لا أود التطرق لأصل الديمقراطية وكلنا يعلم أنها جاءتنا وصدرت لنا من الغرب , وأنها في أصلها كحكم الشعب تخالف أصل الإسلام الذي هو استسلام وانقياد لرب العالمين وإذعان لحكمه كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الاحزاب آية 36 .
ولكني أود أن أسلط الضوء على تجربة المصارف الإسلامية وكيف استطاعت أن تثبت وجودها في عالم المال , وكيف أن المشاركة في المجالس النيابية في العالم الإسلامي لم تؤت ثمرتها إلى الآن مع أن كلا التجربتين لهما نفس العمر النسبي , ولهما نفس البداية تقريبا .
* تجربة المصارف الإسلامية :-
مع بداية الصحوة الإسلامية التي عمت العالم الإسلامي في أواخر القرن 14 هـ , ارتفعت أصوات المسلمين منادية بضرورة رفض الربا والمصارف الربوية ودعت لإنشاء مصارف إسلامية , وظهرت الفتوى بإجماع العلماء المعاصرين ( إلا من شذ ولا يؤثر ذلك على الإجماع ) بتحريم الفائدة الربوبية وانكفأ المسلمون الغيورون رافضين التعامل مع المصارف الربوية والفائدة الربوية وانتشر الدعاة بين الناس يدعونهم بضرورة ترك الربا الذي حرم الله وأعلن الحرب عليه , فثبت الأغلب من المسلمين على دينهم وشرع ربهم في موضوع الربا وتضافرت الجهود كلها في رفض التعامل بالربا : جهود العلماء وجهود الدعاة وجهود الغيورين على الدين حتى أصبحنا جبهة واحدة ضد الربا ومعاملاته فمن الله تعالى على هذه الأمة بظهور المصارف الإسلامية فأخذت هذه المصارف زمنها الطبيعي من غير استعجال أو قفز على الفترات الزمنية التي تحتاجها أو مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والإصلاح والتغيير أو مخالفة لوعد الله لعباده المتمسكين بشرعه بالنصر والتمكين وكذلك تميز المخلصون عن الاخرين في عدم تعاملهم بالربا بحجة ضغط الواقع أو أي حجج أخرى- وتزيلوا , فكانت الثمرة كما نراها الآن مصارف إسلامية شامخة تنافس المصارف الربوبية , فنسأل الله أن يديم نعمته على عباده الصالحين .
* تجربة المشاركة في المجالس النيابية :-
رأت بعض الدول العلمانية في العالم الإسلامي السماح للإسلاميين بالمشاركة في الانتخابات النيابية والحياة الديمقراطية لأهداف إرادتها , فانطلقت فكرة المشاركة بين الإسلاميين مع بداية القرن 15هـ فتسارع البعض إلى العلماء طالبين الحكم الشرعي بالمشاركة بعد الاتفاق على أن مبدأ الديمقراطية والانتخابات النيابية ليست من الإسلام وإنما هي فكرة غربية تم استيرادها للعالم الإسلامي , فكان الاختلاف والافتراق منذ البداية , فتاوى تنادي بضرورة المشاركة وعدم ترك الساحة للآخرين , وأخرى تنادي بتحريم المشاركة , وامتد هذا الخلاف إلى العامة مرورا بالدعاة والمصلحين , وحصل الشتات والتنازع بين الدعاة فضلا عن غيرهم , ومن المعلوم أن التنازع سبب للفشل والهزيمة وذهاب الريح كما قال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الانفال آية46
وبدأ المشاركون في المجالس النيابية القفز فوق الفترات الزمنية الطبيعية للتغيير والإصلاح واستعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة , وخالفوا سنة الله في التغيير , وخالفوا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التربية والدعوة والإصلاح .
فكان الخلاف والتنازع بين العلماء وامتد إلى الدعاة وصولا إلى العامة , فكانت النتيجة الفشل ولم يحدث تغيير يذكر في واقع الناس بعد أكثر من ربع قرن من المشاركة في المجالس النيابية .
فكان لابد من وقفة ومراجعة لمعرفة أن الخلل كان في أصل الفكرة- فكرة المشاركة- لأنها تخالف الهدي النبوي في الإصلاح والدعوة والتغيير , وكان مطلوبا من المسلم الثبات على دينه وشرع ربه وعدم مشاركة الآخرين في مذاهبهم وأفكارهم طلبا لتغيير حال الناس وإصلاح الأمة , وعدم استعجال الأمور فان نصر الله يحتاج إلى الصبر والتؤدة , فعندما وعد الله بني إسرائيل بالنصر على فرعون كان هذا النصر بعد سنوات طويلة كما في سورة القصص , فالدين الذي بعث به النبي عليه السلام جاء ليغير حال الناس وترك ما ألفوه كما جاء في حديث هرقل عند البخاري عندما سأل أبا سفيان عن النبي عليه السلام فقال : قَالَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ قُلْتُ يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ .اهـ .
لا أن نجاري الناس ونسوغ ما يعملون , فعندما ثبتنا جميعا في موضوع الربا وتمسكتنا بديننا ولم نشارك من تعامل بالربا وقاطعنا المصارف الربوية ولم نتعامل بالربا بحجة ضغط الواقع ودعونا الى الله بالحكمة وصبرنا , من الله علينا بالنصر المبين بانشاء المصارف الاسلامية . وكذلك تعود دولة الاسلام .
متى يرجع المصلحون من هذه الأمة ممن شارك في المجالس النيابية إلى رشدهم هل يحتاج الأمر إلى سنوات كما حدث في السابق عندما تبنى بعض أبناء المسلمين المذهب الاشتراكي الشيوعي و بدؤوا ينادون به وان الاشتراكية من الدين , وبدؤوا يأخذون من نصوص الكتاب والسنة ما يؤيدون به فكرتهم كحديث النبي صلى الله عليه وسلم « الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِى ثَلاَثٍ فِى الْكَلإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ » رواه ابوداود وصححه الالباني.
فقالوا الاشتراكية من الدين , وهكذا سنوات وسنوات حتى اكتشف الناس أن الشيوعية والاشتراكية خدعة شيطانية رفضها أصحابها ورفضها بعدهم من شاركهم بها من أبناء هذه الأمة , فهل يحتاج الأمر بان نسير بنفس التجربة فننادي بالديمقراطية والمجالس النيابية ونبحث في نصوص الكتاب والسنة ما نؤيد به فكرتنا حتى نكتشف بعد حين أن الديمقراطية والمجالس النيابية خدعة غربية أرادوا بها صد المسلمين عن الالتزام بدينهم , وكم نحتاج إلى ذلك من وقت .
فلن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله وذلك بالتمسك بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم بالإصلاح والتغيير وان كان الطريق طويلا فهذه سنة الله في خلقه , فلا بد أولا إنقاذ الناس بتعريفهم بالإسلام الصحيح الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم و الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده لاشريك له والانقياد والاستسلام له وحده والكفر بالطاغوت وبكل الأفكار والمذاهب التي جاءتنا من الغرب , والصبر على ذلك .
* وأما شبهة من يقول أننا إذا تركنا المشاركة فإننا سنترك الساحة للعلمانيين ليتسلطوا على العباد , فأقول :-
أولا :-
أن الخير كل الخير في التقيد بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والاصلاح , وهل يعني قائل هذه الشبهة إن التقيد بالمشروع الذي جاءنا من نبينا لا يأتي بخير .
ثانيا :-
إن الله لم يكلفنا - خصوصا في وقت الاستضعاف - فوق ما نطيق وان نتكلف مالم يأمرنا به فمن سمات عهد الاستضعاف المكي ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على الحق والتمسك والصدع به وإعلان البراءة من الباطل , حتى من الله على نبيه بالنصر المبين فحكم وساد الجزيرة العربية , واغلب الدعاة المعاصرين يحكمون على حالنا انه زمن استضعاف فما بالهم إذن يتجشمون الصعاب ولما يصلب عودهم , وذا قيل للبعض جاهد مع من يجاهد قال نحن نعيش زمن الاستضعاف فلم يحن الجهاد بعد , وإذا قيل له اثبت على الحق فأنت في زمن الاستضعاف كما كان أوائل هذه الأمة يثبتون ويصبرون ويخالفون الباطل وأهله قال : لا , لابد من المشاركة بالحياة البرلمانية .
وعندما تكلف البعض ما لم يؤمروا به ابتلاهم الله بما كانوا يكسبون , فهم الآن بعد المشاركة بالمجالس النيابية ناصبوا الحكام والناس العداء , فبدأت الأصوات ترتفع وتنادي بمحاربة الإسلام والدعاة , فكانت الحرب , وهم في غنى عنها فلذلك هم الآن لا يستطيعون ترك الساحة بما جنوا على أنفسهم ,ولوا ساروا على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في الإصلاح والدعوة والتربية لوجدوا العون من الله ولم يوكلوا الى أنفسهم , فالناس لا يزالون على الفطرة , وكانت الدعوة تسير بخير بين الناس حتى نافسهم الدعاة بالمشاركة في المجالس النيابية فكانت الحرب .
ثالثا :-
ومن قال أننا سنترك الساحة للعلمانيين ليستفردوا بالناس بل سنقوم بواجبنا الذي أمرنا الله به من الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة مقتدين بذلك بنبينا عليه السلام وسلفنا الصالح , ونخالط الناس كما أمرنا ونصبر على أذاهم , ونتمسك بديننا وبأحكامه ونصدع به وننبذ الباطل ونعاديه حتى يقر الله أعيننا باعلاء كلمته ونصر دينه , بذلك لانترك الساحة للعلمانيين ويقل تأثيرهم على الناس – نسأل الله أن يعيننا على ذلك - , وأما اذا تولينا عما أمرنا به ربنا ورضينا بالدنيا وتكاسلنا وتقاعسنا وتسلط العلمانيون بعد ذلك فلا نلوم الا انفسنا , ولا حول ولا قوة الا بالله .
وأخيرا لنعلم جميعا أن لهذا الدين رب يحميه وان من يتقي الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه وان الله بالغ أمره وقد جعل الله لكل شيء قدرا فلا نستعجل , ومن يتعلق بالله فهو ناصره ولابد , وأما من يتعلق بالأسباب فان الله يكله إلى ما تعلق به , ويجب أن يكون يقيننا بالله كبيرا ولا نستهين بالعمل اليسير ولا بكلمة الحق فرب همة أحيت أمة والله تعالى يبارك بالجهد اليسير اذا كان لوجهه الكريم فما كان لله دام واتصل . (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ) آل عمران آية 200 . وحتى لا أطيل لا أريد أن أستعرض تجربة اخواننا الذين شاركوا بالانتخابات والمجالس النيابية في كل من الكويت أو فلسطين أو الجزائر أو تركيا , فحالهم لايخفى على أحد .
والله تعالى أعلى وأعلم .
والحمد لله رب العالمين
خالد بن صالح
ساحة النقاش