اتجاهات ومفاهيم تلقي الأداء التمثيلي

   (الاندماج-التغريب)       

                                                         ا.د.عبدالكريم عبود عودة

كليه الفنون الجميلة ـ جامعة البصرة

المقدمة

   تهدف الدراسة الكشف عن أهم البنيات الفكرية والجمالية المكونة للاتجاه التمثيلي وعلاقته التأثيرية بمتلقي العرض المسرحي كون التمثيل كأداء يشكل مرتكزا جوهريا من مرتكزات الاتصال المسرحي الحية والفاعلة في عملية خلق الاستجابة لدى المتلقي، وعلية تتنوع مستويات التلقي بتنوع مستويات الاتجاهات التمثيلية ومفاهيمها بهدف خلق صلة تفاعل تسعى إلى إدماج وعي المتفرج بالعرض لاكتمال معناه كون أن العرض المسرحي رسالة اتصالية متكاملة. من هذا المنطلق احتوت الدراسة على مبحثين:-

الأول:ـ يؤسس قاعدة معرفية تربط بين مفهوم التمثيل والتلقي،

 والثاني:ـ تطبيقي يبحث في اتجاهين أساسين في الأداء التمثيلي ليدرس المفاهيم التي أفرزتها جماليات الاتجاه في الإرسال والتلقي. وأخيرا يخلص البحث إلى تحديد أهم النتائج المستخلصة عن التحليل. 

المبحث الأول .

                        فن التمثيل والتلقي المسرحي

 الممثل هو صانع العلامات الحاضر في العرض المسرحي.. وعلامات الممثل المشتغلة في حقل الدلالة تشتمل على تركيب علاماتي مزدوج في البث والاستقبال، فهناك المستوى البصري في التشخيص العلامي الذي يتمثل بحركة وأنتقالة وتشكيل جسد الممثل في الفضاء، أما المستوى السمعي في التشخيص العلامي فيشمل تصويت الكلمة والصوت الصادر من الممثل وعليه فالممثل علامة مركبة تبث مدلولاتها المشتركة في آن واحد وفي لحظة العرض بوحدة فنية لتشكل معنى اللحظة. وعلية فأن فن التمثيل كعلامة ديناميكية فاعلة في العرض المسرحي تتطلب دراسته السيميولوجة إخضاع هذه التوليدات إلى تركيب خاص من التوازن بين العلامة البصرية من جهة والعلامة السمعية من جهة أخرى وإدماجهما في وحدة تركيبية منضبطة تعبر عن الفعل المؤدى المرسل من قبل الممثل كدالة بهدف إيصالها للمتلقي في لحطة الحضور الجامعة لطرفي العملية الإرسالية . وانطلاقا من هذا المبدأ يمكن تعريف فن التمثيل " هو التصوير المجسد للصورة الذهنية وهو إيصال محتوى و الانفعال والعاطفة إلى الجمهور " (1) .أن ما يقوم به الممثل من عملية أبداع فني هو محاولة لتجسيد صورة ذهنية بهدف إيصال هذه الصورة على مستوى العلامات البصرية والعلامات السمعية إلى المتلقي ضمن مساحة التلقي الشاملة المتمثلة بالعرض المسرحي المؤلف من مجموعة مركبة من النصوص التي تتشكل بنياتها الإرسالية أو الاستقبالية لتنتج الخطاب المسرحي الكامل ، وهو عبارة عن مجموعة دالة من أشكال الأداء اللفظي والحركي تنتجها أنساق من العلامات السمعية والبصرية وهذا الخطاب يحوي على بعدين هما:ـ

 " البعد السيجمانتي هو بعد المحتوى الذي يعطيه المرسل لعناصر الشكل ، والبعد السيمانتي هو بعد المحتوى والمعنى الذي يعطيه المستقبل لعناصر الشكل "(2)

     أن التمثيل يعد ضمن هذه المعادلة الجزء الأول من البعد في هذا الخطاب الإبداعي ويمثل إرسال المحتوى عن طريق الممثل الإنسان حامل العلامة. فهو أي الممثل ينقل هذا المحتوى المتمركز في الخطاب الأدبي ( النص المسرحي ) محولا إياه من فعل لساني مدون إلى فعل غير لساني مجسد ومنظور على خشبة المسرح عن طريق توظيف مجمل الأدوات التعبيرية لدى الإنسان الممثل الحسية والمادية والذهنية بهدف خلق روح إنسانية على الخشبة حاملها الدلالي الأول هو الممثل . أما الجزء الثاني من البعد والخاص بتأويل ارسالات الجزء الأول فيخص عملية التلقي ، إذ لا يكتمل جوهر الخطاب الدرامي إلا بوجود عنصر المشاهدة وحضوره باللحظة الآن التي ينطلق منها متلقي الخطاب لتأسيس قاعدة استلام المحتوى المرسل وتأويله وفك شفرته ، من هنا فأن الخطاب يمثل رسالة اتصالية متكاملة العناصر ، أذن الموقف المسرحي " بأبسط أشكاله هو أن (ا) يشخص (ب) بينما يشاهده (ج) " (3)

 ( أ)

( ب)

( ج)

مرسل

مستقبل

ممثل

مشاهد

تشخيص

دور

يشاهد

الشخصية

الدور

 

 

 

 

 


                 

                                    ترسيمة رقم (1)

     إن العملية الاتصالية الموضحة أعلاه تتطلب الوجود الحي لجميع للإطراف في لحظة العرض لتحقيق فكرة تحقق الخطاب المسرحي . فان الممثل يشخص وبتشخيصه يقوم بعملية تحويل كيان تجريدي في النص الجامد الأدبي إلى كيان أنساني ديناميكي يتحرك .. وهنا فأن عنصر (ا) يشخص عنصر (ب) الذي تصوره الكاتب المسرحي وتخيله ضمن حدود المدونة الكتابية والتشخيص هنا فعل تحول وممارسة إبداعية للخلق تتضمن إرسال وحمل رسالة التشخيص ومحتوى النص الفكري على مستوى التجسيد. أما(ج) فيأتي دوره كمستقبل من خلال المشاهدة في لحظة الحضور أيضا ليكون متلقي لهذه الرسالة التشخيصية . وعلية فأن أرسالات الممثل وعلاماته العاملة في حقل دلالة التشخيص وضمن الوسط الاتصالي تفرض علية طريقة معينة ومعلومة ينبغي إتباعها تمثل اتجاها جماليا لنظرية من نظريات فن التمثيل . إن فن التمثيل بمعناه الأدق وفاعليته المؤثرة يشكل نظاما من العلامات يتحول هذا النظام إلى حقيقة اتصالية بمجرد إرساله من قبل الممثل وتلقيه من قبل المتفرج . فالوجود العيني المادي لأداء الممثل يعد وسيط أساسي بين الإرسال والتلقي إذ يتشكل هذا النظام الدلالي " ويتجمع في بنية هرمية يدركها المتفرج ،ومن ثم يصبح قادرا على عملية أنتاج المعنى وإرساله " (4).

إن جماليات الإرسال في العرض المسرحي تتحدد في محور الأداء التمثيلي في صياغة العلامة وتحديد الدال والمدلول أي بين جوهر العلامة المستخدمة وما تشفر إليه.ومن هنا فأن أنتاج العلامات في الأداء التمثيلي يخضع إلى معرفة أنواع العلامات وتصنيفاتها المستخدمة ضمن إطار الدلالة والتي تخضع إلى قوانين المنهج التمثيلي وأهدافه ووظيفته في التواصل لكي يتحول الإرسال عند الممثل إلى قضية متعلقة بفلسفة جمالية يخضع لها الأداء المسرحي ونظم علاماته الدالة في الإرسال . أما جماليات التلقي فتبرز من خلال إمكانية وجود العلامة ضمن علاقاتها التداولية في الاستخدام وبذلك فان إمكانية تميز وتحديد مجموعة القراءات الممكنة والناتجة عن خلاصة المشاهدة ..وهذه الجماليات تخضع بدورها لتداولية تاريخية يتحدد في ضوءها طبيعة فعل التلقي وقراءات المتلقي التأويلية المتعلقة باتجاه ومفاهيم صيغة الأداء وجمالياته في التعبير والتوصيل . وبتحقيق هذا الوجود الحي لـ( الممثل – الدور- المتلقي ) تحدث عملية تلقي الأداء التمثيلي وتستوجب هذه العملية في المسرح من المتلقي أن يلعب دورا ذي فاعلية تقترن بفاعلية مرسل الخطاب . وبهذا يشترك المتلقي في عملية أنجاز الخطاب ليحقق صيرورته الإنتاجية. ولا يتم هذا الفعل إلا من خلال أدراك المتلقي كعنصر تأويلي ومفسر لجميع المثيرات التي يبثها الإرسال الأدائي وصياغتها في تكوينات ومحتويات ذات معاني دلالية خاصة بفهم وقراءة المتلقي وعلية " فالممثل لا يقتصر عمله على كشف نمط الأفكار وشخصيات المسرحية ورغباتها ومواقفها من القيم الاجتماعية المختلفة وعالم مشاعر الناس في عصور تاريخية مختلفة ولطبقات اجتماعية مختلفة فحسب ، بل ويجعل من المشاهد نفسه أكثر إدراكا واستيعابا للعالم الداخلي للناس " (5)

 أن اتصال ذات المتلقي بذات الممثل المتحول عن طريق الأداء التمثيلي مع ذات الشخصية الدور الوهمية ، يؤدي إلى تفاعل مشترك بين الذاتيين يتراوح تأثير هذا التفاعل بين الاقتراب أو الاندماج وبين الابتعاد أو التغريب .. وهذا يؤكد تنوع مدارس التمثيل وطرق تعبيرها عن المضمون الدرامي وبالنتيجة أساليب توصيلها للمحتوى إلى متلقي العرض الذي تعكس قراءته لارسالات الأداء موضوع تحليله لطبيعة هذا المحتوى . أن تلقي الاداء التمثيلي يخضع إلى فعل إرسال منتج من قبل الممثل ولحظة حضور واعية حيوية وديناميكية يتطلب فيها قراءة للدوال المرسلة من قبل المتلقي بمعنى أعادة بناء الإنتاج وصياغة المحتوى الجديد من قبل المتلقي ، وعلية فأن " الأداء رسالة أي مجموعة من العلامات يبثها الممثل لمتلقية ( الشخصية ،أو الشخصيات المقابلة ، المتفرج ) وتصل هذه الرسالة لمتلقيها عبر شفرة بواسطة قناة (الجسد والصوت )"(6).

       يفرض الإنتاج المسرحي على العاملين في العرض أسلوب معين يمثل الطريقة التي يعبر بها الفنان ويتعامل مع مادته لصياغتها فنينا وإبداعيا" وعندما يخضع هؤلاء المبدعون إلى نظام متميز في طريقة تعبيرهم يؤكدون انتمائهم إلى اتجاها" معينا يطرحون في ضوء تصوراتهم مفاهيمهم ، وانطلاقا من هذا المبدأ فقد تنوعت درجة اتصال الممثل بالمتفرج ضمن فترات تاريخ المسرح لقد حدد ( الكسندر باكشي ) صيغتين لتميز هذا النوع من الاتصال الذي يقوم علية فعل تلقي الأداء التمثيلي وهما :-

1-  الأسلوب لتقديمي .

2-  الأسلوب التمثيلي .

وعليه " يدرك الممثل حضور المتفرج في الأساليب التقديمية للإنتاج المسرحي ، وغالبا ما يمثل مباشرة له ويعكس ذلك في الأساليب التمثيلية حيث يتجاهل الممثل وجود المتفرج وعلى أية حال هناك تنوع في درجة الاتصال في طرائق التمثيل "(7)

وهنا تحقق مدارس النقد الحديثة والخاصة بدراسة جماليات التلقي هدفها حين تحول مشاهد العرض إلى فاعل تأويلي منتج لدلالاته التي بلورتها أساليب الأداء التمثيلي ضمن كيميائية عرض بين الإعداد الخاص بالإرسال المتفاعل مع الإعداد الخاص بالاستقبال. ومن هذا المنطلق يمكن دراسة القراءات التأويلية التي يركز عليها فن التمثيل ضمن الاتجاهات التنظيرية لهذا الفن والمعبرة عن مفاهيم خاصة بنوع التلقي المسرحي للأداء فالاستجابة في عملية تحليل فن الأداء التمثيلي تتحرك بمدخلات ومخرجات عديدة تنبع من فلسفة الاتجاه التمثيلي الجمالية وطريقة توظيف منظومات الرسالة الأدائية لتحقيق هذه الفلسفة.وعليه هناك نوعين أساسين من التلقي أفرزتهما فلسفتين مختلفتين في فن التمثيل وأدائه ، الأول خاص بالاندماج (ستانسلافسكي) والثاني خاص بالتغريب (برتولد برخت ) وهما المحورين اللذين سنركز عليهما في هذه الدراسة لتوضيح تنويعات تلقي الأداء التمثيلي في العرض المسرحي .

 

 

المبحث الثاني

مستويات تلقي خطاب الممثل المسرحي

المستوى الأول :- ( الاندماج)     

   فعل إرسال الدالة الأدائية وفعل استقبالها تخضع في هذا المستوى الأدائي " للسفر إلى داخل الشخصية، والتماهي معها أي تغير ملامحه الخاصة وتبديل حركاته وتصرفاته وصورته . وكل سماته المميزة بحيث يمكن الحديث عن تأليف أو تأسيس الهوية الجديدة هوية الكائن الوهمي المسمى ب(الشخصية) "(8). ن منتجي العرض بدءا بالمؤلف ووصولا إلى الممثل تتحرك لديهم بنى الإرسال باتجاه التأثير الإيهامي الذي يتطلب من متلقي العرض الانصهار والتوافق تفصيليا مع بنى الإرسال، إذ يتحول الطرفين المرسل (الممثل) والمرسل أليه (المتلقي) في لحظة اللقاء إلى عنصر اندماجي تقمصي تتحرك عناصر بنى الإرسال فيه وبنى التلقي لتحقيق فعل الإيهام المسرحي الذي يعلن عن مستوى اندماجي تستغل فيه كافة عناصر الدلالة المسرحية لتحقيق هذا المستوى التفاعلي من التلقي والذي يتألف كبنية من العناصر آلاتية الموضحة في الشكل أدناه:-

الجانب الموضوعي

لقي رسالة الأداء

 

      التقمص الاندماجي

الدال

المدلول

الجانب الشكلي

في الأداء التمثيلي

تعبير

أدراك

بنى الإرسال

بنى التلقي

 

 

 

 

 

 

 

 

 


                

                                        ترسيمه رقم (2)

        ومن اجل أن يخضع هذا المستوى إلى فعل التوحد يحتاج ضبط إيقاعي للبنى المشتركة في تكوينه وهذا يعني

 " أن الوعي بالإيقاع يساعد على توحيد التجربة والربط بينهما، وان لولا الإيقاع لظل الانتباه حائرا متشتتا فهو دليل على ثبات الإرادة وانسجامه يركز إلى اتفاق الإرادة مع ذاتها "(9).

      يحقق فن التمثيل في هذا المستوى فعل التقمص من خلال عملية ذوبان ذات الممثل الإنسان وانصهارها بذات الممثل الشخصية وهذا الذوبان يحتاج إلى توظيف علاماتي تحويلي تتحول فيه صفات وسلوك ومشاعر وما يتعلق بعناصر التعبير الداخلية والخارجية من علامات الممثل الإنسان إلى علامات الممثل الشخصية عندها يحدث فعل التقمص .. وعلية يقوم الأداء التمثيلي في هذا المستوى بأداء بعيد عن ميزات وخصائص شخصية الممثل الإنسان إذ تتطلب عملية التحول إلى الصدق والأيمان بحيث يتحول فعل الأداء التمثيلي على خشبة المسرح ويتطابق مع الحقيقة العامة بهدف تحقيق فعل الإيهام ، عندما تصل هذه الرسالة الأدائية بوعيها بالإيهام المسرحي مما يعني إن سلطة القراءة التأويلية قد هيمنت عليها دالة الاندماج بحيث تحول المتلقي إلى مستقبل متعاطف مندمج مع مستوى الأداء التمثيلي المتقمص .

       أن هذا النموذج من التلقي للأداء التمثيلي يمكن إن نطلق علية اصطلاح (التلقي العمودي) والذي يتطلب فيه التماشي مع فعل التقمص لدى الممثل   ومقاربته بفعل الاندماج لدى المتلقي..حتى يجمع العرض الطرفين معا بوحدة تأثيرية مشتركة. إن الخطابات المتوالية لعناصر الإرسال والتلقي قد أعلنت عن توحدها بمعنى إن القراءات جاءت جاهزة ومقننة بفعل تقنين العلامات الإرسالية وعليه يبحث (ستانسلافسكي) عن ممثل قادر على تحويل الخطاب المتخيل مسرحيا إلى خطاب أبقوني واقعي حياتي يستنبط حسه من فعل الملاحظة ويجسدها تعبيريا بالوحدات والفترات الأدائية القادرة على خلق صفة كشف حقيقة الحياة الإنسانية عن طريق الصدق والأيمان. إن خلق هكذا نوع من الاستجابة ترتبط بكشف الفعل المتغلغل الناتج عن التنامي الدرامي وتأثيره على المتلقي بهدف إرضاء رغبته في التلقي الجمالي وإشباعها عن طريق الاندماج والتفاعل مع إيقاع الأداء المرسل.. من هنا تأتي القراءة في هذا المستوى موصوفة بقراءة افتراضية ناتجة عن التلقي العمودي الذي تتحرك فيه بنى الإرسال الأدائي المتقمصة مع بنى التلقي الاندماجية ضمن فضاء مشترك أساسه التفاعل العاطفي ما بين طرفي العملية الإرسالية لتحقيق الالتحام الشعوري بين الإرسال والاستقبال، فالتلقي هنا يعتمد على المعايشة المستكينة ضمن أطار القراءة التفاعلية الاندماجية ذات التأثير الإيهامي الذي يهيمن على رسالة العرض الاتصالية وكما موضح في المخطط أدناه :-

اندماج مع الحدثلمماجم

إشباع الرغبة

بنى

التلقي

 

المرسل

المستقبل

التلقي العمودي

أثارة الدهشة

تقمص الشخصيةهشةي لاعلى للاثار 1995) ص   

تماهي

الإيهام

تماهي

قراءة تفاعلية اندماجية

بنى

الإرسال

بنى اندماجية منصهرة

      في العرض

 

 

 

 

 

 

 

 


                   

 

                                        ترسيمة رقم (3)

المستوى الثاني: (التغريب ) .

   إن المنطلقات الدلالية التي تؤكدها جماليات المسرح الملحمي من وجهة نظر ( بر تولد برخت ) تتبلور فيما يتصل بتحقيق علاقة اتصالية مبتكرة مستندة على الوعي بتغير العالم عنوانها التشخيص الجدلي للحياة الاجتماعية " لقد تعين على المسرح إن يكون تشخيصات أخرى للحياة الاجتماعية ذلك إن الحياة لم تتغير وحدها بل تغير معها تشخيصها أيضا " (10). 

       دعوة برشت تهدف إلى إثارة التأثير الذهني بمتفرجة دون إغراقهم بخيالات وإيهامهم بان ما يقدم لهم هو الحياة.إذ تتطلب هذه الدعوة إلى تأسيس مفاهيم جديدة في يتعلق بالأداء التمثيلي وإعلان طرق تفكير جمالية للعرض المسرحي وعناصره التواصلية منبثقة من الوعي الحقيقي لوظيفة المسرح. وعليه طرح (برشت ) مفهوم التغريب في المسرح حدد في ضوءه الدلالات الجمالية والفكرية لنظرية المسرح الملحمي المستندة إلى هدف التغريب وإحالة كل ما هو بديهي ومعروف إلى مدهش وغير معروف.. إذ يسعى التغريب إلى تجريد الحادثة والشخصية والتعامل مع أشكال السلوك والتصرف الاجتماعي في ضوء فعل الاندهاش وإخراجه بطريقة تثير التفكير مما يساعد على أدراك الأشياء وصلا إلى معرفة قيمتها الإنسانية واتخاذ موقف إزاءها."أن جوهر نظرية التأثير التغريبي هو إحلال نشاط فكري ثاقب ونقدي أساسا" لدى المتفرج محل المعايشة المستكينة القاصرة، فالحدث على خشبة المسرح يتخذ مسافة يبتعد يتراجع عن مجرى الواقع اليومي المألوف ويطل علينا كما لو كان شيئا غريبا يثير دهشتنا "(11) . هذا المستوى من التلقي يرفض الاندماج بكل جمالياته الأدائية ويعوض عنه بالتغريب شكلا ومضمونا وصولا لتحقيق مسرح عقلي مقابل المسرح العاطفي الإيهامي ..محققا بذلك مفهوم كسر الإيهام والذي يدعو إلى فك الالتحام الشعوري بين المتلقي من جهة والأداء التمثيلي كجزء من بنى العرض من جهة أخرى .

    أن التغريب على مستوى فن التمثيل يجعل من الفن إدراكا" جماليا للواقع لا محاكاة فوتوغرافية انفعالية لهذا الواقع والاندماج فيه ، بل إدراك قائم على النقد يهدف إلى وضع عملية التلقي في فضاءات ذهنية ، وهذه الكيفية في القراءات تضع المتلقي في مستويات عديدة من التأويل والتفسير لطبيعة ما يتلقاه من خطاب الممثل المرسل .. إذ يتم تحليل هذا الخطاب على وفق مجريات ذهنية إدراكية متعلقة بواقع المتلقي ذاته وبوعيه الاجتماعي والسياسي . جاءت إسهامات (برشت) في مجال تلقي الداء التمثيلي في " تركيزه على الدور المنتج والفعال الذي يمكن أن يقوم به جمهور المسرح فضلا عن انه يضع هذا الدور في سياقه الايدولوجي ، كما ربط برشت بين التلقي الجماهيري وعملية الإنتاج ولذا فأي بحث في عملية التلقي ينبغي أن يأخذ بالاعتبارات عملية الإنتاج وان يعالج عددا من القضايا الثقافية والفردية أيضا "(12) 

     إن فلسفة التغريب بوسائلها المتعددة ( الغناء ، الاسترخاء ، الاستشهاد ، القطع ، المواجهة ...الخ ) والتي نطلق عليها مصطلح وسائل الأداء المغرب تضع مفاهيم فن التمثيل ووظائفه في حالة أثاره وجدل مستمرين ما بين الممثل والمتفرج ، فالدلالات الخاصة يبنى الإرسال عندما تواجه من قبل فاك شفرتها فان المواجهة المغربة تعتمد على متفرج يجتهد في تأويل قراءاته ولذلك فالمتفرج هنا يمر بنوع من التلقي يهدف فيه إلى إملاء فجوات النص من خلال مفهوم  ( التلقي الجدلي ) كون أن العلاقات الخاصة بتلقي الأداء التمثيلي تعتمد على تأسيس جدلية قائمة على نقض النقيض وصولا إلى ظاهرة جديدة قادرة على تنظيم قانون يتحكم بالتعامل مع الظاهرة بهدف تغير العالم وليس الاندماج فيه .

      إن بنى الإرسال تتخذ دلالات معينة توظف من خلال وسائل الممثل التعبيرية وبطرق تقنية تتفق مع حالة كسر الإيهام وهذا يمثل الطرف الأول من الجدلية ، أما الطرف الثاني فيخضعه المتلقي لمدركاته الواعية والنافذة في فعل استلامه للدالة الأدائية .. وعلية فأن بنى التلقي تركز على استلام الدال وتحليله وتفسيره وإنتاجه بكيفية فكرية تتلاءم ووعي المتلقي .

       إذن الأداء التمثيلي في هذا الاتجاه عبارة عن ديمومة مستمرة وانتقالات عديدة بهدف خلق جدل متواصل وفاعل بين بنى الإرسال وبنى التلقي فالأداء التمثيلي في المسرح الملحمي يعتمد على المقاطعة لغرض الابتعاد عن الانغماس والاندماج في الحدث ، فالممثل يتوقف ، يعلق  ، ينتقل في أدائه من مستوى إلى آخر ليشكل في كل مستوى منظومة صوتية وحركية تختلف عن سابقتها .. وعندما تتعدد المستويات في القطع والمشروطة بأنساق من العلامات الأدائية تتغير وحدات التشخيص الأدائية ، وبهذا نلاحظ ثلاث مستويات للتشخيص هي :-

1- الممثل الإنسان ( أنا الممثل ) .

2- الممثل الشخصية ( الدور ) .

3- الممثل الشخصي الإنسان ( الموقف) .

        وهذا التعدد ينعكس بالنتيجة على فعل التلقي. لذا فأن جماليات التغريب تعيد صياغة مفهوم التلقي وتخضعها النوعية القراءة التأويلية من ناحيتي بنى الإرسال وكيفيات التوصيل وبنى التلقي ومستويات القراءة .

 

 

كما موضح في الترسيمة التالية :ـ

مدركات تلقي واعية ذهنية

التلقي الجدلي

المرسل

المتلقي

إثارة الدهشة

إشباع الرغبة

تغريب

تغريب

سياق جدلي للأداء

مستويات التلقي

فهم    لا فهم     فهم

موقف   تفاعل   تغيير

متغيرات في إرسال الأداء

بنى الإرسال

كسر الإيهام

بنى التلقي

جدلية

نقدية

بنى تأويلية تحقق جدلية العرضي في

القراءات المتعددة لدى المتلقي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


                         

                                  ترسيمة رقم (4)

 

الاستنتاجات

نستنتج من خلال مناقشة المستويين الأدائيين وبحث مفاهيم التمثيل الجمالية فيهما الآتي :-

1ـ المستوى الأول :- من القراءات والخاص بالتلقي العمودي لا ينتج فعلا تأويلا في القراءة بل  يعتمد على قراءة  متماهية اندماجية انفعالية تذوب فيها شخصية الممثل الإنسان مع شخصية الممثل الدور وتندمج معها شخصية المتلقي وصولا إلى تفاعل اندماجي عاطفي شعوري مشترك في لحظة العرض .

2ـ المستوى الثاني :- والخاص بالتلقي الجدلي فأن قراءات الأداء التمثيلي تعتمد على الجدل وقوانين التناقض ، وعليه تحتاج إلى متلقي مدرك لفعل الإرسال مفسر تأويلي .. ففي هذا النوع من التلقي يوجد تباعد بين الممثل الشخصية والممثل الدور لبناء موقف ، وبين الدور والمتلقي بهدف خلق أعادة أنتاج الدالة المسرحية الأدائية في كافة مراحل التلقي وفك فجوات العرض من خلال نقده ومحاورته في كافة مراحل التلقي المتمثلة في لحظة الحضور الحي للعرض المسرحي .

 

 

 

 

الهوامش

1-ريتشارد موريل . أساليب التمثيل ، ترجمة سامي عبدا لحميد ( جامعة الموصل : دار الكتب للطباعة والنشر ، 2002 ) .

2- أ.د فان كيسبيرين . نحو نظرية وتاريخ العرض المسرحي . ترجمة مصطفى منصور. مجاة المسرح (القاهرة) العدد83 سبتمبر 1995 ،ص 39.

3- اريك بنتلي . الحياة في الدراما . ترجمة جبرا إبراهيم جبرا (بيروت : المكتبة العصرية1986) ص56.

4- سامح مهران . التلقي المسرحي بين نظريتي الإرسال والاستقبال .ص59.

5- ب. ياكوبسون . حول التعبيرية في فن التمثيل مجلة الحياة المسرحية (دمشق) العدد6 خريف 1978. ص61.

text-justify: kashida; margin: 0cm 0cm 0pt; text-align

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 2863 مشاهدة
نشرت فى 6 نوفمبر 2010 بواسطة kreem

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

12,601