كتب - محمد حمدى
يُحكى أن أحدَ الولاةِ كان يتجول ذات يوم في السوق القديم مُتنكرًا في زي تاجر ، وأثناء تجواله وقع بصره على دكان قديم ،ليس فيه شيء يُغري بالشراء ،كانت البقالة شبه خالية ، وكان فيها رجل طاعن في السن ، يجلس بإرتخاء على مقعد قديم مُتهالك ،ولم يلفت نظر الوالي سوى بعض اللوحات التي تراكم عليها الغبار ،إقترب الوالي مِن الرجل المُسن وحياه ، ورد الرجل التحية بأحسن مِنها ،وكان يغشاه هدوء غريب ، وثقة بالنفس عجيبة ، وسأل الوالي الرجل : دخلت السوق لأشتري فماذا عندك مما يُباع؟
أجاب الرجل بهدوء وثقة : أهلًا وسهلًا ، عندنا أحسن وأثمن بضائع السوق !!
قال ذلك دون أن تبدرَ مِنه أية إشارة للمزح أو السخرية ؛ فما كان مِن الوالي إلا أن إبتسم، ثم قال : هل أنت جاد فيما تقول ؟
أجاب الرجل : نعم كل الجد ، فبضائعي لا تقدر بثمن ، أما بضائع السوق فإن لها ثمن مُحدد لا تتعداه !!
دهش الوالي وهو يسمع ذلك ويرى هذه الثقة ، وصمت برهة ،وأخذ يُقلب بصره في الدكان ، ثم قال : ولكني لا أرى في دكانك شيئًا للبيع !!
قال الرجل : أنا أبيع الحكمة وقد بعت مِنها الكثير ، وإنتفع بها الذين إشتروها !
ولم يبق معي سوى لوحتَين !
قال الوالي : وهل تكسب مِن هذه التجارة !
قال الرجل ،وقد إرتسمت على وجهه طيف إبتسامة : نعم يا سيدي، فأنا أربح كثيرًا، فلوحاتي غالية الثمن جدًا !
تقدم الوالي إلى إحدى اللوحتَين ومسح عنها الغبار ، فإذا مكتوبًا فيها : " فكر قبل أن تعمل " تأمل الوالي العبارة طويلًا ،ثم إلتفت إلى الرجل وقال : بكم تبيع هذه اللوحة؟
قال الرجل بهدوء : عشرة آلاف دينار فقط !
ضحك الوالي طويلًا حتى إغرورقت عيناه ، وبقي الشيخ ساكنًا كأنه لم يقل شيئًا ،وظل ينظر إلى اللوحة بإعتزاز .
قال الوالي : عشرة آلاف دينار ؛ هل أنت جاد ؟ !
قال الشيخ : ولا نقاش في الثمن !
لم يجد الوالي في إصرار العجوز إلا ما يدعو للضحك والعجب،وخمن في نفسه أن هذا العجوز مُختل في عقله ، فظل يسايره وأخذ يساومه على الثمن ، فأوحى إليه أنه سيدفع في هذه اللوحة ألف دينار، والرجل يرفض ، فزاد ألفًا، ثم ثالثة ،ورابعة ،حتى وصل إلى التسعة آلاف دينار، والعجوز ما زال مُصرًا على كلمته التي قالها ،ضحك الوالي وقرر الإنصراف ، وهو يتوقع أن العجوز سيناديه إذا إنصرف ،ولكنه لاحظ أن العجوز لم يكترث لإنصرافه ، وعاد إلى كرسيه المُتهالك فجلس عليه بهدوء،وفيما كان الوالي يتجول في السوق فكر ؛ لقد كان ينوي أن يفعلَ شيئًا تأباه المروءة ، فتذكر تلك الحكمة " فكر قبل أن تعملَ " فتراجع عما كان ينوي القيام به ووجد إنشراحًا لذلكوأخذ يفكر وأدرك أنه إنتفع بتلك الحكمة ، ثم فكر فعلم أن هناك أشياء كثيرة ، قد تفسد عليه حياته لو أنه قام بها دون أن يفكر، ومِن هنا وجد نفسه يهرول باحثًا عن دكان العجوز في لهفة ، ولما وقف عليه قال : لقد قررت أن أشتري هذه اللوحة بالثمن الذي تحدده، لم يبتسم العجوز ونهض مِن على كرسيه بكل هدوء ، وأمسك بخرقة، ونفض بقية الغبار عن اللوحة ،ثم ناولها الوالي ، وإستلم المبلغ كاملًا، وقبل أن ينصرف الوالي قال له الشيخ : بعتك هذه اللوحة بشرط .
قال الوالي : وما هو الشرط ؟
قال : أن تكتب هذه الحكمة على باب بيتك ، وعلى أكثر الأماكن في البيت ،وحتى على أدواتك التي تحتاجها عند الضرورة .
فكر الوالي قليلًا ، ثم قال : موافق !
وذهب الوالي إلى قصره ، وأمر بكتابة هذه الحكمة في أماكن كثيرة في القصر ،حتى على بعض ملابسه، وملابس نسائه ،وكثير مِن أداواته ، وتوالت الأيام وتبعتها شهور ، وحدث ذات يوم أن قرر قائد الجند أن يقتل الوالي لينفرد بالولاية ،وأتفق مع حلاق الوالي الخاص ، أغراه بألوان مِن الإغراء حتى وافق أن يكون في صفه ،وفي دقائق سيتم ذبح الوالي ،ولما توجه الحلاق إلى قصر الوالي أدركه الإرتباك ، إذ كيف سيقتل الوالي ،أنها مهمة صعبة وخطيرة ، وقد يفشل ويطير رأسه، ولما وصل إلى باب القصر رأى مكتوبًا على البوابة : " فكر قبل أن تعمل" وإزداد إرتباكًا ، وإنتفض جسده ، وداخله الخوف ، ولكنه جمع نفسه ودخل ، وفي الممر الطويل ، رأى العبارة ذاتها تتكرر عدة مرات هنا وهناك : " فكر قبل أن تعمل " " فكر قبل أن تعمل" " فكر قبل أن تعمل" وحتى حين قرر أن يطأطئ رأسه ، فلا ينظر إلا إلى الأرض ، رأى على البساط نفس العبارة تخرق عينيه،وزاد إضطرابًا وقلقًا وخوفًا ، فأسرع يمد خطواته ليدخل إلى الحجرة الكبيرة ، وهناك رأى نفس العبارة تقابله وجهًا لوجه "فكر قبل أن تعمل" فإنتفض جسد ه مِن جديد ، وشعر أن العبارة ترن في أذنيه بقوة لها صدى شديد ،وعندما دخل الوالي هاله أن يرى أن الثوب الذي يلبسه الوالي مكتوبًا عليه : " فكر قبل أن تعمل" شعر أنه هو المقصود بهذه العبارة ، بل داخله شعور بأن الوالي ربما يعرف ما خطط له ،وحين أتى الخادم بصندوق الحلاقة الخاص بالوالي ، أفزعه أن يقرأ على الصندوق نفس العبارة :" فكر قبل أن تعمل" وإضطربت يده وهو يعالج فتح الصندوق ، وأخذ جبينه يتصبب عرقًا ،وبطرف عينه نظر إلى الوالي الجالس فرآه مُبتسمًا هادئًا ، مما زاد في إضطرابه وقلقه، فلما هم بوضع رغوة الصابون لاحظ الوالي ارتعاشة يده ،فأخذ يراقبه بحذر شديد ، وتوجس ، وأراد الحلاق أن يتفادى نظرات الوالي إليه ،فصرف نظره إلى الحائط ، فرأى اللوحة مُنتصبة أمامه " فكر قبل أن تعمل" فوجد نفسه يسقط مُنهارًا بين يدي الوالي وهو يبكي مُنتحبًا ، وشرح للوالي تفاصيل المؤامرة ،وذكر له أثر هذه الحكمة التي كان يراها في كل مكان ، مما جعله يعترف بما كان سيقوم به .
ونهض الوالي وأمر بالقبض على قائد الحرس وأعوانه ، وعفا عن الحلاق، ثموقف الوالي أمام تلك اللوحة يمسح عنها ما سقط عليها مِن غبار ،وينظر إليها بزهو ، وفرح وإنشراح ، فإشتاق لمكافأة ذلك العجوز ، وشراء حكمة أخرى مِنه ،لكنه حين ذهب إلى السوق وجد الدكان مُغلقًا ، وأخبره الناس أن العجوز قد مات .
عدد زيارات الموقع
131,548