تـقدم أحدهم لامتحان عن علـم الحيوان ، وكان يعـرف كل شيء عن الحيَّـة ( الثعبان ) ، ولا يعرف شيئاً عن الحيوانات الأخرى ، ولسوء حظه فقد جاء السؤال عن الفيل .. فكيف يجيب ؟
على كل حال فكر وقدَّر وقال : ـ
الفيل حيوان كبير ، له خرطوم طويل يشبه الحيَّـة ... والحيَّـة هي ... وأكمل عن الحيَّـة ونسي الفيل!!
بعض من يمارس النقد كصاحب الحيَّـة ، لا يعرف إلا شيئاً واحداً ويريد أن يقيس كل الوجود عليه !!
" إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " ، هكذا قال أحدهم ذات صفاء ، ولك
أن تعكس قوله فتقـول : وإذا ضاقت الرؤية اتسعت العبارة . فالمحدود واسع الخطو في تخطيء الناس ، وفي الوقت نفسه مخدوع بما يعرف فينادي بأعلى صوتـه :
أنا المقياس ، وأنا الميزان ، أنا الصواب ! فمن لم يكن أنا فهو باطل وهو
منحرف وهو خطأ .
وهذا ينطبق على المستـقبِل للنقد ، فمن كان كذلك فأنَّى له أن يستوعب أن
قوله الذي لا يعرف غيره محلَّ نظر ، فضيق الصدر والأفق والعلم يظن أن كل ما سوى المحدود الذي يعرفه مخالفة أو بدعة أو خطأ أما الكبير الفطِـن
فيقـول : علم الناس ما لم نعلم . ـ
الذين تجاوبوا مع القرآن من الجيل الأول أدركوا أنه يبشر بأفق واسع
كاتساع السماوات . فصرخ واحدهم : كيف حصل هذا ؟ لم أنا هكذا ؟ كيف سمحت لهم باستغلالي واستعبادي ؟ وصرخت الأنثى : بأي ذنب قتلت ؟! وصرخ كل الناس : ما هذا الهراء ؟! وما هذا الفساد ؟! لقد كان نقد القرآن قوياً حاسماً واضحاً
فتحول الإنسان إلى كائن جديد يتمتع بإنسانيته ، ولا عجب فلقد قضى النقدُ
القرآني على التناقض الكامن في نفسه .
النقد حالة من الوعي ، وهدفه إحداث تغيير جذري ... ولا شك بأن الذين
يحملون وِزرَ النقد ! يعانون في سبيل كشف الواقع والوقائع ، وهؤلاء ـ
دائماً ـ فئة قليلة يمثلون نقطة ضوء تدل على النموذج البديل ، ومن الطبيعي أن يضيق الجمهور ذرعاً بهذه القلة التي تمثل بالنسبة لهم عامل إقلاق لراحتهم ، وسباتهم الممتع ، وشخيرهم الطويل . ولأنها تضطرهم إلى البحث وإعادة التنقيب ، والمراجعة لما هو قائم ، وهذا ما لا يحبه الإنسان ، ويبغض من يدعو إليه ! فالإنسان المتخلف يريد أن يبقى كل شيء على ما هو عليه ، ويريد أن تبقى أصنامه كما هي لا تمس ، وكل من يشير إليهم ـ مجرد إشارة ـ فإنهم سيصبون عليه لعناتهم بلا رحمة!
النقد عدو التأقلم ، عدو الاسترواح لما قائم ، وخروج من أسر العادة ،
وحرب على كل من يقول " ... إنا وجدنا آباءنا على أمة ... " .
والنقد هو السبيل إلى التحرر ؛ فكيف يتحرر العبيد إذا لم ينقدوا واقعهم ؟!
النقد تأكيد على أنك لست معزولاً عما وعمن حولك ؛ فهو يرفعك من حالة القناعة بالراحة ، ويخرجك من الانكباب حول نفسك والرضا بما تؤديه على المستوى الشخصي ، إلى الإحساس بما حولك والمشاركة فيه ، لا أن تكون مجرد متلق ومستقبل .
إنه ينقلك نقلة هائلة , من إنسان خامل إلى إنسان فعال متفاعل .
النقد لا يكون إلا بالفهم والعلم كي يحقق غايته . يسبق النقـد عادة تساؤل ، وقراءة .
النقد أهداف واضحة ، وتثوير للقدرات ، وتنبيه للحواس . وهو تحرير
للتوحيد ، والتزام صارم به ، وإلا دخلت في خطاب :" إنك امرؤ فيك جاهلية "، فلا تعترض إن لم تصل إلى مستواه ! فما علاقة التوحيد بالنقد ؟!
إذا أردنا أن تكون لدينا حركة نقدية واعية ، فلا بد من امتلاك مرجعية واضحة لهذه الحركة . ومرجعية المسلمين في النقد وفي التغيير هي التوحيد، فهو المقياس الذي يعرف به الصواب من الخطأ ، وعلى هذا ينبني النقد .
ـ النقد توازن بين معتقداتك ، وبين ممارساتك . لقد حول القرآن الإنسان إلى كائن جديد يمارس الانسجام مع ذاته في أرقى صوره : ـ
الإنسان الطبيعي هو إنسان حقق الانسجام ما بين داخله وبين خارجه . والذي يسعى لتحقيق هذا الانسجام هو إنسان امتلك القدرة على النقد ، وبعد ذلك انطلق إلى فهم مجتمعه وتقويمه أي نقده .
النقد مقاومة لتحييد قدرة المجتمع على التغيير : فهو يواجه المخطئ والظالم فيشعرهما بالضيق والأسى والحسرة . ولكن لا تظن أن نجاح النقـد مرتبط بتجاوب المخطئ والظالم للنقد : غاية النقد أن تبقى أسماء الأشياء كما هي دون تزوير وتشويه . "ـ كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً .. " عندها تنتكس الموازين ، وعندها حتى النقـد يفقد قيمته !
ممارسة النقد بداية التوجه للتغيير ، هكذا الأصل ، فهو ليس التغيير إذن :
المشكلة أن كثيراً من الناس يرتاح عند ممارسة النقد ظناً منه أنه قد بذل
الوسع . وقد تـفطن القاهرون ، أصحاب المصلحة في بقاء الأحوال كما هي، فقال قائلهم : ليقل من شاء ما شاء ، المهم في النهاية أن أفعل ما أشاء!
في الوقت الذي نعتقد فيه أننا تجاوزنا مسألة مشروعية النقد ، وضرورته، يطلع علينا من لا زال يعيش خارج الخارطة ، ـ وعلى طريقة : تباً لك ألهذا جمعتنا ؟!!يقول : تباً لكم معاشر الداعين إلى ضرورة النقد ، تريدون أن تفسدوا علينا استقرارنا ، وأن تخرجونا من النعيم المقيم الذي نتفيؤ ظلاله ، فيهدمون عليك البنيان الذي تحاول بناءه من قواعده ! ولكن لن نسمح لهم بجرنا إلى ساحات انتهينا منها ، ولن نمنحهم فرصة التلذذ بنقض غزلنا ، والعودة إلى نقطة الصفر ، بسبب غبائهم ، أو جهلهم ، أو منفعتهم .
أتدرون من المسكين ؟ إنه الذي يظن أن النقد شتائم ! وقد أعذر فإن المعنى الذي استقر في عقولنا منذ قرون للنقد هو أنه كذلك ! فلا لوم علينا من إرث وصلنا عبر أجيال ، هكذا تربينا ، حتى أصبحت جيناتنا ترفض النقد لأنه شتيمة . لكننا لا نعذر أنفسنا من وضع أصابعنا في آذاننا نرفض الاستماع لمن يفسر لنا الأمور.
هدف النقد : أن لا يمر مخطئ دون الإحساس بالذنب ! ليس رغبة في إحراج
أحد ... ولكنَّ تكررَ الخطأ دون تنبيه سيُحول الخطأ إلى صواب ... " كيف بكم
إذا رأيتم المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ! " فلسفة ضرورة النقد إعلان
عن بقاء من يُمثل الصواب. ـ والمجتمعات لا تسقط عندما تخطأ ، ولكن عندما يمرر فكلنا وصاه الكبار أنَّ اليد التي لا تقدر عليها بوسها ( قبلها ) وادع عليها ! وأنَّ أفضل طريقة للمشي هي أن تمشي قرب الحيط ( الحائط ) ! وقد أكدوا علينا أن اليد لا تقدر على المخرز ! ولم ينسوا أن يذكرونا أن لا فائدة من أي محاولة للتغيير لأنَّ : مالطة قد خربت ! وهكذا .. والجميل أن هذه الأمثال منتشرة في العالم العربي ! ممكن باختلاف في اسم أو وصف لكن المؤدى واحد ، والهدف مشترك دعونا كما نحن ستر الله عليكم .ـ
النقد ليس عملاً فردياً ... إنه جهد جماعي .. وهو سِمَة على نمط حياة
... وعندما لا يتم التفاعل بين أركان العملية النقدية سيحول النقد إلى صراخ
وسباب ورفض ؛ مجرد رفض ... سيتحول إلى فعل بلا هدف ، بلا عنوان ، مجرد تنفيس عن المشاعر ...ـ وسيكون موقف المقابل الدفاع ـ لمجرد الدفاع ـ عن الأصنام الموجودة ! الأصنام لا حدود لها : فقد تكون مشاعر وأحاسيس ، وقد تكون أفكاراً ، وقد تكون أوضاعاً ، وقد تكون النفس التي في داخلك .. وهكذا فلا يذهبن خيالُك إلى هبل السياسة وعُـزَّى السياسيين وحسب.
رفض النقد يعني: الخضوع للتصورات الكاذبة، والتاريخ المزيف ، والواقع
المزور ، إنه دفاع الاستناد إلى الحائط ذلك الدفاع المستميت ...
لا منطق ، لا استماع ، لا حوار .. فقط اعتماد على الحائط !
النقد لا بدَّ أن يكون في كثير من الأحيان قاسياً .. مع التنبيه على أن القسـوة هنا نسبية .. هل علينا أن نلفت النظر إلى كل من توجه إليه عملية النقد فإنه يراه قاسياً شديداً ظالماً ؟ لا تطلب أو تتوقع أن يكون النقد
حواراً أو هدهدة وترقي.
ساحة النقاش