الإحسان هو أن ينشد الإنسان الكمال في كل شيء، فالمسلم مطالَب بأن يُحسن إسلامه ليتضاعف أجره، وحسن إسلامه يكون بإتقانه للعمل، وتحسينه أداءه؛ بحيث يشمل مظاهر حياته كلها، ولذلك عرَّف الإمام الغزالي الإحسان بقوله: "إتقان للعمل، وتحسين في الأداء، وحسن في العطاء، وعدم الإساءة"(1).

 

والإسلام يدعو إلى الإحسان، ويحرص عليه، ويحثُّ أتباعه على ذلك.. يقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (الزمر: من الآية 18)، وقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: من الآية 69)، ويقول: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية 90)، ويقول: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 56)، ويقول: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾ (الزمر: من الآية 34).

 

فهذه الآيات وغيرها تبيِّن منزلة المحسنين عند الله، وما أنعم عليهم من محبته ورعايته وهدايته، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه على الإحسان في كل شيء؛ فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها"(2)، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (3)، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "اعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فهو يراك"(4).

 

فهذه الأحاديث تبيِّن ما للإحسان من مزايا؛ فعلى المسلم أن يكون محسنًا مع الله، ومع نفسه، ومع غيره من الناس، ولا يكون غليظ القلب، سيئ الطباع.

 

والإحسان يبدو في الأعمال والأفعال، فإذا أتقن الإنسان عمله، وما كلِّف بأدائه من حقوق وواجبات، وإذا قام بأفعال البر، وأحسن إلى الغير، أو عمل خيرًا، فإنه ينسب إليه هذا الفعل وذلك العمل، ويلقى من الله عز وجل أفضل الجزاء؛ لأنه إحسان، وهذا يتأكد بالآية الكريمة: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن: من الآية 60).

 

الاحسان فوق العدل؛ لأن العدل إنصاف وقسمة وقسط، والإحسان إيثار وتضحية، عطاء وبذل للغير عن طواعية ورضا؛ لأن المحسن لا يطالب بثواب يستحقه في الدنيا، وإنما يتركه اختيارًا لله تعالى الذي عنده الجزاء الأوفى على إحسانه، وفي هذا يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية 90).

 

وبالإحسان يشعر المؤمن شعورًا ملازمًا أن الذي يعطي هو الله تعالى وحده، وأن المال والصحة والجاه وكل ما في الدنيا؛ إنما هو منه وإليه، فلا يحسّ المؤمن في الإحسان بذاته إلا كوسيلة اختارها الله تعالى لفعل الخير، وعمل المعروف(5).

 

فالإحسان بهذا المعنى إمداد واستمداد من الله إلى عبده، وليس وقفًا من العبد على غيره؛ لأن في الوقف اعتراضًا ومشاركةً للربوبية، وهو نوعٌ من الشرك الخفي، فالله تعالى هو مصدر الخير والمحبة والجود والسخاء، وأي إحسان بخلاف ذلك يخلُّ بمعنى الإحسان على الإطلاق.

 

من صور الإحسان

1- الإحسان في المعاملات والعلاقات الشخصية

ففي المعاملات والعلاقات الشخصية لا يكتفي بالعدل بل يتعداه إلى الفضل وهو الإحسان.

 

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (النحل: من الآية 90).. يقول ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ (النحل: من الآية 126)، وقوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى: من الآية 40)، وقوله: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ (المائدة: من الآية 45).. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شريعة العدل، والندب إلى الفضل"(6).

 

ويقول صاحب الظلال: "وإلى جوار العدل.. الإحسان.. يلطِّف من حدَّة العدل الصارم الجازم، ويدَع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارًا لودِّ القلوب، وشفاءً لغلِّ الصدور، ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحًا أو يكسب فضلاً، والإحسان أوسع مدلولاً، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يمثِّل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة وعلاقاته بالبشرية جميعًا"(7).

 

2- الإحسان في الأموال

ويكون الإحسان بحسن التصرف في المال، وذلك بإخراج حق الله فيه، ثم تعدَّى ذلك إلى الإنفاق في سبيل الله، في الجهاد وغيره، ثم إحسان الظن بالله أنه سيخلف عليه خيرًا مما أنفقه، فيكون ذلك قد أحسن إلى نفسه فلم يعرضها للتهلكة الناتجة عن ترك الإنفاق والجهاد في سبيل الله.. يقول الله تعالى: ﴿وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: من الآية 195).

 

والإنفاق في السراء والضراء- مع كظم الغيظ والعفو عن الناس- من الإحسان الذي يحبه الله.. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134).

 

3- الإحسان في العمل

ويكون الإحسان في العمل بإتقانه في أحسن صورة بأن يعمل الإنسان العمل لغيره كما يحب أن يعمله غيره له، فإعطاء العمل حقه بلا غش ولا تدليس، وأداء العمل بلا خمول ولا استهتار لَهُوَ الإحسان الذي يحبه الله.. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليُرِحْ ذبيحته"(8).

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته، وهي تلحظ إليه ببصرها، قال: "أفلا قبل هذا؟ أو: تريد أن تميتها موتات؟!"(9)، فإذا كان هذا التعامل مع الحيوانات!! فكيف يكون التعامل مع بني البشر؟!

 

 

الشيخ محمد الغزالي

يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن الدين إذا لم يكن ارتفاعًا بمستوى الإنسان فما يكون؟ وفي هذه الأيام العجاف أرى جماهير من المسلمين أبعد أهل الأرض عن حقيقة الإحسان! بيوتهم رديئة، وطرقهم رديئة، وسيرهم رديء، وإذا صنعوا سلعةً خرجت من بين أيديهم دون غيرها مما يصنع الناس، وإذا أداروا عملاً استغرق الكثير من الأوقات والجهود، ولم يبلغوا به درجة الاكتمال التي يحققها من بذل جهدًا أضعف ووقتًا أقل!! كأنهم من طينة غير طينة البشر خلقوا! هؤلاء الناس في انتمائهم الديني ريبٌ كبيرٌ، ولكي يعودوا إلى الإسلام يجب أن يعاد تشكيلهم العقلي والخلقي؛ حتى إذا باشروا عملاً ما أقبلوا عليه بقواهم المادية والأدبية كلها، فخرج سليمًا كريمًا.. لا سيما ونحن في حضارة صناعية تقاس فيها الأبعاد "بالمليمتر" أو بما دونه، ولا تُقبل فيها المجازفات والمساهلات والمصادفات العمياء"(10).

 

4- الإحسان في تمثيل الإسلام

والإحسان في تمثيل الإسلام يكون بتجسيد الإسلام تجسيدًا عمليًّا في صورة المعاملات والأخلاقيات؛، بأن يكون الذين يمثلون الإسلام في صورة أفضل وأنبل في جميع المجالات؛ بحيث يكونون أسوةً لغيرهم من الناس في شتى مناحي الحياة.

 

ولكي ينال المسلم أعلى درجات الإحسان ينبغي له أن يربط بين حسن الباطن بالطبع والمعتمد على النية، وحسن الظاهر بالتطبع والمرتبط بأعمال الجوارح ليصوغ من ذلك منهجًا تربويًّا في إصلاح النفس وترويضها نحو الأحسن(11).. يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي: "لو أن التمثيل السياسي للأمم الإسلامية في البلاد غير الإسلامية المتحضرة قد أخذ بمبادئ الإسلام لَكَان أسوةً حسنةً، وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها أكثر من ثلاث وستين سفارة إسلامية، وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين، هبْ أن هؤلاء كانوا أسوةً إسلاميةً في السلوك والمعاملات في عاصمة غير إسلامية، حينئذٍ يجد أهل ذلك البلد جاليةً إسلاميةً ملتزمةً، ولم تفتنها زخارف المدينة: لا يشربون الخمر، ولا يراقصون، ولا يتردَّدون على الأماكن سيئة السمعة، ولا تتبرَّج نساؤهم، بالله ألا يلفت النظر سلوك هؤلاء؟! ثم يقول "إذن الإحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين الإسلام"(12).

 

مكافأة الإسلام للمحسن

المحسن لا ينتظر بإحسانه جزاءً أو شكرًا ممن أحسن إليه، ومن وُجه إليه الإحسان عليه أن يستشعر فضل المحسن إليه، ولا يكون ليئمًا كنودًا؛ بحيث يقابل الإحسان بالإساءة والإكرام بالجحود(13)، ولكن يكون شاكرًا حتى يكون معترفًا بالفضل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" (14).

 

إن أقل ما يقدمه المرء مكافأةً لمن أحسن إليه ووفاءً لمن وقف بجانبه الشكر باللسان؛ لكيلا يتعلم المسلمون الكفران والجحود ونكران المعروف، وحتى لا تموت المروءة في الناس (15)، ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه"(16).

 

ومن صور مكافأة المحسن أيضًا المقابلة بالمثل، أو الدعاء له، أو الثناء على فعله.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يجد فليثنِ، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر"(17).

 

وحين ظن المهاجرون أن الأنصار ذهبوا بالخير كله لِمَا جَادَتْ به أنفسهم من الإنفاق على المهاجرين، وضّح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بابًا من الخير يقربهم من أجر الأنصار، فعن أنس رضي الله عنه أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب الأنصار بالأجر كله، قال: "لا، ما دعوتم الله لهم، وأثنيتم عليهم"(18)، فعلمهم صلى الله عليه وسلم أن يكافئوا إحسان المحسن بالدعاء له أو الثناء عليه.

 

ولا يجوز أن تكون مكافأة من أحسن إليك الإساءة إليه، فهذا عمل بغيض حتى مع البهائم، فيروَى أنه لما فرَّت امرأة مسلمة من العدو على ناقة مسلوبة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نذرَت إن وصلت المدينة ناجيةً أن تنحرها، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: "بئسما جزيتيها"(19) وضعت من نحرها (20).

 

والمحسن الذي يلقى الإساءة ممن أحسن إليه بدل الإحسان عزاؤه في أن الله ناصره، فقد روي أن رجلاً جاء يشكو لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إن لي ذوي أرحام أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم- أي بمثل إساءتهم- قال: لا، إذًا تتركون جميعًا، ولكن خذ بالفضل، وصلهم، فإنه لا يزال معك من الله ظهير ما كنت على ذلك"(21).

 

وهكذا نجد أن الإحسان يعبر عن معنى الإخلاص، وهو العلامة المميزة لصدق العبد مع ربه، ورجوعه لله شريعةً وحقيقةً؛ إذ الشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده، والمخلص لا يقدر عليه الشيطان، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ (ص: 82- 83).

المصدر: اخوان اون لاين
  • Currently 206/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
68 تصويتات / 5673 مشاهدة
نشرت فى 29 أكتوبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,169,592