تستمد اللغة مقوماتها من فكر وحضارة أقوامها، ولكل لغة سياقها التاريخي، ومنابعها الفكرية الخاصة بها، وقواعدها النحوية والصرفية الضابطة لها.. ويمثل اللسان في الأمة القاسم المشترك في كيانها، والمعبر الأمين عن حقيقتها الدينية والحضارية والإبداعية.


وفي هذا السياق، تعتبر اللغة العربية وعاء ومحضن ضميرنا، وتعكس منحنيات تفكيرنا واجتهادنا أو خمولنا. كما تعتبر أقوى أداة للتعبير عن ديننا، وعبقريتنا وهويتنا.

لسان القرآن ومهاده:

تتميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات السامية، بأنها لسان القرآن الكريم، الذي منحها قوة على قوة، ومتن بنيانها، وهي اليوم أغنى لغة في العالم في مفرداتها، ودقة تعبيرها، وهي أصبر وأجلد لغة على كيد أعدائها.

يقول العالم اللغوي إرنست رينان ERNEST REANAN إن اللغـة العـربية بدأت فجـأة على غاية الكمال، وأن هذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب تفسيره، وقد انتشرت هذه اللغة سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة لم يدخل عليها منذ ذلك العـهد إلـى يومـنا هـذا أي تعديل مهم، فليـس لها طـفولــة ولا شيخوخة، إذ ظهرت أول مرة تامة مستحكمة.

وينظر الشيخ محمد الغزالي  إلى اللغة العربية من منظار ديني، حيث كتب يقول: "فلغة الرسالة الخالدة، يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها، ولدى الناس أجمعين، فإن الله باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان، قد أعلى قدرها وميزها على سواها ".

ويقول أيضًا: "والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن الكريم وسياجه، فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف "

والقرآن كتاب يجـب أن ينـظر إلـيه كل عربـي عـلى أنـه منـهج اللغة الأعلى الذي أصفى مناهلها وأعذب مـواردها (...)، وهو فـي اللغة العربيـة تاج أدبـها وقامـوس لغـتها، ومـظـهر بلاغـتها، فلا عجب إذا ما أَذْعَنَ البلغاء الفصحاء لإعجاز القرآن طوعًا أو كرهًا، حتى أصبحت لغته هي أصح وأدق الأصول اللغوية والبيانية، وصارت هي المقياس والميزان لكل ما يراد للاستشهاد على صحة عربيته من نصوص الأدب الجاهلي

وتتيح لغة القرآن للإعلام المكتوب بالعربية أسباب استقامة أسلوبه، لأنها تتسم بمزايا جمالية وبلاغية، لا تتوفر في أي لغة أخرى، فالأسلوب القرآني يوافق الكلام لمقتضى الحال، ويناسب المقام، ويعتمد الإيجاز البالغ، بدون أن يخل بالـمقصود، ويستخدم الإطناب غير الممل، والتراكيب الشديدة التنوع .. وإن تدبر رجل الإعلام لغة القرآن، لا يصقل أسلوبه فحسب، بل يكسبه الأدوات التعبيرية الملائمة لكل حال ولكل حدث...

لقد أبدع الشيخ محمد الغزالي، وهو يصف الأسلوب القرآني: "...ومع رفعة المصدر الذي تحس أن القرآن جاء منه، إحساسك بأن هذا الشيء أتى من بعيد، فإنك ما تلبث أن تشعر بأن الكلام نفسه قريب من طبيعـتك، متجـاوب مع فـطرتك، صـريح في مـكاشفـتك، بـما لك وما عليك، متلطف في إقناعك، فما تجد بدًا من انقيادك لأدلته، وانفساح صدرك لتقبله ".

سمات اللغة العربية:

يشير الدكتور علي عبد الواحد وافي في كتابه "فقه اللغة " إلى أن اللغة العربية تتوافر على عاملين، لم يتوافرا لغيرها من اللغات السامية:

لقد احتفظت العربية بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول، وبقي فيها من تراث هذا اللسان ما تجردت منه أخواتها السامية، فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة، يرجع أهمها إلى الأمور الآتية:

1- أنها أكثر أخواتها احتفاظًا بالأصوات السامية..

2- أنها أوسع أخواتها جميعًا، وأدقها في قواعد النحو والصرف..

3- أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات..

اللغة العربية، تتميز بغزارة في مفرداتها، ودقة في قواعدها، وسمو ومرونة في أساليبها، وثروة في آدابها وتراثها، وقدرة الإبانة عن مختلف نواحي التفكير والوجدان ، ومن تلك السمات نذكر ما يأتي

1- أن فـي اللغـة العـربية من الـمقومات والدقة الصارمة والأسس ما يخولها لأن تكون قادرة على أخذ مكانها الصحيح في هذا العصر.

2- الألفاظ العربية هي أوزان موسيقية، والكلمات ذات الوزن الموسيقي الواحد لها دلالة معنوية محددة.

3- اللغة العربية هي اللغة الحية الوحيدة في العالم، التي بقيت دون تغيير في كلماتها ونحوها وتراكيبها منذ أربعة عشر قرنًا مضت.

4- إن اللغة العربية فيها من القواعد الرصينة والأساليب البلاغية ما يضبط الدلالة على المعاني الكثيرة المعتادة.

5- معظم مشتقاتها تقبل التصريف، إلا فيما ندر منها، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها، ويجعلها أيضًا أكثر تلبية لحاجة المتكلمين.

ولعل من أخص ما ميز اللغة العربية استعمالها الدقيق للفظ، حتى أن هذه الدقة في الاستعمال اللغوي قد عنيت بها كثير من كتب اللغة قديمًا، فأسست بذلك منهجًا في الدرس اللغوي

ومن ضروب الدقـة ما يظـهر فـي اقـتران الألفـاظ بعضها بـبعض، فقد خصص العرب ألفاظًا لألفاظ، وقرنـوا كلمات بأخرى، ولم يقرونها بغيرها، ولو كان المعنى واحدًا، فقد قالوا في وصف شدة الشيء:

- ريح عاصف

- برد قارس

- حر لافح

وفي الوصف بالامتلاء:

- كأس دهاق

- بحر طام

- نهر طافح

- واد زاخر

- فلك مشحون

- مجلس غاص.

يقول الدكتور محمد المبارك رحمه الله في مؤلفه (فقه اللغة ): "إن دقة التعبير والتخصيص، سبيل من سبل الفكر العلمي الواضح المحدد، تحتاج إليه كل أمة في تربية أبنائها على التفكير الواضح الدقيق، الذي يعدهم للعمل والبحث العلمي ".

والتخصيص اللغوي، والدقة في التعبير، أمور لا بد منها للصحفي لوصف دقائق الأشياء، وإبراز خصوصياتها وطبيعتها الـمتميزة، وكذلك للتعبير عن الـمشاعر والعواطـف والانفـعالات، والألـوان فـي شتى صورها..

يقول الأستاذ محمد مراح: لقد وجدنا المصطلحات الآتية: (في كتاب التربية البدنية ) كرة القدم: (ضربة مرمى - ضربة جزاء - ضربة البداية )، ومن الجدير بالذكر أن هذه المصطلحات، قد وردت على أحد المـجامع اللغـويـة العربـيـة، فاسـتـقر الــرأي فـيها على استبدالها كالآتي: (ركلة هدف، ركلة العقوبة، ركلة البداية )، والملاحظ استبدال (ضربة ) -بـ (ركلة )، ومرد هذا الاستبدال دقة الاستعمال اللغوي، وقد ورد في "الصحاح للجواهري ": "الركل: الضرب بالرجل الواحدة ".

إننا الآن ندفع ثمن ما أصاب لغتنا العربية إبان عصور الانحطاط، الحقبة الاستعمارية، وإذا نحن لم نجتهد ونكد لاستدراك الأمر، فإن الأجيال القادمة ستصلهم لغتنا -بدون شك - وهي في أسوأ حال.

وكما يقول الدكتور محمد المبارك في كتابه (خصائص العربية ): "إن العربية قد أصيبت في عصور الانحطاط بمرض العموم، والغموض، والإبهام، كنتيجة لافتقاد وظيفتها الهادفة في هذه العصور، فضاعت الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة، فغدت مترادفة، وكثر استعمال الألفاظ في المعاني المجازية وصرفت عن معانيها الأصيلة، فضاع الفكر بين الحقيقة والخيال، وزالت الخصائص المميزة والفروق الفاصلة، وأصبح لكل موضوع مهما تكرر قوالب من اللغة ثابته، وأداة اللفظ لا تتغير، وتعابير مصوغة لكل مناسبة أو موضوع، تنقل وتلصق كلما تكررت تلك المناسبة، أو عرض ذلك الموضوع: وصف حديقة، أو تعزية صديق، أو التعبير عن فرح، أو طرب، لم يتغير الكلام، أيًا كانت تلك الحديقة، وفي أي بلد، وأيًا كانت مناسبة التعزية أو الفرح، وفي ذلك قتل لخصائص اللغة العربية ومزاياها الإعلامية، من إبراز المقومات والمزايا الخاصة والدقائق الخفية ".

ونحن اليوم أحوج مانكون إلى بعث اللفظ الدقيق من لغتنا، وإحياء الفروق بين الألفاظ، لتكون لدينا لغة تصلح أن تكون أداة للإعلام العربي في مواجهة التقدم الهائل، وانطلاق وسائل الاتصال بالجماهير

إن العربية التي قال عنها أحد أعلام الفكر الإسلامي: إنها اللغة التي لا يحيط بها علمًا إلا نبي، لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تكون أداة عرقلة للتعبير الصحفي، فهي تحتمل قوة الوصف، وغور الإحساس، وشدة التنوع، ودقة المقصد، وأصالة الشيء.

ومن الأكيد أن الصحفي الذي يكون زاده اللغوي ضحلاً، سينتج -بلا ريب - نصوصًا مشوهة، تنقصها الصلابة والدقة وقوة التعبير، وقد نعيب لغتنا والعيب فينا.. وهكذا، فإن اللغة العربية جعلت للصحفيين ذلولا فما عليهم إلا المشي في مناكبها.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 349 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

245,542