
قوارب البردي بمصر القديمة.. مشاهد حية من مقبرتي نفر وكاحا بسقارة
إعداد/محمد شهاب
كتبت شيرين الكردى
كانت الحضارة المصرية القديمة نموذجًا للإبداع والابتكار في مختلف مجالات الحياة، ومن بين هذه المجالات كان بناء القوارب، التي لعبت دورًا أساسيًا في التجارة والصيد والنقل وحتى الطقوس الدينية.
ومن المشاهد الأثرية التي توثق هذه المهارة بوضوح، ذلك المشهد الفريد المصور في مقبرتي "نفر" و"كاحا" بسقارة، والذي يعود إلى عصر الأسرة الخامسة. يقدم هذا المشهد تصويرًا تفصيليًا لمراحل تصنيع قوارب البردي الصغيرة، بدءًا من اقتلاع سيقان البردي، مرورًا بتجميعها وربطها بالحبال، وانتهاءً باستخدامها في الصيد والأنشطة الرياضية مثل مسابقات التجديف.
من خلال هذا التقرير، سنسلط الضوء على تفاصيل هذا المشهد الأثري المميز، ونكشف عن أهمية قوارب البردي في الحياة اليومية للمصريين القدماء.
أولًا: المشهد الأثري في مقبرتي نفر وكاحا
يمثل المشهد المحفور على جدران مقبرتي "نفر" و"كاحا" بسقارة أحد أهم التوثيقات البصرية لصناعة القوارب في مصر القديمة، حيث يصور مجموعة من العمال أثناء قيامهم باقتلاع سيقان نبات البردي من المستنقعات، ثم تجميعها وحملها على ظهورهم لنقلها إلى موقع التصنيع.
يتضح من التفاصيل الدقيقة للمشهد أن هذه العملية كانت تتم بعناية ودقة، مما يعكس مدى براعة المصريين القدماء في استغلال الموارد الطبيعية المتاحة لهم.
ثانيًا: مراحل تصنيع قوارب البردي
1- جمع نبات البردي:
كان العمال يتجهون إلى المستنقعات، حيث ينمو نبات البردي بكثافة.
يتم اقتلاع السيقان بعناية لضمان الحصول على أجزاء متينة تصلح للاستخدام في بناء القوارب.
2-تجميع السيقان ونقلها:
يتم تجميع السيقان وربطها في حزم كبيرة ليسهل حملها.
يحمل العمال هذه الحزم على ظهورهم ويتوجهون بها إلى مواقع التصنيع.
3- تجهيز القوارب:
بعد وصول السيقان إلى موقع التصنيع، يتم تقطيعها حسب الطول المطلوب.
يتم ترتيب السيقان وربطها معًا بواسطة الحبال المصنوعة من ألياف البردي أو الحبال النباتية الأخرى.
4- اللمسات النهائية:
يتم تثبيت أجزاء القارب وضغطها بإحكام لضمان ثباته على سطح الماء.
قد يتم إضافة بعض التعزيزات لضمان متانته أثناء الاستخدام.
ثالثًا: استخدامات قوارب البردي
1-الصيد:
كانت هذه القوارب الخفيفة تُستخدم بكثرة في عمليات الصيد داخل المستنقعات والأنهار.
سمحت خفة وزنها وسهولة تحريكها للصيادين بالتنقل بين الأماكن الضحلة والمناطق ذات الكثافة النباتية العالية.
2- التنقل اليومي:
استخدمت القوارب الصغيرة المصنوعة من البردي كوسيلة نقل بين ضفتي النيل، خاصة في المناطق الريفية.
3-الأنشطة الرياضية ومسابقات التجديف:
تُظهر النقوش أن القوارب الصغيرة كانت تُستخدم في المسابقات الرياضية، وخاصة التجديف.
كانت هذه المسابقات جزءًا من المهرجانات الدينية والاحتفالات الملكية.
رابعًا: الأهمية الدينية والرمزية لقوارب البردي
لم تقتصر أهمية قوارب البردي على الاستخدامات العملية فقط، بل كانت لها أيضًا دلالات دينية ورمزية:
1-القوارب في الطقوس الجنائزية:
لعبت قوارب البردي دورًا مهمًا في الطقوس المرتبطة بالموت والبعث.
كانت تُستخدم في طقوس نقل المومياء عبر النيل إلى مقابرها.
2-الرمزية الدينية:
كان المصريون القدماء يؤمنون بأن القارب هو وسيلة الإله رع لعبور السماء أثناء رحلته اليومية.
تم العثور على نماذج صغيرة من قوارب البردي داخل المقابر، ربما كرمز لرحلة المتوفى إلى العالم الآخر.
خامسًا: تطور صناعة القوارب في مصر القديمة
مع تقدم الزمن، تطورت صناعة القوارب في مصر القديمة، حيث انتقل المصريون من استخدام البردي إلى صناعة القوارب الخشبية الأكبر حجمًا، التي سمحت لهم بالإبحار لمسافات أطول والقيام برحلات تجارية واسعة. ورغم ذلك، ظل استخدام قوارب البردي قائمًا، خاصة في المناطق التي لم تتوفر فيها الأخشاب بسهولة.
يُعد المشهد الأثري المصور في مقبرتي "نفر" و"كاحا" بسقارة توثيقًا حيًا لفن صناعة القوارب في مصر القديمة، ويكشف عن مدى براعة المصريين في استغلال الموارد الطبيعية لتلبية احتياجاتهم اليومية. لم تكن قوارب البردي مجرد وسيلة نقل، بل كانت جزءًا من الثقافة المصرية القديمة، تُستخدم في الصيد والتنقل والطقوس الدينية وحتى في الرياضات الاحتفالية.
ويؤكد هذا المشهد أن حضارة مصر القديمة كانت مجتمعًا متطورًا قادرًا على تحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال استغلال البيئة المحيطة بطرق إبداعية ومتقنة.


ساحة النقاش