أن اللغة هي من أهم أدوات التشكيل الثقافي، بل من أهم عوامل تشكيل الأمم، إن لم نقل أهمها، ذلك أنها وعاء الفكر وأداة التعبير والتواصل والتفاهم بين الناس، توثق صلاتهم، وتقوي روابطهم، وتبني ثقافتهم، وتشد وحدة اللحمة بينهم، وهي مستودع ذخائر الأمة ومخزونها الثقافي وتراثها، الذي يجسر بين حاضرها وماضيها، ويصل حاضرها بمستقبلها، ويحدد قسمات شخصيتها وملامح هويتها.. إنها الوطن الثقافي الذي يصنع الوجدان، ويحرك التفكير، ويترجم الأحاسيس، ويغير السلوك، ويسهل تبادل المعارف وتلقي العلوم.. وهي المسبار الحقيقي لإدراك أغــوار الشخــصية وميـولها واتـجاهاتها، وتـحديد أهدافـها، فكثيرًا ما يقال: "تكلم حتى أراك ".
كما أن كيفية اختيار الألفاظ وأدوات التوصيل والتواصل يؤثر في بناء الملكة العقلية والقدرة التفكيرية، حتى يقال عن الحكيم: "لسانه من وراء عقله "، ويقال: "الأسلوب هو الشخص "، كما يقال عن الشخص الخفيف الباهت المهزوز: "فلان يلقي الكلام على عواهنه ".
ولا نرى أنفسنا بحاجة إلى التأكيد على علاقة التعبير بالتفكير ودوره في بناء العقل، وتنظيم المحاكمات العقلية وإسعاف العقل، وتزويده بالأوعية المطلوبة لنشاطه، وإغنائه بمجموعة مفردات خصبة ومرنة تحول دون انحباس المعاني أو ابتسارها، وتمنح العقل الرحابة والانطلاق في التفكير في فضاء من طلاقة التعبير، لذلك يقال: "من تكلم بلسان قوم فكر بعقلهم ".
ونظرًا لأهمية اللغة ورسالتها ودورها، الذي أتينا على طرف منه، نشأت حولها علوم ودراسات متعددة من مثل: علم اللسانيات، وعلم اللغة المقارن، وفقه اللغة، والأجناس الأدبية في النثر والشعر والرواية والمقالة والقصة، وسائر الأجناس الأدبية الأخرى، إضافة إلى النقد الأدبي، الشريك الرئيس في البناء اللغوي الذي تمحور حول الأساليب والمناسبات وطرق الأداء، وعلم القواعد أو النحو، لصون اللغة وحمايتها والامتداد بها بشكل سليم، وعلم الصرف الذي يبحث في أصول اللغة وأوزانها، والاشتقاق والتركيب والمزج والنحت، الذي يكسب اللغة المرونة، ويمكنها من القدرة على الاستجابة للتطورات والمتغيرات الاجتماعية، وعلم القراءات، والتجويد، علم مخارج الحروف...الخ.
ولعل في مقدمة هذه العلوم جميعًا، أو ثمرة هذه العلوم جميعًا، يأتي علم البلاغة بفروعها الثلاثة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع.
والبلاغة في أبسط مدلولاتها: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ذلك أنه لكل مقام مقال، أو لكل حال ما يناسبه من الكلام، أو من توفر مواصفات خاصة للخطاب، لذلك فدراسة الحال، بكل مكوناته، واستيعابه، ومن ثم اختيار الألفاظ والأسلوب المناسبين اللذين يحققان الهدف، ليس بالأمر الهيّن.. فإذا لم تراع البلاغة أو مقتضى الحال في الحديث، فقد تتحول اللغة وسوء اختيار ألفاظها وأسلوبها إلى سبيل فتنة وانتكاس، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو سيد البلغاء: "حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، أَتُحِبُونَ أن يُكَذَّبَ اللهُ ورسولُه " (أخرجه البخاري)، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تَبلُغه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة " (أخرجه مسلم)، وورد التحذير من سحر القول وزخرفه الذي قد يغيِّب الحقائق ويزيفها، ويقلب الحق باطلاً والباطل حقًا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا " (أخرجه البخاري)، و"إن من الشعر لحكمة " (أخرجه ابن ماجه).
فإذا كانت اللغة بهذه القدرة الخارقة في التأثير والتشكيل الثقافي، أو بناء الشاكلة الثقافية، التي تعتبر الموجه لرؤية الإنسان والمنطلق لحركته وتعامله مع الناس ومواصلته مع تاريخه، أي بناء وجهته في الاتجاهات جميعًا، الماضي والحاضر والمستقبل، كانت العامل الأهم في تشكيل الأمة وتفاهمها وتواصلها، وكانت من القلاع الأولى والحصون الثقافية والاجتماعية والتراثية المستهدفة، ذلك أن استهدافها يعطل نمط تفكير الأمة ، ويلغي عقلها ويطمس شخصيتها، ويعبث بثقافتها، ويقطع أوصالها، ويجفف ينابيعها، ويجتث جذورها، ويتركها في مهب الريح، وعلى الأخص عندما تكون اللغة لغة العقيدة والقيم، والثقافة والحضارة، والعلم والتعليم، والعبادة، كاللغة العربية.
وقد لا يتسع المجال هنا لاستقصاء الأساليب والأدوات والمكائد والمحاولات المستمرة التي استهدفت العربية -ذلك أن الاستقصاء بطبيعة الحال يكاد يكون مستحيلاً، لتجدد الوسائل والأساليب والمحاولات وتعددها- وإنما هي محاولة لاستقراء بعض النماذج المطروحة على الساحة في هذا المجال، وليس آخرها على كل حال قضية الـحداثة، ومحـاولتها هدم الـمعمار اللغوي، وتجاوز بناء الـجملة ودلالة المصطلح، وكسر الأوزان الشعرية، والدعوة إلى إلغاء قواعد اللغة بنحوها وصرفها، وإنتاج ذلك الخليط الهجين من المفردات والتراكيب، وتغميض العبارات والألفاظ بضرب من القول والكتابة هو أشبه بالهذيان، الذي يضيع الملامح ويلغي القسمات، ويقيم أنماطًا لغوية وهلوسات عقلية متداخلة، لا طعم لها ولا لون ولا رائحة ولا معنى، وإنما هي نوع من الرسم بالفراغ ومن الفراغ للصور المشوهة الأقرب إلى الذاتية والباطنية، التي تؤدي إلى الانكفاء على الذات أو القراءة بأبجدية خاصة، لا تؤهل لبناء ثقافة أو أمة، ولا تسهم بتفاهم، ولا توثق صـلة، ولا تؤدي إلى تواصل أو تبادل معرفي أو فكري، إنـما هي هلوسات فكرية -كما أسلفنا- تقذف إلى الضياع، وتؤدي إلى القطيعة المعرفية.
وليس أقل خطورة أمـر الـمفاضـلة، أو محاولة التمييز بين اللغة الفصحى واللغة العامية، أو بين الفصحى واللهجات المحلية، واعتبار العامية هي اللغة الأكثر سلاسة وانسيابًا، والأيسر في التفاهم والتعارف، وأن الفصحى بنحوها وصرفها ومخارج حروفها هي لغة صعبة معقدة في تعلمها وتعليمها، لذلك أصبحت معزولة عن الحياة، محنطة في المعاجم والكتب القديمة، فاقدة للقدرة على الإرسال لصعوبة تعلمها والإحاطة بها، وفاقدة الأهلية في الاستقبال لعدم الإمكانية على استقبال ألفاظها المتجهمة وإدراك معانيها الغريبة على الأذن، البعيدة التناول، ذلك أن وظيفة اللغة في نظرهم تقتصر على تحقيق التوصيل والتفاهم بين المرسل والمتلقي، ومادام هذا التفاهم يتم بسهولة ويسر فلا داعي للتعنت والتنطع والتقعر في اختيار الألفاظ، وإنهاك العقل في المحافظة على بنائها ورصفها، وإثقال الأذن باستئناسها، فاللغة كائن حي ينمو ويشيخ ويموت، فالفصحى في نظرهم أصبحت في عداد الموتى!! فلماذا المحاولات اليائسة لبعثها وإحيائها؟!
وقد تكون الإشكالية الكبيرة في هذه النظرة السطحية والساذجة والمحزنة لقضية اللغة ودورها في التشكيل الثقافي، غياب الإدراك لأثر التعبير في التفكير، ودور اللغة في التواصل مع التراث والتاريخ والعقيدة، ورسالتها في وحدة الأمة وتماسكها واستقرارها وامتدادها، وتحقيقها للتواصل بين الأجيال، واحتفاظها بذاكرة الأمة ومخزونها الثقافي، وما إلى ذلك من الأبعاد الكثيرة التي يصعب استقصاؤها والإحاطة بها في هذه العجالة.
ذلك أن الاعتراف بالعامية وتسيدها هو محاولة مكشوفة لإقامة الحواجز بين الأمة وكتابها، مصدر عقيدتها ومعرفتها وفكرها، وتحقيق القطيعة الكاملة مع التراث، والعجز عن فهمه وإدراكه والإفادة منه، لأن العامية ستبتعد عن الفصحى شيئًا فشيئًا وستغادرها نهائيًا، وتنشأ فيها عاميات لا تتوقف.
يضاف إلى ذلك أن موضوع العامية سيؤدي إلى سيادة لهجات وعاميات متعددة سوف تقيم حواجز في داخل الأمة، وتمزقها، وتحول دون تفاهمها وتماسكها، وتقضي على ماضيها، لأن التراث والتاريخ يصبحا منطقة حرامًا بالنسبة للعامية، بحاجة إلى ترجمة، كما أنها تقضي على وحدة الأمة، وتمزق حاضرها، وتقيم حواجز نفسية أمام الفصحى، ولا تصلح لأن تكون لغة علم وحضارة، لأنها لغة جهل وأمية ومحاكاة صوتية.
والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الأمية هي طريق انتشار العامية وشيوعها وامتدادها، وأن السبيل لمحاصرتها واسترداد هوية الأمة اللغوية والثقافية هو القضاء على الأمية ومحوها، ومحاولة تطوير وسائل وأساليب العربية وإشاعتها، والتدريب عليها، وإبراز قدرتها على استيعاب جميع الحالات والتحولات الإنسانية، وامتلاك القدرة على التعبير عنها، وإدراك وظيفة اللغة ودورها في حياة الأمة، والتواصل لأجيالها، وكونها إحدى القلاع الثقافية.
والذي لا شك فيه أن انتشار العامية لم يأت من فراغ، وإنما امتد في فراغ لم يملأه دعاة الفصحى.. فلماذا انتشرت العامية؟ وهل السبب كله كامن في العامل الخارجي، أم أن القابلية لانتشارها سبقت انتشارها، وهيأت له؟ ذلك أن اللغة الفصحى لسبب أو لآخر انحسرت في زوايا تعليمية معزولة ومعاجم ومجامع لغوية رضيت لنفسها الانزواء والسير خلف المجتمع، وليس أمامه، وأصبح كل همها النظر في بعض المصطلحات والألفاظ المعاصرة لإقرارها، والتفتيش عن مسوغات لغوية لها، أو الاقتصار على توجيه النقد للأخطاء اللغوية بعيدًا عن الإنتاج الإعلامي والثقافي السليم.
أما امتلاك القدرة على استيعاب تطور المجتمعات، وتنوع مجالاتها، وما تستدعي من توليد وتسييد مصطلحات ومفردات وخطاب يشكل أوعية للسانها ومجالاً رحبًا لتفكيرها وإبداعها، فلم يتوفر إلا بالأقدار البسيطة أو الفردية، إذا أحسنا الظن.
وقد لا يسوغ لنا العتب على لغة الإعلام، وقد لحقت الإصابات البالغة بلغة التعليم، معقل العربية وحصنها المنيع، حيث بدأ من عندها الخلل والإصابات البالغة للغة، وأصبح حال اللغة في مجال التعليم،كما يصورها أحد الحمس الذي قفز إلى المحراب واعظًا، بدون مؤهل، وقال: "ظهر الفساد في البرُ والبحرُ "، فرد أحد الحاضرين: "وفي المحراب ".
لقد أصيبت الفصحى في محرابها، وأدى ذلك إلى انعزالها بشكل طبيعي، فأصبحت دروس العربية تدرس بالعامية، وتحولت دراسة العربية من دراسة النحو والصرف والبلاغة والقواعد وسلامة الألفاظ إلى التمركز حول الأجناس الأدبية فقط، التي قد تمر في المراحل الدراسـية الـمتعددة بدون ضوابط لغوية، حتى إن الكثير من أصحاب الشهادات العالية أو العليا، من المتخصصين بالأدب العربي، لا يستطيع أن يقيم لسانه ولا قلمه بجملة صحيحة.
ولا بد من الاعتراف أن من أسباب الإصابة الذي سمح بامتداد العامية والوصول إلى حالة الانشطار الثقافي، الذي نعاني منه بسبب الانشطار اللغوي، تحوّل الوسائل التي وضعت لحماية العربية والمحافظة عليها إلى غايات بحد ذاتها، فكثيرًا ما تتوقف عندها الجهود، دون النظر في دراسة الأحوال وتطوير مواصفات الخطاب وطرائق التعليم بحسب ذلك الحال.. حتى تلك الوسائل لم تتطور دراساتها وأدوات توصيلها والتدريب عليها، وإنما بقيت على حالها، على الرغم من تطور التقنيات التربوية والتعليمية، فكادت تتحول إلى معوق وحاجز يحول دون الإقبال على اللغة، تعلمًا وتعليمًا وتخصصًا، حتى كادت بعض هذه الوسائل أن تنقرض من الساحة التعليمية والتربوية، وتنحسر في بعض الزوايا المعزولة.
إن تحوّل الوسائل إلى غايات، قلب المعادلة التعليمية والتربوية.. فالعالم جميعه يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ، وقد نفني عمرنا في تعلم كيفية القراءة وضوابطها دون أن يبقى في العمر بقية لنقرأ وننتج.. ونحن هنا لا نقلل من هذه الجهود العظيمة التي حفظت اللغة وحمتها، وحالت دون تمييعها وإخراجها عن أصولها باسم تطورها، لكن الذي ندعو إليه أن تبقى الجهود ضمن المساحات المضبوطة النسب، وأن تتركز على تطوير تعلمها من جانب، ومن جانب آخر صرف الكثير من الجهود لتحقيق الغايات والبحث في مواصفات الخطاب بحسب المطلوب، ليكون قادرًا، بما يستخدم من مفردات ومصطلحات وأساليب، على توصيل ما يريد، تعلمًا وتعليمًا وإعلامًا، مرئيًا ومسموعًا ومكتوبًا.
نشرت فى 20 ديسمبر 2011
بواسطة ketaba
عدد زيارات الموقع
245,533
ساحة النقاش