عندما عرض المخرج السينمائي جان - بيار جونيه فيلمه «اميلي» أو «مصير اميلي بولين الغريب»، وحقق الفيلم ذلك النجاح الذي نعرف، سأله كثر من أين استقى شخصية الفتاة اميلي، من الحياة أم من الأدب أم من خياله؟ فأجاب بكل بساطة: لقد استعرت الشخصية من واحدة من شخصيات لوحة «غداء المراكبجية» لبيار اوغوست رينوار. الذين لم يكونوا يعرفون هذه اللوحة - وهم قلة في فرنسا والعالم على أي حال - ركضوا يومها لمشاهدة اللوحة، ولتخمين أي شخصية من شخصياتها كانت تلك التي ولّدت سمات اميلي، فلم يبذلوا جهداً كبيراً: ذلك ان الشخصية بدت واضحة بسرعة، وبسرعة ايضاً بدا كلام المخرج جونيه منطقياً. ففي هذه اللوحة المعلقة في مجموعة فيليبس في واشنطن، والبالغ عرضها 172.7 سنتم، وارتفاعها 129.5 سنتم، كانت اميلي بولان الأصلية الحقيقية جالسة هناك وسط اللوحة تقريباً، ممسكة بيدها كأساً ويبدو عليها، مثل كل الذين في اللوحة، استمتاع فائق بذلك النهار الجميل المشرق، مع تميزها بكونها الوحيدة التي تبدو غير مبالية بما يحدث حولها، ولذلك تنظر الى مكان ما خارج إطار اللوحة، فيما الباقون ينظرون الى بعضهم بعضاً باهتمام، مبالغ فيه بعض الشيء. والطريف ان جونيه، كان سهّل في سياق الفيلم نفسه، عملية عقد المقارنة بين بطلته والشخصية المرسومة في اللوحة، وذلك من خلال وضعه صورة اللوحة في مشاهد الفيلم، مرات عدة. ولكن يبدو، أن احداً خلال مشاهدة الفيلم لم ينتبه الى الإشارة، في شكل جيد، ما اقتضى تدخل المخرج. مهما يكن من أمر، تعتبر لوحة «غداء المراكبجية»، واحدة من أشهر لوحات بيار أوغوست رينوار، وأكثرها تعبيراً عن فنه، بل كذلك أكثرها انخراطاً في تيار الانطباعية الذي كان منذ بداياته واحداً من أبرز أركانه، وأكثرها تقيداً بقوانين تلك الانطباعية حتى وإن غلب حضور العنصر البشري في اللوحة، حضور عنصر الطبيعة. وهذا الأمر برره دائماً عدد من كبار النقاد والباحثين الذين قالوا: بل ان الطبيعة حاضرة بقوة، وربما أقوى من حضورها في أي لوحة انطباعية أخرى، ولكن من خلال ذلك الحضور البشري، الذي أتى مندمجاً تماماً في الطبيعة ومعبراً عن حريتها المطلقة. رسم رينوار هذه اللوحة بين عامي 1880 - 1881، لينجزها ويعرضها في عام 1881. وهي، على رغم ان اسمها يوحي بغير ذلك، تمثل في الأساس، جلسة غداء في يوم ربيعي مشرق على شرفة مطعم كان يقصده الفنانون في ذلك الحين ويدعى «بيت فورناز» (وقد رسمه رينوار نفسه في لوحات عدة له، كما رسم مبدعون آخرون مشاهد فيه، لذا حوّل لاحقاً الى متحف للفنون الانطباعية). والحاضرون في هذه الجلسة، هم في أكثريتهم من رفاق رينوار وزملائه في الرسم، ومنهم الرسام غوستاف كايبوت، الجالس في مقدم اللوحة، كما ان من بينهم الحسناء آلين شاريغو، التي تشاهد هنا في مقدم اللوحة تداعب كلباً. من الواضح هنا ان رينوار، في هذه اللوحة التي استغرقه تنفيذها شهوراً طويلة، سعى الى ان يلتقط أكبر كمية ممكنة من الضوء، مخففاً من التظليل، ومن اللون الأسود قدر الإمكان، حاصراً الجزء الأكبر من هذا اللون في بعض الثياب أو ظلالها. ومن البديهي القول هنا، ان الضوء إنما يغمر المكان والأشخاص الموجودين فيه، بفضل الانفتاح الكلي للشرفة على العالم الخارجي، وهو انفتاح أكده رينوار من خلال الزاوية التي آثر ان يموضع نفسه فيها كي يلتقط المشهد بأفضل ما يكون، غير آبه بواقع ان جلسة مثل جلسته، تجعل الضوء الغامر يأتي من خلفية اللوحة، أي في مواجهة وجهة نظره، كان يجدر بها ان تجعل الشخصيات الناظرة نحوه والمديرة ظهرها الى مصدر النور، تبدو مظللة بعض الشيء. وكما يقول بنفسه على أي حال، كان رينوار لا يريد للوحته ان تكون واقعية تتمسك بحذافير المنطق، بل انطباعية تري الأمور (الوجوه هنا) كما يريدها ان تكون، تماماً كما لو ان واجهة المطعم (التي لا نراها) تتألف من مرآة كبيرة تعكس النور الآتي من خلفية اللوحة رادّة إياه الى الشخصيات تنيرها كلياً. ولعل في إمكاننا ان نقول هنا، مع بعض دارسي فن رينوار، ان الصدريات التي ترتديها بعض الشخصيات الرجالية، إنما تبدو هنا وكأنها عاكسات للنور تستقي الكم الأكبر منه من نور الخارج، لتعيد توزيعه على الشخصيات، في شكل يتلاءم تماماً مع توزّع هذه الشخصيات في المكان توزعاً يلغي الحواجز في ما بينها في شكل خلاّق. واللافت ان الرجل الواقف في خلفية اللوحة معتمراً قبعة غامقة عالية، هو شارل افروسي، ناشر مجلة «غازيت الفنون الجميلة» الذي كان مناصراً كبيراً للانطباعيين. اما الشخص الذي يتحدث إليه افروسي، فكان على الأرجح جول لافورغ، الذي كان في بداياته شاعراً وناقداً فنياً... ويمكن طبعاً مواصلة تخمين هوية الشخصيات وكلها من الشعراء والفنانين، لكن المهم هنا هو تقديم رينوار لها بصفتها شخصيات مراكبجية، في العنوان، ولكن إضفاء هذه الصفة على البعض، زياً وقبعة وتصرفات ايضاً. ومثل هذا الأمر لم يكن بالجديد بالنسبة الى رينوار الذي دائماً ما اعتاد ان يستخدم أصدقاءه وأهله ومعارفه في شكل عام كموديلات للوحاته. ولعل عزاء هؤلاء بالنسبة الى هذه المهمة التي يعهد بها إليهم رسامهم هذا، هي انهم يستخدمون هنا، ليس كمجموعة إنما كأفراد... إذ، بعد كل شيء، تبدو هذه اللوحة وكأنها تجميع لبورتريهات تصور أناساً متكافئي القيمة والمكانة، ويلوح هذا - طبعاً - من خلال ما تفعله كل شخصية، وهو فعل يعطيها خصوصية معينة تجعلها داخل اللوحة الجماعية من ناحية، وخارجها من ناحية أخرى: فآلين تلاعب كلبها غير آبهة بالمشهد ككل حتى وإن كانت تشكل جزءاً أساساً منه. وشبيهة اميلي تعيش لحظتها متفردة، حتى وإن كان خلو اللوحة منها - لو كان حاصلاً - سيكشف فراغاً كبيراً. وجلسة كايبوت تحمل كل دلالاتها التعبيرية، ولكن المكانية ايضاً، وكذلك حال القبعات، سواء أكانت غامقة اللون (قبعات أعيان أو شخصيات مرموقة) أو فاتحته (قبعات البحارة أو زملاء رينوار الذين يقومون هنا بدور البحارة، أو سائقي المراكب). كل هذا أعطى اللوحة حيويتها اللونية، في الوقت الذي أعطى تركيب المشهد حيوية في الحركة، تنطلق من يد الشخص الواقف عند السياج أول اللوحة الى اليمين، وصولاً الى الزاوية العليا المقابلة والتي تمهد لها قبعة رجل وأخرى لامرأة في الخلفية اليسرى للمشهد، أن الحركة بين الزاويتين تسير في خط متواصل خالقة دينامية خفية هي التي أضفت على هذه اللوحة سحراً بديعاً. عندما رسم بيار أوغوست رينوار (1841- 1919) هذه اللوحة، كان في الأربعين من عمره، وكان بلغ ذروة تألقه وتألق فنه، وصارت له فرديته المطلقة وسط جماعة الانطباعيين، ناهيك بأنه، كان بدأ يعرف بصفته الأكثر إقداماً على رسم البورتريهات بين الانطباعيين. ومن هنا لم يكن صدفة أن يرى كثر من الدارسين في هذه اللوحة، تعبيراً عن وجود بورتريهات عدة في مكان واحد، على النمط الذي كان سائداً في فن الرسم الهولندي عند مفتتح عصر النهضة في ذلك الحيز الجغرافي الذي كان أول من أنسن اللوحات الفنية، بجعله الإنسان في مركز الصدارة منها. وفي شكل عام عُرف رينوار بأنه الأكثر رهافة في تعاطيه مع المرأة في لوحاته، بحيث ان المرأة شكلت لديه دائماً الموضوع الأثير، كما كانت الحال مع اثنين من أسلافه الكبار: بيار بول روبنز، وأنطوان واتو. وحتى في اللوحات الجماعية، عرف رينوار دائماً كيف يجعل المرأة المرسومة تحتل مركز الصدارة. وهو أورث هذا الشيء الى ابنه جان رينوار، الذي سيصبح منذ ولادة فن السينما، واحداً من كبار مبدعي هذا الفن. واللافت ان جزءاً اساسياً من فن رينوار الابن، السينمائي، ارتبط عضوياً بفن رينوار الأب، التشكيلي، أو هذا ما أكده على الأقل معرض أقيم لفن الاثنين معاً، في باريس، قبل سنوات قليلة، وكانت فيه مكانة أساسية للمشابهة بين بعض أجمل المشاهد في افلام جان رينوار، وهذه اللوحة خاصة من لوحات بيار اوغوست رينوار.

المصدر: جريدة الحياة\ ابراهيم العريس، مقال نشر بالجريدة بعنوان " غداء المراكبجية» لبيار أوغوست رينوار: الضوء الآتي من كل مكان"
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 805 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

55,664