دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

مخاضة الدم
حين دخلت إلى مقصف عين الدلب حيث كنت مدعوا لسهرة ،كان قد دخل بعدي رجلين وبصحبتهما امرأتين متلفعتين بالسواد ,فقرأت في ذلك فألا شيطانيا ،وأصبحت موزعا بين كوابيس العمى الديني ، والتماعات قناني وكؤوس العرق التي تأبى أن تكون إلا نورا على نور.
كنا طلبنا سمكا ، وإنا أحب السمك ورائحته ومذاق لحمه ، لكني اكرهه عندما يعلب ، لكن من يستطيع أن ينزع من راسي كراهية المعلبين ،وحده إشراق الفكرة ينبهني من غفلة العقل ،لابد هو ذا رجل أخرق لا مستقبل له راكد كالمستنقع ، يمثل شيئاً خاصاً به ،لذا من الصعب أن تجد شخصا في طرف العالم يفهم فكرة ستر جسد المرأة
لم يحدث أبداً لأحدهم أن عاد وسرد لي وقائع الحكاية التي تقص أن المرأة عورة .و لكن من هم هؤلاء القلائل الذين توغلوا في أعماق الغابات الشاسعة ،في البادية العقيمة الذي يفترض ان العجاج قد سلبها بهاءها ومجدها ،في القرى المبعثرة التي تكاد تكون مجهولة للجميع ، ووطنوا القبح فيها ، لان أرواحهم غير قادرة على إيواء الجمال.
قلت في سري :(كل الشياطين يزينون للناس ما يفعلونه من مخالفة للطبيعة )
كانت هذه الفكرة تبث بي شعوراً بالقرف ، جعل رفاقي يلاحظون كيف غادرت أفكاري حضورهم، وراحت تنهب بخفة ونشاط سلالة هذا الرجل البدائي .الذي يهدر في عروقه دم متحدر من أسلافه الجلف .
رفع صديقي وائل يديه ومررهما أمام عيني ،ورسم بيده اليمنى أشارة التنبيه وهي إشارة يفهما الجميع ،ونكزني بلطف بيده اليسري ،وشع وميض خافت من العتب في عينيه،وأضاف :
- دعنا نتحدث ،لقد أتينا إلى هنا لنبتعد عن الزحمة ولنستمتع بشرب العرق واكل السمك ونضحك ،فثلاث سنوات من الماّسي تكفي؟؟؟؟
- يخيل إلي يا وائل إننا قوم مصنوع من صلصال بلا روح ،بلا ذوق ،بلا عقل ... لا نجيد الحديث ألا عن النقاء والصفاء ، ولو فتحت قلب كل واحد منا لوجدت فيه ما يناقض حديثه ، ونحسب إننا بالكلام فقط نبني ذوقا وعقلا
-إن المسؤول عن انهيار قيم الروح وقيم العقل هم الرجال أنفسهم الذين يدعون إلى إسقاط النظام ؟؟؟؟؟؟ هؤلاء وحدهم من شككوا في حقيقة أن في الإنسان أخلاق .
- لكل عصر أسياده وعبيده ...
- صحيح ...لكن حين يكون السيد نبيا أو مصلحاً فأن العيد يكون حراً ، اما حين يكون السيد أبن زنا فأن العبد لن يظفر الا بطول السواد ؟؟؟؟؟
- طيب ....ما رأيك بهاتين الغرابين
- كما قلت؟؟
ألهي !!!!!! لكم استفظعت ما حدث في ظهيرة البارحة ،جريمة ارتبطت بكل شيء في ذاكرتي ، في ذلك اليوم كان هناك دم , بحيرة من الدم ، تغرق فيها أجساد أطفال بائسة ممزقة ،وجوههم مدمية ودعت أحلامها في قعرها، وبطون متفحمة بلا رأس أو أطراف ، والجدران القريبة ممرغة بدم سميك ونتف من اللحم تثير الغثيان والاضطراب ، لابد إنها ميتة ، لكنهم اليوم هم بأمان من هذا العالم اللامريح الذي يدعونه الناس خطاً ،الحياة، يدورون مع الدخان المتصاعد أمام مبنى المدرسة الابتدائية ،بعيداً عن القبح الذي يلوث العالم.
ندف من الدم تهطل على مدينتي، تلتصق على الجدران قبل أن يحل الليل الأخير ،ركعت في المكان أمام شاشة التفجير ، أتفحص نتف اللحم وبقع الدم ،الروح ترى مالا تراه العين ،قلت لوائل :
- تعال نحل طلاسم هذه النتف و البقع ؟؟؟؟
بعضها يشبه الوردة ، بعضها الآخر يشبه صورة طفل يطير بجناحين وهو يبتسم ، شيوخ ترفع يديها نحو السماء تناجي ربها للخلاص ،فرسان تلبس البياض على خيول خرافية وبيدها رماح غرست في صدر تنين ، أمهات مذعورات يحملن أطفالهن على أذرعهن ، يركضن في محاولة للنجاة ،لكن أروعها على الإطلاق تلك البقعة التي اتحدت فيها أعضاء بشرية لطرد العزلة والخوف والألم .
ليست الأشباح والرؤى ما يستحوذ علي في الواقع ، ولكن أمر غريب أن لا يرى الآخرون ذلك ، أنني مأخوذ بشيء يسحب الحقيقة من ذاكرة مرهقة ، توحي على نحو ما أن أجسادنا مقيدة بخبط رفيع تتأرجح على حافة الحياة ،منذرة بالسقوط في كل لحظة بالموت ،مادامت تلك الشياطين تجلس بيننا .
كنا قد اعددنا العدة لهذه السهرة بنفس العناية التي نعدها لاحتفال كبير ، ولم يكن ثمة شك إن أمر الانشراح كان يعنيننا بوصفنا نقضي إجازة أخر الأسبوع ، ففي مدينة تعج بالتمرد والفوضى والقذارة ، تبدوا المقاصف خير الأماكن لتفريغ فائض الأحاسيس بالتوتر والنزق .
حمل إلينا نادل المقصف سمكة مشوية ، عينا السمكة كانتا ممتقعتين ، قاسيتن ، وفاها مفتوح مثل كل الضحايا من البشر الذين قتلوا أو ذبحوا على يد سود العقول ،الحقيقة لم أستطع تحمل نظراتها ، فانتزعتهما برأس الشوكة ،وهذا هو بالذات ما أراحني ، ولكن تلك المرأتين والرجل لماذا يخيفوني ،مع أنهم لا يحدقون بي ، بل لا يعيروني أي اهتمام ،إنهم طبيعيين ،مع ذلك لا أستطيع تحمل وجودي معهم تحت قباء واحد .
أكلت عدة لقمات :لحمها لذيذ ، يصعب أن يقاوم الإنسان أكل اللحم ، وأنا بذلك أشبه كل الناس ،ولأن الفكرة مخالفة لمنطق التصريح فقد أحدثت ارتباكا هائلاً في نفسي ، إذ يكفي ان تذكر ان يوماً واحداً بنهاريه ولياليه قد انقضى دون أن يأكل الإنسان اللحم ،الفكرة مثل البذرة إذا أشعتها تنمو وتكبر ، وتتكاثر في العقول في انعدام المسؤولية البهيج من الذي سيأكل لحماً أكثر .
حاولت أن أعود عييناي على الصمت الفظ ، وأن أفكر في شيء أقوله ،لكن فمي كان يفتقد المرونة ، لقد غمرني نوع من التبرير ، دخلت في حفرة كبيرة ،فوجدت القاتلة لا تزال جالسة على كرسيها ، وودت أن أتخلص منها بنطق كلمة مجرمة ، وبدلا من ذلك اكتشفت إنني لا أرغب البتة أن تلوث سخافة الكلمات نقاء كرهي ، فأنا لم آت لإبداء رأيي،فالصراخ نفحة هواء لا غير كفيلة بتحويل الحق إلى غبار .
فؤاد حسن محمد - جبلة - سوريا
‏12 تيسان‏، الساعة ‏09:52 مساءً‏ • عام 2014

المصدر: رئيسة مجلس الادارة
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 45 مشاهدة
نشرت فى 18 يوليو 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

581,079