سنة 1891، صدر في باريس نص سوف يصبح شهيراً وأساسياً في عالم الفن، لأنه وضع ما اعتبره نظرية متكاملة حول «الفن الرمزي»، وذلك بالانطلاق من الأعمال التي كان بول جوجان قد أنجزها حتى ذلك الحين. والحكاية ان جوجان كان يلتقي في العام السابق 1890 في «مقهى فولتير» مجموعة من رسامين ونقاد تعرف إليهم هناك ومن بينهم مالارميه ومونفريد وريدون، الذين وجدوا في لوحاته تجاوباً كبيراً مع دعواتهم الرمزية. وهكذا انطلاقاً من تلك اللقاءات، ثم تحديداً من أعمال جوجان كتب إميل اورييه ذلك النص الذي عنونه: «جوجان أو الرمزية في الرسم»، والذي اعتبر في حينه قانون الرمزية، ثم أول اطلالة نقدية تحليلية جدية على أعمال جوجان فيها محاولة للتنظير للفن الرمزي كله من خلال الوقوع على الأسس المكونة لأعمال هذا الرسام. بمعنى أن ذلك النص استخدم جوجان لتحديد الأسس الخمسة التي كان الرمزيون يرون أن تضافرها هو الذي يصنف الفن رمزياً أو غير رمزي. وهذه العناصر، بحسب ذلك النص هي: «ان على العمل الفني أن يكون في المقام الأول «فكرياً»، طالما أن المثل الأعلى الأساس والوحيد لهذا العمل انما هو قدرته على أن يحمل فكرة. وبعد ذلك على العمل الفني أن يكون حاملاً رمزيته طالما انه يعبر عن الفكرة التي يحملها، في أشكاله. وفي المقام الثالث على العمل الفني أن يكون ذاتياً، لأن غرض العمل الفني لا يمكن أبداً اعتباره موضوعاً، بل دلالة أدركتها الذات. وبعد ذلك على العمل الفني – ونتيجة لذلك كله – أن يكون تزيينياً، لأن الرسم التزييني بالمعنى الحصري للكلمة، وكما تصوره المصريون القدامى وربما اليونانيون والبدائيون أيضاً، ليس سوى التعبير عن فن يكون، في الوقت نفسه ودائماً، ذاتياً، توليفياً، رمزياً وفكرياً...».
طبعاً قد لا نكون في حاجة هنا الى أن نقول كم أن هذا التحليل أطرب جوجان، الذي وجد أن اتخاذ أعماله نماذج تطبيقية لشرح هذه النظرية والترويج لها، انما يدخله تاريخ فن الرسم والمجد، من باب عريض، خصوصاً ان هذا التحليل لم يسر على غرار التنظيرات التي كانت تواكب مدارس الفن الأخرى، بحيث أن النظرية توضع أولاً في حذافيرها ثم يصار الى تطبيقها عملياً في لوحات مقبلة، بل سار على نمط جديد: أخذ مجموعة من لوحات الفنان، حللها، ربط في ما بينها، استخلص قواسمها المشتركة، ثم نظّر لها في شكل يجعل الفنانين المقبلين يستفيدون منها لضبط مصادر إلهام هم والتعبير عما يجول في داخل مخيلاتهم ورؤوسهم من أفكار. في هذا المعنى أحس جوجان أن مواصلة سيره، في خطه الفني تبعاً لابتكاراته الماضية، أمر منطقي. لقد أكد له النص مكانته ولم يحدث بالتالي انعطافة أساسية لديه. مع العلم انه رسخ له مواصلة أسلوبه وإضفاء مزيد من التركيب عليه. بل انه كذلك فتح له آفاق العودة الى الارتباط بأساليب فنية مغرقة بالقدم (الجواريات الفرعونية مثلاً). ولعل مقارنة بين لوحتي «بورتريه» رسم جوجان أولاهما قبل صدور ذلك النص، بل قبل ارتياده مقهى فولتير ومخالطته الرمزيين، والثانية رسمها بعد ذلك بسنتين وفي العام نفسه (1891) الذي وصل فيه من جديد الى تاهيتي، توضح الصورة. اللوحة الأولى هي «بورتريه جوجان» (1889) والثانية «المرأة ذات الزهرة» (1891) ولهما قياسات متقاربة.
إن النقاد والباحثين في فن جوجان يربطون تماماً بين تينك اللوحتين على رغم الفارق الزمني والجغرافي بينهما. أما أساس الربط فيقوم من ناحية، في اعتماد جوجان الخلفية نفسها في اللوحتين، ثم في النظرة المساهمة التي يحملها «الموضوعان» المصوران: نظرة الى البعيد تتجاهل وجود الرسام – وبالتالي المشاهد – تماماً، مع قدر كبير من كرامة يسبغها الحزن البادي على الموضوعين. حزن يحول الموضوعين فوراً الى ذاتين. ان قدراً كبيراً من الكآبة يعتصر جوجان، في اللوحة الأولى، والسيدة في اللوحة الثانية. ومع هذا حتى وإن كان اللون البرتقالي المصغّر المسيطر على الخلفية، يرمز عادة الى حزن عميق، علينا أن نلاحظ كيف ان جوجان قلب الألوان بين اللوحة الأولى والثانية، ففي حين كان الأصفر البرتقالي يشغل النصف الأسفل من لوحة جوجان، صار اللون نفسه يشغل الجزء الأعلى من خلفية اللوحة الثانية، فيما هبط الأحمر المصغّر، الذي يبدو في النهاية تنويعاً حاراً على اللون البرتقالي، الى أسفل خلفية اللوحة الثانية، بينما كان يشغل أعلى خلفية الأولى. ثم في الحالين زين جوجان المسطح الخلفي بعدد من الزهور التي تبدو أقرب الى التماثل في اللوحتين. ثم انه اذا كان قد جعل هالة قداسة رمزية تعلو رأسه في بورتريه جوجان، نراه يستبدل بالهالة كلاماً يعلو رأس المرأة في اللوحة الثانية هو عبارة «فاهيني نو تي تياري» (وهو عنوان اللوحة على أية حال). من هنا يبدو واضحاً أن الرسام أراد في اللوحة الثانية ان يستأنف ما كان بدأه في الأولى من تطبيقات فنية ولونية، بادلاً صورته بصورة امرأة حمّل وجهها كل التعابير التي كان من الواضح أنه أراد تحميلها الى صورته في اللوحة الأولى فلم يوفق كثيراً. لوحة المرأة اذاً، هي أشبه باستعادة لبورتريه جوجان. وربما للتأكيد على النظريات الرمزية، التي كان اميل اورييه قد أوضحها كقوانين للرمزية، فيما يشبه لعبة التفاعل المتبادل بين النظرية وتطبيقها.
> والحقيقة اننا اذا درسنا، خصوصاً، لوحة «المرأة ذات الزهرة» على ضوء قواعد أورييه، سنجد كما لو أن هذه القواعد كتبت انطلاقاً من هذه اللوحة نفسها. واكثر مما انطلاقاً من لوحة جوجان الذاتية، إذ ان أول ما نلاحظه هنا هو انه، وإن كانت الخلفية نفسها استخدمت في اللوحتين فإنها في اللوحة الجديدة صارت تزيينية الاستخدام. أما تصوير وجه المرأة وملامحها فقد أضحى احتفالياً بمعنى انه صار معبراً عن فكرة محددة، تقود بدورها إلى المشاعر التي يتعين على مناخ اللوحة - والنظرة - العام إيصالها إلى المشاهد. والمرأة ها هنا تمسك بين أصابعها زهرة، لا شك في رمزيتها، التي تميل إلى مفهوم الخصوبة والنمو. وإضافة إلى هذا كله – وكما يقترح علينا بعض دارسي فن جوجان، المتوقفين تحديداً عند المقارنة بين اللوحتين اللتين نشير إليهما – علينا ان نلاحظ ان «زهور» الخلفية في بورتريه جوجان، إذ كانت هنا تبدو رمزية معبرة عن بقايا حزن وشجن. تفقد في اللوحة الثانية كل هذه الدلالة لتصبح مجرد زهور تزيينية، إذ تحصر الدلالة – الاكثر تفاؤلاً هذه المرة على رغم كآبة الوجه – في الزهرة بين أصابع المرأة. ولنضف هنا أخيراً ان لعبة البحث عن معنى شعوري في بورتريه جوجان. تخلي المكان هنا تماماً أمام التعبير المطلق عن البراءة ذات الكرامة التي اسبغها جوجان على جلسة المرأة ونظرتها وألوان اللوحة. وكأن جوجان أراد أن يقول هنا كيف أنه تعبير عن المواجهة بين السمة الحضارية لفعل الرسم نفسه وبين بساطة الطبيعة وكرامتها التي تعبر عنها المرأة المرسومة.
حين رسم بول جوجان(1848 – 1903) لوحته هذه، كانت شهرته كبرت وصار أسلوبه الفني علامة أساسية على تطور كبير، ليس في فن الرسم نفسه ووحده، بل كذلك في النظرة الأوروبية إلى الآخر. وجوجان المولود في باريس ليرحل بعد ولادته بأكثر قليلاً من خمسين عاماً في جزر الماركيز الاستوائية التي شكلت بعض عالمه الغرائبي البعيد الذي عاش فيه خلال النصف الثاني من حياته وعبر عنه وحقق فيه أروع أعماله الفنية، جوجان هذا رحل باكراً إلى تلك الأماكن البعيدة، وقدمها في لوحات غنية بالألوان والرموز والأشكال... وغنية كذلك في تعبيرها عن الإنسان ولا سيما الإنسان في علاقته البريئة بالآخر وبالطبيعة... وربما بالفن أيضاً.

المصدر: ابراهيم العريس، جريدة الحياة، من مقال بعنوان " ألف وجه لألف عام - «المرأة ذات الزهرة» لغوغان: الرمزية بين النظرية والتطبيق"
  • Currently 19/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1643 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

55,631