرب» أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه, بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة, والأقل والأكثر, كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة» أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم, منهم من أقام ببلادهم, ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأيتهم من بين جبلين, وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم, فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً, حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك الجبلين, فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن, كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار, وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار, فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه, وكان هذا السد بمأرب. بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل, ويعرف بسد مأرب, وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث, ولا شيء من الهوام,وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه, كما قال تبارك وتعالى: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية} ثم فسرها بقوله عز وجل: {جنتان عن يمين وشمال} أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك {كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد. وقوله تعالى: {فأعرضوا} أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم, وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله, كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام {وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبياً وقال السدي: أرسل الله عز وجل إليهم اثني عشر ألف نبي, والله أعلم. وقوله تعالى: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} المراد بالعرم المياه, وقيل الوادي, وقيل الجرذ, وقيل الماء الغزير, فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز, حكى ذلك السهيلي. وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك: إن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم, بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته. قال وهب بن منبه: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمن فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير, وولجت إلى السد فنقبته فانهار عليهم, وقال قتادة وغيره: الجرذ هو الخلد, نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى, وجاءت أيام السيول صدم الماء البناء فسقط, فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك, ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال, فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة, كما قال الله تبارك وتعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن وقتادة والسدي: وهو الأراك وأكلة البرير {وأثل} قال العوفي عن ابن عباس: هو الطرفاء. وقال غيره هو شجر يشبه الطرفاء, وقيل هو السمر, والله أعلم. وقوله: {وشيء من سدر قليل} لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر قال: {وشيء من سدر قليل} فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة, والمناظر الحسنة, والظلال العميقة, والأنهار الجارية, تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والتمر القليل, وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل, ولهذا قال تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} أي عاقبناهم بكفرهم. قال مجاهد: ولا يعاقب إلا الكفور. وقال الحسن البصري: صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور. وقال طاوس: لا يناقش إلا الكفور. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا أبو عمر بن النحاس الرملي, حدثنا حجاج بن محمد, حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة, وكان من أصحاب علي رضي الله عنه, قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة, والضيق في المعيشة, والتعسر في اللذة, قيل: وما التعسر في اللذة ؟ قال: لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها. ** وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدّرْنَا فِيهَا السّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ * فَقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزّقْنَاهُمْ كُلّ مُمَزّقٍ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد, والبلاد الرخية, والأماكن الاَمنة, والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء, بل حيث نزل وجد ماء وثمراًو ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم, ولهذا قال تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} قال وهب بن منبه: هي قرى بصنعاء, وكذا قال أبو مالك, وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم: يعني قرى الشام, يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة. وقال العوفي عن ابن عباس: القرى التي باركنا فيها بيت المقدس, وقال العوفي عنه أيضاً: هي قرى عربية بين المدينة والشام {قرى ظاهرة} أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى, ولهذا قال تعالى: {وقدرنا فيها السير} أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه {سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين} أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} وقرأ آخرون {بعد بين أسفارنا} وذلك أنهم بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد, وأحبوا مفاوز ومهامة يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف, كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها, مع أنهم كانوا في عيش رغيد في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة, ولهذا قال لهم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله} وقال عز وجل: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} وقال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأيتها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}. وقال تعالى في حق هؤلاء: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم} أي بكفرهم {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق} أي جعلناهم حديثاً للناس وسمراً يتحدثون به من خبرهم, وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء, تفرقوا في البلاد ههنا وههنا, ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ, وتفرقوا شذر مذر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان, حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال: {لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال ـ إلى قوله تعالى ـ فأرسلنا عليهم سيل العرم} وكانت فيهم كهنة, وكانت الشياطين يسترقون السمع, فأخبروا الكهنة بشيء من أخبار السماء, فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه أخبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم, فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار, فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالاً: يا بني إذا كان غداً وأمرتك بأمر فلا تفعله, فإذا انتهرتك فانتهرني, فإذا لطمتك فالطمني, قال: يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر شديد, قال: يا بني قد حدث أمر لا بد منه, فلم يزل به حتى وافاه على ذلك, فلما أصبحوا واجتمع الناس قال: يابني افعل كذا وكذا, فأبى فانتهره أبوه, فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه, فوثب على أبيه فلطمه, فقال: ابني يلطمني ؟ علي بالشفرة, قالوا: ما تصنع بالشفرة ؟ قال: أذبحه, قالوا تريد أن تذبح ابنك ؟ الطمه أو اصنع ما بدا لك, قال: فأبى, قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك, فجاء أخواله فقالوا: خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه, قالوا: فلتموتن قبل أن تذبحه, قال: فإذا كان الحديث هكذا, فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه, اشتروا مني دوري, اشتروا مني أرضي, فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره, فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا, فمن أراد منكم داراً جديداً وحمى شديداً وسفراً بعيداً, فليلحق بعمان, ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير. وكلمة قال إبراهيم لم أحفظها ـ فليلحق ببصرى, ومن أراد الراسخات في الوحل: المطعمات في المحل, المقيمات في الضحل, فليلحق بيثرب ذات نخل, فأطاعه قومه, فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسان إلى بصرى, وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النخل, قال: فأتوا على بطن مر, فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلاً, فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة, لأنهم انخزعوا من أصحابهم, واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة, وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت غسان إلى بصرى. هذا أثر غريب عجيب, وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤوساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم, وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم, فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم, فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك, فاعتزم على النقلة عن اليمن, وكان قومه, فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه, ففعل ابنه ما أمره به, فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله. فقال أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو, فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده, وقالت الأزد: لا نتخلف عن عمرو بن عامر, فباعوا أموالهم وخرجوا معه, فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان, فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالاً, ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه: وعك بن عدنان الذين تلعبوابغسان حتى طردوا كل مطرد وهذا البيت من قصيدة له. قال: ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان, فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام, ونزلت الأوس والخزرج يثرب, ونزلت خزاعة مراً, ونزلت أزد السراة السراة, ونزلت أزدعمان عمان, ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه, وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الاَيات. وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق, إلا أنه قال: فأمر ابن أخيه مكان ابنه ـ إلى قوله فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا, رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال: يزعمون أن عمرو بن عامر وهو عم القوم, كان كاهناً فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم, فقال لهم: إني قد علمت أنكم ستمزقون, فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد, ومزاد جديد, فليلحق بكاس أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرو. ومن كان منكم ذا هم مدن, وأمر دعن, فليلحق بأرض شن, فكانت عوف بن عمرو, وهم الذين يقال لهم بارق, ومن كان منكم يريد عيشاً آنياً, وحرماً آمناً فللحق بالأرزين, فكانت خزاعة, ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل,المطعمات في المحل, فيلحق بيثرب ذات النخل, فكانت الأوس والخزرج, وهما هذان الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً, وملكاً وتأميراً, فليلحق بكوثى وبصرى, فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامر, وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك, فالله أعلم أي ذلك كان, وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام, وأما الأنصار فلحقوا بيثرب, وأما خزاعة فلحقوا بتهامة, وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن قيس: وفي ذاك للمؤتسي أسوةومأرب قفى عليها العرم رخام بنته لهم حميرإذا جاء ماؤهم لم يرم فأروى الزروع وأعنابهاعلى سعة ماؤهم إذا قسم فصاروا أيادي ما يقدرون منه على شرب طفل فطم وقوله تعالى: {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والاَثام, لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور على النعم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا: أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر, وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر, يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته». وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي إسحاق السبيعي به, وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه, ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له, إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له, وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». قال عبد: حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة {إن في ذلك لاَيات لكل صبار شكور} قال: كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر, وإذا ابتلي صبر. ** وَلَقَدْ صَدّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنّهُ فَاتّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَخِرَةِ مِمّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكّ وَرَبّكَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ حَفُيظٌ لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان, أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى, فقال: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: هذه الاَية كقوله تعالى إخباراً عن إبليس حين امتنع من السجود لاَدم عليه الصلاة والسلام, ثم قال: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وقال: {ثم لاَتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} والاَيات في هذا كثيرة, وقال الحسن البصري: لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء, هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما, وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف, وكان ذلك ظناً من إبليس, فأنزل الله عز وجل {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين} فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه, فقال الله تعالى: «وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت, ولا يدعوني إلا أجبته, ولا يسألني إلا أعطيته, ولا يستغفر إلا غفرت له», رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى: {وما كان له عليهم من سلطان} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من حجة. وقال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا أكرهم على شيء, وما كان إلا غروراً وأماني, دعاهم إليها فأجابوه, وقوله عز وجل: {إلا لنعلم من يؤمن بالاَخرة ممن هو منها في شك} أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالاَخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء, فيحسن عبادة ربه عز وجل في الدنيا ممن هو منها في شك. وقوله تعالى: {وربك على كل شيء حفيظ} أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس, وبحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل. ** قُلِ ادْعُواْ الّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُواْ الْحَقّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد, الذي لا نظير له ولا شريك له, بل هو المستقل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض, فقال: {قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله} أي من الاَلهة التي عبدت من دونه {لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في والأرض} كما قال تبارك وتعالى: {والذين يدعون من دونه ما يملكون من قطمير} وقوله تعالى: {وما لهم فيها من شرك} أي لا يملكون شيئاً استقلالاً ولا على سبيل الشركة {وما له منهم من ظهير} أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور, بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه, قال قتادة في قوله عز وجل: {وماله منهم من ظهير} من عون يعينه بشيء. ثم قال تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة, كما قال عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} وقال جل وعلا: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وقال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم, وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء قال: «فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني, ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الاَن, ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع, وسل تعطه, واشفع تشفع» الحديث بتمامه. وقوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة, وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه, أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي, قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما {حتى إذا فزع عن قلوبهم} أي زال الفزع عنها, قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق} يقول: خلى عن قلوبهم, وقرأ بعض السلف, وجاء مرفوعاً إذا فرغ بالغين المعجمة ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم الذين يلونهم لمن تحتهم, حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا, ولهذا قال تعالى: {قالوا الحق} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وهو العلي الكبير}. وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة قالوا: ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا, قال ابن أبي نجيح عن مجاهد {حتى إذا فزع عن قلوبهم} كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن {حتى إذا فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك والتكذيب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم {حتى إذ فزع عن قلوبهم} يعني ما فيها من الشك قال: فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم {قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} قال: وهذا في بني آدم هذا عند الموت, أقروا حين لا ينفعهم الإقرار, وقد اختار ابن جرير القول الأول: إن الضمير عائد على الملائكة, وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه والاَثار, ولنذكر منها طرفاً يدل على غيره. قال البخاري عند تفسير هذه الاَية الكريمة في صحيحه, حدثنا الحميدي, حدثنا سفيان, حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان, فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير, فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بيده فحرفها, ونشر بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته, ثم يلقيها الاَخر إلى من تحته, حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن, فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها, وربما ألقاها قبل أن يدركه, فيكذب معها مائه كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا, كذا وكذا فيصد بتلك الكلمة التي سمعت من السماء» انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه, وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة به, والله أعلم. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق قالا: حدثنا معمر, أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه, قال عبد الرزاق: من الأنصار, فرمي بنجم فاستنار, فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية» قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية, قال: نعم ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته, ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمراً سبح حملة العرش, ثم سبح أهل السماء الذي يلونهم حتى يبلغ التسبيح السماء الدنيا, ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش, فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم, ويخبر أهل كل سماء سماء, حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون, فما جاؤوا به على وجهه فهو حق, ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون» هكذا رواه الإمام أحمد, وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن رجل من الأنصار به. وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي الله عنهم, وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به, ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي, عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار رضي الله عنه, والله أعلم. (حديث آخر) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي, والسياق لمحمد بن عوف, قالا: حدثنا نعيم بن حماد, حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تلكم بالوحي, فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة من خوف الله تعالى, فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً, فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام, فيكلمه الله من وحيه بما أراد, فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة, كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول عليه السلام: قال الحق وهو العلي الكبير, فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل, فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض» وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم رحمه الله, وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وعن قتادة أنهما فسرا هذه الاَية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام, ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الاَية. ** قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللّهُ وَإِنّآ أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلَىَ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * قُل لاّ تُسْأَلُونَ عَمّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبّنَا ثُمّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَرُونِيَ الّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اللّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ يقول تعالى مقرراً تفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية أيضاً, فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض, أي بما ينزل من المطر وينبت من الزرع إلا الله, فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره. وقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} هذا من باب اللف والنشر أي واحد من الفريقين مبطل, والاَخر محق لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال, بل واحد منا مصيب, ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى, ولهذا قال: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}. قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياهم على أمر واحد إن أحد الفريقين لمهتد. وقال عكرمة وزياد بن أبي مريم: معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين. وقوله تعالى: {قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} معناه التبري منهم, أي لستم منا ولا نحن منكم, بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراد العبادة له, فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم, وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا, كما قال تعالى: {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}. وقال عز وجل: {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين}. وقوله تعالى: {قل يجمع بيننا ربنا} أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد, ثم يفتح بيننا بالحق, أي يحكم بيننا بالعدل, فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر, وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصر والسعادة الأبدية كما قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الاَخرة فأولئك في العذاب محضرون} ولهذا قال عز وجل: {وهو الفتاح العليم} أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور. وقوله تبارك وتعالى: {قل أروني الذين ألحقتم به شركاء} أي أروني هذه الاَلهة التي جعلتموها لله أنداداً وصيرتموها له عدلاً {كلا} أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل. ولهذا قال تعالى: {بل هو الله} أي الواحد الأحد الذي لا شريك له {العزيز الحكيم} أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شيء وغلبت كل شيء, الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره, تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علواً كبيراً, والله أعلم. ** وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَـَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ لاّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} أي إلا إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}, {بشيراً ونذيراً} أي تبشر من أطاعك بالجنة وتنذر من عصاك بالنار {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} كقوله عز وجل: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله}. قال محمد بن كعب في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} يعني إلى الناس عامة. وقال قتادة في هذه الاَية: أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم, فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أطوعهم لله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الظهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة, قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا: يا ابن عباس فبم فضله على الأنبياء ؟ قال رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً, فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وأعطيت الشفاعة, وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت إلى الأسود والأحمر» قال مجاهد: يعني الجن والإنس. وقال غيره: يعني العرب والعجم, والكل صحيح. ثم قال عز وجل مخبراً عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} وهذه الاَية كقوله عز وجل: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق} الاَية, ثم قال تعالى: {قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون} أي لكم ميعاد مؤجل معدود محرر لا يزاد ولا ينقص, فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم كما قال تعالى: {إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر} وقال عز وجل: {وما نؤخره إلا لأجل معدود * يوم يأتِ لا تلكم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد} ** وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهَـَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلّذِينَ اسْتُضْعِفُوَاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىَ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مّجْرِمِينَ * وَقَالَ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نّكْفُرَ بِاللّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِيَ أَعْنَاقِ الّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم, وبما أخبربه من أمر المعاد, ولهذا قال تعالى: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} قال الله عز وجل متهدداً لهم ومتوعداً ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم {يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا} وهم الأتباع {للذين استكبروا} منهم وهم قادتهم وسادتهم {لولا أنتم لكنا مؤمنين} أي لولا أنتم تصدوننا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاؤونا به فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا {أنحن صددناكم عن الهدى بعد إِذ جاءكم ؟} أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان, وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك, ولهذا قالوا {بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار} أي بل كنتم تمكرون بنا ليلاً نهاراً وتغروننا وتمنوننا وتخبروننا أنا على هدى وأنا على شيء, فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومين. قال قتادة وابن زيد {بل مكر الليل والنهار} يقول: بل مكركم بالليل والنهار, وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم بالليل والنهار {إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً} أي نظراء وآلهة معه وتقيمون لنا شبهاً وأشياء من المحال تضلوننا بها {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه {وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا} وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم {هل يجزون إِلا ما كانوا يعملون} أي إِنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم وللأتباع بحسبهم {قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء, حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن أبي سنان ضرار بن صرد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها, ثم لفحتهم لفحة لم يبق لحم إلا سقط على العرقوب». وحدثنا أبي, حدثنا أحمد بن أبي الحواري, حدثنا الطيب أبو الحسن عن الحسن بن يحيى الخشني قال: ما في جهنم دار ولامغار ولاغل ولاقيد ولاسلسلة إِلا اسم صاحبها عليها مكتوب, قال: فحدثته أبا سليمان, يعني الداراني رحمة الله عليه, فبكى ثم قال: ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه, فجعل القيد والغل في يديه, والسلسلة في عنقه, ثم أدخل النار وأدخل المغار ؟ اللهم سلم. وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّذِيرٍ إِلاّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىَ إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيَ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنّ رَبّي يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمراً بالتأسي بمن قبله من الرسل, ومخبره بأنه ما بعث نبياً في قرية إِلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاؤهم, كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} {وما نراك اتبعك إِلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} وقال الكبراء من قوم صالح {للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا إِنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إِنا بالذي آمنتم به كافرون} وقال عز وجل: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} وقال تعالى: {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} وقال جل وعلا: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً} وقال جل وعلا ههنا: {وما أرسلنا في قرية من نذير} أي نبي أو رسول {إِلا قال مترفوها} وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة, قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر {إِنا بما أرسلتم به كافرون} أي لا نؤمن به ولا نتبعه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا هارون بن إِسحاق, حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن سفيان بن عاصم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الاَخر, فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إِلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إِليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إِنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه, قال: وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب, قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إِلام تدعو ؟ قال «أدعوا إلى كذا وكذا» قال: أشهد أنك رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم «وما علمك بذلك ؟» قال: إِنه لم يبعث نبي إِلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم, قال: فنزلت هذه الاَية {وما أرسلنا في قرية من نذير إِلا قال مترفوها إِنا بما أرسلتهم به كافرون} الاَية, قال: فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إِن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت, وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها: وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ؟ فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وقال تبارك وتعالى إِخباراً عن المترفين المكذبين: {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين} أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد, واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم, وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الاَخرة وهيهات لهم ذلك قال الله تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وقال تبارك وتعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إِنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنياوتزهق أنفسهم وهم كافرون} وقال عز وجل {ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا إِنه كان لاَياتنا عنيداً سأرهقه صعوداً} وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد, ثم لم يغن عنه شيئاً بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الاَخرة, ولهذا قال عز وجل ها هنا: {قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب, فيفقر من يشاء ويغني من يشاء, وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}. ثم قال تعالى: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى} أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا إعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا كثير, حدثنا جعفر, حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم, ولكن إِنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» ورواه مسلم وابن ماجه من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به, ولهذا قال الله تعالى: {إلا من آمن وعمل صالحاً} أي إِنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان والعمل الصالح {فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا} أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف {وهم في الغرفات آمنون} أي في منازل الجنة العالية آمنون منن كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي, حدثنا القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إِسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها, وبطونها من ظهورها» فقال أعرابي: لمن هي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لمن طيب الكلام, وأطعم الطعام, وأدام الصيام, وصلى بالليل والناس نيام» {والذين يسعون في آياتنا معاجزين} أي يسعون في الصد عن سبيل اللهواتباع رسله والتصديق بآياته {فأولئك في العذاب محضرون} أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم. وقوله تعالى: {قل إِن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} أي بحسب ماله في ذلك من الحكمة يبسط على هذا من المال كثيراً. ويضيق على هذا ويقتر على رزقه جداً. وله في ذلك من الحكمة مالا يدركها غيره, كما قال تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاَخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير وهذا غني موسع عليه, فكذلك هم في الأخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات, وهذا في الغمرات في أسفل الدركات, وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه» رواه مسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. وقوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم, فهو يخلفة عليكم في الدنيا بالبدل, وفي الأخرة بالجزاء والثواب, كما ثبت في الحديث «يقول الله تعالى أنفق, أنفق عليك» وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما: اللهم أعط ممسكاً تلفاً, ويقول الأخر: اللهم أعط منفقاً خلفاً, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنفق بلالاً, ولا تخشى من ذي العرش إِقلالاً». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر ما في يده حذار الإنفاق» ثم تلا هذه الاَية {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}. وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي: حدثنا روح بن حاتم, حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض, يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق» قال الله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} وفي الحديث «شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام, ألا إن بيع المضطرين حرام, المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك, وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه» هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الاَية {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} إذا كان عند أحدكم ما يقيمه, فليقصد فيه, فإن الرزق مقسوم. ** وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـَؤُلاَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مّؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النّارِ الّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على روؤس الخلائق, فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى, فيقول للملائكة {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم, كما قال تعالى في سورة الفرقان {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} وهكذا تقول الملائكة {سبحانك} أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله {أنت ولينا من دونهم} أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء {بل كانوا يعبدون الجن} يعنون الشياطين, لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم {أكثرهم بهم مؤمنون} كما قال تبارك وتعالى: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله} قال الله عز وجل {فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً, ولا ضراً} أي لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم «اليوم لايملكون لكم نفعاً ولا ضراً» {ونقول للذين ظلموا} وهم المشركون {ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون} أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيجاً. ** وَإِذَا تُتْلَىَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـَذَا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدّكُمْ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـَذَآ إِلاّ إِفْكٌ مّفْتَرًى وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَهُمْ إِنْ هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نّذِيرٍ * وَكَذّبَ الّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ يخبر الله عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب, لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} يعنون أن دين آبائهم هو الحق, وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل, عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى: {وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى} يعنون القرآن {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} قال الله تعالى: {وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير} أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل عليناكتاب لكنا أهدى من غيرنا, فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه. ثم قال تعالى: {وكذب الذين من قبلهم} أي من الأمم {وما بلغوا معشار ماآتيناهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي من القوة في الدنيا. وكذلك قال قتادة والسدي وابن زيد, كما قال تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة} أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده, بل دمر الله عليهم لماكذبوا رسله, ولهذا قال: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي. ** قُلْ إِنّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىَ وَفُرَادَىَ ثُمّ تَتَفَكّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ يقول تبارك وتعالى: قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون {إنما أعظكم بواحدة} أي إنماآمركم بواحدة وهي {أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} أي تقوموا قياماً خالصاً لله عز وجل من غير هوى ولا عصبية, فيسأل بعضكم بعضاً هل بمحمد من جنون. فينصح بعضكم بعضاً {ثم تتفكروا} أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه, ويتفكر في ذلك, ولهذا قال تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة} هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتاده وغيرهم, وهذا هو المراد من الاَية. فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا صدقة بن خالد, حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أعطيت ثلاثاً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي, كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها, وبعثت إلى كل أحمر وأسود, وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة, وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أتيمم بالصعيد وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة, قال الله تعالى: {أن تقوموا لله مثنى وفراد} وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين يدي» فهو حديث ضعيف الإسناد, وتفسير الاَية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد, ولعله مقحم في الحديث من بعض الرواة, فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها, والله أعلم. وقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} قال البخاري عندها: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن خازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش, فقالوا: مالك ؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما كنتم تصدقوني» قالوا: بلى, قال صلى الله عليه وسلم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا. فأنزل الله عز وجل {تبت يدا أبي لهب وتب} وقد تقدم عند قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين}. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم. حدثنا بشير بن المهاجر, حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فنادى ثلاث مرات, فقال: «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم: «إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم, فبعثوا رجلاً يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو, فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه, فأهوى بثوبه, أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم» ثلاث مرات, وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة جميعاً إن كادت لتسبقني» تفرد به الإمام أحمد في مسنده. ** قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللّهِ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٍ * قُلْ إِنّ رَبّي يَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * قُلْ جَآءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ * قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنّمَآ أَضِلّ عَلَىَ نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيّ رَبّي إِنّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين {ما سألتكم من أجر فهو لكم} أي لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله {إن أجري إلا على الله} أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله {وهو على كل شيء شهيد} أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه. وقوله عز وجل: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب} كقوله تعالى: {يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده} أي يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض, وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض. وقوله تبارك وتعالى: {قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد} أي: جاء الحق من الله والشرع العظيم, وذهب الباطل وزهق واضمحل, كقوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح, ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} {قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد} رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الاَية, كلهم من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة, عن ابن مسعود رضي الله عنه به, أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة وزعم قتاده والسدي أن المراد بالباطل ههنا إبليس, أي أنه لا يخلق أحداً ولا يعيده ولا يقدر على ذلك, وهذا وإن كان حقاً ولكن ليس هو المراد ههنا, والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: {قل إن ضللت فإنماأضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي} أي الخير كله من عند الله, وفيما أنزل الله عز وجل من الوحي والحق المبين فيه الهدى والبيان والرشاد, ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه, كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل عن تلك المسألة في المفوضة أقول فيها برأيي, فإن يكن صواباً فمن الله, وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه. وقوله تعالى: {إنه سميع قريب} أي سميع لأقوال عباده قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه, وقد روى النسائي هنا حديث أبي موسى في الصحيحين «إنكم لاتدعون أصم ولا غائباً, إنما تدعون سميعاً قريباً مجيباً». ** وَلَوْ تَرَىَ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوَاْ آمَنّا بِهِ وَأَنّىَ لَهُمُ التّنَاوُشُ مِن مّكَانِ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ إِنّهُمْ كَانُواْ فِي شَكّ مّرِيبِ يقول تبارك وتعالى: ولو ترى يا محمد إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة, فلا فوت أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ {وأخذوا من مكان قريب} أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب بل أخذوا من أول وهلة. قال الحسن البصري: حين خرجوا من قبورهم. وقال مجاهد وعطية العوفي وقتاده: من تحت أقدامهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك: يعني عذابهم في الدنيا. وقال عبد الرحمن بن زيد: يعني قتلهم يوم بدر, والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة, وهو الطامة العظمى, وإِن كان ما ذكر متصلاً بذلك, وحكى ابن جرير عن بعضهم قال: إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة والمدينة في أيام بني العباس رضي الله عنهم. ثم أورد في ذلك حديثاً موضوعاً بالكلية, ثم لم ينبه على ذلك, وهذا أمر عجيب غريب منه {وقالوا آمنا به} أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله كما قال تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون} ولهذا قال تعالى: {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} أي وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم, وصاروا إلى الدار الأخرة وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء, فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الأخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان, كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد. قال مجاهد {وأنى لهم التناوش} قال: التناول لذلك. وقال الزهري: التناوش تناولهم الإيمان وهم في الاَخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا, وقال الحسن البصري: أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال تعاطوا الإيمان من مكان بعيد. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة, وكذا قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله. وقوله تعالى: {وقد كفروا به من قبل} أي كيف يحصل لهم الإيمان في الاَخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد} قال مالك عن زيد بن أسلم {ويقذفون بالغيب} قال: بالظن, قلت: كما قال تعالى: {رجماً بالغيب} فتارة يقولون شاعر, وتارة يقولون كاهن, وتارة يقولون ساحر, وتارة يقولون مجنون إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة, ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد {ويقولون إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} قال قتادة ومجاهد: يرجمون بالظن لا بعث ولا جنة ولانار. وقوله تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما: يعني الإيمان وقال السدي {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} وهي التوبة, وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله. وقال مجاهد {وحيل بينهم وبين مايشتهون} من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل, وروي نحوه عن ابن عمر وابن عباس والربيع بن أنس رضي الله عنهم, وهو قول البخاري وجماعه, والصحيح أنه لا منافاة بين القولين, فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنياوبين ما طلبوه في الأخرة فمنعوا منه. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا أثراً غريباً عجيباً جداً فنذكره بطوله, فإنه قال: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا بشر بن حجر السامي, حدثنا علي بن منصور الأنباري عن الشرقي بن قطامي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} إلى آخر الاَية, قال: كان رجل من بني إسرائيل فاتحاً أي فتح الله تعالى له مالاً, فمات فورثه ابن له تافه أي فاسد, فكان يعمل في مال الله تعالى بمعاصي الله تعالى عز وجل, فلما رأى ذلك أخوات أبيه, أتوا الفتى فعذلوه ولاموه, فضجر الفتى فباع عقاره بصامت, ثم رحل فأتى عيناً ثجاجة فسرح فيها ماله وابتنى قصراً, فبينما هو ذات يوم جالس إذ حملت عليه ريح بامرأة من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً, أي ريحاً, فقالت: من أنت يا عبد الله ؟ فقال: أنا امرؤ من بني إسرائيل, قالت: فلك هذا القصر وهذا المال ؟ فقال: نعم. قالت: فهل لك من زوجة ؟ قال: لا. قالت: فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال: قد كان ذاك, قال: فهل لك من بعل ؟ قالت: لا, قال: فهل لك إلا أن أتزوجك ؟ قالت: إني امرأة منك على مسيرة ميل, فإذا كان الغد فتزود زاد يوم وائتني, وإِن رأيت في طريقك هولاً فلا يهولنك, فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق, فانتهى إلى قصر فقرع رتاجه, فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجهاً وأطيبهم أرجاً, أي ريحاً, فقال: من أنت يا عبد الله ؟ فقال: أنا الإسرائيلي, قال: فما حاجتك ؟ قال: دعتني صاحبة القصر إلى نفسها, قال: صدقت, قال: فهل رأيت في الطريق هولاً ؟ قال: نعم ولولا أنها أخبرتني أن لابأس علي لهالني الذي رأيت, قال: ما رأيت ؟ قال: أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها, ففزعت فوثبت فإذا أنا من ورائها, وإذا جراؤها ينبحن من بطنها, فقال له الشاب: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويسرهم حديثه, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بمائة عنز حفّل, وإذا فيها جدي يمصها, فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة, فقال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان ملك يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئاً فتح فاه يلتمس الزيادة, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر فأعجبني غصن من شجرة منها ناضرة, فأردت قطعه فنادتني شجرة أخرى: يا عبد الله منا فخذ حتى ناداني الشجر أجمع يا عبد الله مني فخذ, فقال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان يقل الرجال ويكثر النساء حتى أن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل, فإذا أنا برجل قائم على عين يغرف لكل إنسان من الماء, فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشيء, فال: لست تدرك هذا, هذا يكون في آخر الزمان القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله تعالى, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها, وإذا رجل قد أخذ بقرنيها, وإذا رجل قد أخذ بذنبها, وإذا راكب قد ركبها, وإذا رجل يحتلبها, فقال: أما العنز فهي الدنيا, والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها, وأما الذي أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقاً, وأما الذي أخذ بدنبها فقد أدبرت عنه, وأما الذي ركبها فقد تركها, وأما الذي يحلبها فبخ بخ ذهب ذلك بها, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يمتح على قليب كلما أخرج دلوه صبه في الحوض فانساب الماء راجعاً إلى القليب, قال: هذا رجل رد الله عليه صالح عمله فلم يقبله, قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يبذر بذراً فيستحصد فإذا حنطة طيبة, قال: هذا رجل قبل الله صالح عمله وأزكاه له. قال: ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه, قال: يا عبد الله ادن مني فخذ بيدي وأقعدني, فوالله ما قعدت منذ خلقني الله تعالى, فأخذت بيده, فقام يسعى حتى ما أراه, فقال له الفتى هذاعمر الأبعد نفد, أنا ملك الموت, وأنا المرأة التي أتتك أمرني الله تعالى بقبض روح الأبعد في هذا المكان, ثم أصيره إلى نار جهنم, قال: ففيه نزلت هذه الاَية {وحيل بينهم وبين مايشتهون} الاَية, هذا أثر غريب وفي صحته نظر, وتنزيل الاَية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا, كما جرى لهذا المغرور المفتون, ذهب يطلب مراده فجاءه ملك الموت فجأة بغتة وحيل بينه وبين ما يشتهي. وقوله تعالى: {كما فعل بأشياعهم من قبل} أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}. وقوله تبارك وتعالى: {إنهم كانوا في شك مريب} أي كانوا في الدنيا في شك ريبة, فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب, قال قتاده إياكم والشك والريبة, فإن من مات على شك بعث عليه, ومن مات على يقين بعث عليه. آخر تفسير سورة سبأ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. سورة فاطر وهي مكية بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** الْحَمْدُ للّهِ فَاطِرِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيَ أَجْنِحَةٍ مّثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال سفيان الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعربيان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها أي بدأتها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً {فاطر السموات والأرض} أي بديع السموات والأرض. وقال الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض, فهو خالق السموات والأرض. وقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلاً} أي بينه وبين أنبيائه {أولي أجنحة} أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعاً {مثنى وثلاث ورباع} أي منهم من له جناحان, ومنهم من له ثلاثة, ومنهم من له أربعة, ومنهم من له أكثر من ذلك, كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء وله ستمائة جناح, بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب, ولهذا قال جل وعلا: {يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير} قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء وقال الزهري وابن جريج في قوله تعالى: {يزيد في الخلق ما يشاء} يعني حسنالصوت, رواه عن الزهري البخاري في الأدب, وابن أبي حاتم في تفسيره, وقرىء في الشاذ {يزيد في الحلق} بالحاء المهلة, والله أعلم. ** مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يخبر تعالى أنه ما شاء كان, وما لم يشأ لم يكن, وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي ولا منع. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم, حدثنا مغيرة, أخبرنا عامر عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال: إن معاوية كتب إلى المغيرة بن شعبة اكتب لي بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وسمعته ينهى عن قيل وقال: وكثرة السؤالن وإضاعة المال, وعن وأد البنات, وعقوق الأمهات, ومنع وهات, وأخرجاه من طرق عن ورّاد به. وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده, اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض, وملء ما شئت من شيء بعد, اللهم أهل الثناء والمجد, أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وهذه الاَية كقوله تبارك وتعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} ولها نظائر كثيرة. وقال الإمام مالك رحمة الله عليه: كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا مطروا يقول: مطرنا بنوء الفتح, ثم يقرأ هذه الاَية {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم} ورواه ابن أبي حاتم عن يونس عن ابن وهب عنه. ** يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه المستقل بالخلق والرزق, فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان, ولهذا قال تعالى: {لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان, ووضوح هذا البرهان, وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان, والله أعلم. ** وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الاُمُورُ * يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ * إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السّعِيرِ ويقول تبارك وتعالى: وإِن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد, فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة, فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم {وإلى الله ترجع الأمور} أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ثم قال تعالى: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} أي المعاد كائن لا محالة {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} أي العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم, فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية {ولا يغرنكم بالله الغرور} وهو الشيطان قاله ابن عباس رضي الله عنهما, أي لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته, فإنه غرار كذاب أفاك, وهذه الاَية كالاَية التي في آخر لقمان {فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} وقال مالك عن زيد بن أسلم هو الشيطان, كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب {بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور} ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً} أي هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير, فهذا هو العدو المبين نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان وأن يرزقنا اتباع كتاب الله, والاقتفاء بطريق رسله, إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير, وهذه كقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً}. ** الّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوَءَ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير, ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد, لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن, وأن الذين آمنوا بالله ورسله {وعملوا الصالحات لهم مغفرة} أي لما كان منهم من ذنب {وأجر كبير} على ما عملوه من خير. ثم قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً} يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالاً سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً, أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة, لاحيلة لك فيه {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} أي بقدره كان ذلك {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} أي لا تأسف على ذلك, فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي, لما له في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام, ولهذا قال تعالى: {إن الله عليم بما يصنعون} وقال ابن أبي حاتم عند هذه الاَية: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو السيباني أو ربيعة عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط بالطائف يقال له الوهط, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة, ثم ألقى عليهم من نوره, فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضل, فلذلك أقول جف القلم على ما علم الله عز وجل» ثم قال: حدثنا محمد بن عبدة القزويني, حدثنا حسان بن حسان البصري, حدثنا إبراهيم بن بشير, حدثنا يحيى بن معن, حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «الحمدلله الذي يهدي من الضلالة, ويلبس الضلالة على من أحب» وهذا أيضاً حديث غريب جداً. ** وَاللّهُ الّذِيَ أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَىَ بَلَدٍ مّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النّشُورُ * مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزّةَ فَلِلّهِ الْعِزّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالّذِينَ يَمْكُرُونَ السّيّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىَ وَلاَ تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمّرُ مِن مّعَمّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها, كما في أول سورة الحج ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها, فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها {اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها, أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً, ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض ولهذا جاء في الصحيح «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب, منه خلق ومنه يركب» ولهذا قال تعالى: {كذلك النشور} وتقدم في الحج حديث أبي رزين قلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال صلى الله عليه وسلم «يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلاً ثم مررت به يهتز خضراً» قلت: بلى, قال صلى الله عليه وسلم: «فكذلك يحيي الله الموتى» وقوله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والأخرة فليلزم طاعة الله تعالى, فإنه يحصل له مقصوده لأن الله تعالى مالك الدنيا والأخرة وله العزة جميعاً, كما قال تعالى: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً} وقال عز وجل: {ولا يحزنك قولهم, إن العزة لله جميعاً} وقال جل جلاله {و لله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} قال مجاهد {من كان يريد العزة} بعبادة الأوثان {فلله العزة جميعاً} وقال قتادة {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} أي فليتعزز بطاعة الله عز وجل, وقيل من كان يريد علم العزة لمن هي {فلله العزة جميعاً} وحكاه ابن جرير. وقوله تبارك وتعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} يعني الذكر والتلاوة والدعاء, قاله غير واحد من السلف. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي, أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى, إن العبد المسلم إذا قال سبحان الله وبحمده والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر تبارك الله, أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا واستغفروا لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الله عز وجل, ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وحدثنا يعقوب بن إبراهيم , حدثنا ابن علية, أخبرنا سعيد الجريري عن عبد الله بن شقيق قال: قال كعب الأحبار: إن لسبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر لدوياً حول العرش كدوي النحل يذكرن لصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن, وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه, وقد روي مرفوعاً. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا موسى يعني ابن مسلم الطحان عن عون بن عبد الله عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله, يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل, يذكرن بصاحبهن, ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به» وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر خلف عن يحيى بن سعيد القطان عن موسى بن أبي عيسى الطحان, عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه أو عن أخيه, عن النعمان بن بشير رضي الله عنه به. وقوله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: الكلم الطيب ذكر الله تعالى, يصعد به إلى الله عز وجل, والعمل الصالح أداء الفريضة, فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله وذكر الله تعالى به إلى الله عز وجل, ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله, فكان أولى به, وكذا قال مجاهد: العمل الصالح يرفعه الكلام الطيب, وكذا قال أبو العالية وعكرمة وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي والربيع بن أنس وشهر بن حوشب وغير واحد. وقال إياس بن معاوية القاضي, لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام. وقال الحسن وقتادة: لا يقبل قول إلا بعمل. وقوله تعالى: {والذين يمكرون السيئات} قال مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب: هم المراؤون بأعمالهم, يعني يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى, وهم بغضاء إلى الله عز وجل يراؤون بأعمالهم {ولا يذكرون الله إلا قليلاً} وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المشركون, والصحيح أنها عامة, والمشركون داخلون بطريق الأولى, ولهذا قال تعالى: {لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى, فإنه ما أسر أحدٌ سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه, وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيراً فخير وإن شراً فشر, فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي, أما المؤمنين المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم, بل ينكشف لهم عن قريب وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية. وقوله تبارك وتعالى: {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة} أي ابتدأ خلق أبيكم من تراب, ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين {ثم جعلكم أزواجاً} أي ذكراً وأنثى, لطفاً منه ورحمة أن جعل لكم أزواجاً من جنسكم لتسكنواإليها. وقوله عز وجل: {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل {ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيص الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال}. وقوله عز وجل: {وما يعمّر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} أي ما يعطي بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب الأول {وما ينقص من عمره} الضمير عائد على الجنس لا على العين, لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره, وإنما عاد الضمير على الجنس قال ابن جرير: وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي هو ونصف ثوب آخر, وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} يقول: ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له, فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه, وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر, ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له, فذلك قوله تعالى: {ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} يقول: كل ذلك في كتاب عنده, وهكذا قال الضحاك بن مزاحم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه {ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} قال: ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها: ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا. وقال قتادة: والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة. وقال مجاهد {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق على عمر واحد, بل لهذا عمر, ولهذا عمر هو أنقص من عمره. فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ, وقال بعضهم: بل معناه {وما يعمر من معمر} أي ما يكتب من الأجل {ولا ينقص من عمره} وهو ذهابه قليلاً قليلاً, الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة, وشهراً بعد شهر, وجمعة بعد جمعة, ويوماً بعد يوم, وساعة بعد ساعة, الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه, نقله ابن جرير عن أبي مالك, وإليه ذهب السدي وعطاء الخراساني, واختار ابن جرير الأول, وهو كما قال. وقال النسائي عند تفسير هذه الاَية الكريمة: حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان قال: سمعت ابن وهب يقول: حدثني يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه». وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يونس بن يزيد الأيلي به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين, حدثنا الوليد بن الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو سرح, حدثنا عثمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله تعالى لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها, وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد, فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره, فذلك زيادة العمر». وقوله عز وجل: {إن ذلك على الله يسير} أي سهل عليه, يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته, فإن علمه شامل للجميع, لا يخفى عليه شيء منها. ** وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ يقول تعالى منبهاً على قدرته العظيمة في خلقه لأشياء المختلفة خلق البحرين العذب الزلال , وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار والعمران والبراري والقفار, وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك {وهذا ملح أجاج} أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار, وإنما تكون مالحة زعافاً مرة, ولهذا قال: {وهذا ملح أجاج} أي مر. ثم قال تعالى: {ومن كل تأكلون لحماً طرياً} يعني السمك {وتستخرجون حلية تلبسونها} كما قال عز وجل: {يخرج منها اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله جل وعلا: {وترى الفلك فيه مواخر} أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو صدره, وقال مجاهد: تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام وقوله جل وعلا: {لتبتغوا من فضله} أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم {ولعلكم تشكرون} أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم, وهو البحر, تتصرفون فيه كيف شئتم, تذهبون أين أردتم, ولا يمتنع عليكم شيء منه, بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض, الجميع من فضله ورحمته. ** يُولِجُ الْلّيْلَ فِي النّهَارِ وَيُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم في تسخيره الليل بظلامه, والنهار بضيائه, ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان, ثم يأخذ من هذا في هذا, فيطول هذا ويقصر هذا, ثم يتقارضان صيفاً وشتاء {وسخر الشمس والقمر} أي والنجوم السيارات, والثوابت الثاقبات, بأضوائهن أجرام السموات, الجميع يسيرون بمقدار معين, وعلى منهاج مقنن محرر, تقديراً من عزيز عليم {كل يجري لأجل مسمى} أي إلى يوم القيامة {ذلكم الله ربكم} أي الذي فعل هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره {والذين تدعون من دونه} أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين {ما يملكون من قطمير} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء وعطية العوفي والحسن وقتاده وغيرهم: القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة, أي لا يملكون من السموات والأرض شيئاً ولا بمقدار هذا القطمير. ثم قال تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} يعني الاَلهة التي تدعونها من دون الله لا تسمع دعاءكم, لأنها جماد لا أرواح فيها, {ولو سمعوا ما استجابوا لكم} أي لا يقدرون على شيء مما يطلبون منها {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} أي يتبرؤون منكم, كما قال تعالى: {ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً}. وقوله تعالى: {ولا ينبئك مثل خبير} أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى, فإنه أخبر بالواقع لا محالة. ** يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّهِ بِعَزِيزٍ * وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىَ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىَ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ إِنّمَا تُنذِرُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَمَن تَزَكّىَ فَإِنّمَا يَتَزَكّىَ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ يخبر تعالى بغناه عما سواه, وبافتقار المخلوقات كلها وتذللها بين يديه, فقال تعالى: {يا أيهاالناس أنتم الفقراء إلى الله} أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات, وهو تعالى الغني عنهم بالذات, ولهذا قال عز وجل: {والله هو الغني الحميد} أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له, وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وقوله تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم, وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع, ولهذا قال تعالى: {وما ذلك على الله بعزيز}. وقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} أي يوم القيامة {وإن تدع مثقلةٌ إلى حملها} أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه {لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى} أي وإن كان قريباً إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها, كل مشغول بنفسه وحاله. قال عكرمة في قوله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الاَية, قال هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة, فيقول: يا رب سل هذا لم كان يغلق بابه دوني, وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة, فيقول له: يا مؤمن إن لي عندك يداً قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم, فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى منزل دون منزله, وهو في النار, وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول: يا بني أي والد كنت لك, فيثني خيراً, فيقول له: يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى, فيقول له ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت, ولكني أتخوف مثلما تتخوف, فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً, ثم يتعلق بزوجته فيقول: يا فلانة, أو يا هذه أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيراً, فيقول لها: إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها ممن ترين, قال: فتقول: ما أيسر ما طلبت, ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً, إني أتخوف مثل الذي تتخوف. يقول الله تعالى: {وإن تدع مثقلة إلى حملها} الاَية, ويقول تبارك وتعالى: {لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً} ويقول تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} رواه ابن أبي حاتم رحمه الله عن أبي عبد الله الطهراني عن حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة به. ثم قال تبارك وتعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة} أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنّهى, الخائفون من ربهم, الفاعلون ما أمرهم به {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه} أي ومن عمل صالحاً فإنما يعود نفعه على نفسه {وإلى الله المصير} أي وإليه المرجع والمآب, وهو سريع الحساب, وسيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير, وإن شراً فشر. ** وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظّلُمَاتُ وَلاَ النّورُ * وَلاَ الظّلّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَآءُ وَلاَ الأمْوَاتُ إِنّ اللّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلاّ نَذِيرٌ * إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مّنْ أُمّةٍ إِلاّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَبِالزّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمّ أَخَذْتُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ يقول تعالى: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان, بل بينهما فرق وبون كثير, وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا لظل ولا الحرور, كذلك لا تستوي الأحياء ولا الأموات, كقوله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحيييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن في مثله الظلمات ليس بخارج منها} وقال عز وجل: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً} فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والاَخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون, والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها, بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والاَخرة حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم, وظل من يحموم لا بارد ولا كريم. وقوله تعالى: {إن الله يسمع من يشاء} أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والإنقياد لها. {وما أنت بمسمع من في القبور} أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها, كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم {إن أنت إلا نذير} أي إنما عليك البلاغ والإنذار, والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء, {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً} أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين, {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر, وأزاح عنهم العلل, كما قال تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} وكما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} الاَية, والاَيات في هذا كثيرة. وقوله تبارك وتعالى: {وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات} وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات {وبالزبر} وهي الكتب {وبالكتاب المنير} أي الواضح البين {ثم أخذت الذين كفروا} أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاؤوهم به, فأخذتهم أي بالعقاب والنكال {فكيف كان نكير} أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً, والله أعلم. ** أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النّاسِ وَالدّوَآبّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنّمَا يَخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ يقول تعالى منبهاً على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد, وهو الماء الذي ينزله من السماء, يخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار, كما هو المشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها, كما قال تعالى في الاَية الأخرى: {وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لاَيات لقوم يعقلون}. وقوله تبارك وتعالى: {ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها} أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان, كما هو المشاهد أيضاً من بيض وحمر, وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة, مختلفة الألوان أيضاً قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجدد الطرائق, وكذا قال أبو مالك والحسن وقتاده والسدي, ومنها غرابيب سود. قال عكرمة: الغرابيب الجبال الطوال السود, وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة: وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب, ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الاَية: هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: {وغرابيب سود} أي سود غرابيب, وفيما قاله نظر. وقوله تعالى: {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك} أي كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب, وهو كل ما دب على القوائم, والأنعام, من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضاً, فالناس منهم بربر وحبوش وطماطم في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض, والعرب بين ذلك والهنود دون ذلك, ولهذا قال تعالى في الاَية الأخرى: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لاَيات للعالمين} وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد منهن مختلف الألوان, بل الحيوان الواحد يكون أبلق فيه من هذا اللون وهذا اللون, فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد قال الحافظ أبو بكر البزارفي مسنده: حدثنا الفضل بن سهل, حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح, حدثنا زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيصبغ ربك ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم صبغاً لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض» وروي مرسلاً وموقوفاً, والله أعلم. ولهذا قال تعالى بعد هذا: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به, لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى, كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} قال: الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً, وأحل حلاله وحرم حرامه, وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله. وقال سعيد بن جبير: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري: العالم من خشي الرحمن بالغيب, ورغب فيما رغب الله فيه, وزهد فيما سخط الله فيه, ثم تلا الحسن {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور}. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث, ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية, وإنّما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح المصري: معناه أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية, وإنما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع, فإنما هو الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين, فهذا, لا يدرك إلا بالرواية, ويكون تأويل قوله: نور يريد به فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة: عالم بالله, عالم بأمر الله, وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله, وعالم بأمر الله, ليس بعالم بالله, فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض, والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض, والعالم بأمر الله ليس العالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل. ** إِنّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ وَأَقَامُواْ الصّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ * لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به, ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً, سراً وعلانية {يرجون تجارة لن تبور} أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله, كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه: إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة, ولهذا قال تعالى: {ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم {إنه غفور} أي لذنوبهم {شكور} للقليل من أعمالهم قال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الأية يقول: هذه آية القراء. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن, حدثناحيوة, حدثنا سالم بن غيلان قال: إنه سمع دراجاً أبا السمح يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله, وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أضعاف من الشر لم يعمله» غريب جداً. ** وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنّ اللّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يقول تعالى: {والذي أوحينا إليك} يامحمد من الكتاب وهو القرآن {هو الحق مصدقاً لما بين يديه} أي من الكتب المتقدمة بصدقها كما شهدت له بالتنويه, وأنه منزل من رب العالمين {إن الله بعباده لخبير بصير} أي هو خبير بهم بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه, ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر, وفضل النبيين بعضهم على بعض, ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم, صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ** ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة, ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع, فقال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات {ومنهم مقتصد} وهو المؤدي للواجبات, التارك للمحرمات, وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات, {ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} وهو الفاعل للواجبات والمستحبات, التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله, فظالمهم يغفر له, ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً, وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبد الرحمن بن معاوية العتبي قالا: حدثنا أبو الطاهر بن السرح, حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني. حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». قال ابن عباس رضي الله عنهما: «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله, والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم, وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير. وقال آخرون: بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق, حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما فمنهم ظالم لنفسه قال هو الكافر وكذا روى عنه عكرمة, وبه قال عكرمة أيضاً فيما رواه ابن جرير. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} قال: هم أصحاب المشأمة. وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن وقتاده: هو المنافق, ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتاده: وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها, والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة, وهذا اختيار ابن جرير, كما هو ظاهر الأية, وكما جاءت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر. (الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الأية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} قال «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة, وكلهم في الجنة» هذا حديث غريب من هذا الوجه, وفي إسناده من لم يسم, وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شعبه به نحوه. ومعنى قوله بمنزلة واحدة, أي في أنهم من هذه الأمة, وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة. (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى, حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عقبة, عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} فأما الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب, وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذي يحبسون في طول المحشر, ثم هم الذين تلاقاهم الله برحمته, فهم الذين يقولون {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب}. (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم, حدثنا الحسين بن حفص, حدثنا سفيان عن الأعمش, عن رجل, عن أبي ثابت, عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثم أورثنا الكتاب اصطفينا من عبادنا, فمنهم ظالم لنفسه ـ قال ـ فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن, ثم يدخل الجنة» ورواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال: ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد, فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه, فقال: اللهم آنس وحشتي, وارحم غربتي ويسر لي جليساً صالحاً, فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بك منك, سأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه وذكر هذه الاَية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}, فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير حساب, وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً, وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن, وذلك قوله تعالى: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن}. (الحديث الثالث) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس, حدثنا ابن مسعود, أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله} الاَية, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلهم من هذه الأمة». (الحديث الرابع) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عزيز, حدثنا سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة, وثلث يمحصون ويكشفون, ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده, يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده, واحملوا خطاياهم على أهل النار, وهي التي قال الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} وتصديقها في التي فيهاذكر الملائكة, قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} فجعلهم ثلاثة أنواع, وهم أصناف كلهم, فمنهم ظالم لنفسه, فهذا الذي يمحص ويكشف» غريب جداً. (أثر عن ابن مسعود) رضي الله عنه. قال ابن جرير: حدثني ابن حميد, حدثنا الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن عيسى رضي الله عنه عن يزيد بن الحارث, عن شقيق أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب, وثلث يحاسبون حساباً يسيراً, وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عز وجل: ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة: هؤلاء جاؤوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئاً, فيقول الرب عز وجل: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الأية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الاَية. (أثر آخر) قال أبو داود الطيالسي عن الصلت بن دينار بن الأشعث عن عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه} الاَية, فقالت لي: يا بني هؤلاء في الجنة, أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق, وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به, وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم, قال: فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا, وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع, وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى: {فمنهم ظالم لنفسه} قال: هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا, وسابقنا أهل الجهاد, رواه ابن أبي حاتم. وقال عوف الأعرابي: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه, قال: إن الظالم لنفسه من هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة, ألم تر أن الله تعالى قال: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها ـ إلى قوله عز وجل ـ والذين كفروا لهم نار جهنم} قال: فهؤلاء أهل النار, رواه ابن جرير من طرق عن عوف به ثم قال: حدثني يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: إن ابن عباس رضي الله عنهما سأل كعباً عن قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ـ إلى قوله ـ بإذن الله} قال: تماست مناكبهم ورب كعب, ثم أعطوا الفضل بأعمالهم. ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم بن بشير, حدثنا عمرو بن قيس عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الأية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} الاَية, قال أبو إسحاق: أما ما سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج, ثم قال: حدثنا ابن حميد, حدثنا الحكم, حدثنا عمرو عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: إنها أمة مرحومة, الظالم مغفور له, والمقتصد في الجنان عند الله, والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله. ورواه الثوري عن إسماعيل بن سميع عن رجل عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه بنحوه. وقال أبو الجارود: سألت محمد بن علي ـ يعني الباقر ـ رضي الله عنهما عن قول الله تعالى {فمنهم ظالم لنفسه} فقال: هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والاَثار المتعلقة بهذا المقام. وإِذا تقرر هذا, فإِن الاَية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة, فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة, وأولى الناس بهذه الرحمة, فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا محمد بن يزيد, حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن قيس بن كثير قال: قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق, فقال: ما أقدمك أي أخي ؟ قال: حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أما قدمت لتجارة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت لحاجة ؟ قال: لا, قال: أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث ؟ قال: نعم. قال رضي الله عنه: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيها علماً, سلك الله تعالى به طريقاً إلى الجنة, وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم, وإنه ليستغفر للعالم من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء, وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب, إن العلماء هم ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً, وإنما ورثوا العلم, فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث كثير بن قيس, ومنهم من يقول قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري, ولله الحمد والمنة, وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء: إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي». ** جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُواْ الْحَمْدُ للّهِ الّذِيَ أَذْهَبَ عَنّا الْحَزَنَ إِنّ رَبّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الّذِيَ أَحَلّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسّنَا فِيهَا لُغُوبٌ يخبر تعالى أن مأوى هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة, مأواهم جنات عدنٍ, أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عز وجل {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً} كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء». {ولباسهم فيها حرير} ولهذا كان محظوراً عليهم في الدنيا, فأباحه الله تعالى لهم في الاَخرة, وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الاَخرة» وقال«هي لهم في الدنيا, ولكم في الاَخرة». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن سواد السرحي, أخبرنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم, وذكر حلي أهل الجنة فقال «مسورون بالذهب والفضة مكللة بالدر, وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة, وعليهم تاج كتاج الملوك, شباب جرد مرد مكحولون» {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} وهو الخوف من المحذور, أزاحه عنا وأرحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والاَخرة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم, وكأني بأهل لاإله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» رواه ابن أبي حاتم من حديثه. وقال الطبراني: حدثنا جعفر بن محمد الفريابي, حدثنا موسى بن يحيى المروزي, حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب الكوفي عن عبد العزيز بن حكيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور, وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن, إن ربنا لغفور شكور» قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات, وشكر لهم اليسير من الحسنات {الذي أحلنا دار المقامة من فضله} يقولون الذي أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من فضله ومَنّه ورحمته, لم تكن أعمالنا تساوي ذلك, كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة» قالوا: ولا أنت يارسول الله ؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل» {لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء. والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب, وكأن المراد بنفي هذا وهذا عنهم, أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم, والله أعلم, فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا, فسقط عنهم التكليف بدخولها, وصاروا في راحة دائمة مستمرة قال الله تبارك وتعالى: {كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}. ** وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَىَ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُـنّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مّا يَتَذَكّرُ فِيهِ مَن تَذَكّرَ وَجَآءَكُمُ النّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظّالِمِينَ مِن نّصِيرٍ لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء, شرع في بيان مآل الأشقياء, فقال: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا} كما قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أما أهل النار الذين هم أهلها, فلا يموتون فيها ولا يحيون» وقال عز وجل: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون} فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم, ولكن لا سبيل إلى ذلك, قال الله تعالى: {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها} كما قال عز وجل: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون} وقال جل وعلا: {كلما خبت زدناهم سعيراً} { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} ثم قال تعالى: {كذلك نجزي كل كفور} أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق. وقوله جلت عظمته: {وهم يصطرخون فيها} أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عز وجل بأصواتهم {ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل} أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول, وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه, وإنهم لكاذبون فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم, كما قال تعالى مخبراً عنهم في قولهم {فهل إلى خروج من سبيل ؟ ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا} أي لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك, ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه, ولذا قال ههنا: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ؟} أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم ؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا, فروي عن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما أنه قال: مقدار سبع عشرة سنة. وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة, فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر قد نزلت هذه الاَية {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة, وكذا قال أبو غالب الشيباني. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن رجل عن وهب بن منبه في قوله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} قال: عشرين سنة وقال هشيم عن منصور عن زاذان عن الحسن في قوله تعالى: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} قال: أربعين سنة, وقال هشيم أيضاً عن مجاهد عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة, فليأخذ حذره من الله عز وجل, وهذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى, حدثنا بشر بن المفضل, حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} أربعون سنة, هكذا رواه من هذا الوجه عن ابن عباس رضي الله عنهما به, وهذا القول هو اختيار ابن جرير, ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس, كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خُثيم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ستون سنة, فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما, وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضاً, لما ثبت في ذلك من الحديث كما سنورده, لا كما زعمه ابن جرير من أن الحديث لم يصح في ذلك, لأن في إسناده من يجب التثبت في أمره, وقد روى أصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه أنه قال: العمر الذي عيرهم الله به في قوله {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} ستون سنة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا دحيم, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي عن ابن أبي حسين المكي, أنه حدثه عن عطاء هو ابن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة, قيل: أين أبناء الستين ؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه{أولم نعمركم مايتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}» وكذا رواه ابن جرير عن علي بن شعيب عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك به, وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك به, وهذا الحديث فيه نظر لحال إبراهيم بن الفضل, والله أعلم. (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ الستين أو سبعين سنة, لقد أعذر الله تعالى إليه, لقد أعذر الله تعالى إليه» وهكذا رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه: حدثنا عبد السلام بن مطهر عن عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري, عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله عز وجل إلى إمرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة» ثم قال البخاري: تابعه أبو حازم وابن عجلان عن سعيد المقبري, فأما أبو حازم فقال ابن جرير: حدثنا أبو صالح الفزاري, حدثنا محمد بن سوار, أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القادر أي الإسكندري, حدثنا أبو حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» وقد رواه الإمام أحمد والنسائي في الرقاق جميعاً عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن به. ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن يونس, حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» يعني {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} وأما متابعة ابن عجلان فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن قرعة بسامراء, حدثنا أبو عبد الرحمن المقري, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عز وجل إليه في العمر» وكذا رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقري به, ورواه أحمد أيضاً عن خلف عن أبي معشر عن أبي سعيد المقبري. (طريق أخرى) عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن جرير: حدثني أحمد بن الفرج أبو عتبة الحمصي, حدثنا بقية بن الوليد, حدثنا المطرف بن مازن الكناني, حدثني معمر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أعذر الله عز وجل في العمر إلى صاحب الستين والسبعين» فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق, فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ هذه الصناعة لكفت وقول ابن جرير: إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري, والله أعلم. وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة, فالإنسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين, ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم, كما قال الشاعر. إذا بلغ الفتى ستين عاماًفقد ذهب المسرة والفتاء ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به ويزيح به عنهم العلل, كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة, كما ورد بذلك الحديث. قال الحسن بن عرفة رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعاً في كتاب الزهد عن الحسن بن عرفة به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب, لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا عجيب من الترمذي, فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى عن أبي هريرة حيث قال: حدثنا سليمان بن عمرو عن محمد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين, وأقلهم من يجوز ذلك» وقد رواه الترمذي في كتاب الزهد أيضاً عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن محمد بن ربيعة به, ثم قال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه, وقد روي من غير وجه هذا نصه بحروفه في الموضعين, والله أعلم. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى الأنصاري, حدثنا ابن أبي فديك, حدثني إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم عن المقبري, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: «معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين» وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقل أمتي أبناء سبعين» إسناده ضعيف. (حديث آخر) في معنى ذلك. قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن هانىء, حدثنا إبراهيم بن مهدي عن عثمان بن مطر عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أنبئنا بأعمار أمتك, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين الخمسين إلى الستين» قالوا: يا رسول الله فأبناء السبعين ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قل من يبلغها من أمتي, رحم الله أبناء السبعين, ورحم الله أبناء الثمانين» ثم قال البزار: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد, وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي, وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة, وقيل ستين, وقيل خمساً وستين, والمشهور الأول, والله أعلم. وقوله تعالى: {وجاءكم النذير} روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وأبي جعفر الباقر رضي الله عنه وقتادة وسفيان بن عيينة أنهم قالوا: يعني الشيب وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقرأ ابن زيد {هذا نذير من النذر الأولى} وهذا هو الصحيح عن قتادة فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل, وهذا اختيار ابن جرير, وهو الأظهر لقوله تعالى: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون} أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتهم, وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} وقال تبارك وتعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير}. وقوله تعالى: {فذوقوا فما للظالمين من نصير} أي فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم, فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال. ** إِنّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * هُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَسَاراً يخبر تعالى بعلمه غيب السموات والأرض, وإنه يعلم ما تكنه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر, وسيجازى كل عامل بعمله, ثم قال عز وجل {هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} أي يخلف قوم لاَخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم. كما قال تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} {فمن كفر فعليه كفره} أي فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره {ولا يزيد الكافرون كفرهم عند ربهم إلا مقتاً} أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى, وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين, فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله, ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين. ** قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَىَ بَيّنَةٍ مّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً * إِنّ اللّهَ يُمْسِكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون لله} أي من الأصنام والأنداد {أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات} أي ليس لهم شيء من ذلك ما يملكون من قطيمر. وقوله {أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولون من الشرك والكفر ؟ ليس الأمر كذلك {بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلا غروراً} أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي يمنوها لأنفسهم وهي غرور وباطل وزور. ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما, فقال {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} أي أن تضطربا عن أماكنهما, كما قال عز وجل: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} وقال تعالى: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو, وهو مع ذلك حليم غفور أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه, وهو يحلم فيؤخر, وينظر ويؤجل ولا يعجل, ويستر آخرين ويغفر, ولهذا قال تعالى: {إنه كان حليماً غفوراً}. وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديثاً غريباً بل منكراً, فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثني إسحاق بن إبراهيم, حدثني هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام على المنبر قال: وقع في نفس موسى عليه الصلاة والسلام: هل ينام الله عز وجل ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً, وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة, وأمره أن يحتفظ بهما, قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان, ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان, قال: ضرب الله له مثلاً أن الله عز وجل لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض, والظاهر أن هذا الحديث ليس بمرفوع بل من الإسرائيليات المنكرة, فإن موسى عليه الصلاة والسلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى النوم, وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه {الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض} وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, ويرفع إليه عمل الليل قبل)النهار, وعمل النهار قبل الليل, حجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». وقد قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه فقال: من أين جئت ؟ قال: من الشام, قال: من لقيت ؟ قال: لقيت كعباً, قال: ما حدثك ؟ قال: حدثني أن السموات تدور على منكب ملك, قال: أفصدقته أو كذبته ؟ قال: ما صدقته ولا كذبته, قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها, كذب كعب إن الله تعالى يقول {إن الله يمسك السموات أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} وهذا إسناد صحيح إلى كعب وإلى ابن مسعود رضي الله عنه. ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: ذهب جندب البجلي إلى كعب بالشام فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي سماه ـ سير الفقهاء ـ أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع عن وكيع عن الأعمش به, ثم قال: وأخبرنا زونان يعني عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب عن مالك أنه قال: السماء لاتدور, واحتج بهذه الاَية, وبحديث «إن بالمغرب باباً للتوبة لا يزال مفتوحاً حتى تطلع الشمس منه» قلت: وهذا الحديث في الصحيح, والله سبحانه وتعالى أعلم. ** وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الاُمَمِ فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً يخبر تعالى عن قريش والعرب, أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم {لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم}, أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل, قاله الضحاك وغيره كقوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها} وكقوله تعالى: {وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون} قال الله تعالى: {فلما جاءهم نذير} وهو محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم, وهو القرآن المبين {ما زادهم إلا نفوراً} أي ما ازدادوا إلا كفراً إلى كفرهم, ثم بين ذلك بقوله: {استكباراً في الأرض} أي: استكبروا عن اتباع آيات الله {ومكر السيء} أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم. قال ابن أبي حاتم: ذكر علي بن الحسين, حدثنا ابن أبي عمر, حدثنا سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياك ومكر السيء, فإنه لايحيق المكر السيء إلا بأهله, ولهم من الله طالب» وقال محمد بن كعب القرظي: ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به: من مكر أو بغى أو نكث, وتصديقها في كتاب الله تعالى: {ولايحيق المكر السيء إلا بأهله} {إنما بغيكم على أنفسكم} {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} وقوله عز وجل: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين} يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} أي لاتغير ولا تبدل, بل هي جارية كذلك في كل مكذب {ولن تجد لسنة الله تحويلاً} أي {وإذا أراد الله بقوم سوءاً قلا مرد له} ولا يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد, والله أعلم. ** أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوَاْ أَشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ إِنّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً * وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىَ ظَهْرِهَا مِن دَآبّةٍ وَلَـَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المكذين بما جئتهم به من الرسالة: سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل, كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها, فخلت منهم منازلهم, وسلبوا ما كانوا فيه من نعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد, وكثرة الأموال والأولاد, فما أغنى ذلك شيئاً, ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء, لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لايعجزه شيء إذا أراد كونه في السموات والأرض {إنه كان عليماً قديراً} أي عليم بجميع الكائنات قدير على مجموعها, ثم قال تعالى: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل الأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان, حدثنا عبد الرحمن, حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم, ثم قرأ {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}. وقال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى: {ما ترك على ظهرها من دابة} أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب, {ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ, ويوفي كل عامل بعمله, فيجازي بالثواب أهل الطاعة وبالعقاب أهل المعصية, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً}. آخر تفسير سورة فاطر و لله الحمد والمنة. سورة يس وهي مكية قال أبو عيس الترمذي: حدثنا قتيبة وسفيان بن وكيع, حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء قلباً, وقلب القرآن يس, ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ثم قال: هذا حديث غريب لانعرفه إلا من حديث حميد بن عبد الرحمن, وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ولا يصح لضعف إسناده. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: منظور فيه, أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول, وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو بكر البزار: حدثنا عبد الرحمن بن الفضل, حدثنا زيد هو ابن الحباب, حدثنا حميد هو المكي مولى آل علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس» ثم قال: لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل, حدثنا حجاج بن محمد عن هشام بن زياد عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ يس في ليلة أصبح مغفوراً له, ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح مغفور له» إسناده جيد. وقال ابن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف, حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني, حدثنا أبي, حدثنا زياد بن خيمثة, حدثنا محمد بن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عز وجل غفر له». وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته, نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً, واستخرجت{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش فوصلت بها ـ أو فوصلت بسورة البقرة ـ ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الاَخرة إلا غفرله, واقرؤوها على موتاكم» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر بن سليمان به. ثم قال الإمام أحمد: حدثنا عارم, حدثنا ابن المبارك, حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي, عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوها على موتاكم» يعني يس, ورواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك به, إلا أن في رواية النسائي عن أبي عثمان عن معقل بن يسار رضي الله عنه, ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى, وكأن قراءتها عند الميت لتنزل الرحمة والبركة, وليسهل عليه خروج الروح, والله تعالى أعلم. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا صفوان قال: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت ـ يعني يس ـ عند الميت خفف الله عنه بها. وقال البزار: حدثنا سلمة بن شبيب, حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي» يعني يس. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** يسَ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْماً مّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقّ الْقَوْلُ عَلَىَ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والضحاك والحسن وسفيان بن عيينة أن يس بمعنى يا إنسان. وقال سعيد بن جبير: هو كذلك في لغة الحبشة, وقال مالك عن زيد بن أسلم: هو اسم من أسماء الله تعالى: {والقرآن الحكيم} أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {إنك} أي يا محمد{لمن المرسلين على صراط مستقيم} أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم {تنزيل العزيز الرحيم} أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين, كما قال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}. وقوله تعالى: {لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} يعني بهم العرب, فإنه ما أتاهم من نذير من قبله, وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم, كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم, وقد تقدم ذكر الاَيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}. وقوله تعالى: {لقد حق القول على أكثرهم} قال ابن جرير: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون {فهم لايؤمنون} بالله ولا يصدقون رسله. ** إِنّا جَعَلْنَا فِيَ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُم مّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ * وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ * إِنّمَا تُنذِرُ مَنِ اتّبَعَ الذِكْرَ وَخشِيَ الرّحْمـَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ * إِنّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىَ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيَ إِمَامٍ مّبِينٍ يقول تعالى: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل, فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه, فارتفع رأسه فصار مقمحاً, ولهذا قال تعالى: {فهم مقمحون} والمقمح هو الرافع رأسه, كما قالت أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح, أي أشرب فأروي, وأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً, واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين, كما قال الشاعر: فماأدري إذا يممت أرضاًأريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيهأم الشر الذي لا يأتليني ؟ فاكتفى بذكر الخير عن الشر, لما دل الكلام والسياق عليه, وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق, اكتفى بذكر العنق عن اليدين. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} قال: هو كقوله عز وجل: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد {فهم مقمحون} قال: رافعي رؤوسهم, وأيديهم موضوعة على أفواههم, فهم مغلولون عن كل خير. وقوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سداً} قال مجاهد: عن الحق {ومن خلفهم سداً} قال مجاهد: عن الحق فهم يترددون. وقال قتادة: في الضلالات. وقوله تعالى: {فأغشيناهم} أي أغشينا أبصارهم عن الحق {فهم لا يبصرون} أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ {فأعشيناهم} بالعين المهملة من العشا, وهو داء في العين, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان, فهم لا يخلصون إليه, وقرأ {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} ثم قال: من منعه الله تعالى لا يستطيع.وقال عكرمة: قال أبو جهل: لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن, فأنزلت {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ـ إلى قوله ـ فهم لا يبصرون} قال: وكانوا يقولون هذا محمد, فيقول: أين هو أين هو ؟ لا يبصره, رواه ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس: إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم, وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن, وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح, ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب, وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه, فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ {يس والقرآن الحكيم ـ حتى انتهى إلى قوله تعالى ـ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون} وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته, وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار, فقال: مالكم ؟ قالوا: ننتظر محمداً, قال: قد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً, ثم ذهب لحاجته, فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال: وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: «وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه أحدهم». وقوله تبارك وتعالى: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون} أي فقد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به, وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة, وكما قال تبارك وتعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون, ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} {إنما تنذر من اتبع الذكر} أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر وهو القرآن العظيم {وخشي الرحمن بالغيب} أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل {فبشره بمغفرة } أي لذنوبه {وأجر كريم} أي كثير واسع حسن جميل, كما قال تبارك وتعالى: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير} ثم قال عز وجل: {إنا نحن نحيي الموتى} أي يوم القيامة, وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار, الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق, كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الاَيات لعلكم تعقلون}. وقوله تعالى: {ونكتب ماقدموا} أي من الأعمال, وفي قوله تعالى: {وآثارهم} قولان: (أحدهما) نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم, وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر, كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها, وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً, ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً» رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه, وفيه قصة مجتابي النّمار المضريين, ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي, عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله, ثم تلا هذه الأية {ونكتب ما قدموا وآثارهم} وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبدالملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره. وهكذا الحديث الاَخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, أو صدقة جارية من بعده», وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: سمعت مجاهداً يقول في قوله تعالى: {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} قال: ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} يعني ما أثروا, يقول: ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم, فإن كانت خيراً فلهم مثل أجورهم لاينقص من أجر من عمل به شيئاً, وإن كانت شراًفعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئاً, ذكرهما ابن أبي حاتم, وهذا القول هو اختيار البغوي. (والقول الثاني) أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية, قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد{ما قدموا} أعمالهم {وآثارهم} قال: خطاهم بأرجلهم, وكذا قال الحسن وقتاده {وآثارهم} يعني خطاهم. وقال قتادة: لو كان الله عز وجل مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الاَثار, ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته, فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث: (الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد, حدثنا أبي, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما, قال: خلت البقاع حول المسجد, فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال لهم: «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد ؟» قالوا: نعم يارسول الله قد أردنا ذلك, فقال صلى الله عليه وسلم: «يا بني سلمة, دياركم تكتب آثاركم, دياركم تكتب آثاركم», وهكذا رواه مسلم من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن, كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي, عن جابر رضي عنه به. (الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي, حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة, فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد, فنزلت {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا, تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسيره هذه الاَية الكريمة عن محمد بن الوزير به, ثم قال: حسن غريب من حديث الثوري, ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي, عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف ـ وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي ـ عن أبي نضرة به. وقد روي من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن زياد الساجي, حدثنا عثمان بن عمر, حدثنا شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة, عن أبي سعيد رضي الله عنه, قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد, فنزلت{ونكتب ماقدموا وآثارهم} فأقاموا في مكانهم. وحدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الأعلى, حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الاَية, والسورة بكمالها مكية, فالله أعلم. (الحديث الثالث) قال ابن جرير: حدثنا نصر بن علي الجهضمي, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد, فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد,فنزلت {ونكتب ماقدموا وآثارهم} فقالوا: نثبت مكاننا, هكذا رواه, وليس فيه شيء مرفوع. ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل, عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد, فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد, فنزلت {ونكتب ما قدموا وآثارهم} فثبتوا في منازلهم. (الحديث الرابع) قال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال: توفي رجل في المدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: وقال «يا ليته مات في غير مولده», فقال رجل من الناس: ولم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا توفي في غير مولده, قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة», ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجه عن حرملة, كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا أبو نميلة, حدثنا الحسين عن ثابت قال: مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً, فلما قضينا الصلاة قال أنس: مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي,فقال: يا أنس أما شعرت أن الاَثار تكتب ؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول, بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى, فإنه إذا كانت هذه الاَثار تكتب, فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ, والإمام المبين ههنا هو أم الكتاب, قاله مجاهد وقتاده وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم, وكذا في قوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم} أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر, كما قال عز وجل: {ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} وقال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلنتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً}. ** وَاضْرِبْ لَهُمْ مّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذّبُوهُمَا فَعَزّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوَاْ إِنّآ إِلَيْكُمْ مّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرّحْمَـَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبّنَا يَعْلَمُ إِنّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ويقول تعالى: واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك {مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إنها مدينة أنطاكية وكان بها ملك يقال له أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام, فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل, وهم صادق وصدوق وشلوم, فكذبهم, وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أنها أنطاكية, وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سنذكره بعد تمام القصة إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم إثنين فكذبوهما} أي بادروهما بالتكذيب {فعززنا بثالث} أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال: كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا, واسم الثالث بوليس, والقرية أنطاكية {فقالوا} أي لأهل تلك القرية {إنا إليكم مرسلون} أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له, قاله أبو العالية, وزعم قتادة بن دعامة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل أنطاكية {قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا} أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر, فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة, وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة, كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: {ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا} أي استعجبوا من ذلك وأنكروه. وقوله تعالى: {قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين}. وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله جل وعلا: {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} وقوله تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً ؟} ولهذا قال هؤلاء {ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون} أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم, ولوكنا كذبة عليه لا نتقم منا أشد الانتقام, ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار, كقوله تعالى: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً يعلم ما في السموات وما في الأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون} {وما علينا إلا البلاغ المبين} يقولون: إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم, فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والاَخرة, وإن لم تجيبوا فستعلمون غبّ ذلك, والله أعلم. ** قَالُوَاْ إِنّا تَطَيّرْنَا بِكُمْ لَئِن لّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنّكُمْ وَلَيَمَسّنّكُمْ مّنّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مّعَكُمْ أَإِن ذُكّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مّسْرِفُونَ فعند ذلك قال لهم أهل القرية{إنا تطيرنا بكم} أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا. وقال قتادة: يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم. وقال مجاهد: يقولون لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} قال قتادة: بالحجارة. وقال مجاهد: بالشتم, {وليمسنكم منا عذاب أليم} أي عقوبة شديدة, فقالت لهم رسلهم {طائركم معكم} أي مردود عليكم, كقوله تعالى في قوم فرعون {فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله} وقال قوم صالح {اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله} وقال قتادة ووهب بن منبه: أي أعمالكم معكم. وقال عز وجل: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله, وإن تصبهم سيئة يقولون هذه من عندك, قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثاً} وقوله تعالى: {أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له, قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا, بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة: أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا بل أنتم قوم مسرفون. ** وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىَ قَالَ يَقَوْمِ اتّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ * اتّبِعُواْ مَن لاّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرّحْمَـَنُ بِضُرّ لاّ تُغْنِ عَنّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ * إِنّيَ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * إِنّيَ آمَنتُ بِرَبّكُمْ فَاسْمَعُونِ قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم, فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى, أي لينصرهم من قومه, قالوا: وهو حبيب, وكان يعمل الجرير وهو الحبال وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام, وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة. وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن الحكم عن مقسم أو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: اسم صاحب يس حبيب, وكان الجذام قد أسرع فيه. وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز: كان اسمه حبيب بن سري. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اسم صاحب يس حبيب النجار, فقتله قومه. وقال السدي: كان قصاراً. وقال عمر بن الحكم: كان إسكافاً. وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك, {قال يا قوم اتبعوا المرسلين} يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم {اتبعوا من لايسألكم أجراً} أي على إبلاغ الرسالة وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {ومالي لا أعبد الذي فطرني} أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لاشريك له {وإليه ترجعون} أي يوم المعاد, فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر {أأتخذ من دونه آلهة} استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع {إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون} أي هذه الاَلهة التي تعبدونها من دونه لايملكون من الأمر شيئاً, فإن الله تعالى لو أرادني بسوء {فلا كاشف له إلا هو} وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه, ولا ينقذونني مما أنا فيه{إني إذاً لفي ضلال مبين} أي إن اتخذتها آلهة من دون الله. وقوله تعالى: {إني آمنت بربكم فاسمعون} قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب: يقول لقومه {إني آمنت بربكم} الذي كفرتم به {فاسمعون} أي فاسمعوا قولي ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله: {إني آمنت بربكم} أي الذي أرسلكم {فاسمعون} أي فاشهدوا لي بذلك عنده, وقد حكاه ابن جرير فقال: وقال آخرون: بل خاطب بذلك الرسل, وقال لهم: اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي, إني آمنت بربكم واتبعتكم, وهذا القول الذي حكاه عن هؤلاء أظهر في المعنى, والله أعلم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب رضي الله عنهما: فلما قال ذلك, وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه, ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة: جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون, فلم يزالوا به حتى أقعصوه, وهو يقول كذلك, فقتلوه رحمه الله. ** قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ * وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىَ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السّمَآءِ وَمَا كُنّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه, أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره, وقال الله له: {ادخل الجنة} فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد: قيل لحبيب النجار: ادخل الجنة, وذلك أنه قتل فوجبت له, فلما رأى الثواب {قال يا ليت قومي يعلمون} قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً. لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى: {قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه. وقال ابن عباس: نصح قومه في حياته بقوله {يا قوم اتبعوا المرسلين} وبعد مماته في قوله {يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} رواه ابن أبي حاتم. وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز {بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم, لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه, فلقد كان حريصاً على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عبيد الله, حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أخاف أن يقتلوك» فقال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلق» فانطلق, فمر على اللات والعزى, فقال:لأصبحنك غداً بما يسوؤك, فغضبت ثقيف, فقال: يا معشر ثقيف إن اللات لالات وإن العزى لا عزى, أسلموا تسلموا, يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لالات, أسلموا تسلموا, قال ذلك ثلاث مرات, فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا مثله كمثل صاحب يس» { قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين}. وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار, أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول لله صلى الله عليه وسلم, فجعل يقول له: أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول: نعم, ثم يقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع, فيقول له مسيلمة لعنه الله: أتسمع هذا, ولا تسمع ذاك ؟ فيقول: نعم, فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه, فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه حبيب. وقوله تبارك وتعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين} يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضباً منه تبارك وتعالى عليهم, لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه, ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم, بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين} أي ما كاثرناهم بالجموع, الأمر كان أيسر علينا من ذلك {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} قال: فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار, وأهلك أهل أنطاكية, فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية, وقيل {وما كنا منزلين} أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم, وقيل المعنى في قوله تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء} أي من رسالة أخرى إليهم, قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} قال ابن جرير: والأول أصح, لأن الرسالة لا تسمى جنداً. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام, فأخذ بعضادتي باب بلدهم, ثم صاح بهم صيحة واحدة, فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية, وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً من عند المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, كما نص عليه قتادة وغيره, وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره, وفي ذلك نظر من وجوه: (أحدها) أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل, لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون ـ إلى أن قالوا ـ ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين} ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام. والله تعالى أعلم, ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم {إن أنتم إلا بشر مثلنا}. (الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم, وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح, ولهذا كانت عندالنصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة, وهن: القدس لأنها بلد المسيح, وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها, والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين, ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده, ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها, كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم, كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين, فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت, فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم, والله أعلم. (الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة, وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم, بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين, ذكروه عند قوله تبارك وتعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية, كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة, فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري, حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني, حدثنا حسين الأشقر, حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون, والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس, والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه» فإنه حديث منكر, لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر, وهو شيعي متروك, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ** يَحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رّسُولٍ إِلاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ الْقُرُونِ أَنّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلّ لّمّا جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يا حسرة على العباد} أي يا ويل العباد. وقال قتادة {يا حسرة على العباد} أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله, وفرطت في جنب الله, وفي بعض القراءات: يا حسرة العباد على أنفسهم, ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب, كيف كذبوا رسل الله, وخالفوا أمر الله, فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم {ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون} أي يكذبونه ويستهزئون به ويمجدون ما أرسل به من الحق. ثم قال تعالى: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل, كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة, ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى} وهم القائلون بالدور من الدهرية, وهم الذين يعتقدون جهلاً منهم أنهم يعودون إلى الدنيا, كما كانوا فيها, فرد الله تبارك وتعالى عليهم باطلهم, فقال تبارك وتعالى: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون}. وقوله عز وجل: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} أي وإن جميع الأمم الماضية والاَتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا, فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها, ومعنى هذا كقوله جل وعلا: {وإن كلاً لما ليوفينهم ربك أعمالهم} وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف, فمنهم من قرأ {وإن كلاً لما} بالتخفيف فعنده أن إن للإثبات, ومنهم من شدد {لما} وجعل أن نافية, ولما بمعنى إلا, تقديره وما كل إلا جميع لدينا محضرون, ومعنى القراءتين واحد, والله سبحانه وتعالى أعلم. ** وَآيَةٌ لّهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الأزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ يَعْلَمُونَ يقول تبارك وتعالى: {وآية لهم} أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى {الأرض الميتة} أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات, فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء, اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج, ولهذا قال تعالى: {أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون} أي جعلناه رزقاً لهم ولأنعامهم {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون} أي جعلنا فيها أنهاراً سارحة في أمكنة يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره, لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم, عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها. وقوله جل وعلا: {وما عملته أيديهم} أي وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم, قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتاده: ولهذا قال تعالى: {أفلا يشكرون} أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى, واختار ابن جرير ـ بل جزم به, ولم يحك غيره إلا احتمالاً ـ أن {ما} في قوله تعالى: {وما عملته أيديهم} بمعنى الذي تقديره ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي غرسوه ونصبوه, قال: وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {ليأكلوامن ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون}, ثم قال تبارك وتعالى: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض} أي من زروع وثمار ونبات {ومن أنفسهم} فجعلهم ذكراً وأنثى {ومما لا يعلمون} أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها, كما قال جلت عظمته: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} ** وَآيَةٌ لّهُمُ الْلّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ * وَالشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرّ لّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّىَ عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ وَكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يقول تعالى ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة, خلق الليل والنهار هذا بظلامه وهذا بضيائه, وجعلهما يتعاقبان يجيء هذا فيذهب هذا, ويذهب هذا فيجيء هذا, كما قال تعالى: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً} ولهذا قال عز وجل ههنا: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} أي نصرمه منه, فيذهب فيقبل الليل, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فإذا هم مظلمون} كما جاء في الحديث «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس, فقد أفطر الصائم» هذا هو الظاهر من الاَية, وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} وقد ضعف ابن جرير قول قتادة ههنا, وقال: إنما معنى الإيلاج الأخذ من هذا في هذا, وليس هذا مراداً في هذه الاَية, وهذا الذي قاله ابن جرير حق. وقوله جل جلاله: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} في معنى قوله: {لمستقر لها} قولان(أحدهما) أن المراد مستقرها المكاني, وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب, وهي أينما كانت فهي تحت العرش هي وجميع المخلوقات, لأنه سقفها, وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة, وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة, وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس, فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش, فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل, صارت أبعد ما تكون إلى العرش, فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث. قال البخاري: حدثنا أبو نعيم, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم: في المسجد عند غروب الشمس, فقال صلى الله عليه وسلم «يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟» قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش, فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}». حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي, حدثنا وكيع, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه: قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى: {والشمس تجري لمستقر لها} قال صلى الله عليه وسلم: «مستقرها تحت العرش» هكذا أورده ههنا, وقد أخرجه في أماكن متعددة, ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الأعمش به. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس, فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس ؟» قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل, فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها, وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت, فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها ـ ثم قرأ ـ {والشمس تجري لمستقر لها} وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: «أتدري أين تذهب ؟» قلت: الله ورسوله أعلم, قال صلى الله عليه وسلم: «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش, فتستأذن فيؤذن لها, ويوشك أن تسجد, فلا يقبل منها ؟ وتستأذن فلا يؤذن لها, ويقال لها ارجعي من حيث جئت, فتطلع من مغربها, فذلك قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}». وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما, قال في قوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها} قال: إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم, حتى إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت يؤذن لها, حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها, فتقول إن المسير بعيد, وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ فتحبس ماشاء الله أن تحبس, ثم يقال لها اطلعي من حيث غربت, قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل, أو كسبت في إيمانها خيراً. وقيل: المراد بمستقرها هو انتهاء سيرها, وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها, ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض. (والقول الثاني) أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة, يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور, وينتهي هذا العالم إلى غايته, وهذا هو مستقرها الزماني. قال قتادة {لمستقر لها} أي لوقتها ولأجل لا تعدوه, وقيل: المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها, ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها, يروى هذا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم {والشمس تجري لمستقر لها} أي لا قرار لها ولا سكون, بل هي سائرة ليلاً ونهاراً, لا تفتر ولا تقف, كماقال تبارك وتعالى: {وسخر لكم الشمس والقمر دائبين} أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة {ذلك تقدير العزيز} أي الذي لا يخالف ولا يمانع {العليم} بجميع الحركات والسكنات, وقد قدر ذلك ووقته على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس, كما قال عز وجل: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً ذلك تقدير العزيز العليم} وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى: {ذلك تقدير العزيز العليم}. ثم قال جل وعلا: {والقمر قدرناه منازل} أي جعلناه يسير سيراً آخر يستدل به على مضي الشهور, كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار, كما قال عز وجل: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}. وقال تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} الاَية, وقال تبارك وتعالى: {وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً} فجعل الشمس لها ضوء يخصها, والقمر له نور يخصه, وفاوت بين سير هذه وهذا, فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد, ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاء, يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل, ثم يطول الليل ويقصر النهار, وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري, وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور, ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة, ثم كلما ارتفع ازداد ضياءً وإن كان مقتبساً من الشمس حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة, ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهو أصل العذق. وقال مجاهد: العرجون القديم أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى, وكذا قال غيرهما, ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديداً أول الشهر الاَخر, والعرب تسمي كل ثلاث ليال من الشهر باسم باعتبار القمر, فيسمون الثلاث الأول غرر, واللواتي بعدها نقل واللواتي بعدها تسع, لأن أخراهن التاسعة واللواتي بعهدها عشر, لأن أولاهن العشرة, واللواتي بعدها البيض, لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن, واللواتي بعدهن درع جمع درعاء, لأن أولهن أسود لتأخر القمر في أولهن منه, ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود, وبعدهن ثلاث ظلم, ثم ثلاث حنادس, وثلاث دآدى, وثلاث محاق لانمحاق القمر أو الشهر فيهن. وكان أبو عبيدة رضي الله عنه ينكر التسع والعشر. كذا قال في كتاب غريب المصنف. وقوله تبارك وتعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} قال مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه, إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا, وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا, وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} قال: ذلك ليلة الهلال. وروى ابن أبي حاتم ههنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن للريح جناحاً, وإن القمر يأوي إلى غلاف من الماء. وقال الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح: لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا. وقال عكرمة في قوله عز وجل: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر} يعني أن لكل منهما سلطاناً! فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل. وقوله تعالى: {ولا الليل سابق النهار} يقول: لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار, فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل. وقال الضحاك: لا يذهب الليل من ههنا حتى يجيء النهار من ههنا, وأومأ بيده إلى المشرق. وقال مجاهد {ولا الليل سابق النهار} يطلبان حثيثين يسلخ أحدهما من الاَخر, والمعنى في هذا أنه لا فترة بين الليل والنهار, بل كان منهما يعقب الاَخر بلا مهلة ولا تراخ, لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً. وقوله تبارك وتعالى: {وكل في فلك يسبحون} يعني الليل والنهار والشمس والقمر, كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء, قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: في فلك بين السماء والأرض, ورواه ابن أبي حاتم, وهو غريب جداً بل منكر. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من السلف: في فلكة كفلكة المغزل. وقال مجاهد: الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل, لا يدور المغزل إلا بها, ولا تدور إلا به. ** وَآيَةٌ لّهُمْ أَنّا حَمَلْنَا ذُرّيّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ * إِلاّ رَحْمَةً مّنّا وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ يقول تبارك وتعالى: ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن, فمن ذلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام, التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام غيرهم, ولهذا قال عز وجل: {وآية لهم أنا حملنا ذريتهم} أي آباءهم {في الفلك المشحون} أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات, التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: المشحون الموقر, وكذا قال سعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد: وهي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. وقوله جل وعلا: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني بذلك الإبل, فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها, وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في رواية, وعبد الله بن شداد وغيرهم: وقال السدي في رواية: هي الأنعام. وقال ابن جرير: حدثنا الفضل بن الصباح, حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: أتدرون ما قوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} قلنا: لا, قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها, وكذا قال أبو مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضاً المراد بقوله تعالى: {وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} أي السفن, ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا: {إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية}. وقوله عز وجل: {وإن نشأ نغرقهم} يعني الذين في السفن {فلا صريخ لهم} أي لا مغيث لهم مما هم فيه{ولا هم ينقذون} أي مما أصابهم {إلا رحمة منا} وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر, ونسلمكم إلى أجل مسمى, ولهذا قال تعالى: {ومتاعاً إلى حين} أي إلى وقت معلوم عند الله عز وجل. ** وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ آيَةٍ مّنْ آيَاتِ رَبّهِمْ إِلاّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها, وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة {وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم} قال مجاهد: من الذنوب, وقال غيره بالعكس, {لعلكم ترحمون} أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه, وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه, واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} أي على التوحيد وصدق الرسل {إلا كانوا عنها معرضين} أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها. وقوله عز وجل: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} أي إذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين {قال الذين كفروا للذين آمنوا} أي عن الذين آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به{أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه, فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم {إن أنتم إلا في ضلال مبين} أي في أمركم لنا بذلك. قال ابن جرير: ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم, فقال لهم: {إن أنتم إلا في ضلال مبين} وفي هذا نظر, والله أعلم. ** وَيَقُولُونَ مَتَىَ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىَ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: {متى هذا الوعد} {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} قال الله عز وجل: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون} أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة, وهذه والله أعلم ـ نفخة الفزع, ينفخ في الصور نفخة الفزع, والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم, فبينما هم كذلك إذ أمر الله عز وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها, فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً, وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء, ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم, ولهذا قال تعالى: {فلا يستطيعون توصية} أي على ما يملكونه, الأمر أهم من ذلك {ولا إلى أهلهم يرجعون} وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر, ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم, ثم بعد ذلك نفخة البعث. ** وَنُفِخَ فِي الصّورِ فَإِذَا هُم مّنَ الأجْدَاثِ إِلَىَ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُواْ يَوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرّحْمـَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لّدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذه هي النفخة الثالثة, وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور, ولهذا قال تعالى: {فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} والنسلان هو المشي السريع كما قال تعالى: {يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يوفضون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ؟} يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها, فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا} وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم, لأنه بالنسبة إلى مابعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة: ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة: وذلك بين النفختين, فلذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا, فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون, قاله غير واحد من السلف {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة, ولا منافاة إذ الجمع ممكن, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار {يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ؟ هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} نقله ابن جرير, واختار الأول, وهو أصح, وذلك لقوله تبارك وتعالى في الصافات: {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} وقال الله عز وجل: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون}. وقوله تعالى: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} كقوله عز وجل: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقال جلت عظمته: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} وقال جل جلاله: {يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} أي إنما نأمرهم أمراً واحداً, فإذا الجميع محضرون {فاليوم لاتظلم نفس شيئاً} أي من عملها {ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}. ** إِنّ أَصْحَابَ الْجَنّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَآئِكِ مُتّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مّا يَدّعُونَ * سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رّبّ رّحِيمٍ يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العَرَصات, فنزلوا في روضات الجنات, أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم. قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد: في شغل عما فيه أهل النار من العذاب. وقال مجاهد {في شغل فاكهون} أي في نعيم معجبون أي به, وكذا قال قتادة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما: فاكهون أي فرحون. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى: {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قالوا: شغلهم افتضاض الأبكار, وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه {في شغل فاكهون} أي بسماع الأوتار, وقال أبو حاتم: لعله غلط من المستمع, وإنما هوافتضاض الأبكار. وقوله عز وجل: {هم وأزواجهم} قال مجاهد: وحلائلهم, {في ظلال} أي في ظلال الأشجار {على الأرائك متكئون}. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف {الأرائك} هي السرر تحت الحجال. (قلت) نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين, والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل: {لهم فيها فاكهة} أي من جميع أنواعها {ولهم ما يدّعون} أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف الحمصي, حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار, حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى. حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا)هل مشمر إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها, هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ, وريحانه تهتز, وقصر مشيد ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة, ومقام في أبد في دار سلامة, وفاكهة خضرة وخير ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها, قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا إن شاء الله» فقال القوم: إن شاء الله, وكذا رواه ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به. وقوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال ابن جريج: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة, وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما, كقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام}. وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثاً, وفي إسناده نظر, فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف, حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب, حدثنا أبو عاصم العباداني, حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أهل الجنة في نعيمهم, إذ سطع لهم نور, فرفعوا رؤوسهم, فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة, فذلك قوله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه, فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم». ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به. وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, أخبرنا ابن وهب, حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار, أقبل في ظلل من الغمام والملائكة, قال: فيسلم على أهل الجنة, فيردون عليه السلام, قال القرظي, وهذا في كتاب الله تعالى: {سلام قولاً من رب رحيم} فيقول الله عز وجل: سلوني, فيقولون: ماذا نسألك أي رب ؟ قال: بلى سلوني, قالوا: نسألك أي رب رضاك, قال: رضائي أحلكم دار كرامتي, قالوا: يا رب فما الذي نسألك, فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لاينقصنا ذلك شيئاً. قال تعالى إن لدي مزيداً, قال: فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه, قال: ثم تأتيهم التحف من الله عز وجل, تحملهم إليهم الملائكة, ثم ذكر نحوه. وهذا خبر غريب, أورده ابن جرير من طرق, والله أعلم. ** وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَبَنِيَ آدَمَ أَن لاّ تَعْبُدُواْ الشّيطَانَ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـَذَا صِرَاطٌ مّسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلّ مِنْكُمْ جِبِلاّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم, كقوله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم} وقال عز وجل: {ويوم تقوم الساعة يومئذن يتفرقون} {يومئذ يصدعون} أي يصيرون صدعين فرقتين {احشرواالذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم}. وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم, الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين, وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم, ولهذا قال تعالى: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان, وأمرتكم بعبادتي, وهذا هو الصراط المستقيم, فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل: {ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً} يقال: جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام, ويقال جبلاً بضم الجيم والباء وتخفيف اللام, ومنهم من يسكن الباء, والمراد بذلك الخلق الكثير, قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة. وقوله تعالى: {أفلم تكونوا تعقلون} أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له, وعدولكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج: حدثنا أبو كريب, حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة, أمر الله تعالى جهنم, فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لاتعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون} {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} فيتميز الناس ويجثون, وهي التي يقول الله عز وجل: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعلمون}». ** هَـَذِهِ جَهَنّمُ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىَ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىَ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّرَاطَ فَأَنّىَ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىَ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً {هذه جهنم التي كنتم توعدون} أي هذه التي حذرتكم الرسل, فكذبتموهم {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} كما قال تعالى: {يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون}. وقوله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا, ويحلفون ما فعلوه, فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة, حدثنا منجاب بن الحارث التميمي, حدثنا أبو عامر الأزدي, حدثنا سفيان عن عبيد المكتب عن الفضيل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم, فضحك حتى بدت نواجذه, ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ممّ أضحك ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم , قال صلى الله عليه وسلم: «من مجادلة العبد ربه يوم القيامة, يقول رب ألم تجرني من الظلم ؟ فيقول: بلى, فيقول: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي, فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً, والكرام الكاتبين شهوداً, فيختم على فيه, ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله, ثم يخلى بينه وبين الكلام, فيقول: بعداً لكن وسحقاً, فعنكن كنت أناضل» وقد رواه مسلم والنسائي, كلاهما عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر, عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي, عن سفيان هو الثوري به. ثم قال النسائي: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي, وهو حديث غريب, والله تعالى أعلم, كذا قال. وقد تقدم من رواية أبي عامر عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: «إنكم تدعون مفدماً على أفواهكم بالفدام, فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكتفه, رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به, وقال سفيان بن عيينة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل, قال فيه: «ثم يلقى الثالث فيقول: ما أنت ؟ فيقول: أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك, وصمت وصليت وتصدقت, ويثني بخير ما استطاع ـ قال ـ فيقال له: ألا نبعث عليك شاهدنا ؟ ـ قال ـ فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه, فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي ـ قال ـ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق, وذلك ليعذر من نفسه, وذلك الذي سخط الله تعالى عليه» ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله. ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا أبي, حدثنا هشام بن عمار, حدثنا إسماعيل بن عياش, حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه, فخذه من الرجل اليسرى» وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله. وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله, فقال: حدثنا الحكم بن نافع, حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه, عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال». وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا ابن علية, حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة: قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه: يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة, فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه, فيعترف فيقول: نعم أي رب عملت عملت عملت, قال: فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها, قال: فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً وتبدو حسناته, فود أن الناس كلهم يرونها, ويدعى الكافر والمنافق للحساب, فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول: أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل, فيقول له الملك: أما علمت كذا يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته, فإذا فعل ذلك ختم الله على فيه, قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى, ثم تلا {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون}. وقوله تبارك وتعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى, فكيف يهتدون ؟ وقال مرة: أعميناهم: وقال الحسن البصري: لو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عمياً يترددون. وقال السدي: يقول ولو نشاء أعمينا أبصارهم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي: فاستبقوا الصراط, يعني الطريق. وقال ابن زيد: يعني بالصراط ههنا الحق, فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فأنى يبصرون} لا يبصرون الحق. وقوله عز وجل: {ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم} قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أهلكناهم. وقال السدي: يعني لغيرنا خلقهم. وقال أبو صالح: لجعلناهم حجارة. وقال الحسن البصري وقتادة: لأقعدهم على أرجلهم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {فما استطاعوا مضياً} أي إلى أمام {ولا يرجعون} إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون و لا يتأخرون. ** وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّـسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ * وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مّبِينٌ * لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره, رد إلى الضعف بعد القوة, والعجز بعد النشاط, كما قال تبارك وتعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} وقال عز وجل: {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً} والمراد من هذا ـ والله أعلم الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال, لا دار دوام واسقرار, ولهذا قال عز وجل: {أفلا يعقلون} أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم, ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة, ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها, وهي الدار الاَخرة. وقوله تبارك وتعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يقول عز وجل مخبراً عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعر {وما ينبغي له} أي ما هو في طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته, ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه. وقال أبو زرعة الرازي: حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله, يقول تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وهكذا روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه «أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال: إنما هو عيينة والأقرع, فقال صلى الله عليه وسلم: «الكل سواء» يعني في المعنى, صلوات الله وسلامه عليه, والله أعلم. وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب فيها, حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك, والله أعلم, وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول «نفلق هاماً» فيقول الصديق رضي الله عنه متمماً للبيت: من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما وهذا لبعض الشعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم: حدثنا مغيرة عن الشعبي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود ـ وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضاً من حديث المقدام بن شريح بن هانىء عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها كذلك, ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح, وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى, حدثنا أسامة عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار: * ويأتك بالأخبار من لم تزود * ثم قال, ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها, هذا في شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة, وهذا المذكور منها أوله: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود ويأتيك بالأخبار من لم تبع لهبتاتاً ولم تضرب له وقت موعد وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه, غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس, فيجعل أوله آخره, وآخره أوله, فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هذا هكذا يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي» رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وهذا لفظه. وقال معمر عن قتادة: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت رضي الله عنها: لا. إلا بيت طرفة. ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاًويأتيك بالأخبار من لم تزود فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: «من لم تزود بالأخبار» فقال أبو بكر: ليس هذا هكذا, فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ, حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد, حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير, حدثنا علي بن عمرو الأنصاري, حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً. تفاءل بما تهوى يكن فلقلمايقال لشيء كان إِلا تحققا سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال: هو منكر, ولم يعرف شيخ الحاكم و لا الضرير, وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه, ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم, فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون: لا همّ لولا أنت ما اهتديناولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا إن الأُلى قد بغوا عليناإذا أرادوا فتنة أبينا ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته بقوله أبينا ويمدها, وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضاً, وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها في نحور العدو: )شعأنا النبي لا كذبأنا ابن عبد المطلب) لكن قالوا هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن شعر, بل جرى على اللسان من غير قصد إليه, وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه, قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار, فنكبت أصبعه, فقال صلى الله عليه وسلم: هل أنت إلا أصبع دميتوفي سبيل الله ما لقيت وسيأتي عند قوله تعالى {إلا اللمم} إنشاد: إن تغفر اللهم تغفر جماًوأي عبد لك ما ألما وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له, فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش, ولا كهانة, ولا مفتعل, ولا سحر يؤثر, كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال, وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً, كما رواه أبو داود قال: حدثنا عبيد الله بن عمر, حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا سعيد بن أبي أيوب, حدثنا شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقاً, أو تعلقت تميمة, أو قلت الشعر من قبل نفسي» تفرد به أبو داود وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال: سألت عائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر ؟ فقالت: قد كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة رضي عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء, ويدع ما بين ذلك: وقال أبو داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً» انفرد به من هذا الوجه, وإسناده على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاص بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني (ح) وحدثنا الأشيب, فقال عن أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرض بيت شعر بعد العشاء الاَخرة, لم تقبل له صلاة تلك الليلة,» وهذا حديث غريب من هذا الوجه, ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة, والمراد بذلك نظمه لا إنشاده, والله أعلم, على أن الشعر ما هو مشروع, وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام, كحسان بن ثابت رضي الله عنه, وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين, ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب, كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية, ومنهم أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره, وكفر قلبه» وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول عقب كل بيت «هيه» يعني يستطعمه, فيزيده من ذلك, وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب وبريده بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحراً, وإن من الشعر حكماً» ولهذا قال تعالى: {وما علمناه الشعر} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر «وما ينبغي له} أي وما يصلح له {إن هو ذكر وقرآن مبين} أي ما هذا الذي علمناه {إلا ذكر وقرآن مبين} أي بيّن واضح جلي لمن تأمله وتدبره, ولهذا قال تعالى: {لينذر من كان حياً} أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض, كقوله: {لأنذركم به ومن بلغ} وقال جل وعلا: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة, كما قال قتادة: حي القلب حي البصر. وقال الضحاك يعني عاقلاً {ويحق القول على الكافرين} أي هو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين. ** أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم {فهم لها مالكون} قال قتادة: مطيقون, أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم, لا تمتنع منهم, بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه, ولوشاء لأقامه وساقه, وذاك ذليل منقاد معه, وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير. وقوله تعالى: {فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} أي منها ما يركبون في الأسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار {ومنها يأكلون} إذا شاؤوا ونحروا واجتزروا {ولهم فيها منافع} أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين {ومشارب} أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك, {أفلا يشكرون} أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره ؟. ** وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ * فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الاَلهة وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى, قال الله تعالى: {لايستطيعون نصرهم} أي لاتقدر الاَلهة على نصر عابديها بل هي أضعف من ذلك وأقل وأحقر وأدحر, بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها, ولا الإنتقام ممن أرادها بسوء, لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل. وقوله تبارك وتعالى: {وهم لهم جند محضرون} قال مجاهد: يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها, ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم. وقال قتادة {لايستطيعون نصرهم} يعني الاَلهة {وهم لهم جند محضرون} والمشركون يغضبون للاَلهة في الدنيا, وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً, إنما هي أصنام, وهكذا قال الحسن البصري, وهذا القول حسن, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى. وقوله تعالى: {فلا يحزنك قولهم} أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله {إنا نعلم مايسرون وما يعلنون} أي نحن نعلم جميع ما هم فيه, وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً ولا صغيراً ولا كبيراً بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً. ** أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبي بن خلف لعنه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم, وهو يفته ويذروه في الهواء, وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى, ثم يبعثك, ثم يحشرك إلى النار» ونزلت هذه الاَيات من آخر يس {أولم ير إلانسان أنا خلقناه من نطفة} إلى آخرهن. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد, حدثنا محمد بن العلاء, حدثنا عثمان بن سعيد الزيات عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده, ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي الله هذا ما بعد أرى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله, ثم يحييك, ثم يدخلك جهنم» قال: ونزلت الاَيات من آخر يس, ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير فذكرهو ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما. وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء عبد الله بن أبي بعظم ففته وذكر نحو ما تقدم, وهذا منكر, لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة, وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الاَيات قد نزلت في أبي بن حلف أو العاص بن وائل أو فيهما, فهي عامة في كل من أنكر البعث, والألف واللام في قوله تعالى: {أولم ير الإنسان} للجنس يعم كل منكر للبعث {أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} أي أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة, فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين, فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين, كماقال عز وجل: {ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم} وقال تعالى: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} أي من نطفة من أخلاط متفرقة, فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته. كما قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة, حدثنا جرير, حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصق يوماً في كفه, فوضع عليها أصبعه, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه, حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد, فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ؟» ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن جرير بن عثمان به, ولهذا قال تعالى: {وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم} أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجسام والعظام الرميمة, ونسي نفسه, وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود, فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده, ولهذا قال عز وجل: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها, أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت. قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجلاً حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً, ثم أوقدوا فيه ناراً حتى إذ أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت, فخذوها فدقوها فذروها في اليم, ففعلوا, فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له: لم فعلت ذلك ؟ قال: من خشيتك, فغفر الله عز وجل له» فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وكان نباشاً, وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الملك بن عمير بألفاظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه في البر, ونصفه في البحر في يوم رائح, أي كثير الهواء, ففعلوا ذلك, فأمر الله تعالى البحر, فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه, ثم قال له: كن, فإذا هو رجل قائم, فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: مخافتك وأنت أعلم, فما تلافاه أن غفر له. وقوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً ذا ثمر وينع, ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار, كذلك هو فعال لما يشاء, قادر على ما يريد لايمنعه شيء. قال قتادة في قوله {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} يقول الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه, وقيل: المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز, فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد, فيأخذ منه عودين أخضرين, ويقدح أحدهما بالاَخر, فتتولد النار من بينهما, كالزناد سواء, وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي المثل: لكل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. وقال الحكماء: في كل شجر نار إلا الغاب. ** أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ * إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع, وما فيه من جبال ورمال وبحار وقفار, وما بين ذلك, ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة, كقوله تعالى: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} وقال عز وجل ههنا: {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ؟} أي مثل البشر, فيعيدهم كما بدأهم, قاله ابن جرير: وهذه الاَية الكريمة كقوله عز وجل: {أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بل إنه على كل شيء قدير} وقال تبارك وتعالى ههنا {بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار أو تأكيد: إذا ما أراد الله أمراً فإنمايقول له كن فيكون وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن نمير, حدثنا موسى بن المسيب عن شهر عن عبد الرحمن بن غنْم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت, فاستغفروني أغفر لكم, وكلكم فقير إلا من أغنيت, إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء, عطائي كلام وعذابي كلام, إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون». وقوله تعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} أي تنزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض, وإليه يرجع الأمر كله, وله الخلق والأمر وإليه يرجع العباد يوم المعاد, فيجازي كل عامل بعمله وهو العادل المنعم المتفضل. ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} كقوله عز وجل {قل من بيده ملكوت كل شيء ؟} وكقوله تعالى: {تبارك الذي بيده الملك} فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت, ورهبة ورهبوت, وجبر وجبروت, ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم الأجساد, والملكوت هو عالم الأرواح, والصحيح الأول, وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. قال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان, حدثنا حماد عن عبد الملك بن عمير, حدثني ابن عم لحذيفة عن حذيفة وهو ابن اليمان ـ رضي الله عنه, قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة, فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات, وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه, من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ثم قال: «الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» وكان ركوعه مثل قيامه, وسجوده مثل ركوعه, فأنصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار, عن رجل من بني عبس عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل, وكان يقول: «الله أكبر ـ ثلاثاً ـ ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة» ثم استفتح فقرأ البقرة, ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه, وكان يقول في ركوعه «سبحان ربي العظيم» ثم رفع رأسه من الركوع, فكان قيامه نحواً من ركوعه وكان يقول في قيامه «لربي الحمد» ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه, وكان يقول في سجوده: «سبحان ربي الأعلى» ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده, وكان يقول رب اغفر لي, رب اغفر لي» فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة, وآل عمران , والنساء والمائدة أو الأنعام ـ شك شعبة ـ هذا لفظ أبي داود وقال النسائي: أبو حمزة عندنا طلحة بن يزيد, وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة, كذا قال, والأشبه أن يكون ابن عم حذيفة, كما تقدم في رواية الإمام أحمد, والله أعلم. وأما رواية صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه, فإنها في صحيح مسلم, ولكن ليس فيها ذكر الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح, حدثنا ابن وهب, حدثني معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس عن عاصم بن حميد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة, فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل, ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ, قال: ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه «سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة» ثم سجد بقدر قيامه, ثم قال في سجوده مثل ذلك, ثم قام فقرأ بآل عمران, ثم قرأ سورة سورة, ورواه الترمذي في الشمائل والنسائي من حديث معاوية بن صالح به. سورة الصافات وهي مكية قال النسائي أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد ـ يعني ابن الحارث ـ عن ابن أبي ذئب قال أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمن بالصافات, تفرد به النسائي. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** وَالصّافّاتِ صَفّا * فَالزّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتّالِيَاتِ ذِكْراً * إِنّ إِلَـَهَكُمْ لَوَاحِدٌ * رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبّ الْمَشَارِقِ قال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {والصافات صفا} وهي الملائكة {فالزاجرات زجراً} هي الملائكة {فالتاليات ذكراً} هي الملائكة, وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة: الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعل لنا ترابها طهوراً إذا لم نجد الماء» وقد روى مسلم أيضاً وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟» قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قالصلى الله عليه وسلم «يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى: {فالزاجرات زجراً} أنها تزجر السحاب, وقال الربيع بن أنس {فالزاجرات زجراً} مازجر الله تعالى عنه في القرآن, وكذا روى مالك عن زيد بن أسلم {فالتاليات ذكراً} قال السدي الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الاَية كقوله تعالى: {فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً}. وقوله عز وجل: {إن إلهكم لواحد رب السموات والأرض} هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لاإله إلاهو رب السموات والأرض {ومابينهما} أي من المخلوقات {ورب المشارق} أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عز وجل: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون} وقال تعالى في الاَية الاَخرى: {رب المشرقين ورب المغربين} يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر. ** إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ * لاّ يَسّمّعُونَ إِلَىَ الْمَلإِ الأعْلَىَ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب, قرىء بالإضافة وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء الشفاف فتضيء لأهل الأرض كما قال تبارك وتعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين * وأعتدنا لهم عذاب السعير} وقال عز وجل {ولقد جعلنا في السماء بروجاً وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} فقوله جل وعلا ههنا: {وحفظاً} تقديره وحفظناها حفظاً {من كل شيطان مارد} يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله {لا يسمعون إلى الملأ الأعلى} أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات ومن فيها من الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدرته كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} ولهذا قال تعالى: {ويقذفون} أي يرمون {من كل جانب} أي من كل جهة يقصدون السماء منها {دحوراً} أي رجماً يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون {ولهم عذاب واصب} أي في الدار الاَخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت عظمته {وأعتدنا لهم عذاب السعير} وقوله تبارك وتعالى: {إلا من خطف الخطفة} أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الاَخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الأخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال {إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} أي مستنير. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للشياطين مقاعد في السماء قال فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعاً قال فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قصد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة قال: فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث, وستأتي إن شاء الله تعالى الأحاديث الواردة مع الاَثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخباراً عن الجن أنهم قالوا {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الاَن يجد له شهاباً رصداً * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً}. ** فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَم مّنْ خَلَقْنَآ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاّزِبٍ * بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ * وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوَاْ إِن هَـَذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه أم من عددنا فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم, وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث ؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل: {لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ثم بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال: {إنا خلقناهم من طين لازب} قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك: هوالجيد الذي يلتزق بعضه ببعض, وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد, وقال قتادة هوالذي يلزق باليد, وقوله عز وجل: {بل عجبت ويسخرون} أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك. قال قتادة: عجب محمد صلى الله عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم {وإذا رأوا آية} أي دلالة واضحة على ذلك {يستسخرون} قال مجاهد وقتادة يستهزئون {وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الأولون} يستبعدون ذلك ويكذبون به {قل نعم وأنتم داخرون} أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون تراباً وعظاماً وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى: {وكل أتوه داخرين}. ثم قال جلت عظمته: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} أي فإنما هو أمر واحد من الله عز وجل, يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض, فإذا هم بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة, والله تعالى أعلم. ** وَقَالُواْ يَوَيْلَنَا هَـَذَا يَوْمُ الدّينِ * هَـَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ * احْشُرُواْ الّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىَ صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنّهُمْ مّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدار الدنيا, فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم {وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين} فتقول الملائكة والمؤمنون {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون} وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم, وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو العالية وزيد بن أسلم, وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال إخوانهم. وقال شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر يقول {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} قال: أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا, وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر, وقال خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساؤهم وهذا غريب والمعروف عنه الأول كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم. وقوله تعالى: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً} وقوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسؤولون} أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثاً يحدث عن بشير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلاً» ثم قرأ {وقفوهم إنهم مسؤولون} ورواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم, ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً. وقال عبد الله بن المبارك: سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه, ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {ما لكم لا تناصرون ؟} أي كما زعمتم أنكم جمع منتصر {بل هم اليوم مستسلمون} أي ينقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه, والله أعلم. ** وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوَاْ إِنّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَآ إِنّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ * فَإِنّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنّهُمْ كَانُوَاْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ اللّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنّا لَتَارِكُوَ آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مّجْنُونٍ * بَلْ جَآءَ بِالْحَقّ وَصَدّقَ الْمُرْسَلِينَ يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة كما يتخاصمون في دركات النار {فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} وقال تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول * يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أَنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين, وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} وهكذا قالوا لهم ههنا {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لأنا كناأذلاء وكنتم أعزاء, وقال مجاهد يعني عن الحق والكفار تقوله للشياطين. وقال قتادة قالت الإنس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه, وقال السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينونا لنا الباطل وتصدونا عن الحق وقال الحسن في قوله تعالى: {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} إي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه, وقال ابن زيد معناه تحولون بيننا وبين الخير ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به, وقال يزيد الشرك من قبل لا إله إلا الله وقال خصيف يعنون من قبل ميامنهم, وقال عكرمة {إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} قال من حيث نأمنكم. وقوله تعالى: {قالوا بل لم تكونوا مؤمنين} تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان {وما كان لنا عليكم من سلطان} أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه {بل كنتم قوماً طاغين} أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاؤوكم به فخالفتموه {فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين} يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا كلمة الله أنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة {فأغويناكم} أي دعوناكم إلى الضلالة {إنا كنا غاوين} أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا, قال الله تبارك وتعالى: {فإنهم يومئذٍ في العذاب مشتركون} أي الجميع في النار كل بحسبه {إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا} أي في الدار الدنيا {إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون قال ابن أبي حاتم حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر يعني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل» وأنزل الله تعالى في كتابه العزيز وذكر قوماً استكبروا فقال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} وقال ابن أبي حاتم أيضاً حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي العلاء قال: يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله وعزيراً فيقال لهم: خذوا ذات الشمال, ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله والمسيح فيقال لهم: خذوا ذات الشمال, ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون فيقال لهم خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون نعم, فيقال لهم فكيف تعرفونه ولم تروه ؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له. قال فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين {ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون} أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى تكذيباً لهم ورداً عليهم: {بل جاء بالحق} يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله تعالى له من الأخبار والطلب {وصدق المرسلين} أي صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة, والمناهج السديدة, وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما أخبروا {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} الاَية. ** إِنّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الألِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مّكْرَمُونَ * فِي جَنّاتِ النّعِيمِ * عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذّةٍ لّلشّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ * كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مّكْنُونٌ يقول تعالى مخاطباً للناس: {إنكم لذائقو العذاب الأليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون} ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين كما قال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقال عز وجل: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وقال تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} وقال تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} ولهذا قال جل وعلا ههنا {إلا عباد الله المخلصين} أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم ولا يناقشون في الحساب بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى ما شاء الله تعالى من التضعيف. وقوله جل وعلا: {أولئك لهم رزق معلوم} قال قتادة والسدي يعني الجنة ثم فسره بقوله تعالى: {فواكه} أي متنوعة {وهم مكرمون} أي يخدمون ويرفهون وينعمون {في جنات النعيم * على سرر متقابلين} قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الاَية {على سرر متقابلين} ينظر بعضهم إلى بعض حديث غريب. وقوله تعالى: {يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون} كما قال عز وجل في الاَية الأخرى {يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون} نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الاَفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل جملة فقال تعالى ههنا: {يطاف عليهم بكأس من معين} أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها قال مالك عن زيد بن أسلم: خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم. وقوله عز وجل: {لذة للشاربين} أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك وقوله تعالى: {لا فيها غول} يعني لا تؤثر فيها غولاً وهو وجع البطن قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وابن زيد كما تفعله خمر الدنيا من القولنج ونحوه لكثرة مائيتها, وقيل المراد بالغول ههنا صداع الرأس وروي هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وعنه وعن السدي لا تغتال عقولهم كما قال الشاعر: فما زالت الكأس تغتالناوتذهب بالأول الأول وقال سعيد بن جبير لا مكروه فيها ولا أذى, والصحيح قول مجاهد أنه وجع البطن, وقوله تعالى: {ولا هم عنها ينزفون} قال مجاهد لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب والحسن وعطاء بن أبي مسلم الخراساني والسدي وغيرهم وقال الضحاك عن ابن عباس في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال كما ذكر في سورة الصافات وقوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله تبارك وتعالى: {عين} أي حسان الأعين وقيل ضخام الأعين وهو يرجع إلى الأول وهي النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن والعفة كقول زليخا في يوسف عليه الصلاة والسلام حين جملته وأخرجته على تلك النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره قالت: {فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي وهكذا الحور العين {خيرات حسان}. ولهذا قال عز وجل: {وعندهم قاصرات الطرف عين} وقوله جل جلاله: {كأنهن بيض مكنون} وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {كأنهن بيض مكنون} يقول اللؤلؤ المكنون وينشد ههنا بيت أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له: هي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ص ميزت من جوهر مكنون وقال الحسن: {كأنهن بيض مكنون} يعني محصون لم تمسه الأيدي, وقال السدي: البيض في عشه مكنون وقال سعيد بن جبير {كأنهن بيض مكنون} يعني بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة, وقال السدي {كأنهن بيض مكنون} يقول بياض البيض حين نزع قشرته واختاره ابن جرير لقوله مكنون قال والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش وتنالها الأيدي بخلاف داخلها والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا محمد بن الفرج الصدفي الدمياطي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: {حور عين} قال: «العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل {كأنهن بيض مكنون} قال: رقتهن «كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي تلي القشر وهي الغرقىء». وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا, وأنا خطيبهم إذا وفدوا, وأنا مبشرهم إذا حزنوا, وأنا شفيعهم إذا حبسوا, لواء الحمد يومئذ بيدي, وأنا أكرم ولد آدم على الله عز وجل ولا فخر, يطوف عليّ ألف خادم كأنهن البيض المكنون ـ أو اللؤلؤ المكنون ـ», والله تعالى أعلم بالصواب. ** فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالَ قَآئِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُمْ مّطّلِعُونَ * فَاطّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللّهِ إِن كِدتّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاّ مَوْتَتَنَا الاُولَىَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَـَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {قال قائل منهم إني كان لي قرين} قال مجاهد يعني شيطاناً. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا, ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} وكل منهما يوسوس كما قال الله عز وجل: {من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس} ولهذا {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين} أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد, {أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال مجاهد والسدي لمحاسبون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى: {قال هل أنتم مطلعون} أي مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم, وقال الحسن البصري في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد, وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي, وذكر لنا أن كعب الأحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكراً {قال تالله إن كدت لتردين} يقول المؤمن مخاطباً للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} أي ولولا فضل الله عليّ لكنتُ مثلك في سواء الجحيم حيث أنت محضر معك في العذاب ولكنه تفضل عليّ ورحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}. وقوله تعالى: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} هذا من كلام المؤمن مغبطاً نفسه لما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عز وجل: {إن هذا لهو الفوز العظيم}. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة: {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله عز وجل: {هنيئاً} أي لا يموتون فيها فعندها قالوا: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} وقال الحسن البصري: علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه فقالوا: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} قيل لا {إن هذا لهو الفوز العظيم} وقوله جل جلاله {لمثل هذا فليعمل العاملون} قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة, وقال ابن جرير هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الاَخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم هذه الاَية الكريمة, قال أبو جعفر بن جرير حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله: {إني كان لي قرين} قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار, وكان أحدهما له حرفة والاَخر ليس له حرفة, فقال الذي له حرفة للاَخر ليس عندك حرفة ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى داراً بألف دينار كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار ؟ قال ما أحسنها, فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة فتصدق بألف دينار, ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث, ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاماً فلما أتاه قال إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار قال ما أحسن هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار, وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار, ثم إنه مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار قال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار, ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله داراً تعجبه وإذا بامرأةٍ تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئاً الله به عليم فقال عند ذلك ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة, قال فإنه كان لي صاحب يقول أئنك لمن المصدقين قيل له فإنه في الجحيم قال هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم فقال عند ذلك {تا لله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} الاَيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ {أئنك لمن المصدقين} بالتشديد, وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أبو حفص قال سألت إسماعيل السدي عن هذه الاَية {قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين} قال فقال لي ما ذكرك هذا قلت قرأته آنفاً فأحببت أن أسألك عنه فقال: أما فاحفظ, كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والاَخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا, ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئاً أتجرت في شيء ؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت ؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ـ قال: فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم, قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة ـ قال: ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا قال فما صنعت أنت ؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقاً بألف دينار يقومون لي فيها ويعملون لي فيها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم ـ قال ـ فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه, اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف الدينار رقيقاً في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن فلاناً ـ يعني شريكه الكافر ـ تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها بين المساكين ـ قال ـ فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال فلبس قميصاً من قطن وكساء من صوف ثم أخذ مراً فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال فجاءه رجل فقال له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهراً بشهر تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها قال أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهراً بشهر يقوم على دوابه, قال وكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال لاَتين شريكي الكافر فلأعملن في أرضه فليطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا, قال فانطلق يريده فانتهى إلى بابه وهو ممس فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي على صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك, فقالوا له انطلق إن كنت صادقاً فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له. قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما رآه عرفه فوقف وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ المال مثل ما أخذت ؟ قال بلى قال وهذه حالي وهذه حالك ؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال لا تسألني عنه, قال فما جاء بك ؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا, قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من ؟ قال المليء الوفي قال من ؟ قال الله ربي قال وهو مصافحه فانتزع يده من يده ثم قال {أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه, قال فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه, يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا ؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ قال ثم يمر فإذ هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول لمن هذا ؟ فيقال هؤلاء لك, فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا, قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا, قال ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول: {إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين. أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون} قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول: {تا لله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون} بمثل ما قد منّ عليه. قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت. ** أَذَلِكَ خَيْرٌ نّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزّقّومِ * إِنّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظّالِمِينَ * إِنّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِيَ أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِنّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمّ إِنّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ * ثُمّ إِنّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ * إِنّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلّينَ * فَهُمْ عَلَىَ آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ يقول الله تعالى أهذا الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء {أم شجرة الزقوم} أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن, وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى: {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للاَكلين} يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لاَكلون من شجر من زقوم} وقوله عز وجل: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد {إنا جعلناها فتنة للظالمين} قال أبو جهل لعنه الله: إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه. قلت ومعنى الاَية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختباراً نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تبارك وتعالى: {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً}. وقوله تعالى: {إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم} أي أصل منبتها في قرار النار {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين قائمة إلى السماء, وإنما شبهها {برؤوس الشياطين} وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر, وقيل المراد بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بشعة المنظر, وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفي هذين الاحتمالين نظر, وقد ذكرهما ابن جرير والأول أقوى وأولى, والله أعلم. وقوله تعالى: {فإنهم لاَكلون منها فمالئون منها البطون}. ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها لأنهم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها كما قال تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع} وقال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاَية وقال: «اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟» ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله تعالى: {ثم إن لهم عليها لشوباً من حميم} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شرب الحميم على الزقوم, وقال في رواية عنه شوباً من حميم, مزجاً من حميم, وقال غيره يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو وأخبرني عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول «يقرب ـ يعني إلى أهل النار ـ ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعو بالثبور. وقوله عز وجل: {ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وجحيم تتوقد وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى: {يطوفون بينها وبين حميم آن} هكذا تلا قتادة هذه الاَية وهو تفسير حسن قوي, وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه {ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم} وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار, ثم قرأ {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم قرأ {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً} ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله تعالى: {إنهم ألفوا آباءهم ضالين} أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان, ولهذا قال: {فهم على آثارهم يهرعون} قال مجاهد شبيهة بالهرولة, وقال سعيد بن جبير يسفهون. ** وَلَقَدْ ضَلّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مّنذِرِينَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ * إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى, وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المنذرين إلا عباد الله المخلصين}. ** وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرّيّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمّ أَغْرَقْنَا الاَخَرِينَ لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب, وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم, وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر, فغضب الله تعالى لغضبه عليهم, ولهذا قال عز وجل: {ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون} أي فلنعم المجيبون له {ونجيناه وأهله من الكرب العظيم} وهو التكذيب والأذى {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام, وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} قال سام وحام ويافث وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة به, قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر, وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, والمراد بالروم ههنا هم الروم الأول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام ويافث وحام, وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم, وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج, وولد حام القبط والسودان والبربر,وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى: {وتركنا عليه في الاَخرين} قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير, وقال مجاهد يعني لسان صدق للأنبياء كلهم, وقال قتادة والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الاَخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن, وقوله تعالى: {سلام على نوح في العالمين} مفسر لما أبقى عليه الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ونجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى: {إنه من عبادنا المؤمنين} أي المصدقين الموحدين الموقنين {ثم أغرقنا الاَخرين} أي أهلكناهم فلم يبق منهم عين تطرف ولا ذكر ولا عين ولا أثر, ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة. ** وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَآءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنّكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {وإن من شيعته لإبراهيم} يقول من أهل دينه, وقال مجاهد على منهاجه وسنته {إذ جاء ربه بقلب سليم} قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور, وقال الحسن: سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعاناً. وقوله تعالى: {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون} أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عز وجل {أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين} قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره. ** فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النّجُومِ * فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ * فَتَوَلّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَىَ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوَاْ إِلَيْهِ يَزِفّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه {فتولوا عنه مدبرين} قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم, يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به فقال {إني سقيم} أي ضعيف, فأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى, قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله في سارة هي أختي» فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا ولما, وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى: {فقال إني سقيم} وقال {بل فعله كبيرهم هذا} وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي. قال سفيان في قوله {إني سقيم} يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم, وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم} فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: اخرج فقال إني مطعون فتركوه مخافة الطاعون. وقال قتادة عن سعيد بن المسيب رأى نجماً طلع فقال {إني سقيم} كابد نبي الله عن دينه {فقال إني سقيم}. وقال آخرون {فقال إني سقيم} بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض الموت, وقيل أراد {إني سقيم} أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى, وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال {إني سقيم} وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها. ورواه ابن أبي حاتم, ولهذا قال تعالى: {فتولوا عنه مدبرين} أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء {فقال ألا تأكلون ؟} وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبارك لهم فيه. وقال السدي: دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الاَلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الاَلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد باركت الاَلهة في طعامنا أكلناه, فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال {ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون} وقوله تعالى: {فراغ عليهم ضرباً باليمين} قال الفراء معناه مال عليهم ضرباً باليمين. وقال قتادة والجوهري فأقبل عليهم ضرباً باليمين. وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا تركهم جذاداً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى ههنا: {فأقبلوا إليه يزفون} قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون, وهذه القصة ههنا مختصرة وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك. فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال {أتعبدون ما تنحتون} أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم {والله خلقكم وما تعملون} يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم, والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان بن معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال: «إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته» وقرأ بعضهم {والله خلقكم وما تعملون} فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا {ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم} وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال تعالى: {فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين}. ** وَقَالَ إِنّي ذَاهِبٌ إِلَىَ رَبّي سَيَهْدِينِ * رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ * فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ * فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مّنَ الصّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىَ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرّيّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لّنَفْسِهِ مُبِينٌ يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه بعد ما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الاَيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال {إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين} يعني أولاداً مطيعين عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم, قال الله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة, وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً إسحاق ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابه وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة وهو تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره, وأيضاً فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلم من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا {إنا نبشرك بغلام عليم}. وقال تعالى: {وبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} أي يولد له في حياتهم ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام ؟ وقوله تعالى: {فلما بلغ معه السعي} أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعاً إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد ين جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم {فلما بلغ معه السعي} بمعنى شب وارتجل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل {فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى} قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الاَية {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رؤيا الأنبياء في المنام وحي» ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه {قال يا أَبت افعل ما تؤمر} أي امض لما أمرك الله من ذبحي {ستجدني إن شاء الله من الصابرين} أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً}. وقال تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين} أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا, إبراهيم امتثل أمر الله تعالى)وإسماعيل طاعة لله ولأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم ومعنى تله للجبين أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة {وتله للجبين} أكبّه على وجهه. وقال الإمام أحمد حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات ثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه {أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش, وذكر هشام الحديث في المناسك بطوله. ثم رواه أحمد بطوله من يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية الذبيح روايتان والأظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى: {وفديناه بذبح عظيم} قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفاً فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فو الذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزابِ الكعبة حتى وحش يعني يبس. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي ـ أو فداه أبي وأمي ـ أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبداً فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه ؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك, قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني ؟ قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت بابنك, قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه ؟ قال تزعم أن ربك أمرك بذلك قال فوالله لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن يونس عن ابن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعباً قال لأبي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجبت لك فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والاَخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تبارك وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان, اللهم من مات لا يشرك بك شيئاً فاغفر له وأدخله الجنة» هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله أعلم فهذا إن كان محفوظاً فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق حسداً منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان إسماعيل لاإسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام. وقوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا} أي قد حصل المقصود من رؤياك واضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي وغيره أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك {قد صدقت الرؤيا}. وقوله تعالى: {إنا كذلك نجزي المحسنين} أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً} وقد استدل بهذه الاَية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافاً لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان المقصود من شرعه أولاً إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين} أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى: {وإبراهيم الذي وفى}. وقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه {وفديناه بذبح عظيم} قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل: وجدوه مربوطاً بسمرة في ثبير, وقال الثوري أيضاً عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزوناً حتى فدي به إسحاق وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى فدي به إسحاق, وروي أيضاً عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر, وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي جعل عليه نذراً أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيه بكبش لأجزأه أن يذبح كبشاً فإن الله تعالى قال في كتابه: {وفديناه بذبح عظيم} والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه فُدي بكبش. وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} قال وعل وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير. وقد قال الإمام أحمد حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه, وقالت مرة أنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» قال سفيان لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشاً توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفاً عن سلف وجيلاً بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. (فصل) في ذكر الاَثار الورادة عن السلف في أن الذبيح من هو (ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام) قال حمزة الزيات عن أبي ميسرة رحمه الله قال: قال يوسف عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله, وقال الثوري عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليه السلام قال للملك كذلك أيضاً وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب يقولون بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك ؟ قال: «إن إبراهيم لم يعدل بي شيء قط إلا اختارني عليه, وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود, وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن». وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال: أنا فلان بن فلان بن الأشياخ الكرام, فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه, وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق, وعن أبيه العباس وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك, وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي برزة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير, وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق, وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان ابن العلاء بن حارثة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الأحبار أنه قال هو إسحاق وهذه الأقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديماً فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس رضي الله عنهم ومن التابعين عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي قال وهوإحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس و العين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال هو إسحاق ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث. وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعاً, ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس رضي الله عنه وهذا أشبه وأصح والله أعلم. (ذكر الاَثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به) قد تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود, وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو إسماعيل عليه السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لايشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} ويقول الله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيراً, وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه, وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر بذبحه فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أباهم والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عز وجل وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضاً عن أبي عمرو بن العلاء وقد روى ابن جرير في ذلك حديثاً غريباً فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير سقطتم: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يارسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان ؟ فقال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل والثاني إسماعيل. وهذا حديث غريب جداً وقد رواه الأموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق وذكره, كذا كتبته من نسخة مغلوطة وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم} فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى: {وبشروه بغلام عليم} وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي العمل, ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضاً قال وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام قال وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جداً والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم. وقوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر, وقوله تعالى: {نبياً} حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} قال بشر بنبوته قال وقوله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً} قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته. وحدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاَية {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} قال إنما بشر به نبياً حين فداه الله عز وجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} قال بشر به حين ولد وحين نبىء وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} قال بعد ما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه وقال الله عز وجل {وباركنا عليه وعلى إسحاق} وقوله تعالى: {وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين} كقوله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}. ** وَلَقَدْ مَنَنّا عَلَىَ مُوسَىَ وَهَارُونَ * وَنَجّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ * وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ مُوسَىَ وَهَارُونَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قوم فرعون وقومه وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم في أخس الأشياء ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ثم أنزل الله عز وجل على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين وهو التوراة كما قال تعالى: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} وقال عز وجل ههنا: {وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم} أي في الأقوال والأفعال {وتركنا عليهما في الاَخرين} أي أبقينا لهما من بعدهما ذكراً جميلاً وثناء حسناً ثم فسره بقوله تعالى: {سلام على موسى وهارون إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين}. وَإِنّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللّهَ رَبّكُمْ وَرَبّ آبَآئِكُمُ الأوّلِينَ * فَكَذّبُوهُ فَإِنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَىَ إِلْ يَاسِينَ * إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قال قتادة ومحمد بن إسحاق يقال إلياس هو إدريس, وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إلياس هو إدريس, وكذا قال الضحاك وقال وهب بن منبه هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران بعثه الله تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهما السلام وكانوا قد عبدوا صنماً يقال له بعل فدعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة ما سواه, وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد واستمروا على ضلالتهم ولم يؤمن به منهم أحد فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر, فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه, وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه فجاءته فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النور وكساه الريش وكان يطير مع الملائكة ملكاً إنسياً سماوياً أرضياً هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب والله أعلم بصحته {إذ قال لقومه ألا تتقون} أي ألا تخافون الله عز وجل في عبادتكم غيره {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} قال ابن عباس رضي الله عنهماومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي بعلاً يعني رباً. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن, وفي رواية عن قتادة والسدي بعلاً يعني رباً. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن, وفي رواية عن قتادة قال: وهي لغة أزد شنوءة. وقال ابن إسحاق أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق, وقال الضحاك هو صنم كانوا يعبدونه. وقوله تعالى: {أتدعون بعلاً ؟} أي أتعبدون صنماً {وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الأولين} أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له, قال الله تعالى: {فكذبوه فإنهم لمحضرون} أي للعذاب يوم الحساب {إلا عباد الله المخلصين} أي الموحدين منهم وهذا استثناء منقطع من مثبت. وقوله تعالى: {وتركنا عليه في الاَخرين} أي ثناء جميلاً {سلام على إلياسين} كما يقال في إسماعيل إسماعين وهي لغة بني أسد, وأنشد بعض بني نمير في ضب صاده: يقول رب السوق لما جيناهذا ورب البيت إسرائينا ويقال ميكال وميكائين وإبراهيم وإبراهام وإسرائيل وإسرائين وطور سيناء وطور سينين وهو موضع واحد وكل هذا سائغ وقرأ آخرون {سلام على إدراسين} وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه, وقرأ آخرون {سلام على آل ياسين} يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم, وقوله تعالى: {إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين} قد تقدم تفسيره, والله أعلم. ** وَإِنّ لُوطاً لّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمّ دَمّرْنَا الاَخَرِينَ * وَإِنّكُمْ لّتَمُرّونَ عَلَيْهِمْ مّصْبِحِينَ * وَبِالْلّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً ولهذا قال تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون} أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها. ** وَإِنّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىَ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُواْ فَمَتّعْنَاهُمْ إِلَىَ حِينٍ قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء, وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى: {إذ أبق إلى الفلك المشحون} قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء بالأمتعة {فساهم} أي قارع {فكان من المدحضين} أي المغلوبين, وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقي في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك, وأمر الله تعالى حوتاً من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه السلام فلا يهشم له لحماً ولا يكسر له عظماً فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي فقام فصلى في بطن الحوت, وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس, واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه, وقيل أربعين يوماً قاله أبو مالك. وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية, والله تعالى أعلم بمقدار ذلك, وفي شعر أمية بن أبي الصلت: وأنت بفضل منك نجيت يونساوقد بات في أضعاف حوت لياليا وقوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد, واختاره ابن جرير, وقد ورد في الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر, وفي حديث ابن عباس «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة {فلولا أنه كان من المسبحين} يعني المصلين, وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك, وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه, وقيل المراد {فلولا أنه كان من المسبحين} هو قوله عز وجل {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} قاله سعيد بن جبير وغيره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه ـ ولا أعلم إلا أن أنساً يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين, فأقبلت الدعوة تحف بالعرش, قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أما تعرفون ذلك ؟ قالوا يا رب ومن هو ؟ قال عز وجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة قالوا يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء, قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء» ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به, زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عز وجل عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة, قال شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من حشائش الأرض ـ قال فتتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتاً من شعره وهو: فأنبت يقطيناً عليه برحمةمن الله لولا الله ألقى ضاحيا وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسنداً مرفوعاً في تفسير سورة الأنبياء, ولهذا قال تعالى: {فنبذناه} أي ألقيناه {بالعراء} قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهو الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم {وهو سقيم} أي ضعيف البدن, قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ ليس عليه ريش, وقال السدي كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد أيضاً {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم: اليقطين هو القرع. وقال هشيم عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير وكل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين, وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره, وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة. وقوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت, رواه ابن جرير حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت (قلت): ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم وآمنوا به, وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى: {أو يزيدون} قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه: بل يزيدون وكانوا مائة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفاً وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفاً والله أعلم, وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفاً. وقال مكحول كانوا مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت زهيراً يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} قال يزيدون عشرين ألفاً ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به وقال غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به. قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الألف أو كانوا يزيدون عندكم, يقول كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير ههنا ما سلكه عند قوله تعالى: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} وقوله تعالى: {إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وقوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى: {فآمنوا} أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم {فمتعناهم إلى حين} أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}. ** فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلاَ إِنّهُم مّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَىَ الْبَنِينَ * مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلاَ تَذَكّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مّبِينٌ * فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنّةُ إِنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ يقول تعالى منكراً على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أي من الذكور أي يودون لأنفسهم الجيد {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين, يقول عز وجل فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ولهذا قال تعالى: {فاستفتهم} أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم {ألربك البنات ولهم البنون} كقوله عز وجل: {ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى}. وقوله تبارك وتعالى: {أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون}أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جل وعلا {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} أي يسألون عن ذلك يوم القيامة. وقوله جلت عظمته: {ألا إنهم من إفكهم} أي من كذبهم {ليقولون ولد الله} أي صدر منه الولد {وإنهم لكاذبون} فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب, فأولاً جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولداً تعالى وتقدس, وجعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم. ثم قال تعالى منكراً عليهم {أصطفى البنات على البنين} أيْ أيّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عز وجل: {أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً ؟ إنكم لتقولون قولاً عظيماً} ولهذا قال تبارك وتعالى: {مالكم يكف تحكمون} أي مالكم عقول تتدبرون بها ما تقولون {أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين} أي حجة على ما تقولونه, {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} قال مجاهد: قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهاتهن, قالوا بنات سروات الجن وكذا قال قتادة وابن زيد ولهذا قال تبارك وتعالى: {ولقد علمت الجنة} أي الذين نسبوا إليهم ذلك {إنهم لمحضرون} أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم, وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} قال زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً, حكاه ابن جرير. وقوله جلت عظمته: {سبحان الله عما يصفون} أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد وعما يصفه به الظالمون الملحدون علواً كبيراً. قوله تعالى: {إلا عباد الله المخلصين} استثناء منقطع وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير قوله تعالى: {عما يصفون} عائد إلى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل, وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله تعالى: {إنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين} وفي هذا الذي قاله نظر والله سبحانه وتعالى أعلم. ** فَإِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ * وَمَا مِنّآ إِلاّ لَهُ مَقَامٌ مّعْلُومٌ * وَإِنّا لَنَحْنُ الصّآفّونَ * وَإِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ * وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأوّلِينَ * لَكُنّا عِبَادَ اللّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ يقول تعالى مخاطباً للمشركين: {فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم} أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذرىء للنار {لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها, ولهم آذان لا يسمعون بها, أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة كما قال تبارك وتعالى: {إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك} أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل, ثم قال تبارك وتعالى منزهاً للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله {وما منا إلا له مقام معلوم} أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه. وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه وكان بايع يوم الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لجلسائه: «أطّت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد» ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون} وقال الضحاك في تفسيره {وما منا إلا له مقام معلوم} قال كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم» فذلك قوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم}. وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن في السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه {وما منا إلا له مقام معلوم} وكذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعاً حتى نزلت {وما منا إلا له مقام معلوم} فتقدم الرجال وتأخر النساء {وإنا لنحن الصافون} أي نقف صفوفاً في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى: {والصافات صفاً} قال ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزل {وإنا لنحن الصافون} فصفوا وقال أبو نضرة كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال: أقيموا صفوفكم استووا قياماً يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة ثم يقول {وإنا لنحن الصافون} تأخر يا فلان تقدم يا فلان ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير, وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة, وجعلت لنا الأرض مسجداً, وتربتها طهوراً» الحديث {وإنا لنحن المسبحون} أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد {وما منا إلا له مقام معلوم} الملائكة {وإنا لنحن الصافون} الملائكة {وإنا لنحن المسبحون} الملائكة تسبح الله عز وجل. وقال قتادة {وإنا لنحن المسبحون} يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك وتعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين} وقوله جل وعلا: {وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين} أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل جلاله {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً} وقال تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} ولهذا قال تعالى هاهنا: {فكفروا به فسوف يعلمون} وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عز وجل وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم. ** وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ * فَتَوَلّ عَنْهُمْ حَتّىَ حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ * وَتَوَلّ عَنْهُمْ حَتّىَ حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ يقول تبارك وتعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والاَخرة كما قال تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلى إن الله قوي عزيز} وقال عز وجل: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} ولهذا قال جل جلاله: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون} أي في الدنيا والاَخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم كيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين {وإن جندنا لهم الغالبون} أي تكون لهم العاقبة. وقوله جل وعلا: {فتول عنهم حتى حين} أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر, ولهذا قال بعضهم غيا ذلك إلى يوم بدر وما بعدها أيضاً في معناها, وقوله جلت عظمته {وأبصرهم فسوف يبصرون} أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد {فسوف يبصرون} ثم قال عز وجل: {أفبعذابنا يستعجلون} أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك فإن الله تعالى يغضب عليهم بذلك ويعجل لهم العقوبة ومع هذا أيضاً كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة. قال الله تبارك وتعالى: {فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين} أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم بإهلاكهم ودمارهم, وقال السدي {فإذا نزل بساحتهم} يعني بدارهم {فساء صباح المنذرين} أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون: محمد والله محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه. وقال الإمام أحمد حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم وأرضهم, فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا مدبرين فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» لم يخرجوه من هذه الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين, وقوله تعالى: {وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون} تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. ** سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزّةِ عَمّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ عَلَىَ الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ينزه تبارك وتعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علواً كبيراً ولهذا قال تبارك وتعالى: {سبحان ربك رب العزة} أي ذي العزة التي لا ترام {عما يصفون} أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين {وسلام على المرسلين} أي سلام الله عليهم في الدنيا والاَخرة لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيّته {والحمد لله رب العالمين} أي له الحمد في الأولى والاَخرة في كل حال, ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن ولهذا قال تبارك وتعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين}, وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فأنا رسول من المرسلين». هكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك, وقد أسنده ابن أبي حاتم رحمه الله فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو بكر الأعين ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا: حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين» وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا نوح حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم قال: «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» ثم يسلم, إسناده ضعيف. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا شبابة عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين}. وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه قال أبو محمد البغوي في تفسيره: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن منجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا إبراهيم بن سهلويه حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} . وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال «من قال دبر كل صلاة {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر» وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءاً على حدة والله سبحانه وتعالى أعلم. سورة ص بِسْمِ اللّهِ الرّحْمـَنِ الرّحِيمِ ** صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ * بَلِ الّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى: {والقرآن ذي الذكر} أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى: {ذي الذكر} كقوله تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم} أي تذكيركم وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي {ذي الذكر} ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة, ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} وقيل قوله تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير وضعفه ابن جرير, وقال قتادة جوابه {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه {ص} بمعنى صدق حق {والقرآن ذي الذكر} وقيل جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم, وقوله تبارك وتعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} أي استكبار عنه وحمية {وشقاق} أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة, ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء, فقال تعالى: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} أي من أمة مكذبة {فنادوا} أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس ذلك بمجد عنهم شيئاً كما قال عز وجل: {فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون} أي يهربون {لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون} قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى: {فنادوا ولات حين مناص} قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد: ـ تذكر ليلى لات حين تذكر ـ وقال محمد بن كعب في قوله تعالى: {فنادوا ولات حين مناص} يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم, واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم, وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء, وقال مجاهد {فنادوا ولات حين مناص} ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة, وعن مالك عن زيد بن أسلم {ولات حين مناص} ولا نداء في غير حين النداء, وهذه الكلمة وهي لات هي لا التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهي مفصولة والوقف عليها, ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الأول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها, وأنشد: تذكر حب ليلى لات حيناوأضحى الشيب قد قطع القرينا ومنهم من جوز الجر بها وأنشد: طلبوا صلحنا ولات أوانفأجبنا أن ليس حين بقاء وأنشد بعضهم أيضاً: ولات ساعة مندم بخفض الساعة وأهل اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ولات حين مناص} أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. ** وَعَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُم مّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـَذَا سَاحِرٌ كَذّابٌ * أَجَعَلَ الاَلِهَةَ إِلَـَهاً وَاحِداً إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلاُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىَ آلِهَتِكُمْ إِنّ هَـَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَـَذَا فِى الْمِلّةِ الاَخِرَةِ إِنْ هَـَذَا إِلاّ اخْتِلاَقٌ * أَاُنزِلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكّ مّن ذِكْرِي بَل لّمّا يَذُوقُواْ عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ الْعَزِيزِ الْوَهّابِ * أَمْ لَهُم مّلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسْبَابِ * جُندٌ مّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحَزَابِ يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً كما قال عز وجل: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} وقال جل وعلا ههنا: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} أي بشر مثلهم وقال الكافرون {هذا ساحر كذاب * أجعل الاَلهة إلهاً واحداً} أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا {أجعل الاَلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم} وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين {امشوا} أي استمروا على دينكم {واصبروا على آلهتكم} ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد, وقوله تعالى: {إن هذا لشيء يراد} قال ابن جرير إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه. (ذكر سبب نزول هذه الاَيات الكريمات) قال السدي إن ناساً من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى أبي طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء فتعيرنا به العرب يقولون تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه فبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه, قال فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك قال صلى الله عليه وسلم: «يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم» قال وإلام تدعوهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» فقال أبو جهل لعنه الله من بين القوم ما هي وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها قال صلى الله عليه وسلم: «تقولون لا إله إلا الله» فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلى الله عليه وسلم: «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فقاموا من عنده غضاباً وقالوا والله لنشتمك وإلهك الذي أمرك بهذا {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد} ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى قوله لا إله إلا الله فأبى وقال بل على دين الأشياخ ونزلت {إنك لا تهدي من أحببت}. قال أبو جعفر بن جرير حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول, فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً فقالوا وما هي ؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلى الله عليه وسلم «لا إله إلا الله» فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: {أجعل الاَلهة إلهاً واحداً ؟ إن هذا لشيء عجاب} قال ونزلت من هذا الموضع إلى قوله {بل لما يذوقوا عذاب} لفظ أبي كريب وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب به نحوه, ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه. وقال الترمذي حسن. وقولهم {ما سمعنا بهذا في الملة الاَخرة} أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الاَخرة. قال مجاهد وقتادة وأبو زيد يعنون دين قريش وقال غيرهم يعنون النصرانية قاله محمد بن كعب والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما سمعنا بهذا في الملة الاَخرة يعني النصرانية قالوا لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا به النصارى {إن هذا إلا اختلاق} قال مجاهد وقتادة كذب وقال ابن عباس تخرص. وقولهم {أأنزل عليه الذكر من بيننا} يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قال في الاَية الأخرى: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} قال الله تعالى: {أهم يقسمون رحمة ربك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} ولهذا لما قالوا هذا الذي دلّ على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم. قال الله تعالى: {بل لما يذوقوا عذاب} أي إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً. ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله, وإن العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير. ولهذا قال تعالى منكراً عليهم {أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب} أي العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد, وهذه الاَية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً * فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنم سعيراً} وقوله تعالى: {قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً} وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلى الله عليه وسلم وكما أخبر عز وجل عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا {أألقي الذكر عليه من بيننا, بل هو كذاب أشر * سيعلمون غداً من الكذاب الأشر}. وقوله تعالى: {أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب} أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني طرق السماء, وقال الضحاك رحمه الله تعالى فليصعدوا إلى السماء السابعة. ثم قال عز وجل: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} أي هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه الاَية كقوله جلت عظمته: {أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر} كان ذلك يوم بدر {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}. ** كَذّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ أُوْلَـَئِكَ الأحْزَابُ * إِن كُلّ إِلاّ كَذّبَ الرّسُلَ فَحَقّ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هَـَؤُلاَءِ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً مّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُواْ رَبّنَا عَجّل لّنَا قِطّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة وقوله تعالى: {أولئك الأحزاب} أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال عز وجل: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر. وقوله تعالى: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} قال مالك عن زيد بن أسلم: أي ليس لها مثنوية أي ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل. وقوله جل جلاله: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب} هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد سألوا تعجيل العذاب, زاد قتادة كما قالوا {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} وقيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. وقال ابن جرير سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا الذي قاله جيد وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم. ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد. قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بالصبر على أذاهم ومبشراً له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر. ** اصْبِر عَلَىَ مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنّهُ أَوّابٌ * إِنّا سَخّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ مَحْشُورَةً كُلّ لّهُ أَوّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ يذكر تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد والأيد القوة في العلم والعمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي وابن زيد, الأيد القوة, وقرأ ابن زيد {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون} وقال مجاهد الأيد القوة في الطاعة. وقال قتادة أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام, وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر, وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود, وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه, وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى وأنه كان أواباً» وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه. وقوله تعالى: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار كما قال عز وجل: {يا جبال أوبي معه والطير} وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعاً له. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانىء رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس رضي الله عنهما قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول عز وجل: {يسبحن بالعشى والإشراق} ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى فأدخلته على أم هانىء رضي الله عنها فقلت أخبري هذا ما أخبرتني به فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول: لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الاَن {يسبحن بالعشي والإشراق} وكنت أقول أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول صلاة الإشراق ولهذا قال عز وجل: {والطير محشورة} أي محبوسة في الهواء {كل له أواب} أي مطيع يسبح تبعاً له, وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد {كل له أواب} أي مطيع. وقوله تعالى: {وشددنا ملكه} أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك, قال ابن أبي نجي عن مجاهد كان أشد أهل الدنيا سلطاناً, وقال السدي كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف, وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفاً لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل, وقال غيره أربعون ألفاً مشتملون بالسلاح, وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الاَخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقراً فأنكر الاَخر ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي, فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة, فقال والله إن الله لم يأمر بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليه السلام فقتل, قال ابن عباس رضي الله عنهما: فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل {وشددنا ملكه}. وقوله عز وعلا: {وآتيناه الحكمة} قال مجاهد يعني الفهم والعقل والفطنة, وقال مرة: الحكمة والعدل, وقال مرة: الصواب, وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه, فقال السدي {الحكمة} النبوة وقوله جل جلاله {وفصل الخطاب} قال شريح القاضي والشعبي: فصل الخطاب الشهود والأيمان وقال قتادة شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الأنبياء والرسل أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة, وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهم ذلك وقال مجاهد أيضاً هو الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شيبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أول من قال: أما بعد داود عليه السلام وهو فصل الخطاب, وكذا قال الشعبي فصل الخطاب: أما بعد. ** وَهَلْ أَتَاكَ نَبَاُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَىَ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىَ بَعْضُنَا عَلَىَ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَىَ سَوَآءِ الصّرَاطِ * إِنّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىَ نِعَاجِهِ وَإِنّ كَثِيراً مّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مّا هُمْ وَظَنّ دَاوُودُ أَنّمَا فَتَنّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبّهُ وَخَرّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَـآبٍ قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم حديثاً لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضاً. وقوله تعالى: {ففزع منهم} إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عز وجل: {وعزني في الخطاب} أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب. وقوله تعالى: {وظن داود أنما فتناه} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه. وقوله تعالى {وخر راكعاً} أي ساجداً {وأناب} ويحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد بعد ذلك, وقد ذكر أنه استمر ساجداً أربعين صباحاً {فغفرنا له ذلك} أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد اختلف الأئمة في سجدة {ص} هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر, والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال السجدة في {ص} ليست من عزائم السجود, وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح. وقال النسائي أيضاً عند تفسير هذه الاَية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في {ص} وقال: «سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكراً» تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات. وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع, أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجدروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت, فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي عندك أجراً, واجعلها لي عندك ذخراً, وضع بها عني وزراً, واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة, رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجه عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه, وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال البخاري عند تفسيرها أيضاً حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهداً عن سجدة {ص} فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ {ومن ذريته داود وسليمان} {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب {ص} فلما بلغ إلى الاَية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجداً قال فقصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد, تفرد به أحمد, وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر {ص} فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشرف الناس للسجود فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشرفتم» فنزل وسجد وتفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين. وقوله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً إمام عادل, وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر» ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به, وقال لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته ؟ فيقول الله عز وجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان. ** يَدَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلاَ تَتّبِعِ الْهَوَىَ فَيُضِلّكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله, وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مروان بن جناح حدثني إبراهيم أبو زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت فقلت يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال: قل في أمان الله, قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام, إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} الاَية وقال عكرمة {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا, وقال السدي لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب وهذا القول أمشى على ظاهر الاَية والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. ** وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لّيَدّبّرُوَاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ أُوْلُو الألْبَابِ يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا} أي الذين لا يرون بعثاً ولا معاداً وإنما يعتقدون هذه الدار فقط {فويل للذين كفروا من النار} أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم, ثم بين تعالى أنه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال تعالى: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض * أم نجعل المتقين كالفجار} أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل على العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا, وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى لهذا الجزاء والمواساة. ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} أي ذوو العقول وهي الألباب جمع لب وهو العقل, قال الحسن البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل, رواه ابن أبي حاتم. ** وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ الصّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنّيَ أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّىَ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدّوهَا عَلَيّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالأعْنَاقِ يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود سليمان أي نبياً كما قال عز وجل: {وورث سليمان داود} أي في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر. وقوله تعالى: {نعم العبد إنه أواب} ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا بني ما أحسن ؟ قال سكينة الله والإيمان ؟ قال فما أقبح ؟ قال كفر بعد إيمان قال فما أحلى, قال روح الله بين عباده قال فما أبرد ؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض قال داود عليه السلام فأنت نبي. وقوله تعالى: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد} أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف, وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عز وجل: {إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد} قال كانت عشرين فرساً ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه, والله أعلم, وقال أبو داود حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا يا عائشة ؟» قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي أرى وسطهن ؟» قالت رضي الله عنها فرس, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الذي عليه ؟» قالت رضي الله عنها جناحان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فرس له جناحان ؟» قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة قالت رضي الله عنها فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه. وقوله تبارك وتعالى: {فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب} ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً بل نسياناً كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما صليتها» فقال: فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب. ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال, والخيل تراد للقتال وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعاً فنسخ ذلك بصلاة الخوف, ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب لأنه قال بعده {ردوها علي فطفق مسحاً بالسوق والأعناق} قال الحسن البصري: لا, قال: والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك, ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة, وقال السدي: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حباً لها وهذا القول اختاره ابن جرير قال لأنه لم يكن ليعذب حيواناً بالعرقبة ويهلك مالاً من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيماإذا كان غضباً لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل, قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال: «إنك لا تدع شيئاً اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيراً منه». ** وَلَقَدْ فَتَنّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىَ كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمّ أَنَابَ * قَالَ رَبّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاّ يَنبَغِي لأحَدٍ مّن بَعْدِيَ إِنّكَ أَنتَ الْوَهّابُ * فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشّيَاطِينَ كُلّ بَنّآءٍ وَغَوّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرّنِينَ فِي الأصْفَادِ * هَـَذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىَ وَحُسْنَ مَآبٍ يقول تعالى: {ولقد فتنا سليمان} أي اختبرناه بأن سلبناه الملك {وألقينا على كرسيه جسداً} قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطاناً {ثم أناب} أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأُبهته. قال ابن جرير, وكان اسم ذلك الشيطان صخراً قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل صرد قاله مجاهد أيضاً وقيل حقيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة, وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد, قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطاناً في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمراً فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم رجع حتى عطش عطشاً شديداً ثم أتاها فقال: إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلاً, قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل, قال وكان ملكه في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليها فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بالخاتم فانطلق يوماً إلى الحمام, وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لأجربنه قال: فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمداً حتى تطلع الشمس أترى عليه بأساً قال: لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم {وألقينا على كرسيه جسداً} قال هو الشيطان صخر. وقال السدي {ولقد فتنا سليمان} أي ابتلينا سليمان {وألقينا على كرسيه جسداً} قال شيطاناً جلس على كرسيه أربعين يوماً قال كان لسيمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحداً من الناس غيرها فأعطاها يوماً خاتمه ودخل الخلاء, فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت: ألم تأخذه قبل ؟ قال: لا وخرج وكأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوماً قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوارة قال فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر وقال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطىء البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان, قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطىء البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فردّ الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله: {وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى: {وألقينا على كرسيه جسداً} قال شيطاناً يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة والسلام كيف تفتنون الناس ؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهنّ ولم يقربنه وأنكرنه قال فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر. وأرى هذه كلها من الإسرائيليات, ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا: حدثنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب} قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحداً يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: أتنكرن من سليمان شيئاً, قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتباً فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته, وكان سليمان عليه السلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال: تحمل لي هذا السمك ؟ فقال نعم قال بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم في جوفها فأخذه فلبسه, قال فلما لبسه دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطاناً مريداً فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً فجاؤوا فبنوا عليه بنياناً من رصاص فاستيقظ فوثب فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه من الرصاص, قال فأخذوه فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب} يعني الشيطان الذي كان سلط عليه, إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي, ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه, ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفاً وتكريماً لنبيه عليه السلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. قال يحيى بن أبي عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعاً لله عز وجل, رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبراً عجيباً فقال حدثنا أبي رحمه الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية: يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو, فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعاً بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ, وقد جعل له درجة منها مفصصاً بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ, وجعل على رؤوس النخل التي على يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسوراً من ذهب مقابلة الطواويس, وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد, وجعل من جانبي الكرسي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما دراً وياقوتاً أحمر, ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكاً وعنبراً, فإذا أراد سليمان عليه السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والاَخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان, ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبراً من ذهب عليها سبعون قاضياً من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول, ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبراً من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة, فقال معاوية رضي الله عنه: وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي دُرْنَ إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعاً ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوارة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر تمام الخبر وهو غريب جداً {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الاَية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البخاري عند تفسير هذه الاَية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عفريتاً من الجن تفلت عليّ البارحة ـ أو كلمة نحوها ـ ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام {رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} قال روح فرده خاسئاً وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به. وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعة بن زيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: «أعوذ بالله منك ـ ثم قال ـ ألعنك بلعنة الله» ثلاثاً وبسط يده كأنه يتناول شيئاً فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى الله عليه وسلم: «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يتأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة». وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائماً يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال: «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين ـ الإبهام والتي تليها ـ ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» وقد روى أبو داود منه «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل» عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به. وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يُزَنّ بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه «من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عز وجل له توبة أربعين صباحاً, وإن الشقي من شقي في بطن أمه, وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج)من خطيئته مثل يوم ولدته أمه» فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول: «من شرب الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة» قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل» وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثاً فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة, سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده, فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطانا إياها» وقد روى هذا الفصل الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالاً ثلاثاً» وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين. فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله يقول: «قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتاً قي الأرض فبنى داود بيتاً لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثاً فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتاً قال ولم يا رب ؟ قال لما جرى على يديك من الدماء, قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تمّ قرّب القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكماً يصادف حكمك وملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي ومن أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة» وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه بـ «سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب» وقد قال أبو عبيد: حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن سمار قال لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلباً يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عز وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني, لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. قال الله جلت عظمته: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الاَخرة لا حساب عليه هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه, وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي, فأوحى الله عز وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكن له كما كنت لك. وقوله تبارك وتعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} قال الحسن البصري رحمه الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضباً لله عز وجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع, الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر. وقوله جل وعلا: {حيث أصاب} أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله: {والشياطين كل بناء وغواص} أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر, وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللاَلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها {وآخرين مقرنين في الأصفاد} أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى, أو قد أساء في صنيعه واعتدى. وقوله عز وجل: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبداً رسولاً ـ وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به ـ وبين أن يكون نبياً ملكاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح, اختار المنزلة الأولى بعدما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع قدراً عند الله عز وجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والاَخرة, ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم القيامة أيضاً فقال تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} أي في الدنيا والاَخرة. ** وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الشّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنّا وَذِكْرَىَ لاُوْلِي الألْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نّعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه, ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحواً من ثماني عشرة سنة, وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا, فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً, فلما طال المطال, واشتد الحال, وانتهى القدر, وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال {إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين} وفي هذه الاية الكريمة قال: {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب} قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى, ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عيناً أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً, ولهذا قال تبارك وتعالى: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعاً حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان, فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له, فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق, قال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى, فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً قال فإني أنا هو, قال وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض, هذا لفظ ابن جرير رحمه الله. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به, ولهذا قال تبارك وتعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب} قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم. وقوله عز وجل: {رحمة منا} أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته {وذكرى لأولي الألباب} أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. وقوله جلت عظمته: {وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث} وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة, وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثاً وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره, وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه, ولهذا قال جل وعلا: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب} أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه {نعم العبد إنه أواب} أي رجاع منيب, ولهذا قال جل جلاله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراً*} واستدل كثير من الفقهاء بهذه الاَية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد أخذوها بمقتضاه والله أعلم بالصواب. ** عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ * إِنّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ * هَـَذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ يقول تبارك وتعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما {أولي الأيدي} يقول أولي القوة والعبادة {والأبصار} يقول الفقه في الدين. وقال مجاهد {أولي الأيدي} يعني القوة في طاعة الله تعالى والأبصار يعني البصر في الحق وقال قتادة والسدي: أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين. وقوله تبارك وتعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للاَخرة ليس لهم غيرها وكذا قال السدي ذكرهم للاَخرة وعملهم لها. وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الاَخرة وذكرها, وكذا قال عطاء الخراساني. وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها, وقال في رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار, وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الاَخرة والعمل لها, وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الاَخرة. وقوله تعالى: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} أي لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون. وقوله تعالى: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار} قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله عز وجل: {هذا ذكر} أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر, قال السدي يعني القرآن العظيم. ** وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنّاتِ عَدْنٍ مّفَتّحَةً لّهُمُ الأبْوَابُ * مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ * هَـَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنّ هَـَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نّفَادٍ يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الاَخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله تعالى: {جنات عدن} أي جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب والألف واللام ههنا بمعنى الإضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها, قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله ـ أو لا يسكنه ـ إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل» وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة. وقوله عز وجل: {متكئين فيها} قيل متربعين على سرر تحت الحجال {يدعون فيها بفاكهة كثيرة} أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا {وشراب} أي من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام {بأكواب وأباريق وكأس من معين} {وعندهم قاصرات الطرف} أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن {أتراب} أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي {هذا ما توعدون ليوم الحساب} أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار. ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى: {إن هذا لرزقنا ماله من نفاد} كقوله عز وجل {ما عندكم ينفد وما عند الله باق} وكقوله جل وعلا {عطاء غير مجذوذ} وكقوله تعالى: {لهم أجر غير ممنون} أي غير مقطوع وكقوله عز وجل: {أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار} والاَيات في هذا كثيرة جداً. ** هَـَذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ * جَهَنّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَـَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـَذَا فَوْجٌ مّقْتَحِمٌ مّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنّهُمْ صَالُو النّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُواْ رَبّنَا مَن قَدّمَ لَنَا هَـَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىَ رِجَالاً كُنّا نَعُدّهُمْ مّنَ الأشْرَارِ * أَتّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَـرُ * إِنّ ذَلِكَ لَحَقّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النّارِ لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عز وجل: {هذا وإن للطاغين} وهم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم {لشر مآب} أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا: {جهنم يصلونها} أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم {فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق} أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره, وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم. ولهذا قال عز وجل: {وآخر من شكله أزواج} أي وأشياء من هذا القبيل: الشيء وضده يعاقبون بها. قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن دلواً من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير حديثه, ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به. وقال كعب الأحبار: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالاَدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه, رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى: {وآخر من شكله أزواج} ألوان من العذاب, وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة والجميع مما يعذبون به, ويهانون بسببه. وقوله عز وجل: {هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى: {كلما دخلت أمة لعنت أختها} يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية {هذا فوج مقتحم} أي داخل {معكم لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار} أي لأنهم من أهل جهنم {قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم} أي فيقول لهم الداخلون {بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا} أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير {فبئس القرار} أي فبئس المنزل والمستقر والمصير {قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار} كما قال عز وجل: {قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار * قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون} أي لكل منكم عذاب بحسبه {وقالوا مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ؟} هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا مالنا لا نراهم معنا في النار. قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول مالي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار, فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا {مالنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخرياً} أي في الدار الدنيا {أم زاغت عنهم الأبصار ؟} يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم, فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ـ إلى قوله ـ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وقوله تعالى: {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك. ** قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهّارُ * رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَـَلإِ الأعْلَىَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَىَ إِلَيّ إِلاّ أَنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما أنا منذر لست كما تزعمون {وما من إله إلا الله الواحد القهار} أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه {رب السموات والأرض وما بينهما} أي هو مالك جيمع ذلك ومتصرف فيه {العزيز الغفار} أي غفار مع عظمته وعزته {قل هو نبأ عظيم} أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم {أنتم عنه معرضون} أي غافلون, قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عز وجل: {قل هو نبأ عظيم} يعني القرآن. وقوله تعالى: {ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى ؟ يعني في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هشام حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلى الله عليه وسلم سريعاً فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم: «كما أنتم» ثم أقبل إلينا فقال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى, قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثاً ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات ؟ قلت: نقل الأقدام في الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات ؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام, قال: سل, قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني, وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون, وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إنها حق فادرسوها وتعلموها» فهو حديث المنام المشهور, ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق, وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به, وقال الحسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر, وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو في قوله تعالى:) ** إِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ * فَإِذَا سَوّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُـلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنّكَ رَجِيمٌ * وَإِنّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيَ إِلَىَ يَوْمِ الدّينِ * قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِيَ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَىَ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزّتِكَ لاُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقّ وَالْحَقّ أَقُولُ * لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنكَ وَمِمّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الأعراف وفي سورة الحجر وسبحان والكهف وههنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشراً من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله عز وجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنساً. كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لاَدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه, وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عز وجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه, وحضرة قدسه, وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى وقال: {فبعزتك لأغزينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} كما قال عز وجل: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي * لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وهؤلاء هم المستثنون في الاَية الأخرى وهي قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلاً}. وقوله تبارك وتعالى: {قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول وفسره مجاهد بأن معناه أنا الحق والحق أقول, وفي رواية عنه: الحق مني وأقول الحق, وقرأ آخرون بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به (قلت) وهذه الاَية كقوله تعالى: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وكقوله عز وجل: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً}. قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجراً تعطونيه من عرض الحياة الدنيا {وما أنا من المتكلفين} أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه, وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الاَخرة, قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم, الله أعلم, فإن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} أخرجاه من حديث الأعمش, به وقوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين به من الإنس والجن, قاله ابن عباس رضي الله عنهما, وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل: حدثنا قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {للعالمين} قال: الجن والإنس, وهذه الاَية الكريمة كقوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} وكقوله عز وجل: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وقوله تعالى: {ولتعلمن نبأه} أي خبره وصدقه {بعد حين} أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم القيامة, ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة, وقال قتادة في قوله تعالى: {ولتعلمن نبأه بعد حين} قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.