بداية العهد الروماني للقدس


المرحلة الرومانية في تاريخ القدس (63 ق.م - 637م) أهم في تأثيرها على المدينة من المراحل العبرية والكلدانية (البابلية) والفارسية، فقد صارت القدس مع الرومان - حتى في اسمها - شيئا آخر غير ما كانت عليه في أيام هذه الدول، بل إن فلسطين نفسها اكتسبت اسمها التاريخي من خلال الرومان، الذين نسبوها إلى "البالستين" - الشعب الأوروبي الكريتي المهاجر إلى أرض كنعان.
والقائد الذي بدأ معه التاريخ الروماني للقدس هو "بومبي"، وهو - كان خلال القرن الأول قبل الميلاد - أحد الثلاثة الكبار المتنافسين على السلطة في روما (كراسوس وبومبي ويوليوس قيصر)، وكان قد حقق لروما إنجازات مهمة؛ فشارك في القضاء على ثورة العبيد بقيادة سبارتكوس (73 - 71 ق.م)، كما طهر مياه شرق البحر المتوسط من القراصنة سنة 67 ق.م، كذلك سيطر على أرمينيا سنة 65 ق.م، وضمن ولاءها له ولشعب روما..
ثم نقل بومبي نشاطه الحربي إلى سوريا وفلسطين، فأعاد ملِكَ سوريا السلوقيَّ أنطيوخوس الثالث عشر إلى عرشه، كملك موالٍ لروما، ولكن أنطيوخوس لم يستطع ضبط أمور سوريا، فأزاحه بومبي عن الحكم، وضم سوريا وفينيقيا إلى روما كولاية واحدة (ولاية سوريا = Provincia Syria)..
وكان من الطبيعي أن تكون فلسطين هي المرحلة التالية في هذه الرحلة الحربية لبومبي، وكانت الظروف القائمة مهيَّأَة لذلك تماما؛ وذلك لأن الخصومات الداخلية بين هركانوس الثاني بن حنايوس - ملك أورشليم - وبين أخيه أرستوبولس قد اشتدت، وطال الصراع الدامي بينهما، وطلب كلاهما العون من الرومان، وفضل بومبي مساندة هركانوس؛ لأن أخاه كان متعاطفا مع البارثيين (في خراسان) أعداء روما.
زحف الرومان بقيادة بومبي على فلسطين سنة 63 ق.م، وحاصروا القدس، لكن المدينة التي استعصت على الآشوريين من قبل لم تكن فريسة سهلة، فقد اشتهرت طوال تاريخها بمناعة أسوارها، وقوة دفاعاتها، ومعاونة موقعها وظروفها الطبيعية لمن فيها على الدفاع عنها.. ومع أنه كان متوقعا بقوة أن تسقط القدس بصورة طبيعية في يد بومبي، لو اتبع في حصارها سياسة النَفَس الطويل، إلا أن الخيانة عجّلت بالقضية، فاقتحمها الرومان بخيانة داخلية من بعض اليهود..

ودنس بومبي بيت العبادة في أورشليم، وأفقد اليهود استقلالهم؛ إذ ترك هركانوس كاهنا فقط على قومه، يرعى شئونهم الدينية، وبقيت حامية رومانية في المدينة تضمن بقاءها تابعة لروما.
وبهذا يبدأ التاريخ الروماني للقدس وفلسطين، والذي استمر زمنا طويلا، ومنح القدس سمتا جديدا، بقي مسيطِرًا إلى أن فتح المسلمون المنطقة، حيث التأم لأول مرة في التاريخ شمل عرب القدس القدماء - بعد اختلاطهم الكبير بالشعوب الغازية والنازحة - مع إخوانهم من عرب الجزيرة الذين حملوا إليهم مشعل الهداية الربانية.

فلسطين عند احتلال الروم لها

ورث الرومان جيرانهم الإغريق، وظلت جيوش روما تزحف على ممتلكاتهم، حتى انتزعتها جميعا من أيديهم؛ سواء أكانت هذه الممتلكات في أوروبا أم إفريقيا أم آسيا. لكن الحضارة المنتصرة كانت فقيرة في ثقافتها وفكرها، فانصاعت للمغلوب في هذه الناحية، وهُزمت أمام ثقافته الثرية، وكان هذا مثالا عجيبا وقليل الحدوث لانتصار المغلوب على من غلبه، بدون سيف أو مدفع!!
وهذا يعني بالنسبة لفلسطين وأشباهها من البلاد التي دخلت تحت حكم الرومان وسلطانهم، أن الحكم الجديد سيكون - من الناحية الثقافية على الأقل - مواصَلة للمرحلة اليونانية بشقيها البطلمي والسلوقي، بل ربما قلنا: إن فلسطين وسوريا ومصر وغيرها من مناطق النفوذ اليوناني السابق هي الميادين التي هُزم فيها الرومان ثقافيا، وتلوّنوا بلون الفكر والثقافة اليونانية.
حين دخل الرومان فلسطين وجدوا حالة حضارية نادرة؛ لم تشهدها المنطقة من قبل، فقد جرى خلال قرنين ونصف القرن من الزمان تلاقح حضاري كامل بين سكان فلسطين وبين الغزاة اليونانيين، فنشأ شعب اختلطت فيه دماء الكنعانيين والآموريين (= شعب سامي عاش منذ الألف الثاني قبل الميلاد في سوريا وشمال العراق) واليونانيين، وتمازجت ثقافة الغزاة بثقافات أهل البلاد، فنشأت ثقافة جديدة لا هي يونانية خالصة (هللينية) ولا هي شرقية خالصة، بل هي مزيج منهما (هللينستية)، وتداخلت الأديان، حتى بُنيت معابد تجمع آلهة اليونان مع آلهة الكنعانيين، بل تجمع يهوه إله اليهود مع آلهة اليونان في داخل القدس نفسها..
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيهما ابتلع الآخر: الكنعانيون والفينيقيون - أهل البلاد الأصليون - أم اليونانيون - الغزاة؟
وللإجابة عن هذا السؤال الخطير لابد أن نذكر أولا أن الغزاة لم يُقبلوا بالعدد الذي يسمح لهم بابتلاع سكان فلسطين عرقيا، لكنهم جاءوا حكاما غالبين وفي أيديهم ثقافة أقوى مما في يد أهل فلسطين، لذلك نستطيع أن نقول: إن الشعوب السامية قد ابتلعت عامة الغزاة عرقيًا، ولوّنت الحكام القادمين بلونها، لكن الثقافة الغازية انتصرت بشكل ساحق، وإن خالطتها أمشاج من ثقافات الشرق، منحتها مذاقًا آخر جديدًا.
لقد خالف اليونان سُنَّة من سبقهم من الكلدان (البابليين) والآشوريين والفرس، حيث بدا هؤلاء دائمًا كطبقة غريبة ومميزة عن أهل البلاد التي يحتلونها، لكن اليونانيين منذ الإسكندر ركزوا على الاختلاط بهذه الشعوب ومصاهرتها؛ لينفتح الطريق أمامهم ثقافيًا وسياسيًا.
ومن أفضل ما يصوّر التأثير الإغريقي العميق في فلسطين وسوريا قول أحد الدارسين: "لقد كانت عملية أغرقة الشام عملية ثقافية وعمرانية بحتة؛ أي مادية روحية، فقد استوعب سكان الشام الآراميون اللغة الإغريقية العامة kion ، وكذلك طريقةَ الحياة والسلوك والمعيشة الإغريقية، والتي انتشرت خاصة بين الفئات الأرستقراطية من الشرقيين، والذين تلقوا تعليمًا رفيعًا على يد أساتذة إغريق أو متأغرقين. ولم يكن انتشار الحضارة الإغريقية وقفًا على مناطق المدن ومراكز الحضارة والعمران، التي أسسها المستوطنون المقدونيون والإغريق، بل وصلت إلى المدن الآرامية والفينيقية والكنعانية. حتى بيت المقدس - أورشليم تسللت إليه الحضارة الإغريقية، فقد أصبح لكل مدينة في الشام دار للتريبة؛ أي جمانزيوم Gymnasion ، وهذه كانت مراكز للنشاط الثقافي والحضاري الإغريقي..
"وأمام هذا الاكتساح الجارف للحضارة الإغريقية تراجعت الحضارات السامية، سواء أكانت كنعانية أم آرامية أم عبرية؛ لتحتمي في معاقل لها في المناطق الريفية النائية، أو في مناطق المرتفعات الجبلية، وظلت في هذه المعاقل تدافع عن بقائها حتى بعد الفتح العربي.. ولم تلبث الحضارات الآرامية والكنعانية أن بدأت تتسلل لتمتزج بالحضارة الإغريقية، وساعد على ذلك اتجاه الإغريق إلى الزواج من آراميات وكنعانيات، فقد كان أغلب الجنود والمستوطنين بلا زوجات، ونادرا ما كانوا يجلبون زوجات من مقدونيا أو بلاد اليونان.. ونتيجة لذلك ظهر جيل من الآراميين المتأغرقين، أو الإغريق الآراميين، والكنعانيين الذين يجمعون بين الحضارتين لغة وعقيدة، ويتوجهون بالعبادة للآلهة الآرامية والكنعانية والفينيقية، بعد أن أضفوا عليها الصفات الإغريقية، مثل الأسماء والمظهر، وأطلقوا عليها أسماء إغريقية مثل زيوس الأولمبي

 

mohamedeldeb

محمد الديب

  • Currently 59/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
19 تصويتات / 2524 مشاهدة

محمد الديب

mohamedeldeb
محمد الديب طالب فى كلية العلوم اهوى القراءة فى شتى المجالات اهوى الكتابة شعرا ونثرا احاول نشر الاهتمام بالعلوم والثقافة بين الناس اؤمن بعدم جواز الفصل بين العلم و الادب فكلاهما يكمل الاخر »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

165,863