سد الذرائع ببساطة شديدة هو "إغلاق الأسباب المؤدية إلى الحرام".
ومقصوده – كما هو ظاهر حسم مادة الفساد وقطع وسائله.. وهو أحد مصادر التشريع في الفقه الإسلامي انتشر استعماله في الفقه المالكي والحنبلي.. وإن كانت بقية المذاهب قد استعملته في بعض فروعها تحت مسميات مختلفة بصورة أو بأخرى
وقد اشترط العلماء لاعتباره شروطا أظهرها
. أن تؤدي الذريعة – السبب – إلي هذه المعصية 1ـ
. 2ـ أن تُرجَّح مفسدة فعلها علي المصلحة
.3ـ أن تكون الذريعة طريقاً لهذه المفسدة أو المعصية في غلبة الأحوال
ولا يخفي أن المقصود بالذريعة التي تستدعي المنع هي الذريعة التي تؤدي مباشرةً للمعصية .. أما الذريعة التي بينها وبين المعصية خطوات بعيدة فتحريمها بحجة سد الذرائع تشديد وتضييق في غير موضعه هو الذي يستدعي أن يُسد
فلو قلنا مثلاً أن الخلوة بالمرأة الأجنبية ذريعة لكبيرة مثل الزنا فهذه ذريعة مباشرة للوقوع في هذه الكبيرة استدعت أن يتصدي لها الشرع بالمنع والتحريم.. أما سير المرأة في طريق المارة دون ريبة فهي ذريعة بعيدة عن الزنا بخطوات.. وبالتالي فالقول بحرمة ذلك تشديد في غير موضعه
ثم.. وبعد كل ذلك.. فالتحريم في سد الذرائع ضعيف يُغتفر فيه مالا يغتفر في المقاصد.. ويُلغي هذا التحريم للمصلحة الراجحة، وللحاجة الظاهرة وليس مثل التحريم في المقاصد المنصوص عليها والذي لا يلغي إلا للضرورات
هذه بعض معلومات سريعة عن سد الذرائع باعتباره إفرازاً عبقرياً لشريعتنا الغراء، ودلالة ظاهرة علي مرونتها وقدرتها علي استيعاب ما يستجد من أحداث لم تتناولها النصوص بصورة مباشرة عن طريق التصدي للمعاصي والمفاسد بقطع الأسباب المؤدية إليها
وقد استعمل سلفنا الصالح هذه القاعدة بضوابطها المذكورة بفقههم الواسع وإدراكهم الواعي.. فوسعوا من خلالها آفاق معالجة القضايا المختلفة المستجَدة دون أن ينزلقوا للمبالغة التي توجد التشديد علي الناس في غير موضع التشدد لتحقيق مصالح موهومة ومقاصد لم يعتبرها الشرع
ثم خلف من بعدهم خلوف غلبتهم روح التشدد، أو قصر بهم العلم عن سبر حقائق الأشياء، أو ساروا مع الجو السائد لإرضاء هذا أو ذاك.. فاستخدموا هذه القاعدة العبقرية في غير موضعها.. فشددوا علي الناس وأغرقوهم في بحر من المحرمات والأحاويط – من الأحوط – استسهالاً للفتوى بالتحريم وتخلصاً من جهد البحث في الأدلة ومقولات أهل العلم
ورحم الله الصديقة بنت الصديق إمامة عصرها ووريثة فقه النبوة وقد ساءها ما أحدث النساء في عصرها فقالت "لو رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم ما أحدثن لمنعهن المساجد".. ولكنها لم تجرؤ وهي من هي في العلم والتقوى والمكانة أن تقول بمنعهن – رغم ما أحدثن – سداً للذرائع.. وما كان لها أن تفعل وقد قال الرسول صلي الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"
ورضي الله عن سفيان الثوري وقد لفت نظره بروز ظاهرة التحريم والتشديد في غير موضعه وبدون دليل ظاهر فقال "العلم هو الرخصة من فقيه أما التشدد فيحسنه كل أحد"
هذه إحدى الظواهر السلبية التي تعاني منها الفتوى في هذه الأيام .. والتي تسبق إلي ألسنة كثير من علمائنا الإجلاء فيفتي بالحرمة سداً للذريعة أو اتقاءً للشبهات أو أخذاً بالأحوط
وكثيراً ما يتجاهل نصوصاً صريحة أو قياساً ظاهراً أو إباحة منصوصاً عليها أو غير ذلك بل إنه ليتجاهل تلك القواعد والشروط التي وضعها الأصوليون كضابط لسد الذريعة والتي أجهدوا أنفسهم في وضعها لتحصيل مصلحة تلك القاعدة الذهبية ونفض سوء الاستعمال عنها.
ونسوق نماذج من مثل هذه الفتاوى لبعض علمائنا الأجلاء في هذا المعني مع تقديرنا لهم ولما بذلوه من جهد ودون قصد للتعريض بأشخاصهم:
ـ أفتي بعضهم بحرمة تقديم الورود هدية للمريض سداً لذريعة التشبه بالكفار مع أنها عادة شاعت بين الناس في شتي الملل والأديان وليست من عادات الكفار المختصة بهم .. وهي ليست من مسائل الدين ولا من شعائره. 
ـ أفتي بعضهم بحرمة إنشاء النوافذ والشرفات في المنازل لأنها ذريعة لانكشاف البيوت وكشف العورات مع أن ذلك ليس لازماً فيها والمسلمون من الأزل يبنون بيوتهم بهذا الوصف دون نكير وليس من نص ولا قياس يؤيد ذلك بل إن الوصول الي كشف العورات بينه وبين ذلك مراحل 
ـ أفتي بعضهم بحرمة لعب الكرة والتزام قوانين اللعبة والتحكيم لأنه ذريعة للحكم بغير ما أنزل الله! 
ـ أفتي البعض بمنع قيادة النساء للسيارة لأنه ذريعة للفساد والانحراف 
ـ أفتي بعضهم بوجوب تغطية المرأة المحرمة لوجهها متجاهلاً الأحاديث الصحاح في وجوب كشف الوجه وأن إحرامها يكون في وجهها وكفيها مستندين في ذلك إلي حديث موقوف ضعيف عن السيدة عائشة في ستر الوجه 
ـ أفتي بعضهم ببطلان الصلاة في المساجد التي بها قبور سداً لذريعة الشرك.. رغم أنني لم أقرأ لأحد من علماء سلفنا المشهورين نص في أي كتاب من كتب الفقه المعتبرة أن ذلك من مبطلات الصلاة.. بل ولا ناقشوا هذه القضية في هذا الباب تأييداً أو اختلافاً.. كما ناقشوا مثلاً قضية الصلاة في الأرض المغصوبة أو الصلاة في ثوب الحرير.. و"هذا لا يلغي القول بحرمة بناء المساجد علي القبور أو دفن الموتى في المساجد 
ـ أفتى بعضهم ببطلان الصلاة في السراويل – البنطال – باعتبارها تجسم العورة مع أنه لم يرد في ذلك دليل من كتاب أو سنة ولا تعرض أحد – فيما نعلم – من فقهاء السلف الصالح للقول بالبطلان رغم انتشار ذلك اللباس من القدم وعموم البلوى به.
وبمثل هذه الفتاوى شاع بين الناس وبين طلبة العلم فكرة الأخذ بالأحوط وترك الشبهات بدلاً من السعي خلف الدليل والوقوف أمامه وعدم التقديم بين يديه
وهناك فارق بين أن يأخذ الإنسان نفسه بالأشد تحوطاً لدينه وبين أن يفتي الناس به.
فقد كان صلي الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتورم قدماه وكان ينكر علي معاذ إطالته في الصلاة ويقول له "أفتان أنت يا معاذ"؟
وكان صلي الله عليه وسلم يختار أيسر الأمرين ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم ونصوص الشرع وأدلته هي اليسر بعينه
فتجاهل هذه الروح في الإفتاء واستسهال القول بالحرمة بدون سند قوي لهذه الحرمة من الأدلة الشرعية هو مخالفة للهدي النبوي السديد ونهج سلفنا الصالح وروح الإسلام الميسرة
فالعلم والفقه هو السير مع الدليل حيث سار أما التشدد والتضييق فيحسنه كل الناس كما قال الرجل الحكيم سفيان الثوري .. وعبادة الله لا تكون إلا بالتزام أمر الشارع الحكيم واجتناب مناهيه والعفو عما عفا عنه وإباحة ما أباح

نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال

 

 

  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 329 مشاهدة
نشرت فى 1 سبتمبر 2016 بواسطة usamahafez

أسامة ابراهيم حافظ

usamahafez
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

3,111