آلاف من طلاب كليات التربية فى مصر، وكذلك قرناؤهم فى جميع أنحاء العالم، وهم بصدد دراسة تاريخ التربية، يعرفون جيدًا -ربما إلى درجة الملل- كيف عرفت بلاد اليونان القديمة نظامين شهيرين، ما زالا –حتى اليوم- يمثلان نموذجين لطريقتين فى إدارة المجتمعات، إحداهما يصفونها بالقوة والجبروت والتسلط، ويبررون لها هذا بأنها سريعة الإنجاز، تبسط الاستقرار، تشيع الضبط والربط، أما الطريقة الثانية فهى التى اخترعت ما أصبحنا نسميه بالديمقراطية، التى يصفها معارضوها بأنها قد تنتج فوضى، وبطئًا فى الإنجاز، كما قد تهتز فيها ما يسمى بهيبة الدولة. كانت مدينة "إسبرطة" تمثل النهج الأول، وكانت أثينا تمثل النهج الثاني. الحق يقال، عندما كانت حروب تنشب بين المدينتين، كانت الغلبة كثيرًا لإسبرطة العسكرية المتسلطة، ذات البطشة الحديدية، والهزيمة لأثينا، حيث تكثر فيها المناقشات والحوارات، ويمتلئ المناخ بـ لِم؟ وكيف؟ ولماذا؟ وهل؟ ومتى؟ هل هذا صحيح؟ ما الدليل؟. لن ندخل فى تفاصيل، ولكننا ننظر إلى بعد ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة إلا قليلاً، واسأل: ماذا تركت لنا إسبرطة وماذا تركت لنا أثينا؟ لم تترك لنا إسبرطة إلا صور قهر وتسلط واستبداد وفاشية.. لأن أداة الإنتاج الحضارى، والإبداع الإنساني، ألا وهى "العقل"، حوصرت طويلاً حتى تم إخصاؤها، نتيجة منع كل مصادر التغذية الفكرية التى لا تصح إلا بتنوع واستقلالية وحرية وقدرة على المخالفة، وهى آمنة على نفسها، لا تُسلط عليها أسلحة التخوين والشيطنة لتبرير قمعها، فى أخف الأحوال، إن لم يكن ذبحها، لا فى صمت وخفاء، وإنما علانية وسط تصفيق وتهليل من غابت عقولهم، وماتت ضمائرهم، واسودت قلوبهم. أما أثينا، فنحتاج إلى مجلدات حتى نتبين ماذا تركت؟ يكفى أن أشير إلى قائمة طويلة من أعظم ما عرفته البشرية من مفكرين وفلاسفة، علّموا -وما يزالون– العالم كله، شرقه وغربه، من سقراط وأفلاطون وأرسطو والأبيقوريين والرواقيين، وأرشميدس، وطاليس وإقليدس، وأنكسمانس.. وغيرهم كُثْر. ثم اقفز عبر آلاف السنين وانظر: إلى ماذا انتهت إليه النازية فى ألمانيا، والفاشيستية فى إيطاليا؟ وأخيرًا، انظر إلى ما انتهى إليه أمر أضخم إمبراطورية فى التاريخ الاتحاد السوفيتى، وعشرات الدول التى دارت فى فلكه: التفكك والسقوط المفزع، من غير أن تطلق عليها رصاصة واحدة!. الخديعة التي تُوقع فيها مثل هذه النظم العسكرية والفاشية جماهيرها، أنها سريعة الإنجازات، ما يبهر الناس، وهل هناك أدَلّ من وصول الاتحاد السوفيتى إلى القمر قبل الولايات المتحدة فى الستينيات؟، كذلك فإن مثل هذه النوعية من النظم تسعى حقيقة إلى توفير المأوى والمأكل للمواطنين، لكن لا باعتبار كل منهم "إنسان"، وإنما الأمر هنا مثله مثل من يقتنى قطيعًا من الأنعام، يؤكلهم، ويسقيهم، ويأويهم ويحميهم.. لأن المستبد يحتاجها لمصلحة نظامه، أما أن يفكروا، ويتساءلوا، ويحللوا، ويناقشوا ويعترضوا، فهذا يعتبر "تعطيل" للمسيرة، وباب ينفذ منه شيطان الفوضى والإرهاب. ودائمًا، انتظر، وانظر إلى النهاية.. سوف تجد أن هذه النوعية من النظم لا تترك وراءها إلا الدمار والخراب، لو انحصر الأمر فى البنية المادية لهانت المسألة، لكنها تمتد بفيروساتها المُهلكة إلى العقول فتخصيها فتتعطل قوى التفكير، وإلى القلوب، فتملأها بنوازع الخوف والجبن، وإلى الضمير، فتبث فيه ما يرى الباطل حقًا والحق باطلاً، وإلى النفوس، فتلوثها بفساد الأخلاق.. وكله يتم تبريره: لمصلحة الوطن، وتنظيفه من أعدائه، تمامًا كما فى الفيلم المبدع حقا: "البرئ"، بطولة أحمد زكى! ولو قمت بعملية استقراء واسعة للكثرة الغالبة من البلدان المتخلفة، فسوف تجد أنها قد شَقَت بنظم عسكرية فاشية، جرّت عليها الكثير من الخطوات، لكن إلى خلف. لن أذهب بعيدًا إلى جمهوريات أمريكا اللاتينية، وكيف أنها لم تعرف الطريق إلى الاستقرار الحقيقى والتنمية والنهوض، إلا بعد أن تخلصت مما جثم على صدرها من نظم عسكرية فاشية مستبدة.. أنا نفسى، كدت أرقص فرحًا وطربًا عندما وقع انقلاب عسكرى فى سوريا عقب هزيمة فلسطين، عن طريق "حسنى الزعيم"، سنة 1948، ثم أعقبه انقلاب ثان، بقيادة سامى الحناوى، ثم ثالث بقيادة أديب الشيشكبلى، وأصبحت الانقلابات العسكرية لعبة فى سوريا، حتى أن الراحل عبد الناصر، عندما بدأ الاتفاق على الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958، وكان معظم الطالبين للوحدة ضباط فى الجيش السورى، اشترط أن يترك هؤلاء الجيش تمامًا، ويبتعد الجيش عن السياسة، حيث كان قد عانى كثيرًا فى شهور ثورة 1952، من تطلع البعض من ضباط الجيش إلى وهج السلطة، وإغراء النفوذ المطلق.. وعرفت اليمن عدة انقلابات، كان آخرها انقلاب على عبد الله صالح الذى أذاق البلاد جمودًا وحرمها من الكثير مما هو من حقوق الإنسان.. وقل هذا فى العراق وفى الجزائر وفى السودان. وأكاد أقسم للقارئ أننى رقصت فعلاً، أكثر من مرة، فرحًا باستيلاء الجيش على السلطة فى يوليو 1952، وطوال فترة الـ18 عامًا -ما عدا شهور محدودة- وأنا "مجنون" بجمال عبد الناصر وحكمه العسكرى. لكن، بعد أن راحت السكْرة، جاءت الفكرة.. مزيدًا من خبرة السنين، وقراءة مئات الكتب المحللة والناقدة، ومعرفة الكثير مما كان محرمًا من قبل معرفته.. أدركت مغزى العقاب التاريخي فى يونيه 1967، حيث لخص لنا قيمة التجربة الماضية ووزنها بين الأمم والنظم فى نهاية الطريق.. فحيث يتم إخصاء العقول، يستحيل على الأنعام أن تنتج تقدمًا!.

المصدر: د. سعيد إسماعيل على / أنصار بورسعيد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 314 مشاهدة
نشرت فى 12 مايو 2014 بواسطة tarek2011

ساحة النقاش

قصاقيص الصحافة البيضاء

tarek2011
متابعة مقالات تترجم وتلخص أحداث مصر والعالم وكذلك مواضيع أخرى متنوعة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,594