لعل من الإشكاليات الكبيرة في إطار اللغة العربية اليوم، تعلمًا وتعليمًا وإعلامًا ونموًا وقيامًا بدورها في التشكيل الثقافي، ذي الموارد والمعارف المتعددة، هي محاولة النظر إليها والتعامل معها على أنها تفتقر إلى المصطلحات العلمية والمراجع العلمية، التي يحتاجها الدارس والباحث، لذلك فهي لا تخرج عن كونها لغة دين وممارسة عبادة معزولة عن المجالات العلمية، حيث لامفر لنا اليوم من الإقرار بالازدواج اللغوي بين لغة العلم ولغة الدين، لغة المعهد ولغة المعبد، بحيث تُخْرَج العربية من المدارس والمعاهد والجامعات ومراكز البحوث والدراسات والمخابر والمكتبات وتنزوي في المساجد والمعابد، شأنها في ذلك شأن اللغة السريانية القديمة، التي باتت لا تخرج عن أصوات يرددها الكاهن، وقد يعلمها أو لا يعلمها، لا هو ولا المستمعون.
وفي تقديري أن هذا ليس ذنب اللغة وقدرتها على استيعاب العلوم والفنون وإبداع المصطلحات، وإنما ذنب الأمة المتخاذلة المتخلفة، العاجزة عن الامتداد والنمو العلمي، الأمر الذي انتهى بها إلى العيش على موائد (الآخر )، الذي لابد أن تأكل طعامه وتستهلك أشياءه وتتكلم بلسانه، وتفكر بعقله، وتعفي نفسها من الـمسـؤولـية، وبـذلك تساهم بإخراج لغتها من الحياة، لأن اللغة كائن ينمو مع الأمة، ويتوقف ويتضاءل حال موتها أو سباتها.. ولولا القرآن وكتاتيبه ومراكز تحفيظه ومتابعة تلاوته في العبادات اليومية -وتلاوته عبادة - لخرجت اللغة العربية من الواقع تمامًا.
والحقيقة التي لابد من الإشارة إليها، أن العربية تتميز عن سائر اللغات بأنها ولدت كاملة، كما يقرر الكثير من علماء اللسانيات، وأنها بمفرداتها الزاخرة، ومترادفاتها القادرة على التعبير عن الأحاسيس والحالات الدقيقة والمتجاورة المعاني، وقدرتها على التصريف والاشتقاق، مؤهلة لأن تكون لغة العلم الإنساني بدقائقه وصياغة مصطلحاته.
بل لعلنا نقول: إن عبقرية اللغة تتمثل في قدرتها على احتواء وتحديد التعاريف والمصطلحات المتنوعة في العلوم الإنسانية أكثر بكثير من اللغات الأخرى التي أمكنها التعبير عن المصطلحات والــتعاريف والـمـبتـكرات في العـلـوم التـجريـبية، لأنـها فــي النهايـة لا تخرج عن تسميات ورموز جامدة، بل وحروف ترمز إلى عناصرها.
إن هذا المدخل الخطير في التفريق بين لغة العلم ولغة الدين، كإحدى المحاولات لمحاصرة العربية، وإبعادها عن المدارس والمعاهد والمخابر ومراكز البحوث، وتركها للمعابد والعبادات، والتمييز بين لغة العلم ولغة الدين، سوف يؤدي بالعربية إلى العزلة التامة عن حياة الناس، وعن استعمالاتهم اليومية لها، ويسهم بغياب التحدي الذي يستفز الأمة للدفاع عن لغتها طالما هي ماتزال لغة العقيدة والعبادة.
كما ينتج عن هذا التفريق أيضًا أن التكلم بغير العربية يشكل انقطاعًا عن المخزون الثقافي والعلوم الأساسية.. وأخطر من ذلك، أنه يقود إلى التفكير بعقل من نتكلم بلسانهم، حيث لا تنكر العلاقة بين التفكير والتعبير -كما أسلفنا- ذلك أن الانتهاء إلى (الآخر ) في الـمرجع والكتاب والمنهج في عملية التعلم والتعليم، هو ارتهان ثقافي يتجاوز الانشطار، وينتهي بالأمة لأن تبقى دائمًا في مقاعد التلاميذ (للآخر ).
ولابد من الإشارة إلى أن الجهود البسيطة والمحدودة في مجال تعريب العلوم ومناهج التعليم والمصطلحات العلمية، واعتماد العربية في تعليم العلوم التجريبية، دليل على قدرة العربية، وشاهد إدانة للعدول عنها، ذلك أن أعداء العربية مايزالون يطاردون ويحاصرون تلك الجهود لحمل الدول والمؤسسات والجامعات التي تدرس العلوم بالعربية للعدول عنها واللحاق (بالآخر ).
ولعل من الإصابات الخطيرة أيضًا، التي تتركز حول العربية ومحاصرتها، الكلام الطويل العريض على صعوبة كتابتها، وصعوبة حروفها ورسمها وشكلها، وقواعدها ونحوها وصرفها، وأن الوسائل والتقنيات الحديثة جاءت كلها بالحروف اللاتينية، وأن الدخول إلى عالم "الإنترنت " و"الكمبيوتر " والطباعة وتقنياتها يتطلب إبدال الحرف اللاتيني بالعربي.. وفعلاً نجحت المؤامرة وتحولت بعض الشعوب الإسلامية إلى العدول عن الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني في لغاتها المحلية، فشكل ذلك قطيعة كاملة مع تراثها ومخزونها وتاريخها وصلاتها بالعربية والقرآن، والانتهاء إلى (الآخر )، باسم الحاجة للتعامل مع التقنيات، والعجيب الغريب أن ذلك لم ينطبق إلا على العربية.
أما الصينية مثلاً، بكل تشعباتها وتضاريسها، واليابانية بكل تعقيداتها، فلم تعان من الإصابة نفسها!! وحتى العبرية، اللغة التي كانت منقرضة، لم تعان من تلك الإصابة، لأن وراءها أمة تدرك أهمية اللغة ودورها في التشكيل الثقافي لعقل الأمة ووجدانها وهويتها ومواطنتها وتواصلها وامتدادها.
ولا شك عندنا أن نصيب العربية من الاستهداف كان كثيرًا وكثيرًا جدًا، ذلك أن العربية لغة العقيدة والعبادة والنص السماوي الخالد المعطاء، والتراث التاريخي والمخزون الثقافي، ووعاء ذاكرة الأمة، أو هي ذاكرة الأمة وأداتها الرئيسة في التشكيل الثقافي.. فهي لغة الدين، ولغة العلم، ولغة التربية، ولغة الإعلام والبلاغ لرسالة النبوة، فأية محاولة لزحزحتها عن مواقعها إلـغاء للأمـة الـمسلمة، التي لم تـتشكل بعـوامل جغـرافية أو لـونيـة أو جنسية أو اجتماعية أو اقتصادية، وإنما تشكلت من خلال كتاب، وانطلقت من خلال {اقر }، فكان كتابها معجزة بيانية تربوية إعلامية، وهي أمة العلم والفكر والقيم.
إن الارتقاء اللغوي منوط إلى حدٍ بعيد بالتطلع إلى محاكاة أسلوب المعجزة البيانية (القرآن )، وتلمس جوانب الإعجاز البياني الإعلامي فيه، وإدراك تنوع مواصفات خطابه بحسب المقامات والمحال التي يعرض لها.
إن هذا التطلع يمكن أن يمنحنا أقدارًا من إمكان توليد مواصفات لخطابنا تتناسب مع محله ومقامه ومناسبته وأهدافه.. قال سبحانه وتعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ... } (الإسراء:89) لذلك لابد أن نجيب، في العملية الإعلامية وغيرها من المجالات المتعددة، عن السؤال الكبير: "لماذا؟" فنحدد نوايانا ونوضح أهدافنا من العمل الإعلامي أو أي عمل آخر، ومن ثم نصل إلى السؤال: "كيف؟ " فنضع الخطط والبرامج، ونحدد الوسائل والأدوات التي تحقق أهدافنا، في ضوء إمكاناتنا والواقع الذي نتعامل معه، ومن ثم تحديد الإجابة عن "متى؟" وذلك لاختيار الزمن المناسب لأداء العمل.
ولا يفوتنا هـنا أن نذكر أن الإعلام اليوم أصبح مؤسسة تتـعامل مـع حـياة كامـلة، بكل مـا تعــني هـذه الكلمة، فهو مؤسـسة اقتصـاديـة لا تقتصر على أخبار نقل أسواق المال والأعمال والأسهم والشركات والتجارات والصناعات والمبتكرات، وترصد الأسعار والأسواق، وتقـوم بالإعـلان الـمغري بالاستهلاك، وتروج للسلع الـمتنوعة، وإنـما تتجاوز ذلك إلى الدراسات والتحليلات والاستشراف المستقبلي، وإقامة الندوات، واستضافة الخبراء، إلى درجة يمكن معها أن نقول: إن الإعلام أصبح صناعة اقتصادية ثقيلة، ومدرسة اقتصادية ذات تعليم مستمر، فالذي يملك الإعلام يملك التحكم بالأسواق والإنتاج والثقافة العالية، التي تحول دون المخاطرات المالية وتبصر احتمالات المستقبل.
وكذلك الشأن في المجال الاجتماعي، بكل تفرعاته ومجالاته، وعلومه، ومعلوماته، وأنماطه.
نشرت فى 20 ديسمبر 2011
بواسطة ketaba
عدد زيارات الموقع
245,535
ساحة النقاش