الألم واللغة .. ، بحثاً عن كتابة أمل الأوجاع !

حمّودان عبدالواحد، كاتب عربي وأكاديمي من فرنسا

       أمام هول المأساة التي تضرب دون رحمة أبناء سوريا والعراق، وأوطان أخرى في المنطقة العربية والإسلامية مثل اليمن، نجد أنفسَنا في قلب دواماتِ علاقتيْن ذات أبعاد نفسية وفكرية، ثقافية وحضارية، تاريخية وإنسانية عميقة وخطيرة.

       أولا، وقفة الذات أمام أو مع نفسها: علاقة مواجهة دائمة، علاقة نفور وصدام، علاقة معقدة يمكن صياغتُها في عبارة " إشكالية الذات ". وهي إشكالية علاقتنا بالعرب والعروبة عامة، والمسلمين والإسلام خاصة. إنها إشكالية علاقة الذات بهويتها الثقافية والروحية والجغرافية. وهي علاقة أُسريّة أو عضوية تأسّست بفعل التاريخ والميلاد والتربية والتعليم والتقاليد وطريقة التفكير، لكنها علاقة جدلية إذ هي موضع تساؤلات وانتقادات وأبحاث وصراعات.

      ثانيا، وقفة الذات أمام أو مع الآخر : الأمر يتعلق بعلاقتنا بالغرب بثقافته وتصوره للعالم والآخر عامة، وبسياسته الخارجية اتجاه الشرق العربي خاصة. وهي علاقة هي الأخرى ديالكتيكية، تطبعها المواقف المتناقضة لأنها علاقة إعجاب وخيبة أمل، علاقة انجذاب ونفور، علاقة احتكاك وفتور أو شعور بإحباط وفشل.

     تتعقّد العلاقتان أكثر فأكثر أمام تراكم الأخبار الموجعة والأحداث التراجيدية المتعلقة بسوريا والعراق وأخواتهما العربيات الأخريات في الألم والدموع، والضحايا والدماء، والخراب والتدمير. هنا يبلغ الإحساس بالذات والآخر ذروتَه، وهنا نصطدم بأنفسنا وبالآخرين، ونتساءل وننفعل ونكاد لا نفهم شيئا مما يحدث لنا وللآخرين، ونوشك غالبا أن نقرّ بانفلات كل شيء من أيدينا وإرادتنا. علاقتنا هنا بالأخبار هي أكثر من علاقة القارىء بمادة الخبر أو المفكّر بموضوع تفكيره، وعلاقتنا بالأحداث والمشاهد والوقائع هي أكثر من علاقة المتفرّج على مسرحِ مواجهاتٍ وحروبٍ وتشتيتٍ وتمزيق وتهجير. إنّها علاقتنا بأنفسنا ونظرتنا إلى ذاتنا كمعانين ومتألمين ومفكرين أكثر منها علاقة بمادة أو بموضوع المعاناة والتألم والتفكير.

      ونلمس، من خلال التجربة، داخل كلّ واحدة من هاتيْن العلاقتين، على انفراد أو معا في نفس الوقت، دوائرَ الانحطاط في تكاثر وتوسع. وفي كلّ وقفة واعية أمام حلقات مسلسل التدهور الأخلاقي والانحدار الإنساني نحسّ بالألم لأننا لا نقبل بالانحطاط ولا نرضى به لأنفسنا أو غيرنا، ولم نسلّم به يوما ما، ولن نستسلم أبداً إلى واقعه الزاحف الساعي – بأقنعته وحيله المتعدّدة - منذ قرون، إلى خنق الزمن العربي والإسلامي وتجميد شرايين الحياة فيه.

     وهاتان العلاقتان اللتان نجد أنفسنا بين شقّيّ رحاهما مُعانين متألّمين، ومفكرين أيضاً، هما في العمق، علاقتان تظلان، جزئيا أو كليا، غير واضحتي المعالم، بل تبدوان لنا أحيانا - في غياب ضبط علاقة أخرى مصيرية هي " علاقتنا باللغة " - متجاوِزتين لنا بوضعنا جانبًا ، وفي أحسن الأحوال مؤقتاً، على هامش الوجود. لهذا يلزمنا، في وقفتنا أمام الذات والآخر، من أجل استنطاق مَواطن الألم والصمود في وجه أسبابه، والحدّ من تطوّراته واستفحال مظاهره، أن نكون قادرين في " علاقتنا باللغة "  على استيعاب العناصر المكونة لرصيدها الثقافي والديني، والسياسي والإيديولوجي، والتاريخي والحضاري. ولا بُدّ، في نفس السياق، في محاولة اقترابٍ واحتضان لإمكانيات التعبير والإبداع في اللغة، من الوقوف على منابع القوة والدقة والعمق، والجدّة والأصالة والجمال في أساليبها وصورها ومعانيها.

    هذه العلاقة مع اللغة تعني قبل كل شيء رفضَ استعمال الألفاظ والعبارات والأساليب الجاهزة التي لها صلة بموضوع الآلام والأحزان والمآسي التي ترافقه. إنّ المصاب بالفواجع المؤلمة يعيش تجربة شخصية خاصة به، لهذا لن يجد في الأمثال والحكم والأبيات والأدبيات التي تزخر بها كتبُ الشعر والنثر، والفلسفة والفن حول مآسي الإنسان في الحياة وعذابه في الأرض ما يمكن أن يعزّيه أو يخفّف من آلامه. أن نختار للتعبير عن تجربتنا الشخصية مع الألم كلماتٍ وصيغاً وُضِعت في الأصل بعيداً عنّا وبدوننا تلبيّةً لحاجاتِ غيرنا في مواجهته لآلامه وتعاسته لَشيءٌ مرفوض قطعاً !

      لنتصوّر، مثلا، تجربة الألم الناتج عن فقدان فرد من أفراد الأسرة كابن أو ابنة. هل يليق بنا أن نستنجد بمرثية ابن الرومي في ابنه محمّد ونكرّر معه: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي/فجودا فقد أودى نظيرُكما عندي ؟ هل، إن فعلنا هذا، سنكون قد عبّرنا عمّا نعاني منه في أعماق حياتنا النفسية والعصبية اتجاه الموت وألغازه ؟ هل سنلجأ لقصيدة فيكتور هيكو المشهورة ' غداً ومع الفجر..' التي يصف فيها حزنه ووضعيته الوجودية المتأزمة المتأمّلة وهو يخرج في الصباح الباكر قاصدا زيارة ابنته في قبرها: " غدا عندما يبيضُّ الريفُ بضياء الفجر، سأخرج لأني أعرف أنكِ تنتظرينني وسأمرّ بالغابة والجبل لأني لا أستطيع أن أبقى بعيدا عنكِ لمدّة طويلة ... سأمشي ... حزينا لا أفرق بين النهار والليل ... "، حتى نستطيع تصوير مناجاتنا التخيّلية النابعة من عمق أحشائنا ؟ هل من أجل وصف الآثار النفسية الناتجة عن الحالة التي يوجد عليها من يتألم بشدّة ولا يجد من يواسيه أو يخفّف عنه من حدّة الأحزان، سنجري وراء الكاتب التشيكي ميلان كونديرا لنقتبس منه قولته السيّارة : عندما يكون الألم حادّاً، يتلاشى كلّ شيء أمامنا ونبقى وحيدين مع أنفسنا ؟ إنها صياغة جميلة لكاتب له أسلوبه الشخصي، لكنها تعبّر في الحقيقة عن شيء عادٍ وعام يعرفه ويشعر به كلّ من جرّب وذاق مرارة الألم والأسى. هل سنردّد مع الشاعر العراقي المرموق بدر شاكر السياب في حالة الألم الناتج عن المرض العضال- الذي أودى بحياته - ما جادت به عبقريتُه الشعرية في تجربة فريدة وأصيلة تتعلق به وحده :

لك الحمد مهما استطال البلاء / ومهما استبدّ الألم / لك الحمد، إنّ الرزايا عطاء

 أم أنّنا سنرهف الحس وندقّق الشعور ونشعل الكلمات واللغة بوقود آلامنا الخاصة وتجربتنا الشخصية فنبدع حقاًّ - في خشوع شبيه بالصلاة وطقوس العبادة – التعبير الغنائي الوحيد الكفيل بأن نكون، روحا وفكرا وأسلوبا وتصويرا، في مستوى التعبير بأصالة وجدّة عن معاناتنا ومأساتنا ؟

       الكاتب الحقيقي هو الذي يعبّر بكلماته عن أحاسيسه ووجدانه. فكما أن تجربته مع الألم هي تجربة فرديّة خاصة تنبع من واقعه المعاش، وتأخذ شكلَها ولونَها، وعمقها وإيقاعها من عالم مشاعره ورؤيته الذاتية للموت والحياة، والخير والشر، والسعادة والشقاء، والألم واللذة، فكذلك تكون كتابتُه عن الألم والعذاب والأوجاع أي كتابة تختار كلماتها بما يتناسب والتجربة الشخصية بحيث تكون صدى أو ترجمانا لها، لا نقلا لما قيل عن ظاهرة الألم في الشعر والادب والفلسفة، أو تقليداً لكتابات الآخرين حول نفس الموضوع.

      بهذا المعنى يكون تعلّم كتابة الألم شيئا له صلة وثيقة بنوع التجربة الشعورية – النفسية، والبحث عن لغة جديدة يكون بإمكانها تقديم " تجربة الألم الشخصية " في تصويرٍ أو وصف أو سرد يستمدّ خصائصه ومميزاته من عمق وصدق الكلمات، وأصالة الأسلوب وفرادته. الكلمات هنا ليست مدادا يُكتبُ بحبر على ورق، أو أشكالا تخطّطها أيادٍ تحترف الكتابة كصناعة أسلوبية وجمالية، وممارسة تركيبية وعقلية. الكلمات لمّا يتعلّق الأمرُ بتجربة الألم الشخصية، أكانت مادية أم نفسية أم أخلاقية، هي كائنات حية من لحم ودم، تتنفّس وتتنهّد، تتأوّه وتدمع وتزفر، تقلق وتغضب وتصرخ، تتمرّد وتثور. كلمات الألم لها واقع يمتدّ بعيدا في متاهات الروح وانتفاضات الجسد، ولها جذور في دروب الفكر والذاكرة والوجدان.

     صحيح أنّ كلمات الألم كلمات شقيّة وموجعة، وأنها كلمات حزينة تطغى عليها ضروبٌ من الأسى وفنونٌ من الاضمحلال والحنين تضفي عليها آثاراً خفيفة من الجلال والجمال، ويمكن أن تنزع إلى الانفراد والتقوقع على الذات، وتلبس معطفاً شبيها بلباس الزاهدين ومسوح الهاربين من الدنيا وهدير طواحنها، كما يحدث لها أن تتخذ ملامح الشاكين الباكين، اليائسين المتشائمين، النافضين يدهم من وحشية الإنسان وطغيانه وجبروته. كلّ هذا صحيح وممكن، لكن كتابة الألم يمكن لها بالتوازي أن تعبّر عن رؤية بيْنيّة فيما يخصّ معاني التجارب الموجعة، وقد تؤدّي إلى استخراج عناصر إيجابية من صلب الأذى والشر. كتابة الألم هنا قد تقود- إذا كان أسلوبُها عميقا وقويا، وكانت أفكارُها نافذة- إلى اتخاذ موقف متفائل من الحياة، والثقة بقدرة الإنسان على التغيير وتحسين نفسه وأوضاع إخوته من بني آدم على الأرض، وبناء حياة جديدة على أنقاض الخراب والتمزيق والتشتيت، وانتزاع الابتسامة والبهجة، ولو بعد أقصى جُهدٍ وعناء، من صميم الرماد والحريق والنار.

     لا نعتقد، كيفما كان نوع الألم، أنّ فيه لذة. في عالم الضحايا، الألم واللذة نقيضان، والألم عدوٌّ لدودٌ للراحة والاستقرار والهناء. أمّا في ثقافة المستبدّين والمستغلّين المستعدّين للدفاع عن سلطتهم ومصالحهم بكل الوسائل، فالأمر مختلف. سعادتهم وجوْدة الحياة التي يحرصون عليها كامنةٌ في مدى إلحاق الضرر بالناس وخلق المشاكل لهم. إنهم يتلذّذون بآلام الآخرين ويتغذون بأحزانهم، ويبنون إمبراطوريات المال والنفوذ والهيبة، والمتعة والشهرة والامتيازات بدماء الضعفاء من الأطفال والنساء والشيوخ، والأبرياء البسطاء من البشر الحالمين بلقمة عيش عادية وحياة كريمة.

     في وجه هؤلاء، مِمن يرقصون على آهات المتألمين ويمرحون برش الملح على جراح المقهورين والمضطهدين والمظلومين، يجب علينا أن نظل متمسكين بإنسانيتنا، أن نردّ على سياسة الحرق والقتل والتهجير بتعلقنا أكثر فأكثر بحريتنا وممارسة حياتنا بكرامة. وعلى ساسة الموت وقادة التدمير أن يتأكدّوا من أننا ما زلنا أحياءً، ولنا وعي أكثر مِمّا مضى بأنّه لا خيار لنا إلا أن نمارس وقفتَنا في الوجود بصمود وإباء وكبرياء. إنّنا لسنا فقط ما زلنا طرفا في المعادلة، بل إنّ وزننا يزداد ثقلا إلى درجة أنه يقلق الطغاة ويسبّب لهم يوميا كلّ أنواع الأرق والاختناق والضيق والتعب.

     نعم، أمام الألم علينا أن نتعلّم " كتابة الألم "، أن نبحث عن اللغة المبدعة، لغة المقاومة والتحدّي، لأننا إن نجحنا في هذا الامتحان العسير فسوف نفاجىء الأعداء والمستهترين بالحياة الانسانية، والمقامرين بالقيم والأخلاق، والعالم أجمع، وربّما أنفسنا أيضاً، بأنّ هذه الكتابة هي في الصميم " كتابة الأمل ".

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 99 مشاهدة
نشرت فى 7 مايو 2016 بواسطة titwanlhamama

عدد زيارات الموقع

329