" الأدب الريبورتاجى" هو ذلك الأدب الراصد قبل أن يحلل، والباحث عن الواقع والوقائع قبل التخيل، القائم على مجمل عناصر بناء أشكال الأدب الأخرى، في النثر والشعر، من الحوار والسرد بالإضافة إلى الإحصاء. يتوجه إلى القارئ العادي قبل الناقد المتخصص، حيث معيار جودته، هو قدرة تصويره لـ "الحقيقة".

قد يستخدم البعض مصطلح "الأدب التسجيلي" موازيا للأدب الريبورتاجى، وهو المصطلح الأكثر شيوعا في القرن الماضي "القرن العشرين". نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، ولعل الأدباء الروس هم أكثر من حرصوا على تشييده في تلك الفترة، وقد راج وتأكد بعد الحرب العالمية الثانية، فبدا كأنه مرتبط بتجربة "الحرب"، أكثر من غيرها من التجارب. وان تلاحظ أن نسبة كبيرة من ممارسي هذا النمط من الكتابة الأدبية غير أدباء بالمعنى الحرفي. كما تلاحظ في مجمل كتابه في "الاتحاد السوفييتي" القديم، أكثرهم من الضباط والجنود. إلا أنه مع شيوعه وانتشاره، تعددت ميادين الكتابة فيه، وتغيرت صفة كاتبه، إلى كتاب غير عسكريين.. أكثر من هذا وظفه بعض الأدباء الكبار في صياغة أعمالهم الإبداعية.

يسعى الكاتب الريبورتاجى للإيهام بالواقع الحقيقي، وبقصديه متعمدة، خلال بحثه عن الحقيقة، حيث يسعى إلى رصد اسماء الشخصيات والأماكن بمسمياتها الحقيقية، وحفظ الحدث في تاريخه وساعته، مع الرصد الواقعي (بمعنى الحقيقي) بكل تفاصيله.. وان بدت مؤلمة، أو غير إنسانية أو أخلاقية. وقد تصبح تلك التقنية التسجيلية النمطية (الفوتوغرافية) داخل عمل فني/أدبي كبير لمعايشة التجربة، وليس هدفا في حد ذاته. وهو ما تلاحظ في أعمال "جيمس جويس"، عندما رصد في روايته "عوليس".. بعض شوارع "دبلن" بالاسم والوصف للأشجار والمنازل وازدحام قاطنيها. إلا أنه لم يخضع لها، بل أخضعها في بناء شامخ كبير.. أعم وأشمل.

إذا كان مصطلح "التسجيلية" مستعار من فنون السينما، ففي عام 1929، نفذ "ذريجا فيرتوف" فيلما بعنوان "الرجل والكاميرا" لم يعد له سيناريو مسبقا، وإن اعتمد على كل الحيل السينمائية، لم يعتمد على الممثلين، وإنما اعتمد أساسا على إبراز "الفكرة" ومناقشتها. ثم جاء "جان روش" المخرج السينمائي الفرنسي، في عام 1961م، وقدم "التسجيلية" كصيغة فنية، وأسلوب لعرض الأفكار والآراء، وقدم ما عرف ب"أسلوب السينما الحقيقية"، وهو بذلك قنن لأسلوب استخدم من قبل.

عن هذا النمط الفني "التسجيلية الفنية" تذكر أركانه ودعائمه، سواء بالقدرة على اختيار الحدث/الشخصية/المكان..الخ المناسبة لإبراز "الفكرة". وهو ما يحتاج إلى خبرة وحنكة من المبدع، بحيث يسعى للتأثير على المتلقي سواء بإثارة الشفقة أو الغضب أو التعاطف. كل ذلك في إطار إبراز الملامح العامة دون الخاصة، أو دون التفاصيل البسيطة. وبذلك تبدو التسجيلية أقرب إلى مقولة "شو" الشهيرة: "إن الفن هو المرآة السحرية التي تعكس الأحلام غير المرئية وتحولها إلى صورة مرئية. فأنت تستخدم المرآة لترى وجهك، وتستخدم الأعمال الأدبية لرؤية روحك."

يعد الأدب الريبورتاجى إذن، وسيلة للرصد والتسجيل، لدى الكاتب في الأعمال الأدبية، وغير الكاتب في الأعمال المتعلقة بحدث أو أحداث هامة وخطيرة. لذا نشأ هذا النمط من الكتابة، وبدا أكثر شيوعا في "أدب الحرب"، أو مع التجربة الحربية عند كل الشعوب.

صحيح يعد غلبة التسجيل "الفوتوغرافي" عائقا للاوعي الخلاق أو "الفن" في النهاية، خصوصا أن مثل تلك الأعمال تصبح على قدر وافر من التقريرية والخطابية وربما الأحكام العامة والأخلاقية، وهو ما قد يضر العمل الفني بالعموم، بل وينفى صفة "الفنية"!

لذا يعد الأدب الريبورتاجى المعتمد على التسجيلية الفنية أدبا عسيرا إذا يلزم توافر عناصر التسجيلية الفنية. وهو التسجيل الذي يجيد اختيار اللحظة، مع توافر خلفية ثقافية عالية للأديب كي يتمكن من الاختيار والتحليل أو محاولة التفسير، ومع ذلك نطالب الكاتب بالحيدة، دون فرض رؤية متعسفة، وعليه الوصول بالقارئ إلى الهدف المنشود "الألم أو اللذة".

والأدب الريبورتاجى الجيد هو الأدب أدب حي، وليس أدبا فوتوغرافيا جامدا عند لحظة ما بلا تأثير أو تفعيل. وهو ما يلزم معه معايشة الكاتب للوقائع التي سينهض بها. على الجانب الآخر هناك الأدب الريبورتاجى الذي ينهض به غير المتخصص، مثل أصحاب التجارب الخاصة.. مثل "ركوب البحر في مغامرة ما"، "حياة مجتمعات آبار البترول والمناجم"، و"معايشة أهل الصحراء، أو سكان القطب المتجمد" وغيرها. لذا قد يعد أدب الرحلات عموما ضمن هذا اللون الأدبي، فليس بالضرورة على كاتب أدب الرحلات أن يكون أديبا بالدرجة الأولى.

وقد بان للمهتمين بأدب الحرب، أن الأدب الريبورتاجى من أكثر الألوان شيوعا بعد الحرب. هناك ما يكتبه الجنود، الصحفيون، المدنيون الذين عايشوا التجربة الحربية. وربما روسيا السوفيتية تعد من أكثر الدول التي اهتمت بوازع رسمي أيديولوجى بهذا اللون بعد الحرب العالمية الثانية، اعتمادا على فكرة أن الشعوب تكتب التاريخ، وأن الجمال في صدق التعبير وبساطته.

لم يخل الأدب العربي من هذا اللون، وعلى قلة تلك الأعمال الأدبية التي تنطوي تحت مظلته، إلا أنه يعد من الألوان المتوافرة. ففي الكتابات غير الأدبية هناك من تناول تسجيل مجتمع السجون، مثل كتاب ضابط الشرطة "نبيل ماضي" والمعنون ب "خلف القضبان"، وعن مجتمع القبائل والغابات في السودان كتاب "الغابة" للكاتب "مصطفى محمود"، وتفاصيل مغامرة بحرية نهض بها الكاتب "محمود المحلاوي" في كتابه "راكبان على سفينة" وغيرهم.

أما في مجال رصد الأعمال الأدبية العربية المعبرة عن لون الأدب الريبورتاجى، تعد سباعية "إحداثيات زمن العزلة لإسماعيل فهد إسماعيل" أكثرها شيوعا وتأكيدا للمواصفات المتفق عليها لهذا اللون، حيث يتناول التجربة الحربية أثناء فترة غزو "صدام حسين" للكويت، وقد رصدها الكاتب، أقرب إلى فن اليوميات. جاءت السباعية في حوالي 2500 صفحة من الحجم الكبير، وتقع بين فن اليوميات وفن القص، حيث الزمن المستقيم، الرصد الدقيق للواقع والوقائع، البعد عن التشخيص أو البطل الشخصي/الفرد تفصيلا، وتتضح العمدية أو القصدية من وراء هذا "الفورم" بدلالة "الإهداء" حيث كتب يقول "إلى من يهمه الأمر" وكأنه بلاغ إلى البشرية كلها، وتعبيرا عن بشاعة حرب بين دولتين شقيقتين.

هذا لا ينفى وجود أعمال أخرى لليلى العثمان بالكويت أيضا، و"أرجوان" للتونسي" محمد مختار بن جنات" الذي رصد بداية الكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي في الخمسينيات من القرن الماضي. ثم "يوميات معركة الجزائر لمولود فرعون" التي رصدت بدورها بدايات الثورة التحريرية في الجزائر.

مع ذلك وقبله، تعد الكتابة الريبورتاجية في العربية، قليلة وغير صاعدة في منحاها ولا في تناولها الفني، وتأتى قدرية. وهذا الرصد لا يعد حكما بالقيمة أو حكما نقديا، قدر كونه رصدا للواقع الأدبي العربي، قابلا للمناقشة.

ربما لأسباب غير أدبية لم تنشر كتابات بعض الجنود والضباط الذين شاركوا في معارك أكتوبر 73، بينما عند الطرف الآخر، كان النشر خلال سنة الحرب وما بعدها، وليس حول تلك الحرب وحدها، بل كل الحروب التي خاضتها إسرائيل مع العرب، وهذا اللون من الكتابة أحد الألوان الرائجة هناك.

وقفة مع الأدب الريبورتاجى العبري عن حرب 1967: وقد عمدت المؤسسة الثقافية هناك، إلى اعتماد كتابات الجنود والضباط غير الأدباء، بالإضافة إلى الكتابات الصحفية والتي خطها بعض الأدباء. لقد تم اختيار كتابات تلك الحرب، لبيان قدر بما تم انجازه، مع اباز الاحتفاء به ونشره، والترويج له.

لقد اشتمل على كتابات شهود العيان من الصحفيين الذين رافقوا الجنود إلى أرض المعركة، وكتابات بعض العسكريين الكبار والعاديين، بالإضافة إلى شكل الحوارات، والتحقيقات الصحفية، التي تمت مع العديد من العسكريين وغيرهم.

ربما أشهر نموذج للأدب الريبورتاجى هو كتاب "حديث المحاربين لسياح لوحاميم"، الذي صدر في أكتوبر 67 أي بعد حوالي أربعة أشهر من بداية المعركة، وهي فترة قصيرة جدا. وهى إحدى ميزات الأدب الريبورتاجى، الذي يعبر عن نفسه خلال فترات قصيرة من الأحداث الهامة، وقد أعيد طباعة هذا الكتاب خمس مرات.

يشتمل الكتاب على ثلاثين محادثة اشترك فيها حوالي مائه وأربعين عضوا من "كيبوتس" تكشف الكثير عن نفسية المقاتل عشية عودته من الحرب، وقد تحقق الانتصار، مع بيان الموقف من الحرب عموما، وموقفه من العربي بالتالي.

في تحليل الكاتب الإسرائيلي للكتاب بصحيفة "عل همشمار" قال" :لقد فضل العائدون من الحرب الصمت. لقد كانت رهبة الموت وما زالت تنعكس من نظراتهم. إن من حكم عليه بالحياة يجب أن يعرف كيف يحياها. بعد شهرين سقط الصمت. يذكرون المشاهد والمخاوف وعلامات التعجب المؤرقة. إلى متى سيحارب هذا الشعب دون شك؟ هل سيستدعونك مرة أخرى للقتال؟"

يتضح في تلك الوقفة، قدر أهمية الأدب الريبورتاجى في الكشف المباشر والصريح للآراء والحالات النفسية، وهذا أيضا ما دعي البعض في إسرائيل إلى رفضه. وهو ما عبر عنه الأديب "يورام كنبوك" قائلا: "إننا من الناحية الوثائقية فقط في حالة فيضان، وفى بعض الأحيان يكون الأمر مثيرا للضحك. إن الأدب هو محاولة تنقية وبلورة مشاعر وجدانية وبحث عن مغزى، وتعبير عن المواجهة الدائمة للموت عند الشباب. ولابد من أن ينقضي وقت حتى يصبح من الممكن التعبير عن هذا. لكن الناس عندنا يفسرون القتال والخوف على الفور، ويتحول الأمر إلى شيء ما بسيط إلى حد ما."

يتضح من تلك المقولة الرأي المعارض لكثرة الكتابات الوثائقية، ومع ذلك تبقى تلك الكتابات محط اهتمام القارئ العادي، وربما المؤرخ، وأيضا للمبدع الكاتب نفسه. ليبقى السؤال والتساؤل حول أسباب عدم توافر منتج "الأدب الريبورتاجى في العالم العربي؟"

المصدر: ديوان العرب
  • Currently 130/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
44 تصويتات / 524 مشاهدة
نشرت فى 11 ديسمبر 2009 بواسطة moneelsakhwi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,149,047