قد لا يتيسر للمرء أن يحصر في صفحات قليلة (أو حتى كثيرة) أهمية الكلام وخطورته في حياة الإنسان. فحياتنا، في الواقع، (مملوءة) بالكلام. فكم حرب أو خصومة قامت بسبب الكلام، وكم صداقة ومودة بنيت على الكلام.. فبالكلام ننقل خبراتنا وتجاربنا وأحاسيسنا إلى الآخرين، ومنهم نتعلم ونستفيد. ولو أحصى المرء مقدار الكلام الذي يصدره أو يسمعه كل يوم، لهاله كيف أنه يغرق-إذا صح التعبير- في بحر من الكلام.
لقد رافقت هذه الموهبة التي حبا الله بها الإنسان، رافقته منذ وجوده، بحيث إن واحدًا من التعريفات المشهورة للإنسان هو أنه (حيوان ناطق)، فجعل أهل المنطق الكلام فيصلاً (أو فصلاً) بين الإنسان وغيره. وعلى هذا لم نسمع بمجتمع بشري من الخرس.
يتسم الكلام بسمة أخرى، غير شيوعه وانتشاره بين بني البشر، وهي أنه يأتي إلى الإنسان متدرجًا، من غير أن يحتاج إلى دراسة منظمة منهجية لتعلمه. ومن هنا كان الكلام طبيعيًا.
فضلاً عن ذلك، يخترق الكلام حواجز الظلمة، والمسافة المكانية، فبإمكانك أن تحادث شخصًا في الظلام وهو يقف على بعد عشرة أمتار أو أكثر.
والخاصية المهمة التي يمكن أن نلاحظها، إن في الكلام خصوبة ودلالات قد نفقدها أو لا نحس بها إذا ما نقل الكلام بأسلوب آخر، كالكتابة.. فتعابير الوجه، وارتفاع الصوت، ولحن الكلام، والتشديد على لفظة دون أخرى...إلخ، هذه الأمور كلها قد تتوارى فيما إذا كان الشخص بعيدًا عن المتكلم، لا يراه ولا يسمعه.
ولتوضيح هذه المسألة الأخيرة، دعنا نتأمل في جملة جلية المظهر، غامضة في معناها الحقيقي. فإذا قلنا: محمد يحب العلم، فقد يتبادر إلى الذهن أن معنى هذه الجملة لا يحتاج إلى تفسير أو شرح. غير أن أدنى نظر فيها يكشف عن وجوه متعددة، وأوجه مختلفة تحملها، فمن الممكن أن تقال تلك الجملة سخريةً (بمعنى أن هذا الرجل هو آخر من يحب العلم)، أو استفسارًا، أو بمعنى أن محمدًا (يحب) العلم فعلاً، وليس كبعض زملائه الذين يؤدون واجبًا، وقد تؤكَّد كلمة (العلم) بمعنى أن محمدًا يحب العلم، لا المال مثلاً ...إلخ.
ولو كتبنا الجملة السابقة، وحاولنا أن نستشف معناها من غير أن نسمعها، فسنجد أنها هيكل يكاد يخلو من الحياة، قياسًا بطريقة نطقها. ولهذا نجد القصاصين والأدباء إذا ما ذكروا جملاً على لسان شخصياتهم، يزيدون بعد الجمل كلامًا تفسيريًا، مثل: قالها (أي الجملة أو العبارة) ساخرًا، أو (سأل مندهشًا) أو (مستهجنًا) أو (بريبة) ... إلخ.
يقودنا الكلام السابق إلى واحد من الفروقات بين الكتابة والكلام(1). فالكلام حي، خصب، في حين أن الكتابة حروف وهياكل. وتحتاج الكتابة إلى دربة ودراسة، قد تستغرق سنوات، في حين أننا لم نحس بتلك الحاجة إلى تعلم الكلام، فكأنّ الأخير جاء إلينا فطرةً وسليقة.
نستطيع أن نتفهم، لما سبق، كيف أن شعوبًا برمتها عاشت وانقرضت وهي لا تعرف الكتابة، ولكنها لم تفتقر إلى الكلام..
وقد جاء اختراع الكتابة في معظمه نقلاً للكلام من الميدان المسموع إلى الميدان المنظور. فهو نقل ما هو سمعي إلى بصري. فالكلام هو الأصل، مكانةً وزمنًا(2).
ولا أظن أننا في حاجة إلى التوسع في ذكر أهمية الكتابة وخطورتها في حياتنا. فبوساطتها أمكننا قراءة الكتب السماوية، والأحاديث الشريفة، وتاريخ أناس سبقونا بآلاف السنين. وها نحن نقرأ الجاحظ وكأنه بيننا، ونتعلم من الخليل ابن أحمد، وابن قتيبة، والطبري وغيرهم كُثْر. علاوة على اطلاعنا على آخر البحوث والدراسات في ميادين العلم المختلفة. وليس جزافًا تقسيم المؤرخين لتاريخ البشرية إلى قسمين: ما قبل التاريخ، وهو الذي سبق الكتابة والتدوين، والتاريخ الذي جاء بمجيئها. وما زلنا حتى هذه اللحظة، نضفي على الوثيقة المدونة قيمة قانونية لا ينالها الكلام المنطوق.
وههنا مسألة ترد الذهن، وهي العلاقة بين الكتابة والكلام المنطوق. فقد بدأت الكتابة في معظمها، كما قلنا، أو في تطورها اللاحق تجسيدًا بصريًا للكلام، غير أن هذا القول على صحته عام، فهل تجسد الكتابة الأصوات المفردة للكلام، أم مقاطعه أم الفكرة التي يحتويها؟ (وهذا ما ستتناوله الفقرة الآتية عن نظم الكتابة).
وإذا كانت الكتابة تنقل المسموع إلى مرئي، فهل تنقله بأمانة؟ وإذا ما صيغ السؤال صياغة أخرى، فنستطيع أن نتساءل عما إذا كان بالإمكان استعادة الكلام الأصلي برجوعنا إلى (النسخة) المكتوبة؟
وإذا كانت الكتابة أمينة، فهل تظل أمينة في نقلها للكلام على مر الدهور والأزمان؟ ذلك أن من المعروف أن الكتابة تتسم بقــدر كبير من الثبات، في حين تتغير لغة الناس المنطوقة من حين لآخر، ومن هنا جاء القول المشهور: الكتابة رجعية، والكلام تقدمي.
للكتابة إذًا مزلاتها وعيوبها، وقد أشرنا إلى أنها تفتقر إلى الخصوبة والحيوية الموجودتين في الكلام المنطوق. فضلاً عن ذلك نجد كثيرًا من الكتابات لم تعد تعبر تعبيرًا أمينًا عن أصوات لغاتها. فإذا كانت الكتابة الفرنسية تعبر عن النطق الفرنسي قبل أربعة أو خمسة قرون، فإنها لم تعد كذلك الآن(3).
نخلص من ذلك كله إلى أننا إزاء نوعين من مشكلات الكتابة: نوع عام يلازم الكتابة من حيث إنها كتابة والمتمثل في افتقارها إلى الخصوبة الموجودة في الكلام المنطوق، ونوع خاص قد نجده في كتابة لغة من اللغات ولا نجده في أخرى. وهذا النوع الخاص من المشكلات هو ما يمكن للكتابة أن تتخطاه وتتجاوزه، أو أن تفضُل فيه كتابةَ لغة (أو لغات) أخرى. فإذا كانت الكتابة الفرنسية -كما مر- لا تمثل النطق الفرنسي الحالي إلا تمثيلاً شاحبًا، فإن بالإمكان أن نجد لغة تمثل كتابتُها نطقَها تمثيلاً على قدر كبــير من الدقــة (كاللغــات المكتشفة حديثًا- مما سنذكره).
لا بد لنا، قبل المضي في هذا الموضوع، أن ننتبه إلى أننا عند تقويمنا لشيء، أمام خيارين:
أولهما: الحكم عليه وفقًا لمعيار مثالي، متصور، لا وجود له في عالم الواقع.
وثانيهما: تقويمه حسب الخصائص الواقعية الموجودة فعلاً في أفراد جنسه.
وهذا المعيار الثاني هو السائد، والشائع. فإذا ما وصفنا زيدًا من الناس بأنه معمَّر، فهذا يعني أنه زاد على المعدل المعروف لعمر الإنسان بعشرين سنة أو ثلاثين. غير أن هذا الحكم يبطل أو يسقط إذا ما قومناه مستندين في ذلك إلى معيار غير موجود، كأن نقول: إن على الفرد أن يعيش ألف سنة.
بالرغم من بداهة هذا الذي قررناه، نجد بعضًا ممن يعيبون الكتابة العربية يستخدمون ضمنًا المعيار الأول، أي أنهم ينتقصون من الكتابة العربية موهمين قراءهم بخلو الكتابات الأخرى من العيوب والمزالق، في حين أن الواقع، كما نجده في الكتابات الفعلية للغات، يكذب تلك الدعاوى، ويكشف عن عيوب كثيرة في كتابات لغات العالم، وقد خلت العربية من قسم كبير منها.
ساحة النقاش